الحرب كتيمة مفضلة ما انفكت محورا هاما للشعراء والروائيين منذ هوميروس في الإلياذة والأوذيسا وحرب داحس والغبراء وقصائد المهلهل في رثاء كليب وحرب البسوس وصولا إلى روائي العالم كهمنغواي وتولستوي وجورج أورويل وحنا مينة وكنفاني وغيرهم تمثيلا لا حصرا ،القتل العشوائي ،الحرب بلا هدف مسوغ ،التدمير والسادية ،العنف غير المبرر، التجارة في الحرب وتنمية حاسة الاستئذاب لدى الجشعين ومراكمي الأرباح من رائحة الدم والأشلاء تظل موضوعا مفضلا كذلك اليوم لدى لفيف من الكتاب في سوريا مثلا في يوميات الدم والاغتصاب وكما في نكاح الجهاد في العراق وأفغانستان والعنف والتجويع والإخضاع في اليمن وغيرها.
ورواية "الحياة من دوني" لعائشة البصري عضو بيت الشعر واتحاد كتاب المغرب تتخذ من الحرب تيمة لعملها الباذخ الذي اقتضى سنوات من الإعداد ومراجعة الوثائق والصور والرحلة إلى أقصى الأرض.
ترتكز هذه الرواية على بعد فكري راسخ هو الانتصار للمرأة والدفاع عن حقها في الوجود وصون كرامتها وشجب كل محاولات التضييق والاتجار بها وانتهاك معنى وجودها وكرامتها كإنسان وقد كانت الحرب ميدانا تعرضت فيه المرأة إلى أبشع جريمة تنال من كرامتها وإنسانيتها،لقد كانت ضحية لحرب موازية مسكوت عنها لا يتحدث عنها المؤرخون عادة.
يحيل العنوان وهو عتبة من عتبات هذا المنجز التخييلي على معنى الغياب والتلاشي وتأتي الصورة بالأبيض والأسود كعتبة ثانية بخلفية رمادية لفتاتين صينيتين تنظران نظرات حائرة،سارحة، مشجية تغور في أعماق الإنسان منا لتثير توترنا وشجونا كذلك ثم الإهداء الذي جاء هكذا :إلى ضحايا اغتصاب الحروب ، ثم الأقوال المختارة التي تكثف المعنى في اقتصاد لفظي لأديبين فرنسيين وثالثة أمريكية عن هول الحرب ولا إنسانيتها خاصة إزاء المرأة:
"من فظائع الحرب أننا ننسى تحييد جسد المرأة".كاتب فرنسي
"أحلم باليوم الذي يأتي فيه طفل ويسأل أمه كيف كانت الحرب".شاعرة أمريكية
"كل الحروب هي حروب أهلية لأن جميع البشر إخوة".شاعر فرنسي
في لغة حكائية شفافة لرواية تقع في 258 صفحة تبدأ من الدار البيضاء وتنتهي فيها كذلك تقوم على تبئير حكاية الفتاتين التوأمين الصينيتين جين مي وقوتشين وتستخدم الكاتبة التقابل بين شخصيتيهما داعما لمسار الرواية وسيرورة أحداثها وليس كالقلم النسائي يتوغل في عالم المرأة مكتشفا سراديبه وآهاته وتوجساته ،فالفتاتان تنحدران من عائلة فلاحية في قرية جسر تشولانج في الصين في زمن سردي يمتد من 1937 حتى 2012 وعبر هذه المتوالية السردية وتعدد الأمكنة بين الصين والفيتنام وفرنسا والمغرب تتعاقب الفتاتان على سرد حكايتيهما في صيغة مذكرات ،اعترافات ،بوح بضمير المتكلم وبتقليص البؤرة الحكائية، فقد تعرضت القرية إلى هجوم من قبل الجيش الياباني وتمت تصفية آلاف من الناس من الشيوخ والنساء والأطفال حتى امتلأ نهر تشينهواي بالجثث وانتشرت رائحة الدم في كل مكان مما أدى بالعائلة إلى الرحيل إلى مغارات الجبل الأحمر أولا ثم إلى مدينة نانجينغ فرارا من الموت(تسلمنا نحن المدنيين مهمة الدفاع عن أنفسنا همنا الأول في المدينة هو البقاء على قيد الحياة ،ألا تختطف النساء ،الاغتصاب موت بطئ للمرأة ،حين ذاك يدفن الجسد المغتصب في مقبرة النسيان والإهمال ،من سيتزوج امرأة مغتصبة مهما كانت وطنيته؟ ومن ستكون لها الشجاعة لتتزوج وتحبل بعدما تعرضت له من وحشية؟هل هناك حياة بعد الحرب لامرأة مغتصبة؟).
هذه المذبحة مذبحة نانجينغ عام 1937ستغدو نقطة سوداء للجيش الياباني فقد سجلت السجلات الصينية عشرين ألف حالة اغتصاب في أسبوع ،وبلغ عددهن في نهاية الحرب حوالي 200ألف امرأة مغتصبة وقد ضلت كوريا مثلا تطالب اليابان بالاعتذار وتعويض ضحايا الاغتصاب من النساء ، وفضلت اليابان سابقا زمن الحرب تسميتهن بنساء المتعة أو هن السلعة الصنم بدلا عن نساء العهر في تسميات غربية أخرى لتلبية رغبات الجنود بانتهاك كل الأعراف والقيم الإنسانية في اختزال المرأة إلى جسد لا وظيفة له إلا التسرية والإمتاع بانتزاعهن من عائلاتهن وذويهن ورميهن في أحضان جنود لا هم لهم إلا القتل والتنكيل وكثير منهن انتحرن هربا من العار وكثيرات انتهين إلى الجنون أو الندوب النفسية الغائرة والمزمنة. وطالما طالبت منظمات حقوق الإنسان بشرعنة الحق الإنساني للمرأة زمن الحرب والسلم وبإدانة وتجريم الاغتصاب والاسترقاق الجنسي والبغاء القسري والحمل الإجباري والتعقيم القسري وقد ماطلت اليابان أولا وتنصلت كما تجلى ذلك في تصريح رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي ثم اعترف وزير الخارجية بعد ذلك وقدم اعتذارا رسميا لكوريا الجنوبية متحدثا عن شعور بالمسؤولية العميقة إزاء هذه المأساة – نساء المتعة- وقدمت اليابان عام 2015مليارين من الدولارات كتعويض لهؤلاء النساء.
جين مي التوأم نقيض قوتشين، قنوع تريد حياة مستقبلية مستقرة في الصين بعيدا عن العنف والقتل لذا تتزوج بعد مقتل والدها الذي قطع جندي ياباني رأسه وتستقر في الصين في حين كانت قوتشين واسمها يعود إلى آلة وترية صينية تعزف ألحانا مشجية لا يعزف عليها العازف حتى يتطهر ويبخر المكان وهي نقيض أختها، فتاة حالمة تهوى المغامرة والإقامة في مدينة بجوار البحر الذي يحملها يوما إلى باريس عاصمة الأنوار حيث الحرية والحياة والفساتين الجميلة والعطور الباذخة والسهرات المجنونة والحرية التي لا حد لها وليس كالبحر مطية وطريق نقل إلى أوروبا في ذلك الإبان ،يستهويها منظر السفن المغادرة لا الآيبة لأن في الإياب نهاية المغامرة بينما المغادرة تعني بداية الحرية واقتحام المجهول ، اغتصبت الفتاة وتشردت فجاءت إلى سايغون بفيتنام حيث نكتشف عبر تقاطبية المكان انقسام المدينة ،باريس الشرق كما تسمى إلى حي الأغنياء من المعمرين الفرنسيين وحي الفقراء من السكان الأصليين وقد تحولت إلى بائعة هوى لتتعرف على فرنسي من أصول يهودية يستغل جسدها ويمنيها بالحب والاستقرار في باريس ثم يهرب وعائلته إلى فلسطين حين اشتم رائحة حرب أخرى سيثري فيها ببيع السلاح والاتجار بالموت وكانت قوتشين شاهدا على حرب الهند الصينية وتورط القوات الفرنسية في مذابح حتى اندحارها في معركة ديان بيان فو وتوافد الجواسيس الأمريكان تمهيدا لغزو فيتنام وهناك تعرفت على محمد الجندي المغربي المجند لحرب بالوكالة عن الفرنسيين ضد قوات الفيت مين حيث تقع في حبه ليعود بها إلى المغرب عبر فرنسا لتعيش هناك 44 سنة في الدار البيضاء منجبة من محمد الذي مات بعد ذلك من تأثير المرض المزمن الذي عانى منه . وتموت هي بعد ذلك بعد أن ماتت منذ أربع وأربعين سنة غربة وترحالا وانتهاكا.
لقد اكتشفت في المغرب غربتها غربة اللغة والجغرافيا والمكان والذكريات(جئت إلى المغرب روحا ميتة وجسدا منطفئا ،ناري تركتها هناك ولم أحمل سوى الرماد) وعدم تقبل المجتمع وإدماجها بدء من أسرة زوجها التي أجبرتها على ارتداء العباءة المغربية وتغيير اسمها على كره منها إلى "زهرة" واعتناقها الإسلام لكنهم ظلوا ينظرون إليها على أنها البوذية القادمة من بلد يأكل القطط والكلاب إمعانا في التحقير والاستصغار ،صراع ثقافات وجغرافيا وماضي مدوي عنيف يرفض الاستسلام للحاضر المختلف لغويا وحضاريا واجتماعيا ( لم يدرك زوجي، وهو يحاول إدماجي في حياته في المغرب أن غربتي ليست مكانا ، وأنني أحمل في داخلي غربة فظيعة ومزمنة. فقد تغربت في الصين وأنا صبية يوم استعمل حبيبي جسدي طعما لعدوه في الحرب ،تغربت عندما رحل تاجر السلاح الفرنسي وتركني ضائعة في الفيتنام .تغربت في سايغون ،صباح اختفاء مصور الحرب الإسباني دون وداع ،تغربت في أسرة جنود ذاهبين إلى ساحات المعارك برغبة القتل ،عائدين برائحة الدم والبارود ...تغربت في حروب لم تكن حروبي ، في لغات ليست لي، فيتنامية ،فرنسية ،عربية).
الصين التي كانت مسرحا لحروب عديدة بدأت باعتداء اليابان عليها وقد كانت المقاومة عملا مشروعا أفردت له الروائية هامشا ثم الحرب الداخلية بين الإخوة الأعداء من الشيوعيين وجنود الصين الوطنية والحرب العالمية الثانية وفي الجوار حرب الهند الصينية التي تورط فيها جنود من المغرب وأفريقيا الشمالية إجبارا وهي حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل أقل ما يقال عنها بالنسبة إليهم هي حرب اللاجدوى واللامعنى وفي كل هذه الحروب كانت المرأة وقودا لها، حرب ثانية مسكوت عنها فغالبا يتحدث عن الجرحى والقتلى ولكن لا يشار إلى المغتصبات حيث دفعت المرأة من جسدها وعرضها (هناك غربة خاصة بالنساء لا يعرفها الرجال .غربة المرأة حين يستباح جسدها ،وحين يتخلى عنها نفس الجسد ويفقد سلطته على الحياة ،حينها لا تكفي كل بلدان العالم لتكون وطنا لها .فتعيش منفية في كل الأوطان. بل كل مرايا الكون لن تقنعها بجمال يستحق الحياة).
عادت قوتشين في زيارة إلى الصين عام 2001 لتكتشف عالما مغايرا لنكتشف عبر تقاطبية المكان بين زمن الحرب ،زمن الفقر والتشرد وزمن السلم زمن الغنى والاستقرار هو مكان غريبة عنه كذلك فالبلد تطور كثيرا وكل الذين تعرفهم ماتوا حتى أختها جين مي ماتت بسرطان الرئة لتوصي بجمع رماد جثتها في جرة من الخزف ستعود به قوتشين إلى المغرب وتستخدمه الكاتبة وفق جماليات التلقي كناطق رسمي ، فذاكرة قوتشين المؤثثة بمناظر الاغتصاب والدم والدخان والصراخ وبوجوه الأهل الغائبين لم تستطع التأقلم مع البلد في حالة رخائه ونموه،وتأتي رمزية التاريخ عام 2001 لتشير إلى الاعتداء على برجي التجارة في نيويورك وما تبع ذلك من عواقب وخيمة على الشرق العربي وقد التقت قوتشين أثناء توقفها بباريس لتغيير الطائرة بأفواج من اللاجئين إشعارا باستمرار المأساة الإنسانية :
(تبادل أوطان أم تبادل مصائر، من أين أتوا ؟أية حروب طوحت بهم ؟هل من العراق أم من أفغانستان؟).
وبكل تأكيد امتلكت الكاتبة الجرأة على اقتحام موضوع هو من قبيل المسكوت عنه في عالمنا العربي فلم يعد الموضوع مسكوتا عنه في الغرب بعد أن فتح الملف على طاولات منظمات حقوق الإنسان والحكومات في أوروبا وآسيا ولكن في عالمنا العربي من المجدي أن يقتحمه قلم نسائي يغوص في دهاليز الذاكرة وسراديب الروح وتموجاتها لتوصيف معاناة المغتصبة وعذاباتها وأحلامها في عالم ذكوري فحتى في الصين أيام طفولة قوتشين وجين مي كانت الأسر الصينية تفرح لميلاد ذكر كأسرة قوتشين التي فرحت أكثر لميلاد "يونج" الذكر وتغاضت عن انحرافه ولصوصيته لأنه ذكر يفعل ما يشاء .اللافت في الرواية التطرق لموضوع تجنيد المغاربة في الحرب العالمية الثانية وفي حرب الهند الصينية وهي حرب بالوكالة لا ناقة لهم فيها ولا جمل ،وكثير منهم ماتوا هناك وكثيرون عادوا بعاهات وندوب نفسية غائرة وكثير تزوجوا هناك وأسسوا أسرا ليعيشوا غربة أخرى فرضتها عليهم الحرب وإكراهاتها شأن محمد المغربي الذي عاد بقوتشين دون أن ينسى منظر الدم والدخان وما تورط فيه من قتل ليعيش على العب من الخمر و تعاطي الحشيش تناسيا لتلك الحرب ودون أن يكف عن إخضاع زوجته للتقاليد والأعراف ولفها في جلباب العفة ونمط الحياة المغربي.
وهكذا لا يشعر القارئ العربي وهو يقرأ هذه الرواية الباذخة مستسلما لتخييل الكاتبة وخداعها وحبكتها وسردها المشوق وتعاقب الأمكنة والأزمنة السردية بالغربة عن أجواء الرواية وأحداثها عبر شخصية محمد المغربي ومدينة الدار البيضاء ثم هذا الأفق المفتوح على الجرح النسائي المستمر إلى اليوم في حروب عربية فرضها التاريخ المعاصر وظروف الاستقطاب الدولي الجديد كما في أفغانستان واليمن وسوريا وليبيا فالمرأة كانت ضحية الحرب الأولى جسدا وروحا في فيتنام كما في أوشفيتز وفي بابل كما في طروادة وفي كوسوفو كما في ليبيريا وفي السودان كما في رواندا يظل الغزاة ينظرون إليها كصنم ناعم يستثير الحس والجلد مجردا عن محيطه الأسري ونوازعه الإنسانية ،إنه جسد مجرد عن طهريته ، منتهك، يتخذ كجسر للعبور إلى ساحات حرب أخرى يسري ويسلي ويمتع لا أكثر .
جدير بالذكر أن هذه الرواية حظيت بتقدير النقاد في معرض الشارقة للكتاب وافتكت جائزته عام 2018 كما سبق للكاتبة أن نالت جائزة كاتب ياسين للرواية الجزائر عام 2016 وهي تمزج الشعر بالنثر باحترافية وشعرية لا غبار عليهما ولها كثير من الأعمال الشعرية المثمنة والمترجمة إلى لغات شتى.