" ..يعترف سقراط ، مثل السفسطائي، بتعدد الإجابات، لذلك اعتبر مشابهًا له. ومع ذلك، فإن هناك فرقا أساسيا يميز بينهما: يتظاهر السفسطائي بالإجابة، بالسعي للاقتدار على الدفاع عن أي واحدة كيفما كانت، في حين لا يحتفظ سقراط بأيٍّ منها بالضبط لأن من الممكن أن يُدافَع عنها جميعا"[1]
فاتحة:
يستمرّ محمد العمري في الفقرة التّالية التي أقترحها للمناقشة في هذه المقالة في الاستدلال على سعة بلاغة عبد القاهر الجرجاني؛ فيأتي مرّة أخرى بما لا حجّة له فيه من كلام لا يُسعفه على تحصيل ما يرتجيه، ولا يفي بأدنى ما يعلنه هو نفسه في مقدمة كتابه وفي تضاعيفه من واجب تَحرّي صدقَ المعلومة وضبطِ العبارة. لنورد كلامه قبل أن ننظر فيه في ضوء منطلقاته وشعاراته.
1. إثباتُ البلاغة العامة في التّراث العربي بطريق المواربة:
«الجرجاني كان يفاوض من داخل نسقه الفلسفي، ثم اللساني، علمين كبيرين: الجاحظ والقاضي عبد الجبار: ناكفهما، وخاصمهما، ثم أخذ منهما. أخذ من الجاحظ حل لغز اللفظ بعد عناء: أخذ منه اللفظ بمعنى التصوير، وأخذ من القاضي عبد الجبار معنى النظم وإشكالاته، ولا عبرة بالاختلافات الأخرى بينهما. ومن هذا الحوار العالي )مع الجاحظ، والقاضي عبد الجبار، ومع الفارابي قبلهما (خرجت بلاغة الجرجاني بجناحين: اللفظ، بمعنى التصوير، والنظم، بمعنى ملاءمة التراكيب للمقاصد. لقد حاورهم ثم صنع نسقا لا يخطر على بال أحد منهم، لأنه جاء من منطقة لا يجاريانه فيها، وهي منطقة النحو بمعناه الموسع، كما هو في الخصائص، وهذا رافد آخر من روافده. بهذه التقاطعات صار الجرجاني صاحب زمن بلاغة الانتشار. فحتى تقليله من شأن الموازنات الصوتية أدى إلى التركيز عليها وخصها بمؤلف مستقل من قبل منافسه المدهبي، ابن سنان كما سبق. الجرجاني واقع في منطقة التقاطع أدناه:
يتصل بكل قطب في المنطقة التي يتقاطع فيها مع الأقطاب الأخرى، وفي منطقة التقاطع هذه يقع السؤال: ما البلاغة. والسؤال يستحضر صياغات أخرى: نقد الشعر(قدامة)، علم الخطابة (الجاحظ منظرا للخطابية)، البديع (ابن المعتز)، العسكري (الصناعتان: الجاحظ+ قدامة وابن المعتز)»[2]
- دلالة العناوين على التنصل من واجب التدليل على دعوى وجود بلاغة عامة في التراث العربي:
الفقرة التي أوردتها أعلاه هي آخر فقرات ما جاء تحت العنوان الأول من الفصل الأول[3]. وقد جاء الفصل الأول بعنوان:» سؤال المسار التاريخي: اختزال البلاغة وانفصال الدرس البلاغي عن البحث العلمي»، وتحته عنوان آخر بدون ترقيم سماه المؤلف » المطلب الأول: مراحل اختزال البلاغة»، وبعده ثلاثة أسطر يبيِّن من خلالها سبب تقديمه لذلك "المطلب" بنقله من الفصل الثاني إلى "طليعة الكتاب"[4]، ولم يَرِد ما يدل على "البلاغة العامة" إلا في العنوان الأول، وبالصيغة المثيرة التالية: «روافد البلاغة العامة في التراث العربي: مرحلة الانتشار». فَنُسجّل، بخصوص هذه العناوين[5]، أنها توجِّه المتلقي إلى تَقَبُّلِ أطروحة وجود بلاغة عامة في التراث العربي بصيغة ملتوية حتى لا تكون موضوعا لأي اعتراض؛ وذلك من خلال حيلتين اثنتين: تتمثّل الأولى في التركيز على "الاختزال" وإدراج ما يدلّ على "البلاغة العامة" في سياقه، وتتمثل الأخرى في الصيغة التي يستعملها العمري في العنوان الذي يخصصه لتلك "البلاغة العامة" ليوجّه انتباه المتلقي إلى "الروافد"، ويجعل مدار الكلام على "مرحلة" كانت البلاغة فيها منتشرة. وهذه حيلٌ تعفيه من واجب التدليل، بعبارة مقتصدة وواضحة، على تَحقُّق "البلاغة العامة" في التراث العربي. ومن البيِّن أن الكلام على الاختزال لا يقوم إلا على فرض وجود بلاغة عامة، على نحو ما سنرى في مناسبة قادمة عند انتقالنا إلى مستوى آخر من قراءة كتاب العمري.
1-2. محتوى الفقرات يصدِّق دلالة العناوين الواقع تحتها:
بيّنتُ في المقالة الثانية التي تناولت فيها الفقرة السابقة على الفقرة موضوع المناقشة هنا أن حكم محمد العمري -بأن سَعَة بلاغة عبد القاهر الجرجاني متأتية من ضمها لنظرية المحاكاة في تأويلها العربي من ناحية، ومن تفلسفه وسعيه إلى حل معضلة "الطبيعة النفسية للكلام" من ناحية ثانية، ومن عودته في "دلائل الإعجاز" إلى رصيده في النّحو من ناحية ثالثة، ومن تلافيه "لبلاغة الأصوات" الذي سيحمل ابن سنان على التّركيز عليها وإضافتها إلى زمن الجرجاني أو إبداله من ناحية رابعة!- حكمٌ يفتقر إلى إثباتٍ بوجه صحيح واستدلال مقبول. هذا إذا كان واقع النصوص التّراثية يصدِّقه ولم يكن مجرّد إسقاط وجود[6] ناتج عن بواعث شخصيّة غير منضبطة لشروط المباحثة والمناظرة.
وقد بدأت فاتحة كلامي هنا بالقول إن العمري مستمر في "الاستدلال" على "انتشار" بلاغة عبد القاهر الجرجاني، وقلت بعد إيراد كلامه أعلاه إن عناوينه التي يقع ذلك الكلام تحتها تحمل في طياتها علامات ترك واجب التّدليل على أطروحته المركزية في هذا الفصل، والمتمثلة في "وجود بلاغة عامة" في التراث العربي اختزلها في ما بعد بلاغيون غير جديرين بالاعتبار. فهل يُصدّق كلام العمري، في هذه الفقرة أيضا، ما تدل عليه تلك العناوين من انحراف عن القصد؟
ليس في هذه الفقرة الطويلة "المسلحة"[7] بخطاطة توضيحية ما يمكن أن يرجع إلى وصف بلاغة الجرجاني على نحو مباشر غير هذه الجملة اليتيمة: «.. بلاغة الجرجاني بجناحين: اللفظ، بمعنى التصوير، والنظم، بمعنى ملاءمة التراكيب للمقاصد». أمّا ما تبقى مما يسبقها وما يتبعها فهو حكي لأسطورة البناء البطولي للبلاغة العامة من قِبَل عبد القاهر الجرجاني الذي ضم نظرية المحاكاة وحل فلسفيا معضلة الطبيعة النفسية للكلام وكان سببا في بناء البلاغة الصوتية فصار من الواجب إلحاقها به وفاوض الجاحظ والقاضي عبد الجبار فأخذ منهما ما ينفع البلاغة العامة وكان قد حاور قبلهما الفارابي، هذا دون أن ننسى مجالات ومشاريع أخرى قابلة للضم والإلحاق كنحو ابن جني "الموسع"! ونقد الشعر لقدامة وعلم الخطابة عند الجاحظ والبديع لابن المعتز والصناعتين لأبي هلال العسكري. وبذلك يصدِّق محتوى هذه الفقرة والفقرات السابقة عليها ما استنتجتُه من العناوين حين أشرتُ إلى أنها تحمل في ترتيبها وصياغتها علامات تلافي واجب التدليل على أطروحة وجود بلاغة عامة في التراث باقتصاد ووضوح، وتنزع بالمقابل إلى استعمال حيل أشرت إليها في حينه. وبهذا التصديق يكون العمري قد آثر التضليل على التدليل في هذه الفقرة، وهو ما يفقدها المصداقية والقيمة دفعة.
يبقى قوله إن بلاغة الجرجاني خرجت من تفاعلها مع مجالات ومشاريع متعددة ومختلفة بـ «بجناحين: اللفظ، بمعنى التصوير، والنظم، بمعنى ملاءمة التراكيب للمقاصد» وحدَه القول الذي يصف بلاغة الجرجاني؛ بشرط أن يُؤخذ في حجمه بعيدا عن "الرحلات" و"الأجنحة" أولا؛ وأن لا يتم وضع مفهوم التصوير ومفهوم النظم في تقابل حاد، ويُربط أولهما بكتاب الأسرار وثانيهما بالدلائل تاليا. والمفهومان محوريان في بلاغة الجرجاني؛ وقد عمل على تحديدهما وتدقيقهما واستخدامهما، فكانت لهما كفاية تحليلية بالغة النفع في المشروع الذي ابتناه ودافع عنه، في سياف خاص وعام، وبمبادئ ومقاصد عامة وخاصة. وإذا كانت عبارة العمري التي وردت في سياق من التهويل توجِّه المتلقي إلى أن يجعل التصوير يختزن إواليات الإنتاج الشعري، وأن النظم يختزن إواليات الإنتاج الخَطابي النثري للتدليل على أن بلاغة الجرجاني هي بلاغة عامة، فإني أرى في ذلك "إسقاط وجود" لتصورات ترتبط بحاضر الناس هذا. وَلِنَفْي ما يحاول العمري الإيهام به هنا يكفي في هذا السياق أن نذكِّر بما قاله هو نفسه في "البلاغة العربية": «حين نقول إن القضية واحدة في الكتابين نعتمد في ذلك على أن الجرجاني بحث في الأسرار عن معايير بلاغة الشعر دون أن يلح على الغرض الإعجازي، أما في الدلائل فبحث عن معايير بلاغة الشعر باعتباره معجزة العرب في البلاغة، لينتهي من تحصيل هذه المعايير إلى تفوق القرآن الكريم. وقد ألح على هذه القضية في مقدمة الدلائل بما لا نرى حاجة للأخذ بيد القارئ فيه.» [8] ومن البين أنّ اعتراضي على جرّ عبد القاهر الجرجاني وغيره للإقرار ببحثه عن "بلاغة عامة" بله بنائها يستند إلى المنطلقات التصورية والمقاصد المعلنة للعمري نفسه؛ وإلا فإن التصور الذي أنطلقُ منه، من جهتي، مختلف بشكل نوعي ولا يقع لا على مسافة بعيدة ولا قريبة منه، وقد تتاح فرصة لبسطه في قابلٍ. أمّا فحوى ما ورد في المقتطف الّذي نقلتُه هنا من كتابه "البلاغة العربية" من أجل التّخفيف من التّهويل الوارد في الفقرة موضوع المناقشة، فإنّ العمري سبق أن أكّده في مناسبات مختلفة من قبيل مناسبة حديثه في "الموازنات". يَقول: «ومن المعلوم أيضا أن الجرجاني صاحب الكتابين المذكورين –قلتُ: المقصود الأسرار والدلائل- إنما كان يبحثُ عما يتميَّز به النصّ القرآني ويتفوق فيه. وما دام النص القرآني ليس شعرا، ولا ينبغي له أن يكون، فمن المحتمل أن تبنى له بلاغة غير شعرية. إنها بلاغة ملاءمة المعاني لمقتضى الحال والمقام، بلاغة ترضي النصّ الخطابي النثري أكثر مما تنصفُ النصَّ الشعري. بل سنقدم في الحديث عنها الحجج القاطعة على معاداة هذه النظرية للنص الشعري برغم قدرة أصحابها على إلباسها لباس البحث البلاغي، وتعميق جانب من جوانب هذا البحث وهو جانب المعنى، والوصول فيه إلى نتائج باهرة ما زالت تشهد بجدتها وحداثتها. ونقصد بقولنا هذا التفريق بين الخطة العامة والاستراتيجية الشاملة التي تلغي جانبا مهما من البلاغة، وبين تعميق البحث في جانب من جوانب هذه البلاغة ولو في إطار مناهض للشعر»[9]
بهذا تكون بلاغة عبد القاهر الجرجاني وبأقوال صريحة لمحمد العمري نفسه بلاغة قرآنية نَمّتْ جانباً من البحث في إطار استراتيجية عامة مناهضة للشعر. نعم يمكن لبلاغةٌ قرآنيةٌ أن تتعامل مع الشعر -فهو ما هو في المجال الثقافي العربي- تعاملا استعماليا من أجل فهم القرآن، بل ويمكنها أن تمس -في الأقصى- أجناس الخطاب وأنواعه المختلفة في ذلك الفضاء الشّاسع والملتبس حتّى في جوانبه الهامشية مثل الحكاية والرسالة وغير ذلك،[10] من غير أن يكون ذلك "واقعا"كافيا ليجعلنا نطابق بين تلك البلاغة والبلاغة كما يتصورها المختصون في هذا الزمن؛ فليس هناك من بلاغة مكتملة وقابلة بأن تستعاد على نحو متطابق إلا في أذهان من يعيشون خارج العلم وخارج الزمن. والبلاغة في الزّمن المعاصر مجال معرفي جديد، يحاول المختصون فيه صياغته وبناءه -باستثمار ما أنتجه العقل البشري عبر تاريخ طويل من التفكير في موضوع الخطاب- في إطار نظريات ونماذج قطاعية وجهوية في الغالب، وعامة في بعض الأحيان، مع سعيهم في كل الحالات إلى أن يُوفِّروا لها أقصى قدر من الكفاية الوصفية والتفسيرية خارج سلطة المعيار ومعيار السّلطة، إلّا ما تعلّق بسلطة الفكر ومعاييره القابلة لإعادة النّظر بشكل مستمر. لم تكن البلاغة عامّة عند أرسطو نفسه، وعلى الرغم من عمق تحليلاته فإنّه هو الّذي وزّعها ما بين "الخَطابية"[11] و"الشعرية". بل إن "خطابية" أرسطو -التي ميز فيها ما لم يستوعبه أحد بعده بالدّقة اللازمة في ما يخص المساواة والتّعالق بين الإيثوس والباثوس واللوغوس في العلاقة الخَطابية- شكّلت منذ ولادتها فضاء ملتبسا منذورا للانفجار؛ إن لم نقل إنها تفجرت عمليا بين يدي أرسطو نفسه عندما فكّ ذلك التّعالق في تحليلاته، بالإضافة إلى الوضع الملتبس الذي وضع فيه هذا التّخصص في ارتباط بالجدل والسياسة والأخلاق والسّفسطة من ناحية، وفي تقابل مع الشّعريه من ناحية ثانية. لهذا لم يكن هناك وجود لما يسعى اليوم المهتمون إلى إنشائه تحت مسمى البلاغة العامّة، بل كانت هناك اجتهادات خاصة بفهم أشكال بناء الخطاب وتداوله وفهمه "منتشرة" ومتفرقة في شعب علمية مختلفة. وعلى هذا بنى ميشيل مايير نقده لجيرار جنيت الّذي تحدث عن اختزال البلاغة على اعتبار أن وصفه لا تُسنده الوقائع.[12] البلاغة العامة، إذن، من مشاغل الزمن المعاصر، ومشروع للبناء وإعادة البناء، وليست معطيات مستقلّة وموجودة في التّراث، ولا تتطلّب من "النّاس" غير بعض الجهد لتنبسط أمامهم وتنكشق! لهذا، فإن موقف محمد العمري يمكن أن يكون مقبولا ومشروعا تماما عندما يستثمر ما تناثر في اجتهادات الأقدمين لمقاصد علمية تستهدف بناء تصور يرتئيه في المجال الذي يشتغل فيه؛ فلا يُسْتَنكر أن يتحدّث، مثلا، في بعض المناسبات، عن ملامح بلاغة عامة، أو عن "نزوع" بعض البلاغين القدامى إلى جمع جهود من سبقوهم؛ مما يشكل –في نظره وهو يستحضر كتاب الصّناعتين وسرّ الفصاحة لكلٍّ من أبي هلال العسكري وابن سنان الخفاجي على التّوالي- سعيا إلى تأسيس "بلاغة عامة"[13].لكنه لا يكون مقبولا عندما يسقط مشاغل المحدثين على اجتهادات الأقدمين ويدعي وجوده الفعلي عندهم من دون أن يسند دعواه ويدلّل عليها، فيرسّخ بذلك بداهة اكتمال ما تحقق في تلك الاجتهادات من آراء ومفاهيم بجعلها لا تحتاج إلا إلى إعادة التّجميع والتّنسيق؛[14] ولا يكون مشروعا عندما يسلك في الإسناد والتدليل طرقا تمويهية ومغالطة، فيوهم بوجود بلاغة تستعاد بشكل متطابق لا تتسع للتّشكيك وإعادة النظر!
2. المواربة تفسد عبارة العمري في الفقرة قيد المدارسة:
1.2. اختلال التركيب:
الجرجاني «جاء من منطقة النحو التي لا يجاريانه فيها» من هما؟ علينا أن نعرف ما بذهن العمري بطريق غير طريق البيان!. نعم لقد ذكر في بداية الفقرة أن الجرجاني "فاوض وناكف وخاصم" الجاحظ والقاضي عبد الجبار ثم أخد منهما. لكنه أضاف إليهما عندما وصف الحوار بينهما وبين الجرجاني بـ"العالي" أبا نصر الفارابي. واستعمل ضمير الجماعة، فقال إن « الجرجاني حاورهم ثم صنع نسقا لا يخطر على بال أحد منهم». ومباشرة بعدَ استعمال ضمير الجماعة فسّر لماذا لا يخطر ذلك النسق على بال أحد منهم بـالقول: «لأنه جاء من منطقة لا يجاريانه فيها »، فلا يَعرفُ قارئُ كلامِه أَيُخرج أحدَ الثّلاثةِ أم يستعمل المثنى للدّلالة على الجميع!. وفي هذه الفقرة نفسها ترد تلك الجملة القلقة المتهافتة «فحتى تقليله من شأن الموازنات الصوتية أدى إلى التركيز عليها وخصها بمؤلف مستقل من قبل منافسه المذهبي، ابن سنان كما سبق.» التي أوضحت تهافتها في المقالة السّابقة، فلا أعيده.
2.2. اختلال التعبير:
قال العمري: «أخذ من الجاحظ حل لغز اللفظ بعد عناء: أخذ منه اللفظ بمعنى التصوير، وأخذ من القاضي عبد الجبار معنى النظم وإشكالاته، ولا عبرة بالاختلافات الأخرى بينهما». قلتُ لم يتكلم العمري عن أي اختلافات حتى تكون هناك "أخرى". فلو كان تكلم عن اختلافات أساسية، وترك ما لم يقدِّر أنّ له القيمة نفسها لما تكلم عنه جاز له؛ ولو تحدث عن الأخذ كما تفضل، واكتفى بالقول: و"لا عبرة بالاختلافات" وسكت من غير أن يضيف "الأخرى" جاز أيضا. أمَا وقد استبدل كلّ ذلك بما قال فقد أتى فسادا في التّعبير مبنيا على فساد في التّفكير.
قال العمري: « بهذه التقاطعات صار الجرجاني صاحب زمن بلاغة الانتشار». قُلْتُ: تلك التقاطعات لم تجعل بلاغة الجرجاني بلاغة عامّة، ولا حتى بلاغة منتشرة. بل جعلت الجرجاني نفسه صاحب زمن كانت البلاغة فيه منتشرة. ولكن لفظ الانتشار يدل، من بين معاني أخرى، على الانبساط والتّوسّع، وعلى التّفرّق والتّوزّع. ولو شاء العمري أن يسند للجرجاني بوضوح بلاغة منبسطة ممتدة وواسعة أو "موسّعة" لما احتاج أن يقايض "البلاعة العامة" بـ"بلاغة الانتشار". وقد رأيناه يفعل ذلك في عناوينه نفسها؛ فهو يتحدث عن اختزال بلاغة لا نرى منها إلا كلامه عن روافدها، ويفسر تلك الروافد بـ"الانتشار". والناس يحتاجون إلى التّفسير عندما يكون في الكلام لبس وخفاء، فيُؤتى بما يزيله. لكنّ العمري هنا يقوم بالعكس، ويعمّي الكلام وهو في مقام الاحتجاج. فعوض إقامة الحجّة يوارب؛ إذ من ينكر-إذا ما تم الاعتراض على أنّ بلاغة الجرجاني كانت عامة- أنها كانت متفرّقة منتشرة عنده وعند غيره في مجالات واجتهادات كثيرة. لذلك فإنّ الجرجاني –في هذه المحنة – ليس حتى صاحب بلاغة منتشرة لأنّ حيلة العمري حينها ستكون مع ذلك غير محكمة، بل هو صاحب زمن بلاغة منتشرة، والمقصود بالزمن في كلام العمري هو: «الأنموذج، paradigme »[15]. من يسعى إلى تجميع ما توزّع في كتب الأقدمين العرب على سبيل الضم غير المنهجي تحت مسمّى البلاغة العامة؟ واضح أنّه العمري. لكن لماذا يسقط عليهم معتقداته بطرق ملتوية؟ إنه يفعل لأنه يقف على نفس أرضيتهم التّصورية ويرسف في سلاسل مفاهيمهم وأدواتهم؛ ويستمدّ منهم "مشروعيّة" متوهّمَة لامتلاك حقيقة نهائيّة للبلاغة عبر تجميعها وتنسيقها!
3.2. اختلال التلاؤم:
قال العمري: « لقد حاورهم ثم صنع نسقا لا يخطر على بال أحد منهم، لأنه جاء من منطقة لا يجاريانه فيها، وهي منطقة النحو بمعناه الموسع »، وكان قد بدأ نفس الفقرة بقوله «الجرجاني كان يفاوض من داخل نسقه الفلسفي، ثم اللساني ». قلتُ: إذا كان تكوين الجرجاني نحويا-"لسانيا" وهو ما تفيده عبارة "جاء من منطقة النحو"، فكيف يضع العمري "ثم" العاطفة الدالة على الترتيب والمهلة بين "النّسقين" الفلسفي واللساني اللّذين فاوض الجرجاني من داخلهما مَنْ فاوض؟ أم أنّ الجرجاني نسي النّحو، وإنْ جاء من منطقته، حتّى إذا تبيّن له عدم كفاية "الفلسفة" عاد إلى تلك المنطقة وجلبه معه ليؤلف به الدّلائل؟ نعم إنّ استعمال "ثم" هنا اقتضته هذه الدّعوى الدّاخلة في المحال المحض، والتي لا تترك المجال حتّى لاعتبار هذا الحرف مهملا، أو واقعا موقع غيره؛ وهو ما لا يبرِّر استعماله هنا في كل الحالات.
وقال: «وأخذ من القاضي عبد الجبار معنى النظم وإشكالاته »، وفي الخطاطة الواردة في نفس الفقرة، وعند رأس السهم الذي يخصِّصه لما أخذه الجرجاني من القاضي يضع: « القاضي عبد الجبار (شكل النظم )». قلتُ: الأقرب أن يقول أخذ الجرجاني من القاضي مفهوم النظم، ويقف في الجملة وفي الخطاطة. أمّا أن يقول إنّه أخذ "معنى النظم وإشكالاته"، فيضيف "الإشكالات" في الجملة، ويعوض كل ذلك في الخطاطة بـ"شكل النظم" فإخلال بالتلاؤم في الصّيغة، وتخليط في التّفكير وقول لما لا يعقل.
4.2. اختلال الترتيب:
لاختلال التّرتيب مظاهر متعدّدة في كتاب "المحاضرة والمناظرة". ومن تجلياته في هذه الفقرة: أولا: طريقة التّداعي الحرّ التي يتبعها العمري في إيراد ما يقول إنّه من روافد "صاحب زمن بلاغة الانتشار". فَهو يوردها منتشرة في الفقرة على نحو ليس فيه ما يدل على ترتيب أو تفكير مسبق: يبتدئ كلامه بالقول إن الجرجاني فاوض الجاحظ والقاضي عبد الجبار واستفاد منهما، فيصف حواره معهما بـ"الحوار العالي"، وعند هذا الوصف يضيف أن الجرجاني حاور قبلهما الفارابي، وهي إضافة جعلها بين قوسين، لكن القوسين لم يمنعاه من استعمال ضمير الجماعة للإحالة إلى هؤلاء الثلاثة في ما تلا ذينك القوسين في البداية، قبل أن يستعمل ضمير المثنى عند تأكيده أنهما لا "يجاريانه" في "منطقة النحو الموسع، كما هو في الخصائص "؛ وعند ذكر "الخصائص" يقول "وهذا رافد آخر من روافده". عند هذا الحدّ يظنّ القارئ أن محمد العمري اكتفى من تعداد الراوفد لأنّه يقرر أنّ وجود الجرجاني في منطقة تقاطع تلك الرّوافد هي الّتي صيّرته صاحب زمن بلاغة الانتشار. لكنّ العمري يستمرّ ويقدِّر ضرورة إلحاق ابن سنان بمنطقة نفوذ الجرجاني أيضا. وعند وصوله إلى هذه النّقطة "يسلح" الفقرة بخطاطة تمثّل لما قال، وتضيف ابن سينا إلى الفارابي في ما يخص الأعلام، ومحتوى النّظم وشكل النّظم في ما يخصّ إفادة الجرجاني من ابن جني والقاضي على التوالي. بعد الخطاطة يذكر العمري أنّ منطقة التّقاطع التي أحلّ فيها الجرجاني هي بالضبط المنطقة التي يقع فيها السؤال: ما البلاغة؟، وهو السؤال الذي لا بدّ أن يستحضر -يعود للتعداد مرة أخر- "صياغات" أخرى: نقد قدامة/..
ثانيا: عدم حفظ الفرق بين مقاصده ومقاصد عبد القاهر الجرجاني. وإذا كنتُ قد بيّنت بعض ما أوقعه فيه عدم ترتيب مقاصده الخاصّة في المقالة الثانية، فإني سأوضّح الآن ما أقصده بعدم حفظه الفرق بين مقاصده ومقاصد عبد القاهر الجرجاني: انتهى العمري في هذه الفقرة إلى وضع الجرجاني في منطقة تقاطع الرّوافد الّتي عدّدها من غير تدبير أو ترتيب. ثم قال إن منطقة التّقاطع تلك هي الّتي يقع فيها السّؤال: ما البلاغة. فيتّضح أنّه رغم تكثير الروافد وتوسيع مجال المعطيات القابلة -وغير القابلة- للحشر في بلاغة الجرجاني، فإنّ السّؤال الّذي تبقى له مشروعية الاقتران بعمل الجرجاني هو "ما البلاغة"، وليس ما "البلاغة العامة". لذلك يستأنف العمري: وهذا "السؤال يستحضر صياغات أخرى:.."، ويضيف على سبيل التّجميع غير المنهجي: «نقد الشعر(قدامة)، علم الخطابة (الجاحظ منظرا للخطابية)، البديع (ابن المعتز)، العسكري (الصناعتان: الجاحظ+ قدامة وابن المعتز)». وعلى فرض أنّ البلاغة التي بحثَ عنها عبد القاهر الجرجاني هي "فعلا" "بلاغة عامة"، فإنها تبقى مشروطة في كل مستوياتها التّصورية والمفاهيميّة والإجرائيّة بزمنها بجميع مكوناته المتفاعلة؛ وليس من السّداد ألا يسعى المشتغلون في هذا المجال إلى إعادة النّظر في مفهوم تلك البلاغة العامة وبنائه على أساس ما تحصّل من مستجدات هائلة في مجالات العلوم في الزمن المعاصر. هل يحق ادّعاء تجديد البلاغة، وهذا مجرّد مثال بسيط، لمن لا يعرف ما يجري حتى بجواره القريب في اللّسانيات؟ لماذا لا يقف عبد القادر الفاسي الفهري أو أحمد المتوكل، مثلا، عند حدود تجميع مادة النّحو وتنسيقه، والعمل على إحيائه وإعلان انتهاضهما للدّفاع عنه كأنّه دين يفتقر إلى جيوش وعلماء كلام وساحات معارك، على ما يتوهّمه علماء الكلام الجدد! لكن المشكل في هذا الكتاب أعوص مما قلت وأوردت؛ ذلك أن العمري يقول، مباشرة بعد هذه الفقرات التي ناقشت في هذه المقالات، وبالعبارة الصريحة: "إن عملية اختزال البلاغة العربية بدأت مع الجرجاني نفسه" وعليك أن "لا تستغرب"[16]! قلتُ: بل أستغرب. لأنه قال إن الجرجاني نمّى جانبا واحدا في خطّة عامّة مناهضة للشّعر، وها هو يقول هنا إنّه "صاحب زمن البلاغة العامة" التي اختُزلت بعده، ويعود ليقول، في نفس الكتاب، إنه أول من بدأ عملية الاختزال. الأطروحتان لا تتلاءمان. ويرجع ذلك، في تقديري، إلى عدم حفظ العمري للفرق بين مقاصده الخاصّة ومقاصد الجرجاني؛ من أجل الإيهام بوجود حقيقة مكتملة للبلاغة، غير قابلة للمفاوضة، يستعيدها العمري على نحو موضوعي ومتطابق.
4.هامش على هامش:
ورد في الهامش 3 من الصفحة 15 ما يلي: « أنظر وصف هذه الرحلة العلمية، من الأسرار إلى الدلائل، في كتابنا: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها ص....وقد فوجئت في ندوة المصطلح البلاغي ببني ملال (أبريل 2016، أي بعد صدور كتاب البلاغة العربية بست عشرة سنة) بطرح إشكالية « أي الكتابين أسبق؟»، وإيراد لائحة بأسماء القائلين بتقدم كتاب الدلائل!
دون الدخول في استعراض الأدلة الجزئية، وهي قوية، فإن القراءة النسقية تبين حضور مادة الأسرار في الدلائل، وغياب مادة الدلائل في الأسرار. ولذلك فتصور الانتقال من تأليف الأسرار إلى تأليف الدلائل، ممكن، بل راجح، أما الانتقال من تأليف الدلائل إلى تأليف الأسرار فمستحيل التصور. الأسرار حاضر كشريك بالنصف في الدلائل، والدلائل غائب مائة بالمائة في الأسرار. ليست مهمة الباحث أن يقول: « إن قال فلان، فقد قال فلان، أو فلانان!»، بل مهمته أن يفحص المستندات ويرجح، وإلا كان عمله أشبه بعد الأصوات، وهو مرفوض في العلم.»
يَحُثّ الكلام الذي يتضمّنه هذا الهامش على ضرورة العمل على استيفاء النّظر حقّه وتصحيحه وعدم الاعتداد بفرد أو بعدد من الأفراد ممن يشهدون لصواب رأي من الآراء من غير فحص مستنداتهم وتتبّع استدلالاتهم. وهذه دعوة كريمة لا بد من مراعاتها لمن يريد أنْ يُكسبَ أحكامه المقبولية والمصداقية. ولكن هذه الدعوة الجليلة تَرِد، بالضبط، في سياق يقصد إلى صرف المختصين والمهتمين عن التفكير في أي الكتابين أسبق، الأسرار أم الدلائل! فقد فوجئ العمري بطرح إشكالية أي الكتابين أسبق بعد صدور كتابه "البلاغة العربية" الذي حسم الموضوع منذ ست عشرة سنة! ولأنه لم يدخل في استعراض الأدلة الجزئية التي لا أستبعد، من جهتي، أن تكون قوية وقاطعة، فإني أكتفي بمناقشة وجيزة لكلامه هنا، وفقا لتوجيهه بعدم الأخذ بما يحكم به الغير دون تدبر وفحص وترجيح.
يقول: « إن القراءة النسقية تبين حضور مادة الأسرار في الدلائل، وغياب مادة الدلائل في الأسرار.. الأسرار حاضر كشريك بالنصف في الدلائل، والدلائل غائب مائة بالمائة في الأسرار.»
قُلتُ: القراءة النّسقية هي القراءة القادرة على تمييز عناصر نسق ما، وتحديد قواعد التّركيب وقواعد الإنتاج فيه. وإطلاق "النّسق" في بعض السياقات فيه تسمّح وتساهل، لأنّ "النّسق" مفهوم ابتُني في إطار رياضي-منطقي لتوصيف البنيات التي تتفاوت عناصرها وتتراتب وتترابط بقوانين تركيبية وتوليدية. وما يقال عن النّسق يقال عن القراءة النّسقية؛ فليس من الدّقّة أن توصف بها كل قراءة وإن سعت إلى أن تفسّر ظاهرة في جل أو كل جوانبها بتشتيت الجهد في ملاحقة المضامين. القراءة النسقية يتوجب أن تروم بعيدا عن المضامين بيان عناصر النسق الدالة وقواعد تركيبها وآليات إنتاجها. ولعلّ هذا ما يحاوله باحثون أفاضل وعلى رأسهم محمد مفتاح في حقل البلاغة وتحليل الخطاب. والعمري يتحدّث في هذا الهامش عن قراءة نسقيّة تتعلّق بالمواد، ويقول إن مادة الدّلائل غائبة عن الأسرار، ومادة الأسرار حاضرة كشريك بالنّصف في الدلائل. وهذا يطرح مشاكل عديدة أثرت بعضها في المقالة الثانية، وبعضها في الفقرات أعلاه.
يستنتج محمد العمري، إذن، أن كتاب الأسرار أسبق من الدّلائل بناء على أن مادة الدّلائل غائبة في الأسرار ومادة الأسرار حاضرة في الدّلائل. فالتأليف عند الجرجاني سار وفق منطق تراكمي، رحّل من خلاله نصف مادة الأسرار إلى الدّلائل. ولكن يبقى السؤال: إذا قبلنا دعوى اشتغال الجرجاني بدون رصيده النّحوي في الأسرار، وقلنا إنّه نسيه أو جمّد العمل به وهو من صميم تكوينه، فكيف نجعل من المستحيل أن يبتعد كثيرا عن مادة الدلائل وينشغل بالظواهر الخطابية التي "تفيض عن النحو" أثناء تأليفه الأسرار إذا عكسنا وجعلناه الكتاب الأخير؟ هل يُقْبَل أن لا يعتبر، في هذا السياق، موقف من لا يرى علم المعاني جزءً من علم البيان ولا لازما له؟ وهناك مسائل تفصيلية لا داعي لإثارتها، لأن القصد ليس مخالفة العمري بإثبات الرّأي الآخر، وإنما إظهار حدود الحجّة التي يقول إنها باتّة وحاسمة.
وهو يحكم بقطعيّة أدلّته بالعبارة التالية: «ولذلك فتصور الانتقال من تأليف الأسرار إلى تأليف الدلائل، ممكن، بل راجح، أما الانتقال من تأليف الدلائل إلى تأليف الأسرار فمستحيل التصور.» وهي عبارة تتضمن ما يُشْكِل: فقضاؤه بأنّ الانتقال من الأسرار إلى الدّلائل قابلٌ للتّصور وداخل في حيّز الممكن، إنْ كان استعمل "الممكن" بمعنى الجواز وهو الّذي يعزّزه بـالحرف "بل" الدّال على الإضراب، والتّصريح بالتّرجيح بعده؛ فإنّه يقتضي -ليتسقَ القول- القضاءَ بأن تصور الانتقال من الدلائل إلى الأسرار مستبعدٌ ومرجوح، وليس مستحيلا كما قال. وقد كان يمكنه، إنْ لم يقصد إلى تنسيب وجهة نظره، أن يحافظ على اتّساق قوله بأنْ يقابل بين الإمكان والاستحالة دون الإضراب والترجح، فيوفِّر لعبارته اتّساقا منطقيّا صوريّا، ويصير بها إلى القطع بشكل واضح، ليعضِّد به ما تقدم من وثوقيّته وما تأخّر.
وممّا يثير التّساؤل في هذا الهامش المماثلة التي يقيمها فيه العمري بين من يعدّد الأشخاص الّذين يقولون برأي من الآراء من أجل الاستقواء بهم في المعارضة وبين من يقوم "بعدّ الأصوات"، وعدّ الأصوات، يقول، «مرفوض في العلم». كيف يخرج عدّ الأصوات من العلم هكذا بإطلاق، ومن يمنع عدّها في مجالات العلم، وماذا عمن قاموا بإحصائها لأغراض علميّة مختلفة من الأقدمين والمعاصرين؟ لا ينبغي أن نبحث عن دليل هذا الحكم خارج حجّة السّلطة: الدّليل هو أن العمري "فوجئ وقال". لكني أنا المتلقي أعرف أنّ حجّة السّلطة مقبولة في بعض وجوهها، كأن يستشهد غيره به، فيقول إنّ "العمري قال.."، ولكنّها غير مقبولة البتّة عندما يقول هو نفسه إني " أنا الدّليل". لهذا أقول، من جهتي، إني لا أرى الانتقال من "عمل من يعدد أسماء القائلين بتقديم كتاب الدلائل من غير فحص مستنداتهم " إلى " عمل من يعد الأصوات" انتقالا مبرّرا. فالحكم على الأوّل بإحراجه وإخراجه من العلم أمر جيّد لحمله على إعمال العقل. لكن بالمقابل، لماذا إخراج عدّ الأصوات، بإطلاق، من العلم؟ والحالُ أنْ ليس هناك من يقوم بِعدِّها خارج مجالات العلم وخارج مقاصده ويسعى -مع ذلك- لإدخال عدِّه فيه، فيتعرض للرّفض، ويكون مثالا وعبرة. هذا التّشبيه ليس ملائما ولا يؤدّي أيّاً من وظائف التّشبيه المعتبرة في مجالات العلم والأدب، وهو ما يفتح المجال للتّساؤل عن دواعي إيراده!
خاتمة:
أُنهي هذه المقالة الثّالثة بالتّوكيد على أنّ الحديث عن اختزال البلاغة العربية يقتضي في البدء إثبات أنها كانت عند النشأة، أو في أي مرحلة من التاريخ عامة. وقد كان العمري بين أمرين اثنين: أن يذكر باقتصاد ووضوح أنه هو من يعتقد بإمكان إنشاء بلاغة يمكنها تفسير كل أجناس الخطاب وأنواعه في إطار تداولي يعتبر الإنتاج والتلقي، وأنّه يستثمر ما تحصّل لديه من تصورات ومفهومات وآليات من أجل توظيفها لتحقيق معتقده ومشروعه -إن كان لديه مثل هذا المشروع- ويبتعد عن تقويل القدماء واستعمالهم سعيا لاكتساب مشروعية متوهّمة مبتناة على تطابق مفترض؛ أو أن يقدّم أدلّته على أنّ تَمثّله وتقديمه لخطاب "البلاغة العامة" في التّراث العربي يتمتّع بمستلزمات العلميّة الّتي تجعله راجحا وذا مصداقية. وفي الحالتين لا يحتاج إلى الإيهام بالتّطابق والامتلاك "الحقيقي" و"المباشر" لبلاغة لا يمكن أن تمتلك، هي نفسها، وجودا موضوعيا مستقلا عن مصافي الإدراكات والتّمثّلات؛ ولا يحتاج، قبل ذلك وبعده، إلى نهج المسالك الملتوية والموارِبَة.
المراجع:
◘ أحمد المتوكل: المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي الأصول والامتدادات، دار الأمان، الرباط، ط.1، 2006.
◘ جابر عصفور: « بلاغة المقموعين»، ضمن: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، كتاب مشترك بين باحثين، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ط.2، 1993.
◘ عبد القاهر الجرجاني:- دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.
◘ محمد العمري:- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.
- المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.
- الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية، إفريقيا الشرق، 2001.
- تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر، الدار العالمية للكتاب، 1990.
◘ محمد مفتاح: مجهول البيان ، دار توبقال، الدار البيضاء، ط. 1، 1990.
◘ Introduction de Michel Meyer à la Rhétorique, voir: Aristote˸ Rhétorique, Tad. Charles-Emile Ruelle, Librairie Générale Française, 1991.
◘ Sous la direction de Michel Meyer : Histoire de la rhétorique des Grecs à nos jours, Librairie Générale Française,Ed.2, 1999.
[1]- Introduction de Michel Meyer in : Rhétorique , P. 12.
[2]- المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، ص. 16.
[3] - تناولت الفقرات السابقة على هذه الفقرة في المقالين السابقين مع إرجاء بعض ما ورد فيها لتدبير سيتضح عند العودة إليه.
[4]- تقديمه "للمطلب الأول" من الفصل الثاني إلى الفصل الأول تم بغرض "تسهيل التواصل"، بعد أن تبين له «أن عملية اختزال البلاغة غير واضحة عند كثير من الدارسين قبل الطلبة الباحثين». أنظر: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، ص. 13.
[5] - سبق للعمري أن عنون إحدى الفقرات التي خصصها لكتاب حازم القرطاجني«منهاج البلغاء وسراج الآدباء» في كتابه «البلاغة العربية، أصولها وامتدادتها» بالصيغة التالية: أزمة عناوين: من أغراض الخلل، وأعتقد أن هذا العنوان هو أليق بعناوين العمري هنا وألصق. أنظر الكتاب المذكور، ص. 506.
[6] - يميز أحمد المتوكل الإسقاط بالنظر لثلاثة وسائط: نوعه ودرجته واتجاهه؛ وبالنظر إلى النوع يميز بين "إسقاط وجود" وهو "أن تنسب إلى نظرية ما مفاهيم أو إواليات أو سمات منهجية منعدمة فيها موجودة في نظرية غيرها"، و"إسقاط تقويم" وهو "أن تُنتقد نظرية ما سلبا أو إيجابا انطلاقا من نظرية أخرى". ومعلوم أن مفهوم "النظرية" غائب عن أفق العمري في مجمل أعماله. بخصوص الإسقاط أنظر: أحمد المتوكل: المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، ص. 169.
[7] - وَصْفُ المعرفة التي يقدمها كتاب "المحاضرة والمناظرة" بالمسلحة يرجع للعمري نفسه. يقول: «في هذا الكتاب معرفة مسلحة، وجبة ساخنة، تذود عن حوضها بسلاحها. فيه «تحرج » الجرجاني و«تفسح» الجاحظ». أنظر: المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، ص. 32.
[8]- البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، ص. 353.
[9] - محمد العمري: الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية، ص. 50. وكان اتكأ، قبل ذلك، على ما سماه بالبلاغة التطبيقية ذات البعدين البديعي والنقدي في دراسته للبنية الصوتية في الشعر، معلنا أن بلاغة الجرجاني الإعجازية وبلاغة السكاكي المؤسسة على علوم اللغة والمنطق والتي تعتبر في جانب علم المعاني "سليلة" نظرية الإعجاز الجرجانية لا تسعف كثيرا في تناول البنية الصوتية في الشعر . أنظر: «تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية في الشعر »، ص. 15-16.
[10] - تحدث جابر عصفور عن "بلاغة مقموعة" أنظر: جابر عصفور: بلاغة المقموعين. ضمن: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، كتاب مشترك بين باحثين، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء،ط.2، 1993.
[11] - "الخطابية" ترجمة لـ" Rhétorique " في بعض السياقات خاصة عند أرسطو، وهي من اقتراح محمد العمري.
[12] - Michel Meyer˸ Histoire de la rhétorique des Grecs à nos jours,P. 289-293.
[13] - الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية، ص. 52.
[14] - انتقد محمد مفتاح هذا النوع من التقاعس وضيق الأفق وسخر منه في تقديم كتابه القيم "مجهول البيان"، يقول: «كثيرٌ منا يستظهر عن ظهر قلب آراء الأقدمين في الفن فيوصف بأنه «من حفظة البلاغة العربية الكريمة »، ولكن هذا الكثير منا حين يتجاوز الأمثلة المذكورة المكرورة وما ماثلها إلى فهم وتأويل الأمثال القرآنية الكريمة والأمثال الحديثية الشريفة والنص الشعري المتقن واللوحة التشكيلية والفلم والأقصوصة العجيبة الغريبة والكرامة الصوفية...يقف يضرب أخماسا في أسداس لم تنفعه أقسام الاستعارة ولا أصناف الكناية والمجاز المرسل، ولم تفده أوصاف «الحافظة العلامة الفهامة». ومع هذا العجز المخزي فإننا ما زلنا نثني أعطافنا عجبا وكبرياء ونقنع بالرواية والحفظ و«التعبد » ونفر من الدراية والتعليل مفضلين راحة القلب والجسد على عذاب الفكر والاجتهاد.» نظر: محمد مفتاح: مجهول البيان، ص. 8.
[15] - المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، ص. 14. وسنعود إلى هذا التخليط في المقالة الرابعة.
[16] - المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، ص. 17.