ليـس دائما – نص: أمـينة شـرادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إحساس غريب ينتابني كلما أنظر اليه. هل هو الرجل الذي أحببته يوما؟ أمعن النظر في خطواته وحركات يديه، أحيانا أراها بطيئة، فارغة لا تهز مشاعري وأحيانا أخرى أحبها وأتبعها بنظراتي حتى تختفي. لما أتحدث اليه، أتأمل مخارج حروفه وأراه كمن يتعلم النطق لأول مرة. كلمات مبعثرة وتائهة وغير مفهومة. حتى أنني لا أصغي اليه بل أتيه دون أن أعرف طريق العودة. أحيانا أراه مقبلا علي، أفرح كثيرا كطفلة تلقت هدية العيد. أسبق خطواتي لأعانقه وأشكر اللحظة التي جعلتني أرتمي بين أحضانه. هل هذا شعور طبيعي؟ أسأل نفسي.
أحيانا، يسافر. وهو كثير السفر. ربما هو أيضا يرتاح في الابتعاد عني. ربما هو أيضا يراني مختلفة. لكنه قليل الكلام. غريب أمره، لماذا لم ألاحظ هذا من قبل. انني أكره الصمت. يشعرني بالنهاية. سفره يجعلني تعيسة وغير سليمة السلوك وعدوانية حتى مع نفسي. لما يسافر، أهجر غرفة نومي لأنه غير موجود بها. أشعل كل الأضواء بالبيت حتى أشعر بالحياة. أترك جهاز التلفاز ينير بضوئه عتمة الغرفة التي أتواجد بها. أنام بأي وضعية ولا أحب أن أفكر. أعيد تفكيري الى نقطة الصفر. لما يعود، أقف كتمثال ضائع يتشوق لرؤية أهله وأحبته لكنه بدون أحاسيس وعواطف. تشكيلة غريبة من الأفكار السوداوية أحيانا والنورانية أحيانا أخرى. كأنني أمام انسان آخر. أعيد التمعن في حركاته وسكناته. وأسأل روحي الشقية" هل هو الرجل الذي أحببته يوما ما" لماذا أراه اليوم مختلفا؟ لماذا طفت فجأة على السطح كل عيوبه التي كانت يوما ما غائبة عني أو رفضت أن أراها؟ هل حبي له زال؟ ام هو الذي هجرني بصمت وتركني أعيش هذا الهوس؟ صمته قاتل. هل هي خطته حتى أطلب الرحيل ويظل هو الرجل المحبوب عند الجميع؟ .

دماغي ستنفجر. لست أدري ماذا أصابني اليوم والبارحة وربما غدا أيضا. هل أنا أعيش بداية تيه جديد؟ هل عالمي بدأ يتقلص وسيحكم علي الإغلاق؟ أظن أنه الملل الذي تسرب الى حياتنا وبدأ ينخر كل جداول الحب حتى يصيبها الورم وتتحلل وتختلط مع التراب وتختفي.
قررت اليوم أن أصارحه بإحساسي حتى أرتاح. إذا كان متمسكا بي، سيلعن أسئلتي ويرميها وراء ظهره. أما إذا كان تواقا للحظة الفراق التي سأهديها له على طبق من فضة، سأعلم أن احساسي كان صادقا وسأمحوه من ذاكرتي.
سألته:
هل ما زلت تحبني؟
ابتسم كما يبتسم أي رجل تسأله امرأة عن مشاعره اتجاهها وقال:
ليس دائما.
قلت له وأنا أتأمل شفتيه التي أحببتها يوما رغما عني:
لا أفهم. أرجو التوضيح.
قام وأخذ أذرع الغرفة ذهابا وإيابا كمن يخطط لعملية سرية وقال:
حسب الظروف.
يا لصمته القاتل همست لنفسي. ابتسمت لكي أداري غضبي وقلت:
لماذا كل هذا الغموض. السؤال واضح نعم أم لا.
حرك يديه عاليا، نظر الي قليلا ثم قال:
لم كل هذه الأسئلة. لو لم أكن أحبك، لتركتك منذ مدة.
حتى جوابه قاتل. مليء بالصمت. ضحكت. ثم قلت له:
هل صعب عليك أن تقول لي أحبك؟
ارتبك كمن وقع في كمين. سألته من جديد:
كيف تراني الآن؟
فتح عينيه عن آخرهما. وترك فاه يخرج كلاما غير مسموع. خرج من الغرفة وصاح من خلف الباب:
أنت مجنونة.
لماذا لم الاحظ كل هذا الجنون في البداية؟ توقيت هذا الجنون غير واضح. يقولون إن الجنون راحة نفسية أبدية، وانا غير مرتاحة. دماغي تشتغل ليل نهار، كمن تنقب عن ابرة في كوم من القش. اذن أنا لست مجنونة كما يراني هو. لم يكن صريحا معي. بلا، قال لي بأنه يحبني. لست أدري، لا أستطيع أن أحدد أو أجزم. تركني في مهب الريح. لماذا صرت أحب الابتعاد عنه؟
هاجمتني نفس الأحاسيس في اليوم الموالي، استيقظت وكان نائما الى جانبي، حركات جسده غير متناسقة وغريبة، عادة، لا ينام بجواربه، كان دائما يقول لي، أكره أن انام بجواربي، لأنها تمنعني من لمسك. كنت أحب كثيرا هذه اللحظات الهاربة الثائرة التي كانت تكسر حاجز صمته وتقبلني. أصبح ينام بجواربه، لم أعد أشم رائحة جسده. استوطنته روائح متعددة، حتى أنني لم أعد اعرف أن أميز بينها. وان سألته، يختفي وراء صمته.
مشيت ذلك اليوم طويلا، حتى أنني كنت شاهدة على مواقيت استيقاظ المدينة وعلى مواقيت نومها. ان طلبوني للشهادة عن أي حركة في ذلك اليوم مهما كانت صغيرة أو تافهة، كنت سأجيب وربما سأفصل أكثر وسأشرح حتى الملل. لست أدري ماذا أصابني يومها. هجر النوم جفوني، استمعت الى أغاني أم كلثوم. أشعر انها تريحني وتطير بي الى حيث أريد. لم أنتبه الى وجوده. اكتشفت فجأة أنه اختفى من جانبي. استقبلتني تلك الروائح المتعددة التي تتشبث بجسده، كأنه نفضها عنوة عن جسمه وتركها تؤنس وحدتي ووحشتي لغاية في نفسه. حاولت فتح جميع نوافذ البيت لكي أستنشق هواء نقيا وأطرد كل رائحة ليست لي أو بملكي. لم أفلح، رائحة جسده تغيرت بشكل قوي. لماذا كل هذا الصمت؟ خرجت هاربة من كل الروائح التي تحتل بيتي وفكري، تهت محاولة تبديد الوقت وقتله وقتلي ربما أرتاح. لم أفلح. تعبت قدماي، حتى المدينة حافظت على ذكريات اللقاء الأول. ابتسمت لي وجعلتني أسافر عبر الزمن. لكن لكل شيء نهاية. عدت أدراجي محاولة أن أتخليه في صورة أحلى. ارتميت على سريري استنجد برائحة الماضي الجميلة. سمعت خطواته ترتفع كلنا اقترب من الغرفة، كانت تهجم على أذني كوحش مفترس. حضنت قلبي بين أضلعي وانكمشت، دخل. صامتا. لا يطلب شيئا. التفت الي كأنه يفحصني وقال لي:
هل أنت بخير؟
نظرت اليه مليا، أحاول أن أبحث عنه بين تلك الروائح التي تطبق على أنفاسي. لم أره، كان هناك جالسا، أخذ هاتفه ويتحدث بصوت صامت مدة طويلة بكل ثقة. ضحكات مجلجلة. انتابني شعور بالغثيان، قلت " ليس هو الرجل الذي أحببته." بدا لي جسما ضخما، ببطن كبيرة وعينيان تنزفان دما كلما نظر الي. تأكدت بأنه ليس هو من أهداني في ذلك اليوم البارد معطفه حتى لا أصاب بنزلة برد ومشى الى جانبي يحميني من لسعاته القارسة. لما وقف، انتفخ جسده، وانتشرت كل الروائح المختبئة وبدا يتمايل ببطء ويحكي بكلام غير مفهوم. طلب أكلا، لم أجب. اختفيت وراء باب غرفتي خوفا من أنيابه التي تطل علي وتهددني ببريقها كلما صرخ. قلت لنفسي " لماذا تحول الى وحش؟" هل هو نفس الرجل الذي كانت لمسات يديه كالنسمة تذهب عني الحزن ووخز الابر؟ لماذا لا يجيبني؟
تركت له كل عاداته وسفرياته وروائحه ووليت هاربة لا ألوي على شيء. قلت لنفسي الحزينة «الآن تأكدت بأنه ليس هو الرجل الذي أحببته يوما."

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة