النصّ المتعدّد في مجموعة الربّ والرماد للقاص الأهوازي رضا آنسته - علاء حمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 المتعلقات والممكنات:
تظهر المتعلقات في النصّ القصصي عندما يمتلك القاص اللغة التي تقوده إلى وظائف وابتكارات تركيبية تؤدي اشتغالاتها من خلال الحدث التأثيري؛ ويكون للفعل التأثيري اللغوي الخصوصية لكلّ كاتب ومدى اهتمامه في صفّ المنظور السردي؛ ومن خلال هذا المنظور نستطيع أن نتابع بعض القصص التي من الممكن أن نتوقف في زواياها ومدى ظهور الممكنات الحجاجية والمتعلقات التفكرية والفكرية في النصّ السردي الحديث.
الممكنات المتعالقة : هي قدرة القاص على ترجمة فعل المتخيل من خلال الواقع المنظور، وكذلك مدى استجابة الذات الحقيقية بما تعلق بها من أحداث قد تكون واقعية وقد تكون لاواقعية.
ممكنات المعنى: وهي الثروة المتعلقة بالذهنية والتي يفرغها السارد على البياضات من خلال المقاربة الرؤيوية.
التركيب اللغوي الدلالي: من خلال اللغة الدلالية نستطيع أن نتصل مع المعاني الصريحة في جسد النصّ، وفي نفس الوقت يكون الرائي ذا خبرة وإمكانية في دقة الحدث الدلالي لكي يستطيع أن يوصل المعنى الحرفي للارتباط النصّي، ويكون للمفاهيم والمعاني المعرفية المساحة الكافية لجذب المتلقي. أيّ أن تكون للدلالات المعرفية الشأن والتأثير في النصّ القصصي.

التشريع النفسي: ويأتي ضمن اللغة النفسية في مساحة النصّ، ولا ينحصر التشريح النفسي بمساحة ضيقة، حيث أنه يهمّ الشخصيات ومدى حركة كلّ شخصية إما عن طريق معنى الاسم الذي يختاره الكاتب، أو من خلال حدث المعنى الذي يتمركز في جسد النصّ.
من الطبيعي أنّ هناك الكثير من المتعلقات الذاتية التي تقودنا إلى الحدث السردي؛ وهي تعتمد الإدراكيات والإدراك اللغوي أيضا، فالقصة والقصة القصيرة، تعتمد الحدث التأثيري، ولا نستغرب دخول الحكائي عليها أيضاً، وهو من لوازم التعدد النصّي التي تكون الممكنات الذاتية الأقرب إلى القاص في حياكة قصته.
الربّ والرماد :
مجموعة قصصية للكاتب الأهوازي رضا آنسته، وتحوي بين غلافين خمس عشرة قصة قصيرة كتبت في بيئة الكاتب ( الأهواز ) وهي المنطقة العربية التي تقع جنوب غرب إيران، وسكانها من العرب والذين يجيدون لهجة جنوب العراق.
يعتبر العنوان، خطاب صغير ومن الممكن جدا احتواء النصّ من خلال تفجير دلالاته التي تجذب المتلقي؛ لذلك قد ترمز العنونة إلى عدة نصوص، فهي متعددة الاتجاهات من خلال دلالاتها التي تظهر في جملة مركبة، وتتداخل النصوص المجاورة للعنوان، فهو المسيطر على اتجاهات النصوص، لذلك نقول إنّ للعنوان استقلاليته؛ وينفتح على بقية العناوين الفرعية في داخل المتن، ويكون الحاضن الرئيسي لكلّ النصوص بين غلافين.
الربّ والرماد؛ وهي القصة السابعة من بين خمس عشرة قصة قصيرة، وبطلها يعمل مدرسا للرياضيات، وتدور القصة حول أحد الأزقة الموحشة؛ فقد تناول القاص رضا آنستة ذلك الزقاق ليكون مفتتح للعنونة التي اختارها بين منظور الإله، والرماد، الرماد الذي نعتبره بقايا من حريق، فكلّ شيء كان حيّا، وكلّ شيء أصبح رماديا، بل على شكل كومة من رماد من الممكن بناء منه تمثالا هشّا، حيث أن مادة الرماد سرعان ماتسقط.
التأثيرية.. انطباع المعنى
هناك عدة اتجاهات من خلال العامل التأثيري الذي يثير المعاني الانطباعية، وهي نفس المعاني التي تتعلق بالذات الحقيقية، حيث تظهر من خلال التصنيف الحدثي والمواصلة السردية، ومن الطبيعي أن تلتفّ القصة القصيرة حول التيه، ومن الصعب جدا الوقوف على حدثها الانطباعي ( ولكن ليس هناك مستحيل )؛ وإذا نوينا التفكيك، فيكون للتأثيرية علاقة مع التعالق النصّي، وهي تلك العلاقة التي تُظهر بواطن النصّ والقصدية التي يرسمها القاص؛ وفي طبيعة الحال يكون للدلالات المعرفية التأثير من خلال المعنى، وهي تسير مع طبيعة السرد، ومن خلال التداولية ( النظرية الأكثر انتشارا بهذا الاسم )، فهناك طبيعة المعنى ومدى تحقيقه، وكذلك مدى دخوله التأثيري بالمتلقي، وما نلاحظه من خلال استدراك النظريات بأن العلاقات ممكنة بين نظرية وأخرى، وهي تشكل جزءاً من المتعلقات والممكنات اللتين تعومان في ذهنية الكاتب، فكلّ معنى له سياسته الحقيقية ويمتلك الفعالية بالإنتاج:
في قصة حمام النفنوف الأبيض؛ يذكر لنا الكاتب الأهوازي رضا آنسته بعض الوقفات الواردة في المجتمع الأهوازي، فابن العم يعشق بنت العم وهو يغير عليها: ( ينعكس في مرايا الماء، جسده الريّان، موفور الصحّة والعافية، مفتول العضلات، نافر العروق، عريض العظام من الفلاحة والبناء؛ عينان طينيتان، أنف معقوف كمنجل، وفم واسع كشقّ في حائط، وبشرة خشنة كلحاء نخلة. ليست هي بالصورة والسنارة الجذابة لاصطياد أنثى، بل تحوّل حلم كلّ فتاة في زوج أو حبيب إلى كابوس، حتى حلم بنت عمّه " فطومة " الموقوفة له منذ الطفولة. لكن هل ستبقى هي حبيسة نذر أبيها ورهن أعراف قبيلتها؟ جاسم يشتهي فطومة، وفطومة، تحبّ خليل صديق جاسم. – ص 33 – قصة حمام النفنوف الأبيض ).
وظف القاص الأهوازي رضا آنسته لغته السردية، وقد استطاع من خلالها أن يعرف المهنة الشخصية لبعض الأطراف التي احتلت مكانة انطباعية في الذات العاملة لدى القاص؛ فمثل هذه الأحداث تبقى تقليدية وما يعاني منها المجتمع من أمراض وتقاليد عشائرية، ولكن المهم في القصة، إن القاص استطاع أن ينتمي إلى فنّ الوصف من خلال الشخصيات وقد اعتبر كلّ شخصية بطلا من أبطال القصّة؛ فالمغامرة التي نقلها من المنظور الواقعي إلى المنظور الكتابي، كانت مغامرة تجريبية؛ وقد استطاع الكاتب أن يحوّل لغة الوصف إلى لغة إبلاغية، وهي حتمية المعاني التي رسمها في كلّ قصة من قصص المجموعة؛ حيث كتب البراهين وأسس أجوبة لأسئلة كان قد رسمها في قصصه، ولكن البرهان لاينفي السؤال، والسؤال أصبح حالة مرضية ونستطيع أن نفرش له ابتسامة الرضى.
( كان المطر يهطل بشدّة، مبلّلا معطف المحقّق المطريّ الرمادي، وهو يعبر الشارع راكضاً إلى الجهة الأخرى حيث المشرحة، متضلّلاً بجريدةٍ، فوق قبّعته، وأضواء الشارع تتكسّر على الإسفلت، وتمرّ بين فترة وأخرى سيّارة، ترشّه بضباب ضوئها. كان الطبيب الشرعي في انتظاره، أخرج له الجثّة من البرّاد، عارية، إلاّ من خرقة تلفّها من النصف السفلي، والبخار البارد يتطاير منها، كان وجهها شاحبا، كالكركم، عيناها بيضاوين كسحابتين، لابؤبؤ فيهما، وفمها فاغرا كشقّ في حائط، عاينها المحقّق بدقة من وراء عدستي نظارته الإستكانتين، وحاول أن يعثر على آثار جراحات وكدمات، بعد أن أخبره الطبيب أن صاحبها لم يمت بصورة طبيعية، لكنّهم لايستطيعون أن يحدّدوا كيف مات، وقبل أن يغادر أعطاه كتيبا..من قصة: القبو – ص 39 ).
إن زمن النصّ معرض للتماهي والانفصال، عبر الزمني واللازمني، وعبر الالتباس بين الماضي والحاضر، لذلك عندما يعتمد الكاتب على تحرير المعنى، فهناك تحرير للكتابة الضمنية، وهي المهمة التي تقع على عاتق الكاتب؛ وخصوصا إذا كان الكاتب ابن بيئته التي تربى على تربتها، فالشخصيات التي نقلها من نصّ منظور إلى نصّ مكتوب، تبقى حالة التمرد والانكفاء؛ من حالات الفرز الصوتي، فلكلّ شخصية إطارها الخاص ضمن قصة من قصص المجموعة.
إنّ العلاقة التي يرسمها القاص الأهوازي رضا آنسته، هي علاقة المرسِل والشخص والمرسَل إليه، ومن هنا تظهر المعاني التي أرادها أن تكون انعكاساً للواقع الذي يعيشه، وسط زخم وضجيج التقاليد القديمة التي أثرت في تأخر المجتمع، وهذه الخصوصيات ليس من السهل معالجتها، لذلك فإنّ الكاتب يكتفي ببعض المشاهد التي ينقلها بين الحين والحين، وهو يحيك قصصه ويطرّزها لكي يبرقعها ببرقع من المبالاة وما يجري في مدينته الأهواز.
اعتمد الكاتب على فن التشبيه في توضيح المعاني التي خرجت من الذات العاملة؛ وهو عملية النقل والاستبدال والاستعارة؛ ومن هنا أراد أن يكون للعنصر التأثيري الملائمة أكثر بدعم قصصه بقوة الحدث السردي ( فالاستعارة بجميع أنواعها عملية نقل للفظ من " مسماه الأصلي على سبيل الإعارة للمبالغة في التشبيه – ص 407 – القزويني – الإيضاح تحقيق، محمد عبد المنعم خفاجي " ). لذلك يكون الكاتب معتمدا في بعض الأحيان على الإيحاء والإحالة لكي يكون مع المعاني الرمزية كما في قصتي ( الرب والرماد؛ والتي تحمل اسم المجموعة القصصية، وقصة الروائح ).
بنية الحدث والتلقائية
هناك الكثير من الأشياء التي تدخل ضمن القصة القصيرة وتتآلف مع البنية السردية، فهناك الأشياء المحسوسة وهناك الملموسة وهناك غير المرئية، فلا يمكن للكاتب أن يبحث عن هذه الأشياء دون سند يدعم نقل الحدث أو تطريزه ضمن أسلوبية القصة التي يعتمدها. يستوحي القاص عناصره من متعلقات الذات أو من الواقع المنظور، وذلك لكي تتآلف تحت خيمة المنظور السردي؛ وإذا اعتمد التلقائية في التعبير، فيكون عنصر فعل المتخيل قد سيطر على الحدث السردي المقصود.
( البارحة حلمت بك في أوّل ليلة عدتّ فيها من المنفي، وأنا نائم عند ساقيك حيث تصبين في شطّ العرب، أتوسّد أشواكك التي نبتت بدل أعشابك، حيث كنّا نرنو إلى عطش أختك في الضفة الأخرى، وهي تلوّح لنا لنلتحم بها، ويغيب عند منعطف خصرها، الشطّ والسفن والأضواء، في غسق الليل، وتتلامع نجوم أسراب الأسماك، التي كانت تنطّ هنا وهناك، وتبزغ كالحباحب، وتثقب فقاعات الماء... كثيراً مارمينا في الأصائل هنا، نردَ مصيرنا وحبّنا، وهل كانا طريقين مختلفين؟ فكانت تتكوّن دوائر ودوائر ودوائر... تخطّ وتحدّد في كلّ واحد من حلقاتها، مشهداً ومحطة من حيواتنا، تنبئنا وحلمنا، بكلّ المحطّات إلا الحرب، فهي لم تكون محطة، بقدر ماكانت حطاما! – ص 45 – من قصة: الحمرة والنهر).
تعتبر المسميات خارج التفكر، فهي تعتمد التلقائية في الروي القصصي، مثلا طرح نهر كارون وبعض المسميات التي عاشها القاص، أو تلك التي تواجدت أمام منظوره الاستقرائي؛ مثلا : كوت الشيخ والمحرزي والمنيخ والحيزان وسوق السيف وجزيرة الصلبوخ... هذه الأشياء التي أوجدها القاص رضا أونسته، معاشة أمام منظوره، ولايحتاج البحث عنها، وهي من متعلقات الذات الحقيقية التي بنى قصصه من خلالها، ومن خلال هذه القاعدة، تسهل مهمته في التقصّي عن الشخصيات الملائمة لقصصه المكتوبة والتي تحمل لغة قصصية أدت مهامها ضمن التجلّي اللغوي، فكلّ مرة هناك إعادة للقراءة؛ وقد اقترح " بارت " عملية ( إعادة القراءة )؛ باعتبارها النهج الوحيد القادر على إنقاذ النصّ من التكرار؛ فليس هناك قراءة أولى لأي نصّ من النصوص وعلى مجمل المستويات الأدبية ومنها القصصية أو الشعرية، وعندما يشير القاص ( وهذه خصوصية أدبية ) إلى شيء من الأشياء، فمن أولى المهام أن يكون لعنصر التشويق القدرة على جذب المتلقي، وهو على علاقة مستمرة مع فعل الإثارة ويعملان تحت لافتة واحدة لكي يكون النتاج القصصي، أحد المنبهات المثيرة للمتلقي.
الاستعارة والتصوير في السرد القصصي
تعتمد استعارات الكاتب الأهوازي رضا آنسته على استعارات يومية ( everyday metaphor )، وذلك من خلال رؤيته اليومية أولا للغة المعتادة المتداولة بينه وبين شخصياته، وبين الشخصيات والحدث المنظور؛ ( والنتيجة هي أنّ الاستعارة " أي: الترسيمات العابرة للمجالات " تُعد مركزية مطلقة لدلاليات اللغة الطبيعية المعتادة ordinary natural language semantics وإنّ الاستعارة الأدبية هي امتداد للاستعارة اليومية. – ص 8 – النظرية المعاصرة للاستعارة – جورج ليكوف – ترجمة: طارق النعمان ). إنّ عنصر التشبيه يُعد جزءاً من نظرية الاستعارة، وفي قصدية الكاتب الكثير من الاستعارات اليومية وكذلك من عناصر التشبيه، ولا تكاد قصة من قصصه تخلو من هذين المجالين.
( ظللت ظمآناً... أنتظر يقظتي لأحلم بالبحر من جديد، لعلّي في مرّة من المرّات أسبح فيه، قبل أن يدركني النوم. استيقظت على رنين المنبّه، ارتديت ثيابي على عجلٍ، خرجت إلى العمل، والانتظار والشوق يقتلانني... لكي أعود للمحاولة معه، حينما يحلّ المساء... عدتّ مرهقاً، رميت نفسي على السرير كخشبةٍ وحدّقت في السقف واستأنفت حلمي من جديدٍ كعادتي في السنوات الثلاث الأخيرة. – ص 9 – من قصة: منى ).
( بعد الانتهاء من ممارسة طقسي المسائي في " الأربعاء الأسود " تلك، لآخر مرّة أحدّق فيهم كرصاصةٍ وأعود إلى جحري، ليخرج آخر سواي، فلا يُحرم أحدنا فرصة الاستمتاع بكرم الطبيعة وبذخها ومائدتها السماوية. وأرقب أنا البقية، من فوق كنورس حوّم حولهم من بعيد... – ص 17 – من قصة: أنين النخيل ).
إنّ تحويل اليومي إلى كتابي، لا يكون بشكله المباشر، وإلا يسقط الكاتب بالمباشرة واللغة العادية، لذلك ومن خلال المنظور القصصي – السردي، تتم العملية بتحولات ذاتية، فيمتلك الكاتب الذات السردية والتي تكون قادرة على هذه التحولات، حيث أنه يمتلك خصوصية الدربة والتماثل التقابلي، بين ذات سردية، وبين حدث يومي يمرّ به الكاتب رضا آنسته.
إن المعنى الذي اعتمده الكاتب في القطعتين التي رسمهما، تحول هذه المعاني إلى مواضيع معتمدة على الاستعارة اليومية والحوار اليومي اللذين يحدثان عادة ببناء أية قصة قابلة للنمو والديمومة؛ ومن هنا ينمو الاستدلال ذو العلاقة مع دلالات النصّ، ونلاحظ أن القاص رضا آنسته اعتمد على مبدأ الاستعارة وكذلك طعم بعض الجمل بالتشبيه، وكأنه يطعم خنجره بحبيبات من الفضة لتعتمد قصته على التغييرات اللغوية؛ وليحرّض المتلقي من خلال المنظور التصوّري، والذي يبني علاقة مع اللغة الإدراكية.

................................................

الربّ والرماد.. مجموعة قصصية للقاص الأهوازي رضا آنسته
صدرت عن دار تأويل – العراق
خرجت المجموعة بواقع 128 صفحة – حجم وسط
لوحة الغلاف : للفنان العراقي ضياء العزاوي
...
علاء حمد... عراقي مقيم في الدنمارك

 

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة