رواية "صياد الغروب" هي رواية للكاتبة أم الزين بن شيخة المسكيني، وهي صادرة عن دار الأمينة للنشر والتوزيع، وتحتوي على 227 صفحة مقسمة على 33 لوحة، حيث تبدأ الرواية بترتيلة الوداع قبل أن يشرع السرد في إفراز إمكاناته، وممكناته السحرية، والشعرية، والغرائبية. ومن ثمة تنطلق الكتابة في التحرّر من سلطة الحكي والتخريف ليتم بذلك تفجير المعاني والدلالات، في غابة من السرد المكثف، الممزوج بالفلسفة، والشعر، والأدب. فالرواية هنا هي مادة متعددة الأصوات، كثيرة المناخات والعوالم، وهي عجينة سردية ولفت فيها الكاتبة كل إمكاناتها السحرية والشعرية، مقرة من خلال ذلك أن كل فرد بإمكانه كتابة سرديته وسيرته وقصته وأن أهميته تنبع من تلك القصص التي تشكل جسده.
لم يكن السرد في رواية "صياد الغروب" مجرد تقنية ذات وظيفة إخبارية وقصصية، فهو لا يأتي فقط لإخبارنا بالحكاية والقصة بقدر ما دفعته الكاتبة أم الزين بن شيخة إلى تجاوز الممكن فيه من أجل الإطلالة على مدرات الرعب، التي لا يوجد فيها غير العوالم والمناخات المتعددة وهي تتحرك بين مسطحات متنوعة اختلط فيها الفلسفي بالشعري والخيالي بالواقعي. تنزل علينا رواية "صياد الغروب" بوصفها مشروعا أدبيا يميز جسده ذاك التحول المستمر في طريقة سرد الخطاب، ففي كل مرة تباغتنا الكاتبة لتطل علينا من مكان وفضاء وموقع ما، فهي تترحل بنا بين الأمكنة والأفضية متتبعة شخصياتها وحكاياتهم، فتأخذنا تارة إلى رواية "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" وذلك باستحضارها لشخصية "كوشمار" و"خازوق" قبل أن تعود بنا لجسد رواية "صياد الغروب".
تتجول بنا أم الزين بن شيخة في جو من الفنتازيا الحرّة التي يكون فيها الخيال هو تعبير بشكل ما عن الواقع، فنحن لسنا في عوالم واقعية بشخصياتها وأمكنتها وأحداثها، بقدر ما نحن إزاء مناخات ميتافيزيقية لا ترتبط بالواقع إلا عبر حكايات الشخصيات في الرواية، فالأشباح "هناك" لها قصتها "هنا" وقرينة ذلك وجود شخصية "فرح" بوصفها شبحا يلتقي شخصية أيوب كل يوم عند الشاطئ عندما يهم بالتقاط صور الغروب. معنى ذلك أن الكاتبة أرادت من خلال رواية "صياد الغروب" أن تخبرنا أنه بإمكاننا أن نتخيل ما لا يمكن تخيله، وما لا يمكن تجسيده أو كتابته، وأن الخيال هو سلاحنا الأوحد ضد قسوة الواقع ومأساته. فالرواية هي لحظة من لحظات انعتاق الخيال إلي حدوده القصوى. فالسرد يبدأ من حيث يبدأ الخيال في مباشرة تشكيل الصور، فالرواية تستدعي كل الأشياء الخارقة والماورائية من أجل تحريك لعبة السرد.
وهو ما يجعل من القارئ موجودا وجها لوجه أمام شخصيات عجائبية وغرائبية قادمة من عوالم أخرى وهي تسرد حكاياتها وقصصها وما عليه – القارئ - هنا إلا الإنصات لها وتتبع خيوط حكييها. لقد خلقت الكاتبة ضربا من التنافذ السردي، فعلى مسطح الرواية لا يمكنك تجاهل الشخصيات وهي تهذي وتفيض وتعبر عن آلامها وأحلامها التي قتلت وتم تقطيع أوصالها بشكل ما. وهذا المناخ الذي يتساوى فيه الشبح مع الشخصية الواقعية هو أمر أرادت عبره الكاتبة أن تعلن على أن الأشباح أيضا يحق لها أن تتكلم، وأن السرد ليس حكرا على أحد، فمن حق أي كان أن يتكلم وأن يسرد قصته بالشكل الذي يرتئيه وبالأسلوب الذي يرغب فيه.
الكتابة في رواية "صياد الغروب" ليست كتابة خطية يتوازى فيها زمن الحكاية مع زمن الخطاب، ولا تقوم على البنية الثلاثية النمطية التي تحكي قصة ذات بداية ووسط ونهاية، بل هي كتابة روائية تقوم على التقديم والتأخير والتداخل والتخارج والتشظي، وهذا نابع من كون أن السرد مبتور ولا يكتمل وهو مرتبط بالشخصيات، فكل شخصية تأتي في حيز الرواية لتخبرنا عن حكايتها قبل أن تتوارى متخفية، وهذا البتر للسرد ساهم فيه أيضا تعدد الألسنة التي تكتب، فنحن نجد لسان الفيلسوفة ولسان الشاعرة ولسان الروائية تكتب جميعها مع بعضها البعض في جو من الشعر والسحر الروائي والأدبي الخالص. وعليه فإن الكاتبة وبتوخيها وسيرها في هذا المسار فإنها تدفع بالكتابة الروائية نحو أفق جديد بعيدا عن أفق سرد الحكايات بشكلها التقليدي، وهي ترغب في الوصول إلى تلك الحدود التي يكون فيها السرد في حالة من التفجير التام.
رواية "صياد الغروب" ليست رواية لها قصة وحكاية كلاسيكية منضبطة لمنطق وترتيب وتنظيم ما له أحداثه وأفعاله ومتمماته، بقدر ما هي رواية منفلتة البناء لا تهمها الحبكة والخيط الناظم للأحداث والمسارات ولا تتشيع لأي منطق سردي ولا ترتبط بأي منظومة مسبقة يمكن أن ترسم لها حدودا. فالرواية هنا هي ضرب من السرد المفتوح، المتحرر من كل القوالب الجاهزة التي تضعه في خانة السرد التقليدي، وهذا نابع من كون أن السرد في رواية "صياد الغروب" هو سرد منفلت وهارب عن دلالته وتطبيقاته الإجرائية التي تعطيه وظائف محددة داخل جسد النص من إخبار بالأحداث وسرد للقصة والحكاية.
وعلى هذا الأساس فإن أي قارئ يبحث عن حكاية مسترسلة ومنطقية وعن سرد محبوك وعن أحداث عليه أن يطوي صفحات هذه الرواية وينطلق باحثا عما يريد في فضاءات سردية أخرى، فنحن هنا لسنا أمام نص يخبرنا بحكاية وقصة تنطلق بالشخصيات وتترحل بهم بين مواقع وأفضية عدّة، بل نحن في حضرة نص له جسد خاص وفريد، فما يميزه هو سمة التشظي والتجزئة، فالنص هو عبارة عن حكايات وقصص مثيرة تأتينا من عوالم أخرى غير العوالم التي نعيش فيها وندركها ونعرفها. وهذا نابع من الشخصيات التي كانت تحرك فعل الكتابة وفعل السرد، والتي كانت تقطن في مناخات ماورائية، لا شيء فيها غير الأرواح والأشباح والشخصيات الغامضة التي لا تثير فينا غير الخوف والرعب. ولكن أم الزين بن شيخة تستدعي هذه الشخصيات وتعطيهم حق الكلام، فهم موجودون على طاولة السرد ومائدته في لحظة شعرية لا شيء فيها غير السرد وهو يتنقل بنا بين عوالم شتى. معنى ذلك أن الرواية هنا تمثل العشاء الأخير لهؤلاء الشخصيات، وهي فضاؤهم الوحيد الذي اخترعته لهم الكاتبة ليقوموا فيه بفعل السرد والكلام، فالشخصيات تقوم بنزهة داخل غابة السرد حتى تستطيع كل شخصية منهم أن تبوح بقصتها وحكايتها مع هذا الواقع المر والمرير.
تعيد رواية "صياد الغروب" بشكل ما إعطاء الفرصة لكل الذين تناستهم اللغة ووقعوا من على خريطة السرد، حيث يقوم أيوب وهو على كرسيه المتحرك بتحريك لعبة السرد وهو المتحكم في إيقاع اللوحات التي تتغير أحداثها من لوحة إلى أخرى، ومن فقرة إلى فقرة، ومن جملة إلى سواها. فالشخصيات وحكايتها هي من تتحكم في إيقاع السرد وهي من تسير به وفق مخططات ومسارات أخرى تباغتنا تارة وتثير فينا الريبة والقلق تارة أخرى، فرواية "صياد الغروب" ليست رواية مرحة أو مضحكة، فهي تنتمي إلى جنس الكتابة الساخرة التي تضع كل المواضيع تحت آلة التشريح من أجل فكها وتفكيكها، ذلك أن رواية "صياد الغروب" تحاكي واقعنا المرير عبر شخصيات موجودة بيننا وأخرى قادمة من عوالم مختلفة.
تحاكي الكاتبة عدّة مواضيع من زوايا مختلفة ومتنوعة وتترحل بنا بين فضاءات عديدة، في رحلة سردية كان قوامها التحول المستمر بين المواضيع، ففي الرواية لا نجد موضوعا ثابتا، بقدر ما نحن إزاء مواضيع تم تكثيفها على نحو كبير وهو ما جعل من هذا المشروع الأدبي في تحول دائم، فالرواية لا تتسم بالثبات، بل بالحركة الدائمة والترحال الأبدي إننا أمام صيرورة درامية وروائية متحررة من كل القيود والأغلال الكلاسيكية، وبهذا المعنى فإن الكاتبة قد تمردت على كل القوانين التي تحكم عملية السرد الذي ورد مبتورا ومتقطعا بفعل الحكايات المتعددة والمواضيع المتنوعة التي قامت الكاتبة بطرحها في الرواية.
في رحلة السرد تستدعي أم الزين بن شيخة لنصها الروائي جملة من الشخصيات من روايتها السابقة وهم كوشمار رسام الرؤوس المقطوعة وخازوق قاطع الرؤوس في رواية "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم"، في نوع من الاستشهاد بالذات (Autocitation)، ما يعني أننا أمام رواية مفتوحة على المشارب والمذاهب وهي لا تكتفي بشخصياتها لتذهب نحو نصوص أخرى وتقوم باستدعاء كل من كان هناك. وهو ما يجعلنا أمام خلطة من العجائن السردية تتقاطع فيها النصوص وتتلاقى في موعد للخيال والتخييل. هاهنا نفهم أن الكتابة هي مزيج من الكتابات التي تنسج خيوط السرد في رحلة كان قوامها حكاية أيوب وحكاية الجنية فرح، التي سمح لها حراس الدولة بأن تكون شبحا بعدما غرقت في البحر ووجدوا جثتها على حافة الشاطئ. تلتقي هذه الجنية مع أيوب كل يوم عند الغروب وعلى حافة البحر، فهو يمارس هوايته المفضلة هناك بالتقاط صور الشمس لحظة غروبها. فالغروب هو لحظة "بين-بين" أي هي تلك اللحظة التي يبدأ فيها الضوء عن إعلان خفوته، وهي اللحظة التي تكون فيها الصور ضبابية، وهي أيضا اللحظة التي يبدأ فيها فعل الحكي والسرد، فنحن ندرك جيدا علاقة التخريف بالظلام، فالزمن وهو الغروب يتجاوز ماهيته الزمنية المحضة، ليتحول في رواية "صياد الغروب" إلى لحظة للسرد والتفكر والتعقل.