أسميك بحرا أسمي يدي الرمل: شعرية الاحتفاء بأرواح الشهداء - خالد أبو خالد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

شعرية الاحتفاء بأرواح الشهداء
والتنديد بغطرسة الغازي الممتهن لتصفية الأبرياء
وإعلان مشاعر الحب والولاء لأحبته الأصفياء
يندرج هذا الديوان الشعري للمقاوم الفلسطيني الفدائي في إطار مرثيات الزمن العربي الجريح، والتنديد بهمجية الآلة الحربية للعدو الإسرائيلي الذي استباح الأرض المباركة لفلسطين، وفرض بقوة الحديد والنار احتلال الربوع والتلال، والسهول والجبال التي كانت فيما مضى مرتع الأنبياء المبشرين بحلم البشرية.
إنه ديوان يسجل بكل جرأة ما ارتكبه الغازي الغاشم من جرائم سفك دماء المقاومين دفاعا عن أراضيهم المغتصبة، والتنكيل بأصحاب الضمائر الحية من الفلسطينيين المجاهدين والمجاهرين بحقيقة ما يقترفه العدو الإسرائيلي من مجازر والزج بهم في دهاليز سجونه التي أصبحت وصمة عار في جبين البشرية في الزمن الحديث والمعاصر.
إنه ديوان يرسم فيه الشاعر المقاوم صور الفجائع والدمار في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين النازحين إلى جنوب لبنان، وإلى رمز الصمود والتصدي؛ بيروت المغتالة التي وطأتها بوارج العدو بحرا، والطائرات الحربية جوا، ومدافع الدبابات برا لمحاصرة الناشدين للحرية والانطلاق، واستنشاق خالص الهواء.

كما يندرج هذا الديوان أيضا في إبراز ما يتسم به المناضل الفلسطيني من قيم خلقية نبيلة، وصفات إنسانية، كطهارة الروح وقوة العزيمة ورباطة الجأش ورسوخ الوفاء لأرضه وأرض أجداده الأشاوس، والتماهي في السهل والتل والوعر، وحلوله في النهر والصخر، وتسجيله لبطولات المقاومين الأحرار.
قراءة للقصائد المنضودة كقلائد مبثوثة في الديوان:
بيروت عروسة جبل لبنان المستباحة:
تحضر بيروت –عاصمة لبنان وزهرته الفواحة بعطر الجبال باعتبارها رمزا للوفاء والفداء، إذ خصص لها الشاعر خالد أبو خالد أول قصيدة يطالعنا به ديوانه "بيروت 78"، يرسم فيها بالخطوط والألوان ما أصبحت تحياه من صور الفجائع والدمار بفعل العدو الإسرائيلي الغازي؛ فهي مثقلة، مقفلة، معلقة في جدائل حبر المطابع؛ سماؤها محجوبة بغبار الأسلحة والألغام، فضاؤها عسكرت فيه قوات العدو التي استباحت الزرع والضرع. لقد أصبح الوطن - كله - متصحرا بين محيطين ؛ دروبه أصفاد مغلقة، وطن استباحه العدو الغاشم، لقد اتسع الليل فيه حتى غدا خيمة من خواء:
"بيروت مثقلة القلب مثلي
ومقفلة دون حلمي
تصادر من رحلة العمر
تبقى معلقة في جدائل حبر المطابع... والأسئلة
... وتنهض من دمها... في القنوط
لأن السماء التي فوقها
والروابي على قربها
والسهوب التي بعدها
والمدائن من حولها... حجبتها الزيوت
وألغامها انفجرت في مواقيتها
بين طفل ... وحرش
فتلهث في صدرها الربو... والعنكبوت" (2)
هكذا أصبحت بيروت عاصمة لبنان – كما أصبحت مدنه الجنونية مستهدفة من طرف العدو الإسرائيلي بعد أن أصبحت قبلة للمناضلين الفلسطينيين النازحين إليها قسرا، مؤثثين فضاءاتها الجنوبية بمخيمات علها تقي فلذات أكبادهم من شرارة مدافع العدو ونار أسلحته الفتاكة.
ومن ثم تتسع دائرة الحزن السوداوي العميق على ما يعاني منه هؤلاء اللاجئون من أوضاع مزرية في عصر صيانة حقوق الإنسان كما يتبجح بها الغرب الإمبريالي المخادع، وهنا تتسع دائرة الإشفاق على واقع حال بيروت :
"وبيروت
في قلبها... جمرة من ندى...
وزنابق ... من شجر مشرق
من نخيل وتوت
وشمع حزين... كمستقبل غامض ... لا يحد
ومشتعل عسلا... ومراثي نحاسية
ويشكل أحزانه في الحديد...
ويوغل في شارع من بريد
يراكم أخباره ... في خراب المسافة
بين المقاهي... وبين الرؤوس التي امتلأت بالصديد
وتمتد عيني إلى زمن مغرق في الأفول
.... وماذا ترى بين كفي وشاراتها ...؟
هامشا واسعا... عسكرت فيه قواتهم
والهواء الدخيل
وأعشاشهم فقست بيضها
ثم....
واختلط الطير بالطير." (3)
ويكاد اليأس الغامر أن يستبد بالشاعر من فرط إحساسه بالمهانة وعدم الفاعلية والجدوى حين يقول عن بيروت :
"أنت أضرحة لا تهاجر من حلمها
وتقاتل أعداءها ... بالقمر
أرح رأسك الآن من فكرة لا تضيء ...
فلا شيء غير الزمان البطيء
ولا تنتظر
فالجناح الذي مر ... ليس الجناح الذي قد يجيء...
وغادر دوارك
غادر قصائدنا –كائنا- وانفجر بشرا
فالدروب إلى صفد... مغلقة
... يا وطني
وعليك السلام
عليك الحروب
وعبء الذي احترف القتل فيك
ومنك الهروب." (4)
وجو اليأس الغامر هذا هو ما لا يدفع الشاعر إلى الاستكانة أو رفع راية الخنوع والخضوع؛ بل على العكس هو ما يؤجج شرارة التحدي لديه، جاهرا صوته بالمواجهة وعدم الاستسلام حين يوجه نداءه للمناضل العربي الفلسطيني، محذرا إياه من النكوص إن أراد الخلاص:
"ترجل إذن أيها العربي
وواصل خلاصك في لحمنا
ستكون ... إذا كنت ... أو لا تكون
ترجل بنا ... غابة... ورجالا
ترجل وإلا
سينهشك الطير من حزننا السرمدي
وكن قمرا شاسعا كالسماء
وكن ما تشاء
فإن الجرار التي طفحت... طفحت
والصبايا ... تحجرن
واتسع الليل حتى غدا خيمة من خواء." (5)
ولعل المتأمل في قصيدة – بيروت – يلاحظ أن الشاعر أبو خالد يوظف معجما قاتما في مجمل حقله الدلالي لوصف ما تعانيه بيروت من جراء الآلة الحربية الإسرائيلية؛ فهي :
وحيدة / حزينة / مثقلة القلب / مقفلة / معلقة / محجوبة عن الرؤية / متعبة / في قلبها جمر/ مسربلة بدمائها / فجيعة لا تتوقف / تشييع جثمانها وحيدة بلا مشيعين :
"لا يشيعها أي من الذين تفيأوا شعرها ... أو تدفأوا بنهديها
أو تقنعوا بوجهها...وزينوا بها صدورهم في الاستعراض الأول وهذا الصباح الرمادي...ورد وبرد
وأنت تشيع جثمانك الآن
... بيتنا من اللغو
واللهو
من عطش جاهلي .... ووجه ذليل." (6)

الاحتفاء بالمرأة الفلسطينية؛ أم الشهداء : المكافحة / المناضلة / الولود لأبطال الحرية :
والشاعر حينما يستحضر رحم نسله، تتراءى له المحبوبة الفلسطينية الصابرة على بلائها والراسخة في تربتها والصائنة لفلذات أكبادها هي المبعدة المتوارية قسرا عن عشيقها المناضل المحكوم بالنفي والغربة، فتتوقد عاطفة الشاعر وهو يخاطبها :
"هذه امرأة تتوارى على مهل خلف باب الرحيل المبكر
والانتحار ..
هذه امرأة تغزل الآن ثوبين من تعب قادم...
وتعبئ خوف القطيعة في خاتم كاذب ...
وتحاذر أن تكسر الكأس فوق بلاط المخدة
تخشى مصارحتي بالحروب الصغيرة ... والرعب
... هذه امرأة من جزيرتها ... وهي لا تشبه الكون
وهي تختزن الحب – في نجمة القلب – والحرب
وهي التي ليست امرأة كالنساء" (7)
إن حبه الغامر لها قد ملك قلبه، فها هو يسري بين جوانحه، ويضمخ أرجاء غرفته الكئيبة:
"كان في غرفتي صوت امرأة في إطار
وكان على دفتري صدأ ... وغبار
على زمن الظل أرجوحة من دماء
وفي كتبي ساعة لا تدور
أسقط أقنعتي ... واحدا ...واحدا
وبين الشبابيك والصمت
وأحاورها ...
بين نبضين ... نبض المكان ونبض الزمان
ماذا تريدين ؟
بيتا وشمسا وحرية وهواء
ماذا تقولين ؟
إني أحبك ...
سيان
فالحب ... والموت ... وجهان للتجربة.
وإن قلت لا...
قلت في الحب موت ... وفي الموت حب
وما بيننا قنبلة ... (8)
… تباركت سيدتي
إني أحملك لأن عبء الإقامة في الروح...
فأحمل بقاياي ... وأرحل إلى جزري ... وابتسم لي إذا جاءك الشعر" . (9)
ولأن المرأة الفلسطينية تحمل كل هذه الصفات، فهي تتراءى له كقديسة لا يملك تجاهها سوى إعلان فروض الحب والولاء، والتعلق رغم شدة البلاء وقساوة الاغتراب والجلاء :

"أحبك ... لكني ورق...واغتراب
أحبك... لكني متعب وعصي على الفرح الخلي
أحبك... فاختصرني وجع العمر في شجر البحر...
واحتكمي للعلامات في الطرق الجبلية...
... واحتكمي للشواهد ... والآس ... والغبش المعدني
... فانتظري كي أودع منك يدا
أو قيما وأمنحك الآن صمتي ... وصرة ذكرى ... وقبلة". (10)

الــذات المنفية الحزينة :
إن أول ما يثير انتباه متصفح ديوان "أسميك بحرا، أسمي يدي الرمل" هو توقد عاطفة الشاعر "خالد أبو خالد"، إنها عاطفة جياشة تسود كافة قصائده سواء حين يخاطب الفدائيين الفلسطينيين – الثابتين منهم على خطوط النار في مواجهة قنابل العدو الإسرائيلي المسلح بأحدث وسائل الدمار، أو المغتربين المنفيين الذين ركبوا قواربهم متحدين أمواج البحر العاتية بحثا عن أمن وسلام وعمل يؤهلهم لسد رمق فلذات أكبادهم المتروكين لمصيرهم المجهول في السهول أو الجبال أو المخيمات، كما أن شرارة عاطفته هذه تستعر كلما تذكر أحبته وصباياه هو المبعد عنهم في غربته القسرية.
إن تأجج هذه العاطفة الإنسانية النبيلة ما هي إلا نتيجة لما خبره هذا الشاعر المقاوم من تجارب مريرة وأحداث مؤلمة عاشها مع المناضلين والشهداء والمنفيين القابعين في المخيمات أيضا.
ففي قصيدة : "أحزان الأيام الأخيرة" يجسد الشاعر "بورتريها" لذاته المتعبة الحزينة التي تلوك مشاعر اليأس والكمد، حيث يقول :
"متعب ترتاح في قلبي فلسطيني... وأنت
بينما أمضي من الحزن .... إلى الحزن .... إلى بر الدفاتر
شجر الكبريت في عيني
وامرأة من الشمع المسلح بالمقاصل
إنه الميلاد في جرح سماوي
وأشجار / وليل / وعتابا / وتراب.
إنه منفاي في جلدي ... وأشعاري ... ووجه دمي المغامر في تفاصيل اليباب. (11)
ثم يسترسل في رسم ملامح هذه الذات المنكسرة بالألم، فهو المسكون بالتبع والخمر الرديئة والخراب الداخلي، فجسده منكسر يمشي بلا ظل، ووجهه جبل يبحث عن منفى، إنه المغترب كأصداء العصافير الذبيحة، والبحر مواويله، وأغانيه ليست لها سوى إيقاعات رمادية." وحنينه إلى حيفا" - زهرة الأصيل ورمانة الشعر- يكبر ويملأ قلبه كمدا وأسى :
"سنة أخرى ... وصيفا لا تضيء
ليلة أخرى... ويأتيني الصقيع
لحظة أخرى ... وينساني الحنين
وقميصي من زجاج مرهف الأعصاب
والصيف بعيد ." (12)
ويكاد اليأس الغامر يأخذ لبه من فرط توقد عاطفته، وهو لا يجد من سلوى تحرره من احتراقه الداخلي سوى لجوئه إلى البحر مخاطبا إياه :
"هل ينادي البحر أحزاني .... فأمضي
ربما يقذفني الموج إلى الموج .. فأزهر
أيها البحر أغثني
فأنا الآن إليك
وأنا يا بحر أدعوك صديقي ... ورفيقي
حيثما تمضي اتخذني." (13)
إن الشاعر ظمآن لقطر الندى الذي يبلله ويطهره، ظمآن لعناق أحبته الذين طال به العهد لضمهم لصدره المشروخ، هو التائه في صحراء عمره الباقي:
"كانت الصحراء توقا ... وكتابا
فغدت بئرا صديدا
وصدتني إلى الظمأ الأليم
إنني أومئ للرمل ... فيرتد إلي
عازفا لحني الشجي." (14)
وتبلغ به حدة انفعاله العاطفي حدها الأقصى حينما يخاطب الموت الرحيم :
"أيها الموت الذي يأتي على مهل ... ولا يأتي تقدم
إنني آتيك يا موتي الحميم
فوداعا
ضاقت الأرض ... وأطفالي يضيقون... وأهلي
تاجروا بالريح ... والعتمة
والليل طويل".(15)
... "السماء / القصف / الموتى
وأشلاء فراشات على السفح
.... وأنا أعدو على الشاطئ مذبوحا ..
وأعدو / موغلا في البحث عن ذاكرة الصيف الشمالي
وعن وجهي الشتائي
وعن جدول ماء."(16)
ثم يرتد إلى ذاته ليرسم لها صورا سريالية بالغة الدلالة على ما يستشعره من مهانة وذل ومسكنة وحزن سوداوي عميق :
"جسدي منسلخ عني ... وأسمائي / وأحبائي / وتاريخي / وقبري
وأنا منسلخ الوجه عن النزيف
ومشتق من القتلى الجماعيين...." (17)
تبدو ذات الشاعر من خلال هذه المقاطع الشعرية من قصيدته "أحزان الأيام الأخيرة" محاصرة بمشاعر الأسى والألم والحزن السوداوي نتيجة ما تعانيه من غربة ونفي قسري وحنين إلى مراتع صباه وشوق وتوق لأهله وأحبته، ومن ثم فهو لا يقوى إلا على الانصياع لنزواته التي يستعين بها على مواصلة المسير: إنه أصبح "مسكونا بالتبغ والخمر الرديئة والخراب الداخلي، وحنينه إلى "يافا": زهرة الأصيل ورمانة الشعر يكبر ويملأه كمدا وإشفاقا على حاله. (18)
الذات المسكونة بالألم العميق على حال الفدائيين في المخيمات :
إن ما يثير انتباه متصفح ديوان خالد أبي خالد، عصارة الألم الدفين، والكمد الساكن في كل جارحة من جوارحه حين يخاطب الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين، سواء الثابتين منهم على خطوط النار في مواجهة قنابل العدو الإسرائيلي المسلح بأحدث وسائل الدمار، أو المغتربين منهم والمنفيين الذين يعيشون ظروفا قاسية في المخيمات. ومن ثم تتسع دائرة حزنه السوداوي العميق على ما يعانيه هؤلاء اللاجئون من أوضاع مزرية في عصر صيانة حقوق الإنسان كما يدعي الغرب الامبريالي المخادع. ففي قصيدة: "ياميجانا صبرا ياميجانا ريم" يرسم الشاعر -وبحساسيته المفرطة - صورا فجائعية على ما خلفه الغزاة الصهاينة – بقوة حديدهم ونارهم – من خراب ودمار على المخيمات الفلسطينية بجنوب لبنان، ملتقطا مظاهر الهمجية الإسرائيلية على مخيمات صبرا وشاتلا وعين الحلوة والبراجنة وغيرها، لتبلغ بالشاعر درجة الانفعال العصبي حدها الأقصى حين يصيح بملء فيه:
"صبرا تخيم في الجسد ...
وترد لي صوتي ... وتعلن لا أحد." (19)
..."وطني الذي أحببته كان اسمه صبرا...
ظل اسمه صبرا...
وعلى مشارفه نوادي القتل...
وعلى منابره ... فتاوى القتل..." (20)
..."شفق ويحترق المساء
فلا موانئ
أو نجوما
أو جسورا
أو هواء." (21)
ثم ينبري ليلقي باللائمة على عواصم الضمائر الحية – باريس هنا – التي لم تحرك ساكنا من أجل الحد من اتساع دائرة الفتك والقتل والدمار:
"باريس معتمة... وعيد
باريس من ورد صناعي ... ومن فن محطم
باريس من علب ... ومطعم
باريس ... لا منفى .... وغربة شاعر ...
وغريبة فيها
ولا يبكى عليها ...
باريس... لا إلزا .... ولا الشاعر ...
باريس ماتت قبلة وتموت
باريس تنسى أنها فيما مضى بيروت." (22)
ثم ينتقل بعد ذلك ليحاسب الحكام العرب المحملين بالنياشين المزركشة ليحاسبهم:
"ويموت في العرب العرب
لكنما ظل المخيم ... لا يموت ... ولا ينام
ويظل يرفل بالدماء ... وبالحمام
فالليل والدم يبدعان صياح أمي من بلاد الميجانا." (23)
ثم يسترسل في إلقاء جام غضبه على ما يتظاهرون به من محاولات التسوية بعقدهم لقممهم البليدة التي تفوح منها رائحة الخيانة:
"يا ميجانا صيدا
يا ميجانا الدامور
يا ميجانا بيروت .. يا بيروت
يا ميجانا
كأس ... وعاهرة... ومؤتمر... وصوت
شيء من العتب الصغير
وتطفأ الأضواء من حول الأمير" (24)
والملاحظة اللافتة للانتباه في هذه القصيدة هي سمو تعبيره الفني موظفا "البحر" كرمز للترحال المتجدد والسفر اللانهائي والمغامرة غير محسوبة العواقب، والبحث عن الخلاص:
"للبحر وحب حبيبتي الحبلى بطفل ظل يقتل قبل أن يأتي إلينا
ثم جاء مسربلا بدم ... ومصطلح هجين.
ثم جاء مقتولا على كفين من شوك
ونافلة...
وطن
فترنحت كتفي ... ولكن لم أفاجأ....
يا ميجانا ... هذا سقوط القتل
هذي وقفة العشاق في نعش القتيل
وأنا المسافر مذ ولدت
وأنا المحارب مذ ولدت ... ومذ كبرت
وأنا المحارب إذ أعود إليك في البحر الشريد.
يا بحر ... تشبهني وأنت
يا بحر ... من صخب وصمت
يا بحر ... عن الموت
يا بحر ... أنت الصوت." (25)
وأثناء ركوبه لأمواج البحر المؤدية لدروب المنافي تتوقد عاطفة حبه لمراتع صباه، وتستعر مشاعر الحب والوجد والوله كلما تذكر أحبابه: ريم وفلذات كبده في غربته القسرية:
"يا ميجانا... يا ميجانا
والبحر مرآة ... ومرحلة ... ومن رمل ... وقار
يا ميجانا يا دار
كل الدروب إلى المنافي صعبته ... كل الدروب
البحر ... والطرق القديمة
البحر والحزن المثابر ... والسجون
البحر ... والجزر الجميلة ... والسنين
البحر ... والعتم
القناديل التي انطفأت على ظمإ
ولون الليل
والغيم الخريفي الحزين
وأنا ... وأنت ...
وسفر أشعاري ... وهذا الورد في كل الفصول." (26)
"يا ميجانا ... للبحر والسفن
يا ميجانا ... للنار
ماذا تردد نشرة الأخبار ؟
ماذا سيلعب في الغد الأطفال ؟
هل أنت يا تفاحتي مكسورة الخدين والخاطر ؟
ماذا سيروي في غد للغائب الحاضر
من يشتري منا ؟
دمنا ومن منا ؟
يا ريم ... يا غربة
رفقا بدمع العين
في طقسنا الماطر ...
... وأنا أحب الزعتر الأخضر
وأنا أحب رغيفنا الأسمر
وأنا أحبك لو شقينا ... أو سعدنا
وأنا أحبك لو رحلنا ... أو بقينا ... أو قتلنا ...
أو ... أحبك في المساء / وفي الصباح
وأنت نجمتي الشريدة ... أنت وجهي ...
والدليل إليك ... و رحبة مثل السماء
إني أحبك ... مثلما أحببتني
يا ميجانا ." (27)
إن انسياق الشاعر للتعبير عن مرارة الشوق إلى ريم والأطفال، والحنين إلى "يافا" والمدائن المداسة، هو ما لا يدفعه إلى رفع راية استسلامه، بل على العكس تماما، هو ما يحثه على مواصلة النضال والتصميم على إبقاء جذوة الجهاد والمقاومة متوقدة، وروح المواجهة والتحدي ملتهبة، إنه البديل والسبيل :
"يا ميجانا
إن الطريق إلى بلاد لا ترى بحر / وأحزان / وعار
يا ميجانا منشورنا الأول / يا ميجانا خيالنا الأجمل
يا ميجانا ... وطريقنا الأطول / يا ميجانا للجسر والأغوار
يا ميجانا للملح .... والثوار ." (28)
وكما يحتفي الشاعر بكفاح ونضال المرأة الفلسطينية، يخصص آخر قلادة يوشح بها ديوان شعره ، لاستحضار طيف زهرة عمره الريحانة، وفلذة كبده الصبية الفاتنة البريئة المبعدة هنالك والمكتوية بنار العدو المحتل المحترف لقوة الحديد والنار، فتستعر عاطفته الجياشة، ليبث لها لواعج عشقه الأبوي، ومشاعر تعلقه وحنينه لرؤيتها وضمها إلى صدره المستهام، فينتابه الحزن السوداوي العميق، ويعبر عنه بقوله:
"هنا شجر للكتابة
ورمانة للعتابا...
وجيش من الحزن ... والشمس تعبر قوس الربابة
ويعبرني صراخ في البراري البعيدة
.... يمة ... وبابا ... يا يمة ... ويا بابْ
أغني لفجر التي تبتعد ...
وأرسم أسئلتي .... وأنادي على زعتري الجبلي
وطيري العصي ...
وأكتب في دفتر القلب ... وجه صفد ...
وأجدل من شوق أمي ... وشوقي إليها حبالا
وأبني جبالا ... وغيما ...
وأمشي على الماء... والجمر ... أمشي...
وأسقي ظمأ العصافير
أسألها : أين عصفورتي
يا يمة ... ويا بابا ... يا يمة ... ويا باب" (29)
وكما يحتفي الشاعر بكفاح ونضال المرأة الفلسطينية، يخصص آخر قلادة يوشح بها قصائده المبثوثة في ديوان شعره، لاستحضار طيف زهرة عمره الريحانة، وفلذة كبده الصبية الفاتنة البريئة المبعدة هناك والمكوية بنار العدو المحتل المحترف لقوة الحديد والنار، فتستعر عاطفته الجياشة التي يبث فيها لواعج عشقه الأبوي ومشاعر تعلقه وحنينه لرؤيتها وضمها إلى صدره المستهام، فينتابه الحزن السوداوي العميق ويعبر عنه بقوله :
"هنا شجر للكتابة
ورمانة للعتابا ...
وجيش من الحزن ... والشمس تعبر قوس الربابة
ويعبرني صراخا في البراري البعيدة
.....يمة ... وبابا .... يمة ... ويا باب
أغني لفجر التي تبتعد ...
وأرسم أسئلتي ... وأنادي على زعتري الجبلي
وطيري العصي ...
وأكتب في دفتر القلب ... وجه صفد ...
وأجدل من شوق أمي ... وشوقي إليها حبالا
وأبني جبالا ... وغيما ...
وأمشي على الماء ... والجمر... أمشي ...
وأسقي ظمأ العصافير
أسألها : أين عصفورتي...
يا يمة ... وبابا .... يا يمة ... ويا باب"(30)
ثم يسترسل في عزفه على وتر ربابة عشقه الأبوي، ليغني نافثا زفرات غربته عنها:
"وسوف يظل الغناء
لفجر التي حملتني على جرحها ... وانحنت بين جرحي ... وبيني
أغني أنا المتعب المترامي الغريب ... يدا في نخيل من الوهم
قلبا يطير إلى الغيم
عينين مفتوحتين على شفق الحزن ... مغلقتين على الحلم
والوقت ليل ... وتبع ... وناي ...
ولا أحد في المرايا سواي
... وأنا الذي بين كفي ... ومنفاي ... سر ... وفجر ...
ودورية في الحصار ...
وما راوحت في الدوار
يا يمة ... وهي ويا يابا ... يا يمة ... ويا ياب." (31)
إلا أن حرصه على التشبث بالمقاومة وروح الفداء، وأمله في لقائها وضمها إلى جوانحه – كما كان الشأن في أيامه الخوالي – هو ما يدفعه إلى التبشير بقرب الانعتاق والتمتع بنسيم الحرية :
وبالرغم من صدإ الورد ... والحنجرة
لفجر الغناء
لفجر التي تخرج الآن من دفتر مدرسي
لتدخل في البحر ... والشعر
تلك التي تأخذ الآن أشياءها .. وتعود مساء ...
وتشرب قهوتها في الطريق
وتسرع بين الثياب ... وبين الحريق
وتلقي إلينا مواويلها
ثم تشرع قامتها في المرافئ ... من مرفإ الوقائع ... أو مرفإ في الذرائع
حتى ارتداد المدافع ... تشرع في إصبعيها نشيد اليتامى ...
وتعلن ... لا ... ثم تدخل في فورة السنبلة ...
وتوغل في الوقت ... والوقت يصعد في النار ... والدار
يصعد من جنبات الغبار
ويكتب: أن فلسطين تجتاز محنتها في الركام
وتصعد من موج أطفالها ...
وهي تحمل أثقالا ...
فتزلزل فوق السنين ... وتعصف بالسجن ... والقمع والجلجلة ...
يا يمة وهي يا بابا ....يا يمة ... ويا باب (32)
فلهذه الطفلة، بل لكل أطفال المقاومين المنفيين، والفدائيين والشهداء الفلسطينيين، يميل في آخر قصيدته إلى التبشير بحرارة اللقاء المرتقب الموشك على الحلول، فتنتا به مشاعر البهجة والحبور والفرحة والسرور:
"لها الآن ... أنهض
أصحب ...
أشرب نخبا سخيا
وأمتد بين الحنين البكائي والورد ... والياسمين المغنى
لفجر التي تأخذ الآن سمت الفراشات ... والشوق
تلك التي تنهض الآن بين كان ... والمسألة ...
يا يمة وهي يا بابا ....يا يمة ... ويا باب (33)
... هو النهر يسترق السمع من ضفتيه
ويمضي إلى راحتيها ... وئيدا في أريحا ... أريحا ...
ويمضي إلى حيث موئله
لها الآن نصعد من نخلة في الأقاصي
ومن صلية في الأماسي ...
ومن فرحة في الصباح الرصاصي
من حرس في الوريد النحاسي
أو من سكون المراسي ...
يا يمة ... و يا بابا ....يا يمة ... ويا باب (34)
ثم يصحو الشاعر في اليوم الموالي بعدما منى نفسه بلقاء زهرة عمره، فلا يلفي غير قهوة مرة وصباحات تتوالى دون أن يحقق مبتغاه، لكنه يستحضر وجهها الصبوح، ولظى شفتيها البريئتين ، فيكتفي بتقبيلها مفترضا أنهما يتضاحكان:
"وأصحو على قهوة مرة في صباح قديم
وأقطف من شجر العمر وردا...
وأرشقه في المسافة بين الضفيرة ... والصدر
بين المدينة والبحر...
بين السكاكين والنحر...
أضحك من كل قلبي ...
فتضحك ... ثم أبادلها قبلة بسلام
يا يمة ... و يا بابا ....يا يمة ... ويا باب (35)
ومن ثم تنابه مسحة من الحزن الدفين لعدم تحقق رغبته في اللقاء، لكنه سرعان ما يستعين بصموده الذي يرفده قوله الشعري بروح التحدي والسير قدما حتى تحقيق النصر الأخير، متسلحا بما يزوده أطفال الفدائيين من قوة دافعة، وصلابة واقية، والتشبث بالأمل المنشود في العودة المظفرة :
..."هي الآن تحلم بين الغرابة ... والدفء
أن الطفولة تحمل لي جمرة ... ورغيفا
ويحمل لي سلاحا ... وزهورا ...
وتحمل لي ظل دالية ... وسلالا
وصيفا ... وبحرا ...
وفجرا ...
وغابة أيد
... لست أدري سوى أنني سوف أوغل في طرق أو صدوها علينا ...
وأعلن أن الطريق إلى قريتي العسلية ليست تضيع وأني أحارب من آخر الضوء حتى مشارفها... تم أني أحارب من زهرة في الجليل .. إلى صخرة في الخليل إلى مدن في أقاصي السجون ... ومن وطني المشرقي
وها أنني أستميحك عذرا بأن تقرئي ورقي البابلي وقلبي ... وشيبي ...
وأن ترتدي فوق كتفيك أوسمة من جبال
وأن ترفعي في يديك المفاتيح
أن تومئي للرجال ... الرجال.
يا يمة ... و يا بابا ....يا يمة ... ويا باب" (36)

بهذه الرؤيا المتفائلة بروح المقاومة الفلسطينية، وبحتمية انتصارها على أطماع ومخططات العدو الإسرائيلي المدجج بكل أنواع أسلحة الدمار الشامل – رغم كل العوائق والمثبطات – يختم الشاعر الفدائي : خالد أبو خالد آخر قلادة من قلائد قصائده المبثوثة في ديوانه: "أسميك بحرا أسمي يدي الرمل" الشاهد على صمود الكفاح من أجل تحقيق النجاح والفلاح.
كانت هذه مجمل الرؤى المهيمنة على قصائد الديوان الشعري لخالد أبي خالد، وقد حرص في تعبيره عنها أن يصوغها في قالب شعر مرسل أعطى فيه حريته المطلقة في تمديد الأسطر الشعرية أو تقليصها حسب الدفقة الشعرية كما يحسها، والتي قد تطول عنده لتشمل فقرة شعرية بأكملها حين تطغى الشحنات العاطفية المتدفقة، هذه الشحنات التي تفرضها عليه تيمات قصائد ديوانه، وهي شحنات صادقة نابعة من ظروف حياته الفدائية، وحياة المناضلين والمقاتلين والشهداء الفلسطينيين، وهذا ما منح تعبيره الشعري مباشرة تنفجر حزنا وكمدا وأسى على ما عاناه هؤلاء الأشاوس سواء بمخيمات الصمود والتصدي، أو بأعالي التلال والجبال وهم صامدين أمام قوى الحديد والنار. إنها مباشرة لا تفقد شعره بهاء الصياغة بقدر ما تسمو بخطابه الشعري الذي ينفذ إلى وجدان القارئ ويمنحه الألق بلمساته الوجدانية الصادقة والعواطف الإنسانية النبيلة.
وبذلك استطاع الشاعر أن يرفد قوله الشعري بقوة في الأداء، وشاعرية في البناء، وصياغة لغوية رصينة، وأداء معبر عن رسالة الشاعر النافذة إلى قلب القارئ اللبيب المتأمل.
والملاحظة العامة على الجمل الشعرية الموظفة في إبلاغ رؤاه، أنها تمتح بناء تركيبها مما تميزت به اللغة العربية الفصيحة من بلاغة في الإيصال، وجزالة في الألفاظ، وأهم ما يوظفه الشاعر منها صور البلاغة الحديثة المرتكزة على الانزياح اللغوي الذكي القادر على خلق الفجوة المبتغاة بين الدوال والمدلولات، وهي ما أكسب تعبيره تراكما في الصور الشعرية التي تبدو للقارئ كعناقيد تتدلى في مقاطع شعره، وفقراته بطريقة عفوية لا يجد الشاعر عناء في القبض عليها وتشكيلها، لأنها نابعة من تعبير صادق معاش ومن تجربة فدائية خبرها الشاعر خالد أبو خالد بالممارسة والدربة والمشاركة والحنكة. كيف لا وهو سليل المجاهدين الأبطال الذي ورث جينات شهداء المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتهم جده عريس الثورة أيام الاحتلال الإنجليزي، وكذا أبوه المجاهد والمنتمين معا لحركة المقاومة منذ تأسيسها على يد رمز الفداء الفلسطيني، المجاهد الشهيد : عز الدين القسام.

"أسميك بحرا أسمي يدي الرمل" هو في البداية والنهاية أوراق عمر الشاعر الشهيد أبو خالد الشاهدة على آثار أقدامه العارية التي وشمت رمال الشواطئ ومخيمات النفي والغربة والمعاناة الحقيقية التي غلفت أيام وليال المناضلين الفلسطينيين المقاومين لغطرسة العدو المالك لكل وسائل الدمار والخراب.

إنه ديوان شاهد على فظاعة ما عاناه هو وجيل من رفاقه الذائدين عن حياض ربوعهم وجبالهم وحواضرهم التي دنستها الآلات الحربية المدمرة، لكنهم ظلوا رافعين لراية التمسك بالأرض وصيانة أهلها الطيبين العزل الذين لا يملكون سوى إيمانهم الراسخ بعدالة قضيتهم.

إنه سجل بالغ الدلالة على الإصرار والعض بالنواجد على كل ما يسمو بالإنسان، ألا وهو الشرف، والإيمان الراسخ والتضحية والشهادة والاستشهاد. والشاعر الشهيد "أبو خالد" هو أحد أبطال الثورة الفلسطينية الراسخ في جذور تين وزيتون الأرض المباركة، والمحلق فوق ربى الوعر ومراتع السهل، والمتماهي في شوارع عكا وشواطئ حيفا ومرابع الخليل ونابلس والمتوحد بمسجد القدس العتيق والمسبح بجلال قدر الخالق الواهب الباعث لزمرة أنبيائه الذين وطئوا بأقدامهم أرض بيت المقدس الطاهرة، والذين بشروا بحلم البشرية جمعاء.

إنه ديوان بالغ الدلالة على ما أصاب الثوار الأشداء من نفي وغربة ومعاناة لا حد لها في عصر المذلة والخيانة والتواطؤ البغيض على أحرار العالم والشهداء.

الــــهـــــوامـــــش

1. ديوان شعري من منشورات المجلس القومي للثقافة العربية. الرباط 1991
2. بيروت78. ص: 9-10
3. بيروت 78. ص: 10
4. نفسه : ص: 12-13
5. نفسه ص: 13-14
6. نفسه ص: 11
7. من قصيدة "توقعات الولاة الثانية ص: 82
8. نفسه ص: 133-134
9. نفسه ص: 135
10. نفسه ص: 136
11. "أحزان الأيام الأخيرة" ص: 118
12. نفسه ص: 119
13. نفسه ص: 120
14. نفسه ص: 121
15. نفسه ص: 121
ص: 123
ص : 118-119-120
16. من قصيدة: "يا ميجانا صبرا يا ميجانا ريم" ص: 78-79
17. نفسه. ص: 81
18. نفسه ص: 85
19. نفسه ص: 79
 ص: 80
 ص: 83
20. نفسه ص: 73-74
21. نفسه ص: 74-75-76 بتصرف
22. نفسه ص: 77-78
23. نفسه ص: 74
24. نفسه ص: 77-78
25. من قصيدة :"موسم الصعود إلى الفجر. ص: 151/152
26. نفسه ص: 31
27. نفسه ص: 152
28. نفسه ص: 154
29. نفسه ص: 154- 155
30. ص: 155
31. ص: 157- 158

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة