البعد الصوفي في مسرحية كدت أراه لعبد الحق الزروالي - ذ.محمد الرحالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

عرف المسرح المغربي طفرة كبيرة من حيث الموضوع والتيمات التي تناولها غير أن المسرح الفردي عرف اسما بارزا احترف الركح فأعطى فيه الكثير فكان لزاما علينا أن نتناول الحديث عن تلكم التجربة البارزة التي وشمها عبد الحق الزروالي في مساره كسيناريست مسرحي معروف ولعل حديثنا عن البعد الصوفي هو حديث عن المقدس الديني الذي بات يشغل حيزا مهما من مسارات المسرح المغربي نصا وعرضا وفرجة في خضم البحث عن الذات الثقافية المغربية وربط النص ببيئته هي رحلة رائعة بصم عليها النص الذي نتناوله بالمقال دراسة سطحية غير معمقة ، فهي رحلة بعد " رحلة العطش " النص المسرحي الجميل الذي بصم عليه عبد الحق الزروالي بحثا عن الذات وعلاقتها بعطش معنوي تبحث فيه عن الارتواء والانتشاء غير أن السفر هذه المرة اتخذ بحثا عن المألوف والممكن ، وعن بعد صوفي يجمع بين التجلي والاختفاء ، تجلي الروح واختفاؤها وبحثها عن الله في سفر وشم الذات المسرحية في الذات الواقعية الشيء الذي لا يمت للواقع إلا ببحث صوفي عن الحقيقة والتماهي بالطبيعة في نص بديع ، تجلى فيه الاحتفال صوفي رحلة عطش أخرى في مسرحية "كدت أراه " لعبد الحق الزروالي .

المسرحية تبتدئ كما تنتهي بصيغة المتحدث المفرد ولكنها تعبير عن الروح والنفس البشرية ، في رحلة بحث عن ذاك العظيم الذي نخاطبه وتهفو إليه الروح في معالم الشخصية والذات في علاقتها بالله المعبود الأحق بالسفر والهجرة إليه كل حين وهجرة المسرحي عبد الحق الزروالي أخذت طابع المناجاة كأنه شاعر رومنسي يبحث عن الرب في الأرض اليباب مستفردا بالسفر والرحلة قاطعا ومنقطعا عن الذات البشرية المخبولة وعن محيط محبط ، سفر يعكس إسفارا عن نتائج الأسفار وهو عنوان كتاب ابن عربي الصوفي العربي المعروف ليسفر لنا عبد الحق الزروالي عن بعد طيني للبشر ، لكنه فجأة صار بعدا سماويا ورحلة تعرج فيها الروح إلى بارئها في يوم كان مقدارها أنه كماد يراه والرؤية هنا مجازا لأننا نمرى الله في أنفسنا وتتجلى عظمته في ذواتنا وخلقنا .

العنوان كعتبة صوفية :

قد تتجلى الغرابة في العنوان أن لا صلة له بالمسرحية لكن النص المسرحي الذي راكم في العنوان مؤشرات دالة كثيرة لا تتبدى إلا أثناء الرحلة النهائية وأنت تقرا الموضوع فالضمير هنا يعود على الذات العظمى وكأنه في سفر البحث عن الله في الوجود واللجوء إليه ساعة الشدة والرخاء وبروز الدعاء تطفو لمحة صوفية وهي ترجوه وتدعوه فيكون العنوان مؤشرا على وجود عظيم فاق قدرات البشر وسفره العادي ليكون السفر صوفيا ومناجاة مسرحية فوق ركح أراده الزروالي مضيئا بنور الله وهو يهبه رؤية للرحمة الإلهية فكاد الممثل مجسدا للسفر أن يرى نور الله في عطفه وحنوه عليه في وجه الأمواج العاتية للحياة ومصائبها ونوازلها المميتة .

تتجلى النزعة الصوفية للمسرح المغربي الفردي عند عبد الحق الزروالي كذلك من خلال تكرار ضمير المتكلم ليؤسس للفرجة المسرحية الفردية فوق الخشبة المسرحية ، مخاطبا الرب في رحلة البحث عن مخرج للنفس الإنسانية من مآزقها ولا يخفى علينا أنها حقيقة دينية مطلقة ذلك أن الذات الإنسانية موقنة بحقيقة ضعفها في وجود نسبي مؤقت وعالم غير مريح تماما للذات المسرحية فيقول :
"ثم عرفت ..نعم عرفت
كيف يضيع العلم في المعلوم ..فلا ينقسم الموجود
كيف العين تكشف المخبوء ..ولا تنعطف بمشهود" .
فهو سفر روحي صوفي باحث عن حقيقة الموجود وموقن بإيجاد حل للغز ، وللعلم والمعلوم تجليات يدركها صاحبنا وهو يكاد يرى ربه فالسفر له مغزى في مسرحيتنا هاته ، وهو ما تجلى حين تكشف العين تجليات السر المخبوء ، ولكن لا تشاهد الذي تبحث عنه لأن تجليه مستحيل إنما هو رؤية روحية وتجل معنوي من خلال استمرار السفر عن طريق التأمل.
وللنزعة الصوفية في المسرحية عن طريق السؤال وهو سؤال نصفه فلسفي وشطره صوفي في خضم البحث عن الذات الإلهية ورغم إيمانه باستحالة الرؤية غلا أنها البصيرة ترى في الكون تجليات الرحمة الإلهية وإيقان باللقاء فالموت نهاية إنسانية محتومة ولكن السفر في الكون مستمر إلى أن تحين تلك اللحظة ولعلها تحين في الرحلة عينها ، المهمة أن السؤال هنا سؤال عن الواجد والموجود ، عن الكائن والممكن في رحاب نص مسرحي فريد مقتبس عن كتاب العلامة النفري ، وها هو السؤال يخيم على النص المسرحي تساءلت كيف أصمد
كيف أصمد وأنا مجرد فرد
الصمود الصمود يحتاج إلى أسلحة وجنود
كيف أصمد وأنا بلا خيل ولا بارود
إيوة هذا حال الدنيا سعدك يا سعود".
هو يقين بحقيقة مرة أن الحياة كلها سعد مفقود ومصاب موجود ، وأنه ابتلاء من الواجد الماجد للموجود، فالسر في الكون مفقود والنظر في الحقائق مسعود ، والصمود يقين مرتجى بين الصبر بلا سلاح والمواجهة ورحلة البحث عن اللقاء الموعود مهم لكنه هو الآخر يتخذ بعدا صوفيا يتجلى في كزون السعادة نسبية .
يستمر البعد الصوفي في هذا النص المسرحي من خلال البحث عن حقيقة الرحلة ونهايتها وانتظار فالرؤية التي لن تتحقق إلى أن يسافر المسرحي سفره الاخير وحتى لو سافره فلن تتحقق لكنها توجد رؤية من نوع آخر لعلها رؤية صوفية رؤية بالروح هي إحسان آخر أن تعبد الله كأنك تراه ّ، ليوقن نهاية الرؤية الصوفية التي قلنا أنها محسوسة روحيا ولهذا يخلص كاتبنا ألا تعلق بالمعبود والموجود ، قائلا :
" أ أ أ السكوت السكوت
واعلم أن من سيتعلق بمن سيموت
كمن يتسلق خيط العنكبوت .."
هو تشبيه حقيقي للحياة في كونيتها وشموليتها وحقيقة فنائها، والجميل في الزروالي أنه يحضر ذاته الواقعية ويستحضرها في النص المسرحي من خلال الاسم الحقيق فيقول :
آش داك أوليدي أعبد الحق
تتعلق فين تتفلق؟
عمر كامل وأنا غادي جاي بحال النزق
ذنبي أني أردت أن أتلق
أن أخرج من المغلق إلى المطلق "
رحلة عبد الحق الزروالي بحث عن المطلق وإثباته عن الرؤية والواقع كانت رحلة مميزة في النص ليعرج السفر في ثنايا النص وإرشاداته المسرحية إلى استعمال لغة فلسفية تارة وتارة لغة صوفية موغلة في الإيمانيات والحقائق الدينية التي نعلمها جميعا لكن البوح النصي تجلى في الحقيقة المثلى التي نطقها عبد الحق الزروالي لائما نفسه على الخوض في غمار بحر لجي لا يملك مفتاح أسراره لأنها أراد التألق ليغوص في سؤال وسفر نهايته محتومة ان تتعطل النتيجة فكاد أن يراه دون أن يراه لكن ابصره في ملامح الناس والحقائق في رحلة الموت وضعف الإنسان أمام حقيقة مطلقة في الكون هي الموت .

السفر في نص الزروالي ابتدأ بسؤال وانتهى لنتيجة مفادها استحالة السفر دون الوقوف عند وصايا الذين سافروا قبله ، وبالتالي قال:
"بربكم ألم يتركوا لي عندكم وصية؟ " .
ليكون السؤال مرة أخرى بحثا عن طريق تقوده نحو الطريق مما يمكنني أن أقول أنه استمرار لرحلة العطش التي أرادها الشاعر بحثا عن الراحة النفسية والروحية ليمكث في السؤال ويوقف الزمن هنيهة لعله يظفر بالموعد المحتوم والنزعة الصوفية تستمر في النص من خلال استعمال صيغ الدعاء والتمني :

"يا الله سبحانك يا ذا الجلال والإكرام
ما العمل يا الله ؟
سبحانك يا من لا يسهى ولا ينام
صدقت يا الله كل من عليها فان
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"

هو الدعاء الممزوج باليقين بقدرة الله وعزته ، والموقن بضعف الذات الإنسانية وحاجتها لليقين بالله وفي الله ، والحياة الإيمانية ورحلة في خضمها للكون والمناجاة الفردية لله هي صلاة الروح في ثنايا الدعاء بحثا عن الحياة الآخرة واليقين بضرورة الرؤية التي لا تكون فقط بالنظر في الكون ولكن بالبصيرة المستنيرة بالحق والرجاء والمنقطعة عن ملاهي الحياة لأن الرحلة النهائية تتجرد من نزعات المادة وتمثلات الحياة لتظفر برؤية خالدة لحقيقة الكون .

إن الخالق قد جلى للناس الكون المنظور وهو ما فعلته الشخصية المسماة عبد الحق إنه نفسه الكاتب والسارد المسرحي عبد الحق الزروالي في سفره نحو الحقيقة الصوفية ولعل التناص حاضر في النص من خلال توظيفه الآية الكريمة من سورة الرحمان وحضور النص القرآني في المسرحية يعطيها طابعا آخر من الصوفية الحقيقية في اليقين بمسلمات الذكر الحكيم من موت وبعث ونشور ، ليكون السفر إنما هو مجرد انتظار لما وعد به الرب المعبود واعترافا بضعف النفس الإنسانية وانجذابها نحو اللذات وحطام الدنيا وغلبة النزعة الدنيوية على الكل إلا من هدا الله لحقيقة مبكرة مفادها أن الرحلة فناء والسفر وقوف في نهاية محطات الحياة.

ليبصم عبد الحق الزروالي بسؤال الغيب والموت وانتظار اللقاء المحتوم أو لنقل بحث عن الذات وراحة ربما هي مرغوب مفقود قفي كون لم يجل الرب كل حقائقه للذات الإنسانية لتظل النزعة الصوفية في النص انتظارا للمكن والأمكن في حياة ظلها عائم في كون مادي ، وخرابها ملذاتها، وانتصارها هو الرحلة بالروح نحو الكنف الإلهي بالدعاء والمناجاة المستمرة ، حتى كاد الزروالي أن يراه.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة