1ـــ الممر الوضيء إلى محتوى النص
للمرة الثالثة تطل علينا المبدعة والروائية المغربية مليكة رتنان برواية من الحجم الكبير بعنوان ( مايا صدى الجبال )، وقد كان لي شرف الاطلاع على بعض أعمالها السابقة في الرواية، تحت عنوان (لبؤة حاحا) بقراءة متواضعة، في حين لم يسعفني الحظ ، لأُشرع نافذتي على الرواية الثانية ( محاسني والقبة)، التي ستبقى دينا معلقا على ذمتي حتى أؤديه.. فمالكة رتنان تشتغل تحت الظل، لا تحب البهرجة، ولا التسابق على الأضواء، ولا لقب أديبة؛ تراها في المحافل الأدبية تتربع على كرسيها في زاوية بهدوء تام، ورصانة ملفتة، تتابع بنظراتها الثاقبة فقرات التظاهرة الثقافية؛ سألتها ذات مرة ماهي الأوقات التي يأتيك فيها جموح الكتابة؟؟؟، فردت بكلمة واحدة مع ابتسامة أنيقة: في الليل، فأدركت أنها تعانق الظلام في صمت، وتشق جيوب جبته على كنوزها في عزلة تامة.. والرواية التي بين يدي هي المنجز الثالث من إبداع روائيتنا المغربية مليكة رتنان، شاءت أن تضع لها عنوانا مميزا ((ماياصدى الجبال)).. تمتد الرواية على 480 صفحة، صدرت في طبعتها الأولى عن مطابع النجاح الجديدة، ((شركة النشر والتوزيع المدارس)) سنة 2023..استهلتها بإهداء جميل إلى الأسرة، وبصفة خاصة الوالدين والأخ..
2ــ عناصر العتبة النصية والذوق الفني في الانتقاء
إذا تصفحنا الكتاب من حيث عتبته النصية، نجد أن الأديبة المغربية مليكة رتنان، لم تضع الأشياء عبثا أو على عواهنها، وإنما اختارت كل عنصر بعناية فائقة، من حيث لون الغلاف، والعنوان، واللوحة، حيث رفل الكتاب في حلة مبهرة، تجذب مهجة القارئ من أول نظرة ..
ـــ الغلاف إطار ورقي يضم المحتوى
لقد اختارت المبدعة اللون الأبيض، ونحن نعرف ما للون الأبيض من مزايا متعددة، تختلف دلالاتها ومعانيها، فهو رمز للراحة النفسية، لذا يُختار لباساً للعروس، ويعد تعبيرا عن النظافة، فيرتديه الأساتذة وزراتٍ بيضاءَ في المدارس، والأطباء في المستشفيات، وتُطلى به جدران المرافق الصحية، ويستعمل كأفرشة وأغطية للمرضى في المصحات، نظرا لما يخلقه من اطمئنان في النفوس، وأمل جديد في الاستشفاء.. ويستخدم اللون الأبيض في الأماكن الضيقة، لإعطائها امتدادات جديدة توحي بالاتساع.. وهناك من يفضل اللون الأبيض على سائر الألوان الأخرى، فيستعمله في أفرشته وطلاء بيته ولباسه باعتباره عنوانَ السلام والهدوء، والبراءة وصفاء النفس، والمرونة والليونة في التعامل مع الآخرين بلطف؛ كما يُعتبر اللون الأبيض لوناً روحانياً، يبعث في النفوس الانسجام والطمأنينة وفقاً لمعتقدات الدين الإسلامي، لذا كان الكفن باللون الأبيض، ويوضح لنا ذلك بعمق، توجه المسلمون إلى المسجد أيام الجمعة والأعياد بألبسة تقليدية بيضاء.. ومن وجهة أخرى نلاحظ أن البشرة البيضاء، تعطي نضارة جمالية للعيون السوداء، والشعر الأسود ...
ـــ العنوان إشارة مختزلة لعوالم المنجز
العناوين عديدة ومتنوعة، هناك العنوان المخادع الرمزي، أو المعقد الذي لا يمكن فتق القشرة عن معناه بسهولة، وهناك المباشر الذي تتصيد دلالته من أول اطلاع؛ لذا حري بأي مبدع، أن يراعي عدة أمور في اختيار العنوان، أولها أن يختزل عوالم المنجز والأحداث التي تجري بين طياته، وثانيها يسلب إلهام واهتمام القارئ.. لذا نجد أي مبدع حين يريد وضع عنوان لمنجزه الأدبي، لا ينزله بضربة مقص، بل يظل يطوف بمطاوي منجزه وحيثياته، باحثا عن الكلمات المناسبة التي تفي بالغرض، وتدغدغ لهفة القارئ، وكم من مبدع أنهى منجزه وسقط في حيرة اختيار العنوان المناسب، بل قد يستشير أحيانا من يثق فيهم لاقتراح عنوان له دلالة بالموضوع؛ والمبدعة مليكة رتنان ـــ بقلة من المفردات البسيطة تقوم على الوضوح، في بعد تام عن الانغلاق المستفزــــ تختار لمنجزاتها عناوين تعبر في الصميم عن موضوع الرواية، وتفتح شهية القارئ للاطلاع، الشيء الذي يلفت نظره ويحفزه إلى الاقتناء، كما لاحظنا مع (لبؤة حاحا )و (محاسني والقبة ) و( مرايا صدى الجبال )، فالعناوين لا تتجاوز مفردتين أو ثلاثة، وتربط بينها بعلاقة فنية بهية، ليعطي معنى شاملا وشاسعا.. ومن هنا يبدو لنا أن الروائية تضع القارئ نصب عينيها، وتعير له كل الاهتمام، بنية إشراكه في منجزها كمبدع ثان بعدها ...
لنحاول تسليط الضوء على العنوان الذي بين يدينا ( مايا /صدى الجبال)، فحسب بحثي في غوغل، توصلت إلى أن أصل اسم مايا عبري، مقتبس من اسم ماري أو مريم، وأنه اسم لإلهة الربيع عند الرومان، وأنه اسم لقبيلة من الهنود الحمر التي تقطن أمريكا الوسطى.. مهما كان، فمايا اليوم من أجمل الأسماء المختارة للأنثى، لأنه خفيف النطق على اللسان، ومرن في كتابته سواء باللغة العربية أو اللاتينية؛ وللكاتبة قرارة في النفس لا يعرفها غيرها في إضافة اسم (مايا) إلى العنوان، وهذا ما سنعرفه من خلال الاطلاع على المنجز.. الصدى، حسب ((معجم المعاني المعاني)) هو رَجْعُ الصَّوْتِ يَرُدُّهُ جِسْمٌ عَاكِسٌ كَالْجَبَلِ أَوِ الْمَغَارَةِ، أَوْ بَهْوِ قَصْرٍ وَاسِعِ الأَرْجَاءِ ، هو وما يرد عليك أو يجيبك من صوت أو نحوه يشبه صوتك..
ويقصد بالصدى: أيضا العطش الشديد .
صَمَّ صداهُ: هلَكَ وأصَمَّ اللهُ صداهُ: أهْلَكَهُ.
الصَّدَى: طائرٌ خرافيٌّ زعموا أنَّه يخرج من رأْس المقتول، ولا يزال يقول: اسقوني حتَّى يؤْخذ بثأره.. الصدى : الشُّهْرَةُ، الصِّيتُ الذَّائِعُ.
فمفردة الصدى لها معانٍ كثيرةٌ لا يمكن حصرها، خاصة إذا تعدد السياق الذي تتوظف فيه...
أما لفظة (الجبال) فتعني ما ارتفع من الأرض، ويشمل قمما وسفوحا، هذا من حيث التوضيح اللغوي، أما من حيث المعنى فلِلْجُملة (مايا صدى الجبال ) معانٍ أخرى سوف تكشفه لنا ثنايا الرواية ..
ـــ اللوحة لمسة جمالية تزين صدر الغلاف
أغلب الكتاب، لا يستثنون أغلفة كتبهم من لوحة معبرة، تضفي نوعا من السحر على الغلاف، أو تُكمّل إلى جانب العنوان قصدية الكاتب، أو توحي بأشياء إضافية لها دلالات أخرى عميقة، قد يرسمها المبدع نفسه لتلبي ما في نفسه، أو يختارها من لوحات حقيقية على الواقع جلبت اهتمامه، أو ينتقيها من بعض المجلات أو الجرائد.. واللوحة التي بين أيدينا لا ندري مصدرها، في اعتقادي قد تكون في الغالب من اقتراح الناشر.. اللوحة تتكون من أشكال عديدة بألوان غامقة، جمعت ما بين الأحمر والأخضر والأزرق والنيلي، وهذه الألوان تعبير صارخ عما تكتنزه النفس من هموم، وأفراح وأحزان، وآلام ، وآمال، وحيرة، وتيه؛ ويتوسط هذه الألوان لون أصفر مائل إلى البرتقال، يعني دون شك بصيص الأمل المشرق، على أن المقبل سيكون أفضل ..
3ـــ الثيمات وتنوع المواضيع
على الرغم من أن الرواية عبارة عن تحليق مطلق في الخيال الجامح، خاصة وأن كاتبتنا تنزل أحبارها في هزيع الليل، كما أقرّت لي ذات سؤال حول وقت الكتابة، إذ في بهيم الليل تستدعي أديبتنا أمهات الأفكار، مما لملمته من اطلاع على تجارب الآخرين، وسماع القصص والروايات والحكايات من الغير، والمواضيع سواء منها العامة أو الخاصة، وحمولتها الثقافية بتنوعها منذ طفولتها إلى الآن؛ لابد وأن تمتص عبر وعيها الثقافي الأوضاع الواقعية، وفي جلبة فنية تحولها إلى إبداع؛ فهي ترمي شباكها التأملي والفكري وتصطاد ما يلهمها، ويخلق لها مادة دسمة للتعبير والكتابة في شتى المواضيع، فوضعت إصبعها على الظواهر الإنسانية على اختلافها بمهارة فنية عالية..
ـــ الاستعمار الفرنسي ومحنة المواطنين
ومن ضمن المواضيع التي هزّت عمق كاتبتنا الاستعمار، حين يقتحم المحتل دولة أخرى، معناه سيأتي على الأخضر واليابس، فهو لا يدخلها بنية بنائها، وإنما باتخاذها سوقا لترويج بضاعته، ومجلبا لمادة خام ينتفع بها في مصانعه ومعامله، وموفورا لليد العاملة بأقل ثمن وبأبسط شروط ، لذا أول ما بادرت به روائيتنا المغربية مليكة رتنان في هذا المنجز، هو وضع الإصبع على الاستعمار الفرنسي، ومخلفاته الجسيمة التي تشكلت في ما هو وطني، ومحلي، وأسري، في كل من المغرب وفرنسا ، سنعرض من كل جانب بعضا منه بتواضع.. لقد تناولت الرواية عهد الاستعمار الفرنسي، والمناوئين له لبعض المناطق العربية كالجزائر والمغرب، والتسيب الضاغط على الأهالي والسكان، وإغارة قبائل على أخرى بتقديم الطاعة والولاء لها :
(( تقاطر الأعيان نحو مجلس كاتب القايد، وقد سحب كل فرد منهم خاتمه من شكارته أو من عبه، لختم طاعته ورضوخه لأوامر القايد ص:11)) ..
وبدقة متناهية شخصت ما يقاسيه الأهالي من سلب الخيرات، والتحقير والتفقير، وفرض الطاعة العمياء على بعض القبائل للآخر، ومكوس مجبرين على تأديتها إكراها، والعمل بالسخرة على أيدي بعض القواد المناوئين للاستعمار، والمعارك الطاحنة التي تدور رحاها بين جيش قوي بمعدات متطورة، وجيش متسلح ببسالة وغيرة على الوطن، بعتاد ضعيف وبسيط؛ مما أوقع الجيش المغربي في انهزام ذريع، خلّف جرحى، وجثث قتلى، وهروب الفرسان إلى أماكن في الجبال، وبطريقة فنية تستعرض الروائية مليكة رتنان، بعض المشاهد المؤلمة المقززة، التي يتعرض لها الجنود والمناضلون نساء ورجالا من أجل حقوقهم المشروعة، و تحقيق العدالة، عارضة ما تخلفه الحرب من دمار شامل للمنازل، واليتم والترمل والتشرد... وقد ركزت الرواية في مسارها السردي على ثلاث شخصيات أساسية: هم مايا المناضلة الحرة، التي لن يثنيها ريح، في مواصلة نضالها من أجل تحقيق العدالة، والقائد ال إفيس الجائر الظالم، الذي لا يعرف للرحمة سبيلا، فنكّل بالعباد بأبشع الطرق، والقائد بادو الرجل العادل النزيه، الذي سيسْتتب له الأمر- بعد معركة طاحنة مع غريمه ال إفيس، وتحرير القبائل من الظلم والجور.. تتكاثر الشخوص، وتتناسل الأحداث وتتعاقب، تختزل مواضيع متعددة، وظواهر إنسانية مختلفة سندرجها حسب الإمكان..
ـــ العقلية المتخلفة والإيمان ببركة الأولياء
ويتضح من خلال زيارة البعض للأولياء، ممن يومنون بالخرافات، والاعتقاد الرجعي، محملين بالشمع وبعض الهدايا، ظانين أن للولي تواصلا مقربا مع الله، وعبرَه سيتحقق الحلم المنتظر، وكل ما تصبو إليه النفس؛ وهذه اللازمة لدى شريحة واسعة من المجتمع، الذي يعاقر الأمية وعدم الوعي، فحين تحل به المصائب ولا يجد لها حلا، أو لا يجد إمكانيات لتغييرها وصنع البديل، يعيش صراعا نفسيا محتدما، فيلتجئ إلى الخرافات والتمائم، وزيارة الفقهاء والأولياء، في اعتقاده قد تخفف ما نزل ويقضى الغرض، أو تحقق له ما يرغب فيه؛ لذا نسمع ونرى اختصاصات بعض الأولياء كما هو معروف، سيدي بوشعيب الرداد ( عطاي العزارا) سيدي زويتينة( عطاي الإنجاب لمن يعانون من العقم) وسيدي أحمد بن دريس ( ماؤه يبطل السحر )، ( والفقيه الفلاني يجبن الما فوق الأرض)، ( والشوافة عيلانة تقول كل شيء) ...وغيرها من التخصصات لبعض الأولياء، تضيق معها الصفحة لاستعراضها؛ أضف مسألة الطفل الزهري الذي يُعتَدّ به لإخراج الكنوز، إذ وضعت كاتبتنا إصبعها بدقة حول هذه الظاهرة ليس بالتعرف عليها، ولا لكي تخبرنا بها، وإنما لإثارتها ومحاربتها، ووضع حد لخطف الأطفال من أحضان أوليائهم، وقتلهم؛ ومن وجهة أخرى لكي تسلط الضوء على الشعوذة والخرافات لنشر الوعي، وإنارة العقول، بأن هذه الأعمال الشيطانية مجرد ترّهات، من وعي تفكير خرافي رجعي فارغ.. ونرى حاليا وإلى حد كتابة هذه السطور، تعليق السبائك على الأبواب لطرد العين والحسد، وظاهرة التشاؤم الكبير من رؤية الغراب أو البوم، لأنهما ينذران بالأخبار السيئة؛ ويعود ذلك إلى الضعف المعرفي والإدراكي لفهم ما يجري، والصعوبة في تفسير الأشياء والوقائع بالمنطق، والتحليل العلمي؛ وهذا العجز الحاصل يتم سدُّه بما هو عفوي خرافي ميتافيزيقي.. وهذه الطامة الكبرى ليست وليدة اليوم، بل زحفت بالإرث مع الإنسان عبر التاريخ، انتقالا من جيل إلى آخر؛ ألم تخلق الشعوب البدائية الأسطورة لاستيعاب قلقها حول الموجودات، والظواهر الطبيعية، كإجابة من موضع عقلها العلمي البسيط آنذاك؟؟
ـــ جبروت القواد المناوئين للاستعمار على الأهالي
بما أن الاستعمار دخل بطريقة الهيمنة والاستلاب، فقد ورثّوا بعضَ المناوئين لهم طرقَ البطش والتحقير، والظلم في أبشع صوره، فيعاملون عبيدهم بالقسوة، والتجريح والضرب ولو دون سبب لإخضاعهم، والامتثال لأوامرهم دون نقاش، ولو في ذلك هدر الكرامة، وضرب الحقوق الإنسانية عرض الحائط،(( لم يشعر العبد وإلا والكرباج يقصم ظهره إلى درجة جعلته يتكبب على وجهه، ص30))؛ فروائيتنا تمرر لنا انعدام قيم الرحمة والإنسانية التي كانت في ذاك العهد، ومازال البعض منها إلى اليوم، لدى منعدمي الضمير الإنساني من لا يحسون بمشاعر الغير؛ وليس هذا فحسب، بل تتقد نار الحقد الممزوجة بالتعالي وحب الذات، حتى على زوجاتهم تحت عنوان ماهية التأديب، فيحدثونه، بالزعيق والنعيق، والصراخ الجنوني، لتختتم في أغلبها بالضرب والرفس، ولو ببتر أو عطب أعضاء الضحية؛ وتستعرض روائيتنا نموذج القايد شعو أمام ابنه يوسف وهو يؤدب امرأته، دون مراعاة الجانب النفسي لابنه ((تقبضت يده الأسرى بأطراف الخصلات ولفها على مرفقه مرتين، وانطلقت العصا تنفث سخط سيدها ص:124))..نلاحظ قمة الوحشية والقسوة التي كانت تعامل بها النساء، وكل من لاحول له ولا قوة..
ـــ القتل والاغتصاب وانعدام الضمير الإنساني
حين تلعب الرغبات بالعقول والمشاعر، و تستفحل الأنانية لدى البعض، يبدو له غيره وكأنه لا شيء، فتتضخّم هِمَم التحقير له، وينظر له نظرة فوقية، وكأنه والآخر ليسا سواسية في الخلق والإحساس، والتطلعات؛ وهذه الشرارة المقيتة تندلع أحيانا حتى بين أعضاء الأسر، فيغيب الحس العاطفي وتمتلك الأنانية النفوس، وتصبح عبارة (( أنا ومن بعدي الطوفان)) هي السائدة، وتَبيّنَ لنا هذا عبر تاريخ البشرية بجلاء، فكم أب قتل ابنه والعكس، وكم آخر غدر بأخيه إما طمعا في منصب، أو كرسي، أو ثروة؛ أو غدرا أو مكرا أو خديعة أو حسدا؛ ونعرض كنموذج على ذلك أحد وجوه الإمبراطورية العثمانية في الصراعات الدموية من أجل العرش، فدولة بني عثمان انطلقت بصراع بين عثمان بن أرطغرل (1299-1326) وعمه، انتهى بقتل الأخير، فيما سيقوم السلطان مراد الأول (1360-1389) بقتل شقيقه سليمان ليصل للحكم، بعد مقتل السلطان مراد الأول في ساحة القتال، بايع كبار القادة بايزيد (1389-1403) سلطاناً في 16 يونيو 1389. فكان أول ما قام به قتلُ أخيه يعقوب خنقاً، لا أحد ينسى أن السلطان سليم (تاسع سلاطين الدولة العثمانية، وخليفة المسلمين الرابع والسبعين، وأوّل من حمل لقب «أمير المؤمنين» من آل عثمان، حاكم الدولة العثمانية من سنة (1512 حتى سنة 1520 ميلادية)، قد قتل أباه وإخوته من أجل الاستيلاء على الحكم؛ و فى القرن السادس الهجرى، نعيش نفس المشهد مع مصرع قتادة بن إدريس، الذي حكم مكة طوال عشرين سنة ما بين (527 - 617 هجرية/ 1132 - 1219 ميلادية)، على يد ابنه الحسن خنقا وهو في التسعين من عمره ، وكان من قبل قد قتل عمه ، ثم قتل أخاه، ومَلَكَ حُكْمَ مكة، ولم يطل حكمه بعد أن طرده الملك المسعود صاحب اليمن سنة 620 هجرية.. إذا فحين تعصف الأطماع بالأدمغة، وتركب الأنانية النفوس، تنعدم الرحمة تماما بين الأخ والأخ، أو الأخ والأخت، ونفس الشيء حتى بين الأب والابن ..
وروائيتنا أطلعَتنا على ارتكاب أبشع الجرائم من أجل السلطة، بين الابن وأبيه لتبين انعدام البنوة والأبوة تماما، فشخصت لنا كيف الأب لا يعرف ابنه، والابن منعدم التربية والأخلاق، حيث نمت العداوة إما بسبب الانتقام، أو الفوز بكرسي السلطة، وهذا ما حصل مع ال إفيس شعو لما قتل أباه القايد رحو أوفوس بالسم .. ناهيك عما فعله ابنه من اغتصاب صبايا صغيرات، وقتل بعضهن، الكاتبة تستعرض الشطط والبطش الذي يتسلح بهما الطغاة بجبروت متسلط، خاصة لما يحتموا بملاذ السلطة، فيمارسون أبشع التحقير والإذلال على المواطنين الذين لاحول لهم ولا قوة، بنهب خيراتهم وظلمهم، حيث يصبح بنو آدم مثل الحشرات لا قيمة لهم، بصيغة أخرى هؤلاء القواد لا يعرفون معنى اللباقة في الحديث، ولا الليونة في الأسلوب، ولا التريث في التعامل، ولا الاختلاف في الرأي، يزمجرون كالرعود في حديثهم، يتكلمون بالسوط، ينطقون بالكرباج، يحلون المشاكل بالسجن والاعتقال، يُخضِعون المرء بالتعذيب، والتنكيل، وكأن الجبروت هي القوة الأسمى ليخلدوا على منابرهم، إذ تُمسَح تماما فكرة الموت والنهايات من أذهانهم.. وهنا أتذكر حادثا عجيبا وأنا ابنة أل 10 سنوات، كنت برفقة خالي نتجول في مدينة ابن أحمد، فأشار خالي إلى عجوز رث الثياب، متسخ، متكئ على عصا، ينتظر دوره مع الفقراء والدراويش ليتسلم المعونة، هذا هو ((القايد أحمد)) من المعمرين بفرنسا، لقد نشر الرعب يا ابنة أختي في صفوفنا بالنهب والاعتقال، والله لذهلت، ورق قلبي لحاله .. إذا الله يمهل ولا يهمل.. وهذا ليس بالأمر الجديد، فتاريخ العرب حافل بالمذابح الدموية بين الأبناء وآبائهم، أو الإخوة في ما بينهم، من أجل العرش تحت يافطة الإسلام مع الأسف، وكل ذلك من أجل السلطة والمال، ليمارسوا شططهم اللامحدود، ويكدسوا ثرواتهم، ويشغلوا أبناء أسرهم وعائلاتهم ..
ـــ العيش على البساطة بطريقة بدائية
فالكاتبة المغربية مليكة رتنان، لاتصف العيش والأوضاع المزرية تحت مظلة الطغاة من القواد الموالين للاستعمار فحسب، وإنما تقف بالتدقيق حتى على الأشياء البسيطة، التي كانت تستعمل للعيش في التغذية والتطبيب والسكن، كالأفرشة من جلود الحيوانات.. ((جلس الرجلان على حصير مبسوط أمام الخيمة، مدججة أطرافها بجلود فرو حيوانات ص:209)) والسكن الذي كان عبارة عن أكواخ مبنية بالطوب والأحجار، بأسقف من القصب والقش، تقول: (( متجهين صوب أكواخ خارجها من طين وقش، تتوسطها كنيس بني بالحجارة ص:255.. )) ونقرت حتى باب البضاعة البسيطة التي كان يبيعها العطار في الدواوير، والتي هي عبارة عن مواد زينة تقليدية بسيطة، مازالت إلى حد الآن في بعض الدواوير((مرايا وحلي وغسول وصابون وحناء حرقوس وعود السواك ص255))، عارضة نوع التغذية، التي كانت في الغالب عبارة عن تمر وتين وخبز وشعير، لتقف عدسة روائيتنا في الوصف بالتدقيق لأدوات الصيد البدائية البسيطة، التي تتكون من سهام وقوس وخنجر، وبعض الأدوية البسيطة لطرد الزواحف والحشرات والتي مازالت إلى حد اليوم، أو التي تُتّخَذ لعلاج الأمراض والجروح، من أعشاب برية وبذور وجلود حيوانات وأكاليل أعشاب، ويرقات، وديدان، وقوارير مملوءة بسوائل مختلفة، ذاكرة إياها بأسمائها (شندكورة / مريوت / ) وغيرها.. تقول:
((طول جدران ردهة الدار، علقت في أوتاد خشبية مغروسة فيها جلود حيوانات، وأكاليل أعشاب، تتخللها رفوف من قصب تحمل قوارير متعددة... تتضمن سوائل، تسبح فيها أنواع نباتية وحيوانية مع جماجم وديدان .....فصوص ثوم وأعشاب صوجا والزعتر ... والزعرور البري، والعنصلة ومريوتص:203))...والغريب في الأمر، كيف لكاتبتنا مليكة التي تربت في الحضارة، ما بين الرخام والإسمنت، أن تدقق في الأشياء التي كانت تستعمل في البادية وفي عصور خلت، وكأنها كانت حاضرة وعايشت الظروف، ما السر في ذلك؟ هل من حكايات شعبية وأقاصيص اطلعت عليها؟ أم من سيَر تاريخية نهلت منها ما يلائم الحدث الروائي؟ أم من ثقافة متنوعة، تشبعت منها حد الرواء من الأجداد؟ فالجواب المكمول لدى روائيتنا بالطبع ..
ـــ النفحة الصوفية والإيمان بالروحانيات والغيبيات
فنظرا لغياب العِلم، وتحليل الظواهر بالمنطق، كان الالتجاء إلى فك ألغازها بأمور سطحية، تصب في ما هو غيبي روحاني بالحدس والتخمين، إلى درجة تبادل الرسائل، باعتبارها هبة وبركة من الله.. تقول: (( استعادت جمعة وعيها من التخاطر الروحي بتلقائية، أصدرت زفيرا وشهيقا منتظما.....وأبلغتها بنجاح تبليغ الرسالة إلى يجو )) ص:ً327 فهنا تبين لنا الروائية أن الفكر انعكاس للواقع، ومادام الواقع بسيطا وعفويا، فلامحالة أن الفكر سيكون كذلك عفويا وبسيطا، ويحل ألغاز الظواهر وإشكالها بشكل غيبي روحاني عن طريق التخمين والاعتقاد؛ وإلى جانب هذا هناك نفحة صوفية مغرقة في الإيمان بالله الخالق القهار، وأن الطبيعة وما فيها من مدارات ومجرات تسير في نظام وترتيب كائناتها من تنسيق إلهي، وعظمته، تبدو في السماء ونجومها...تقول : ((والسماء أكبر دليل على قدرة الله وعلى جمال إتقان إبداعه ص:349..)) فالله هو من يرمم جراحنا، ويطفئ حر آلامنا، ويفرج كربنا وأوجاعنا، وينظف قلوبنا من الشر والغم، وهو أولا وأخيرا من يشفي أسقامنا وأمراضنا، ورغم ما تتضوع به الزوايا من الورع والدين، فهناك أحيانا من يخرج من السرب إلى الفسق والرذائل، فالكاتبة تريد بالتفكير المنطقي، والعقل العلمي الواعي أن تبين لنا، أن الدين والأخلاق ليسا بالتظاهر بلباس التقصير، أو تطويل اللحى، أو تغطية الشعر بالخمار والنقاب، وإنما بالمبادئ القوية التي لا تزعزعها عاصفة.. تقول : (( هي التي منت النفس بإمكانية الاستقرار، أخيرا في فضاء ورع وصادق.....أتراها قد أخطا ظنها بالزاوية؟، ص:377))
ــ صلابة المرأة وتشبثها بالعدل وتحديها الصعاب
كل منا يؤمن بعزة نفسه، ولا يسمح لأي كان أن يخدش كرامته، ويسعى بما في وسعه إلى العيش الكريم بكافة الحقوق المشروعة، وهذا النوع من الإنسان يرفض تماما الجور والظلم والتعدي على الغير، كما يرفض الذل والهوان، والإيمان بهذه المبادئ لا فرق فيها بين رجل ومرأة، أو شاب وعجوز؛ وروائيتنا أبانت رباطةَ جأش المرأة وقوة تمسكها بكرامتها، ونهْر كل أشكال الظلم، تحت لواء النضال بكل ما تملكه من طرق؛ وشخصية مايا نموذج قوي في تحديها لجبروت القائد الجبار، وعدم خضوعها واستسلامها لمهانته رغم ما لاقته من أشكال التعذيب، وما تعرضت له من ضرب بالكرباج والسوط، تسبب لها في جراح غائرة، وكدمات كادت تودي بحياتها؛ ومع ذلك لم يرعبْها شيء، بل دأبت على مواصلة النضال راكبة صهوة التحدي، وليس هذا فحسب، بل أخذت تلقن مبادئ المواجهات لنساء القبيلة، للتحرر من الرق والعبودية، والقهر وتعسف الطغاة؛ فروائيتنا تريد أن تبلغ لنا قيمة عليا في الإنسان الشهم، صاحب المروءة والنخوة، الذي لا يرضى بالإهانة والذل، أو إفراغه من الجانب الإنساني؛ ولا يفوتنا أن نذكر ما سجله التاريخ من أسماء نساء خالدات، تحديْن جبروت الطغاة من أجل المبادئ النبيلة، والقيم العادلة، ومنهن من سقطن شهيدات من أجل انتزاع الحرية ، لبناء مجتمع تسوده الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، والازدهار، والتقدم .. ومَن منا لا يعرف المناضلة الحرة فاطمة الزهراء بنت مولاي الحسن البلغيتي، الشهيدة الأبية التي راحت ضحية مظاهرة المشور بمراكش بتاريخ 15 غشت 1953، ضد قرار السلطات الاستعمارية الصارم، بنفي الملك الراحل محمد الخامس، وعائلته الملكية إلى مدغشقر، ومن منا يستطيع أن ينسى المناضلة المعروفة (( رحمة حموش أو رحمة البهلولية))، التي هيأت منزلها مقرا سريا لعقد اجتماعات سرية، ونهج خطاطات تصب في المقاومة ضد الاستعمار، ومن منا لا يذكر المناضلة الشريفة فاطمة عزايز المدعوة ب ((فاما)) التي بسبب موت أشقائها على يد المستعمر، خاضت غمار الكفاح بانخراطها في الخلايا السرية من أجل الوطن.. وغيرهن من الأبيّات الشريفات التي يتحلين بالنخوة والإباء وعزة النفس؛ ولنذهب أبعد من ذلك في ذات السياق، ووقوفا عند التضحيات الجسام التي سطرتها المرأة عبر التاريخ، في مقاومتها لكافة أشكال الهيمنة والاستغلال، عندما خرجت النساء العاملات عبر أميركا الشمالية وأوروبا، للمطالبة بتحسين أوضاعهن ...
4ــ الجانب الفني يضفي سحرا من الجمال:
أي رواية تستند على عدة أركان وعناصر: من شخوص وتعاقب الأحداث، والأمكنة، والأزمة، واختيار المعجم اللغوي، والمهارة في الصياغة، لتكون مكتملة موضوعا وشكلا، ومن ضمن ذلك الوصف..
ـــ الوصف بأدق التفاصيل للأحداث
فالوصف هو اللبنة الأساسية، التي تضفي على الرواية جمالا خاصا، فالكاتب بمهارته الفنية يلقي على السارد هذه المهمة، لتصوير المشاهد وما تتضمنها من أحداث متواصلة، أو متقاطعة، بسيطة أو معقدة، ووصف الشخصيات بملامحها، وسكناتها، وحركاتها، وألبستها، للتعبير عن المواقف والانفعالات الداخلية، وما يُحس به المبدع؛ فتأتينا المشاهد صورا فوتوغرافية في صياغة لغوية محكمة، وبناء فني دقيق، بغرض إيصال المعنى للقارئ، حتى يشاركه التجربة والموقف والإحساس؛ والروائية مليكة رتنان جبَلت صعوبة انتقاء الكلمات المؤثرة، وما تملكه من معجم لغوي كافٍ، ومهمة تقديم المعلومات في قالب فني مباشر، يعتمد الوصف الدقيق، فتنقل لنا المقصد بالتفصيل، وبطريقة دقيقة ومؤثرة، تلحق الأحداث ببعضها بالتفاصيل، في إبداع لغوي بسيط سلس، والغرض لتسهيل فهم المقروء، واستيعاب القيَم النبيلة التي ترمي إليها، على اعتبار أن تصفيف السطور دون مغزى، لا يفي بالهدف المنشود من المنجز، كرسالة نبيلة تثوي بين طياتها المفيد.. تقول: (( ثم أدخل يده تحت خماره، ليخرج من فمه "الحبة" ، أدخلها في مأسورة المكحلة وعاود الدك، ثم حرك القرص ببراعة لحبسها في" البزبور" ص: 17..)) لاحظوا هذه اللقطة الرائعة، فمراحل إعداد البندقية ارتسمت في أذهاننا بوضوح، وكأن الشخص أمامنا وهو يهيئ بندقيته، فروائيتنا تصف الأشياء بأدق دقائقها، لتطلعنا عن كيفية شحن ((المكحلات)) بطريقة بدائية، بحيث يرتسم المشهد في المخيلة، وكأن القارئ عاينه بأم عينه؛ والقصد، لتبين لنا تشبث المحاربين بالمقاومة والدفاع عن الوطن، وكرامته، وهويته، ولو بشيء بسيط ، مسلطة عينها المجهرية على القواد، الذين تولوا زمام أمور الشعب من قبل الحكام، وما فعلوه من سرقة، ونهب، وجمع أموال وحلي وجواهر، وأواني فضية ونحاسية، ومصورة بعدستها التي لا تخطئ، مخلفات جبروتهم من هياكل عظمية وجماجم، والشطط الذي يمارسُه أبناؤهم دون ردع.. بالإضافة إلى تعنت بعض الأبناء، وأفعالهم الشنيعة للفتيات من اغتصاب وقتل .. وكمثال على ذلك القايد رحو أوفوس، وما فعله ابنه شعو ببنات القبيلة، حيث اغتصب وقتل دون رادع حتى فاض السيل الزبى بأبيه، فاتخذ فيه الإجراء بعقوبة الحبس ..
ــــ اللغة البلاغية والتنوع الأسلوبي
فكما كانت لكاتبتنا مهارة الوصف للأشياء، فقد كانت لها براعة انتقاء اللغة، وتطويعها لتكون سلسة، ممشوقة، مقدودة من متانة البلاغة العربية على أصلها، فروائيتنا عرفت كيف تتخير مفرداتها بدقة، يستدعي البعض منها القاموس لاستيعاب معناها شرحا، أو فهمها في سياقها؛ طعمتها الكاتبة بأسرار بلاغية على اختلافها من تشبيه واستعارة وكناية (( فالثور الهائج لا يرى الأشياء التي يأمل الوصول إليها ،ص:272)) ،كناية على شر القائد ال إفيس وجبروته، كما زركشتها بحفريات أمازيغية، لملمت معجمها في الغالب من التراث الأمازيغي، وحتى لا يعتري القارئ غموضٌ أو التباس، وضعت لها شروحات أسفل الصفحات؛ أضف إلى ذلك طرزتها بِمسحة عامية مغربية، صففتها في عبارات ساخرة، (( عيو عيو ها الحال صبح :ص:8)) ، فروائيتنا لم تقف عند التنميق بعبارات وكلمات فقط، بل وكانت أحيانا، تضع أغاني وأناشيد مكتملة باللغة العامية، خاصة التي كان يغنيها طلبة المسيد أثناء حفظ حزب من القرآن، أو بعض منه، أو حفظه كاملا ص:373؛ ناهيك عن تنميقها بمفردات قديمة، وأخرى حداثية، الشيء الذي يدل على أن روائيتنا تمتاز بثقافة شاملة، جمعت ما بين الماضي والحاضر، وما هو تراثي وعصري، وما هو أمازيغي وعربي، وهذه الفنون اللغوية هي التي ستشد القارئ دون منازع حتى متم الرواية، فروائيتنا لم تباشر الرواية، إلا بعد أن هيأت لها طبقا مصنفا من المراوغة اللغوية، وشحنتها بلمسات بلاغية كالتشبيه، والاستعارة والمجاز، الشيء الذي أضاف عليها سحرا لغويا ورقصات فنية، زادت الأسلوب رقة وجمالا ومتانة، ولم تقف الكاتبة عند هذا الحد، بل وأحيانا تسرح في ساح الجذبة الشعرية، حين تعتريها هزات جوانية جنونية، فتُعبّر بأسلوب يتلبسه الشعر، بكل ما تعنيه الكلمة من انزياح، وترميز، وإيحاء،(( كجسد بطل يوناني تاه عن زمنه ووسطه :ص245)) لاحظوا معي هذه الشذرات :(( تمشي العدالة حيث تمشي، وتضحك الرحمة حين تبتسم، ويشمخ الصبر كقضامة من حديد ص:247))، (( وكأنه صنبور شر لا يفتحه ولا يغلقه سوى إبليس، ص:272 )) ((للأرض آذان وللجبل والحجارة عيون، ص:366 ،)) ألا يمكن ضم هذه الشذرات الشعرية في قصيدة نثرية، مستوفية شروط الشعر الحداثي ؟؟ كما اعتمدت الرواية التضارب، والمباغتات، والمفاجآت في الأحداث مما يخلق الدهشة في القارئ، وتجعله في حيرة من أمره، كاللقاء بالمختفين فجأة، أو عودة ممن في عداد الأموات إلى الحياة، أو ليونة المتسلط أحيانا وتواضعه بعد عجرفته وتكبره..
ـــ التحليق اللامنته في ساح الخيال المجنح
تحلق الروائية مليكة رتنان بقارئها عبر أجنحة الخيال، بين مفازات الفضاء المغرق في التاريخ حتى الجذور، وبين ثنايا جغرافيا صارمة وعسيرة، تتلوى بين براريه وجباله وهضابه وسهوله وأوديته وأنهاره، مستعرضة الأحداث المرعبة أحيانا والسارة أحيانا أخرى والمدهشة والمفاجئة في الغالب، بأسلوب فني شيق بليغ، مليء بالترميز، والإيحاء، والمجاز، بنكهة شعرية فريدة تدغدغ عمق القارئ، وتحرك مشاعره، (( لم يكن يدري أن الكواسر تستطيع ازدراد فريستها بسرعة وبدقة فائقتين، لقد بدا يحس وبحدة بتحكم مخالبها فيما مزق من جلد ولحم عند مستوى بطن الفريسة، ص105....))، فالفقرة المدهشة توحي بعمل العدو اللدود الشنيع، لما يسقُط بين فكيه الإنسان ويصبح فريسة له، وكيف يُنكّل به بأبشع الطرق، وينهش لحمه دون رحمة، فتارة تأتي العبارات مسربلة، تفضي بالقارئ إلى المعنى بوضوح ودون عناء، وأخرى تترك الفجوات، ليملأها القارئ بحنكته فيتصيد الهدف، كما في اغتيال الجاسوس حمو من قبل العبد جوهر ومعاون القايد إلفيس شعو باعروب(( ص: 78 )) بعد حوار ساخر استهزاءً بالأسير، دون ذكر طريقة القتل، ليبلغوا القايد بالرأس المعلقة على العمود... خيال واسع ومجنح ظهرت قوته في الربط بين الأحداث، والجمع بين فصول الرواية، وعدم اختلال الأزمنة والأمكنة، وهذا يدل على سعة خيال الأديبة المغربية مليكة رتنان، لكن، فمهما بلغ الخيال حدوده، فلابد له من محطات على الواقع، قد تكون ملموسة، أو محسوسة، أو مسموعة، إنما ليس باستنساخ الأحداث كما حُكيت أو شوهدت، أو خُمّنت؛ وإنما بتمثلها عبر امتصاصها، بما تملكه المبدعة من حس وفكر ومهارة، وإعادة عجنتها في صياغة فنية تركيبية، وتقديمها للقراء بحلة جديدة في أطباق شهية ...
5ـــ الخاتمة وإنزال آخر ستار
تثير الرواية عدة نقاط رئيسية: من ضمنها شطط الاستعمار الفرنسي القاهر، وما خلفه في الوطنين : المغرب والجزائر من جور، مازالت تبعاته إلى حد الآن، تمثلت في سلطة القواد المناوئين للاستعمار، الذين يتصرفون مع الأهالي بنفس جبروت المستعمر، مستغلين النفوذ الشيء الذي نعيشه اليوم، وما أودعه من أضرار للقبائل عن طريق الولاء، والعمل بالسخرة وفرض جبايات، وتتناسل الأحداث وتتعاقب، تارة تتشعب وتتشابك، وأخرى تتعاقب وتتوالى، وثالثة تتنافر، مشحونة بالقتل والاغتيال والمطاردة والاغتصاب والخطف والسبي، والاحتجاز، فتتعدد الشخصيات وتتكاثر، لا يمكن معه ضبط أسمائها وأدوارها دون ورقة وقلم لتسجيل مجريات الأحداث وتناميها... أخيرا تتضح خيوط الرواية في ثلاث بوتقات رئيسية، لتتفرع منها عناصر أخرى مكملة
ـــ أولا حياة القائد ال إفيس البئيسة الذي يقتات على الفساد بتعذيب النساء، وحجز واغتصاب بعضهن، وما داوم عليه من خبث وجرائم لاإنسانية، تشمئز منها الأنفس، حيث تخلى عنه معظم رجاله، بالإضافة إلى إصابته بمرض عضال على إثره سينال حتفه، رغم نفوذه وجبروته مدة طويلة...
ـــ القائد بادو ابن القائد بريك النفايحيي، الرجل الطيب نبيل الخلق، الذي ينشد الطمأنينة والعدل، ويعامل رعيته بإنسانية، همه أن يعيش الإنسان بكرامة وكافة الحقوق، وترقيته إلى رتبة قايد مخزني أعلى من قبل السلطان المولى حسن، بعد معارك ضارية، سيعيد لقبيلته اعتبارها واعتزازها،
ـــ مايا الطفلة المناضلة البارعة فكرا ودهاء، والتي ستتحدى العالم بطموحها القوي، بعد علاجها استعادة قوتها، والتكفل بالضعفاء، وعلاجهم من الجروح والأمراض، ستواصل النضال بشجاعة، من أجل طرد الظلم، وإحقاق الأمن.. وقد رافق هذه الأحداث تنوع ملفت للمعاجم حسب نوعيتها، معجم اللغة العربية والأمازيغية والعامية، تميس بين الليونة والشراسة وغرابة الأسماء سندرج البعض منها كالتالي :
ـــ بعض المفردات من المعجم الشرس : (( حتى انهال عليهم البارود /أنين المصابين/ سقط صريعا/ جثث الرفاق /اختلط دمها بدماء /الانتقام لتصفية/ موجهين سيوفهم وخناجرهم إلى صدره/مقل تقدح شرا/الفتك به/اقتلوه/ التنكيل بجثته/عذابه/دفعه بعنف/ضربة موجعة/ لن يألو جهدا عن تعذيبي / ليزيد من استدلال وتحقيري/ وانهال عليها ضربا وركلا/ / أوسع جسدها جَلَدًا / طرحها ارضا كالنعجة /أوسع وجهها صفعا ..انقض الكهل على الشاب/ السوط يوسعه ضربا /إذلاله وتحقيره/ سيكون عذابك سرمديا/نال جسدها البض ضربة السوط/ الأعمال الشاقة /أصفاد حديدية /سجنه/سياط زبانية عمه/قيد رجليه /انتهاك عرضها/ صغار قتلوا بوحشية / عانينا ويلات الاستعباد والجوع والجلد يوميا /مورست علينا أفظع الرذائل..))
ـــ بعض المفردات من المعجم الأمازيغي :(( إيويس/إيض إيناير/الأغيول/أيديإ/إخاتارن/أكايور/أباغوغ /أغضرم بركات إيفكان غتغرمت نون مر أيتمانون ../تاكروصت /أضو ستكّيرة لانتماين /تنمرت بهر إرغان أيمغار أمقران...))
ـــ بعض المفردات من المعجم العامي : ((الخيدوس / عيو عيو الحال صبح / الزبوج / الركوة / زفّانُك / البزبوز/شكارته /كون ماكانتش في كرشك العجينة ..../ الحفيظ الله / المكحلات /تاغونجا/ زعطوط/بردعة))
ـــ البعض من أسماء القبائل والدواوير والجماعات الموظفة في الرواية:
/ تاقبيلت أيت إمغران/سوق خميس أكرنان / قبيلة أنتيفة / قبيلة أمزميز
/قبيلة أيت عباس /زاوية تايجا /زاوية نانانت /ضريح سيدي مصلوح أنكي
/ قبيلة فطواكة قبيلة أمازيغية أطلسية تابعة اداريا لجهة تادلا بني ملال،
/دوار أيت اكرنان هو دُوَّار يقع بجماعة آيت عادل، إقليم الحوز،
/دوار تيغرمت إمغارن هو دُوَّار يقع بجماعة تيغمي، إقليم تيزنيت، جهة سوس ماسة
/جماعة أوفوس جماعة قروية تتواجد بإقليم الراشيدية
/ جماعة هوارة أولاد رحو جماعة قروية تتواجد بإقليم كرسيف..
ـــ البعض من أسماء الأبطال الذين أزهروا التاريخ ببطولاتهم
/عبد الرحمن بن هشام هو سلطان الذي حكم المغرب ما بين 1822 و 1859.
/الأمير عبد القادر بن محيي الدين علم مجاهد، ومقاوم وشاعر، بايعه الجزائريون عام 1832 أميرا لمقاومة المستعمر الفرنسي.
/“ألشرفاء آل أمغار” قبيلة أيت ويرة بالقصيبة في محافظة بني ملال..
/الجيش البخاري : تشكيل قوة عسكرية من قبل المولى إسماعيل (1672م حتى 1727م) بطرق جديدة .
/معركة إسلي هي معركة عسكرية دارت رحاها بواد إسلي بالقرب من مدينة وجدة المغربية في 14 أغسطس 1844
/معركة وادي المخازن :قامت بين بلاد المغرب الأقصى والبرتغال في 30 جمادى الآخرة 986 هـ لقي في هذه المعركة ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد الملك وسبستيان، ملك البرتغال والمتوكل
ــ البعض من أسماء الشخصيات في الرواية
ــــ القايد رحو أوفوس( الرهج/ القائد شعو ال إفيس/ مسعود/ القايد أفرناس/ يعقوب / القايد بادو/ حسين أولعيد /زعطوط / جوهر/ جامع /حدو أوشن الملقب /تاليس /تودا /يوسف /الداموح / أوفقيرة يجو / عيوش / باسو أوتوتلين/ تينيرت / أوفقيرة جمعة/مايا /ميرة /فقيرة تودورت /سويلم الراعي/ القائد بريك النفايحي/ باعروب /الفقيه حمان المكوني /محماد الأيدي حمو أمجوط /ياكوف ابن إسحاق/ابراهيم /مرزوق /والحداد بارحيم /دحان /الكهل / يدر ابن ميرة مولاي عبد السلام الحنصالي /تينيرت/ الحزان اليهودي هارون بن إسلان /الطالب عبد الر حمان /الطالب يحيى الحاخام موشي بن ديدي/ فاظمة أوحسو رقوش/ أقيزول/ يوسف بن حامين /صامويل عطار يهدوي/ إسحاق بنت الدا باسونايت علي/مبارك السرغيني /عابد أوجميع طامو أوطالب / توسماندحان /محائد / أسعيد الغجدامي داميا /بلال /شاما ..
بهذا اكون قد قمت بإطلالة متواضعة على خبايا الرواية، التي شدتني بمتعة كبيرة لا تقاوم، أتمنى من القراء أن يجدوا صيدهم الممتع في الدراسة ، داعية إياهم إلى قراءة الرواية..
مالكة عسال/ بتاريخ09/08/2023