الليلُ يسألُ مَن أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففتُ قلبي بالظنون ْ...
الريحُ تسألُ مَنْ أنا
أنا روحُهَا الحيرانُ أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان..
قصيدة "انا" هذه، التي كتبتها الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة في عام 1948 هي، في رأينا، النص المؤسس لولادة الشعر العربي الحديث. نعرف، ان قصيدتها "الكوليرا" التي سبقتها بعام واحد، هي ما اعتاد النقاد على اعتباره ذلك النص الأول. وهو اعتبار مشروع بلا شك انما من وجهة النظر الشكلية وحسب. اذ ان هيمنة الصوت الجماعي او العام في قصيدة "الكوليرا"، تسمح بموضعة قصيدة "انا" كمحطة انتقال فعلية اولى بين نمطي الشعر العمودي والحر، وهو ترتيب يسمح به واقع ان هذه القصيدة تبدو أنضج فكريا وفنيا من التي سبقتها فضلا عن تواري الذات الجماعية فيها امام الذات الفردية للشاعر، والحال في قصيدة "الكوليرا" عبرت نازك الملائكة عن مشاعرها الحزينة وأحاسيسها التضامنية تجاه مصر حين داهمها ذلك الوباء، ومن ابياتها:
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ، الموتُ، الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ،
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ..
وفي كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ..
هذا البعد الوصفي عام بشكل لافت في "الكوليرا" ما يعقد رؤية هذه القصيدة كلحظة القطيعة الفعلية الحاسمة مع الشعر العربي التقليدي بما فيه شعر المهجر ويسمح بالتالي بالاعتقاد بان قصيدة "انا" تمثل تلك اللحظة التأسيسية. وهو في كل الأحوال رأي مشروع ويعكس بذاته حقيقة ان النقاش عن منجز هذه الشاعرة العربية الرائدة ، يظل لا سيما في ذكرى ولادتها المئوية، مفتوحاً امام المزيد من الاجتهادات الجديدة او المقارنة، برغم أن شعرها وتجربتها الادبية ودورها الريادي في الشعر العربي الحديث، احيط طوال ما يزيد على نصف قرن من الزمن، بالدراسة من كل نمط وزاوية، كما أُشبع بالسجالات والاجتهادات المختلفة والتي امتدت لتشمل كل ظاهرة الشعر العربي الحديث في الواقع بسبب مكانة نازك الريادية فيها، حتى ان التـأطير الدراسي المنهجي يبدو اليوم منجزاً الى حدود بعيدة قد لا تسمح بمغامرات تأويلية إضافية او باذخة، ومن هنا حذرنا الشديد في الاقتراب منه. بيد ان ماهية المضمون الفكري في شعر نازك الملائكة ومصادرها الممكنة يظلان اغراء ملحا مع ذلك بالنسبة لنا لا سيما وأنها من الشعراء العرب القلائل الذين دعموا عطاءهم الشعري المحض بمؤلفات نظرية في الشعر والادب اثار بعضها الجدل والسجالات في الأوساط الشعريّة والنقديّة العربية ومنها بشكل خاص كتاب "قضايا الشعر الحديث" (1962) و"التجزيئية في المجتمع العربي" (1974) و"سايكولوجية الشعر" (1992) وأيضا "الصومعة والشرفة الحمراء" (1965) ومجموعة قصصية "الشمس التي وراء القمة (1997).
من ناحية المضمون معروف طبعا، ان شعر نازك الملائكة التي عاشت بين عامي 1923 و 2007، مسكون بالهواجس الرومانسية المستلهمة من الشعر العالمي لاسيما الإنجليزي منه وبخاصة شعر جورج بايرون وجون كيتس وشللي، مهما كانت ماهية ذلك الاستلهام ومستوى اقترابه من المضامين الفكرية الممكنة الوجود في شعر هذا او ذاك منهم لا سيما في منتصف القرن العشرين الماضي حيث بدا ان مفهوم الشعر في ادبنا العربي، وخاصة فيه باعتباره يهمنا هنا، قد تغير نوعيا في منتصف القرن الماضي بعدما كانت مآسي الحرب العالمية الثانية قد كشفت هشاشة المعنى الإنساني عالميا، كما كشفت بالمقابل وحدته الوجودية كتعبير تلقائي او عاطفي عن روح تلك الحقبة المقترنة بالأزمات العالمية الكبرى والاستفهامات الكونية والهزات الشاملة والتمردات العميقة، على العكس تماما من روح حقبة ما بعد الحرب العالمية الاولى التي كانت قد خلقت بعض الامل لا سيما اثر نجاح القوى الغربية بسحق الرجل المريض الذي كان قد سحقنا من جهة، وانتصار البلاشفة في روسيا على النظام القيصري المقدس من قبل.
ان اكتشاف الانتماء العالمي ذلك انعكس في الشعر العربي عبر التجليات الرومانسية والرمزية التي اثرتها محاولات "جماعة ابولو"، وتجربتا محمود حسن اسماعيل، وعلي محمود طه المهندس والياس أبو شبكة وعمر أبو ريشة وسعيد عقل الى جانب التأثر المبكر بقصائد شعراء المهجر لا سيما نسيم عريضة وإيليا أبو ماضي التي تنبض بوجدانية حارة وذاتية وعواطف رومانسية جياشة وزاخرة بالمرارة والغربة والضياع والمنفى، والدائرة حول موضوعات "فكرية" مجردة وغامضة كالحياة والفناء والروح والخلود والزمان والعدم.
والحال ان هؤلاء جميعا هم جسر ثورة الحداثة النوعية التي ادت الى تطور الشعر العربي الحديث لاحقا على يد نازك الملائكة والسياب وبلند الحيدري والبياتي والبريكان وايضا حسين مردان كل في مجاله وفي خضم مخاض معقد تماما كمخاض الثورة التي جرت داخل الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر وأدت إلى ظهور تيار الحداثة فيه على يد بودلير ورامبو وفيرلين ولوتريامون ومالارميه.
وهكذا ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى كانت بوادر نهضة حاسمة تظهر على فن الشعر. واستطاع بلند الحيدري عام 1946 ان ينشر ديوانه "خفقة الطين" وفيه تلوح بعض تباشير فجر الشعر الحر، وقام بدر شاكر السياب بنشر قصيدة “هل كان حبًا” في 29 نوفمبر عام 1946، ثم ظهر بعد ذلك عبد الوهاب البياتي والسياب قبيل الخمسينات بدواوينهم الاولى ايضاً. لكن نازك الملائكة كانت قبل ذلك قد خاضت هذه التجربة بنجاح من قبل.
فبعض قصائدها الأولى شكلت انعطافا في اسبقية قصيدة التفعيلة والاهتمام بإبراز عمق الفكرة وترميزها وتوظيف الأسطورة في نصها الإبداعي مع سعي واع الى إعادة تشكيل عناصره بلغة درامية تجمع ما بين الحسي والفكري، والجديد والموروث في صيغة فنية تمنح الذات القدرة على التجلي أسمي ما تستطيع من خلال اللحظة الشعرية. فلقد استفادت نازك الملائكة من كونها دخلت الى عالم القصيدة بأدوات فنية ومعرفية ثمينة، اذ كانت قد درست الموسيقى وعرفت بنية انظمتها اللحنية، مثلما درست اللغات العربية والانكليزية، وأدركت اسرارها في الصرف والنحو والتمثيل البلاغي والتصويري، فضلا عن اطلاعها على تجارب الشعراء الرومانسيين الانكليز والفرنسيين والالمان والاميركيين، بموازاة اطلاعها المواكب عن قرب للشعرية الرومانسية العربية التي كانت نبعا إضافيا في اثراء طاقتها الشعرية وعاملا في تأجيج تدفقها الشعري الذي جلب لها تقديرا عربيا واسعا على كافة الأصعدة حتى ان الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر قلدها وشاحا خاصا عندما استقبلها في مطلع الستينيات من القرن الماضي خلال زيارة قامت بها الى مصر للمشاركة في مؤتمر ادبي عربي.
وعلى العموم، وفي كافة المجموعات الشعرية التي اصدرتها وهي "عاشقة الليل" (1947)، و"شظايا ورماد" (1949)، و"قرارة الموجة" (1957)، وكذلك "شجرة القمر" (1968)، و"ويغير ألوانه البحر" (1977)، و"مأساة الحياة وأغنية الإنسان" (1977)، و"الصلاة والثورة" (1979)، ظل شعر نازك الملائكة تعبيرا عن قوة تلك اللحظة الانتقالية ما بين شعر القافية وشعر التفعيلة ومن هنا قوتها التاريخية الاستثنائية في رأينا. وهذا لا يتضاد مع حقيقة ان نازك اعتقدت بقوة أن كل شعر يهمل الوزن ليس شعراً. ولذا كانت من أكثر الرواد اهتماماً بالوزن بل ظلت تميز بين الشعر وغيره على أساس الوزن. فالشعر شكل ومضمون لديها، وعليه فأن كل شاعر ناظم لكن ليس كل ناظم شاعراً. فالوزن قيمة أساسية عند نازك لا يستقيم الشعر بدونه. انه قيمة جوهرية موازية للمضمون، لأن الكثير من الأفكار والمشاعر والصور، لا تأخذ شكلها الحقيقي إلا به. اذ ان هذه المواد غير الشعرية في ذاتها تكتسب هويتها الشعرية من خلال الوزن الذي هو عند نازك "الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرها شعراً. فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف، بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية بالمعنى الحق إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى ونبض في عروقها الوزن" الذي حررها من الرتابة ومنح تجربة هذه الشاعرة الرائدة اصالة وعمقا وتفردا في التجديد.
لكن دون ان ينفي هذا الحقيقة الثابتة بأن شعرنا الحديث، وشعر نازك الملائكة خاصة، هو نتاج طبيعي لتطور شعرنا العربي الكلاسيكي ذي التراث الضخم والغني وذي الهم العظيم والاصيل أيضا في منح الفكر مكانة موازية للفن في مختلف الفترات وخاصة الحديثة. بيد ان هذا الربط بين الفن والفكر نجده جليا بشكل اقوى لدى رواد الشعر العربي الحر حيث يبدو الشعر عندهم، بفضل التفتح الكوني، محاولة تستهدف التعبير عن تجربة وجودية في الحياة على حساب أي صناعة لغوية مهما كانت متقنة انما دون التضحية بجماليات الشعر او تحويل القصيدة إلى نص فكري. ونحن نرى أيضا ان هذا التوجه يمثل ثورة على ما ذهب إليه بعض القدامى كالبحتري والآمدي من فصل للشعر عن الفكر وكأن الشعر مجرد عاطفة هائمة مفيدة بتكوينات لغوية ماهرة أو مجرد عملية تخييل او تغريب للمألوف والمعروف. وهذه الثورة تتمثل في ان يغدو الشعر رؤية جديدة للحياة والوجود ومعنى انسانيتنا فيه كذات وكموقف دون ان يعني هذا أن يتحول الشعر إلى سرد أفكار فلسفية او تنظير مهما كان.
بهذا المعنى، وإذ نحن نختلف جذريا مع نازك الملائكة في جعل الشعر بمثابة "المرحلة السابقة للحكمة أو أنه حكمة في طور السكون"، نرى ان الشعر ليس خلاصة التجربة الإنسانية بل ليس خلاصة أي شيء، انما هو توثيق لحظة او أخرى من تدفق معاناة التجربة الفردية العاطفية منها والفكرية والجمالية والنفسية في آن معا وعلى انفراد.
وطبعا لا بد من وقفة مطولة لاحقا حول ريادة نازك الملائكة في مجال احداث قطيعة حاسمة في القصيدة العربية بين مرحلة فحولة طبعت كل تاريخ الشعر العربي من قبل ومرحلة تأنيث القصيدة العربية الجديدة حتى اعتبر مشروعها الشعري بمثابة اول خرق نسوي عربي معاصر للذكورية التي ظلت طوال نحو الفي سنة تهيمن على الذائقة الشعرية العربية. وأيضا لا بد من وقفة خاصة حول الابعاد الإنسانية وكذلك قوة روح الانتماء القومي والوطني في شعر نازك الملائكة والذي وجد بعض وهج تجسده بشكل ساطع وحزين في قصيدة "مرايا القدس":
اّفاقها سأخطها بالورد
أغرس عند "بيت المقدس" الدامي قرنفلة كبيرة
وأحيلها في عرض بحر من زهور الماء والدفلى جزيرة
... يا قناطر، يا شوارع
إني سأبذر فيك أسلحتي وأنتظر الحصاد
كيف الوصول؟
وتعود خارطتي الحبيبة
ملك قلبي، تحت هدبي
لا يجوب سفوحها غيري أنا
غير الأغاني، والعروبة، والرياح
وأحسّ خارطتي ترفرف كوكبا , في لا نهايات المدى النائي
وينبت لي جناح..
انتهى