بعد هذه الأعوام الطويلة والثقيلة عرفتُ ما يكفي عن طبائع البشر ولكني مع ذلك توقَّفتُ مندهشاً كما توقَّفُ العديدون غيري , بعد رحيل الشاعر العراقي سركون بولص , أمام هذا السيل الهادر من المراثي والمآتم واللطميّات الثقافية !
وصار مألوفاً تماماً هذه الأيام أن تجد كلَّ فاشلٍ من الشعراء والكُتّاب وهو يتأبَّطُ ديواناً لهذا الشاعر متباهياً بهِ.
وأحدُ الكُتّاب فاخَرَ قبلَ أيامٍ بنفاد دواوين سركون بولص من الأسواق !
لقد حوَّلوا هذا الشاعر , وهو أبسط من هذا بكثيرٍ , الى كائنٍ مهرجانيٍّ لا يُشَقُّ لهُ غُبار !
كائنٍ مهرجانيٍّ يتبادلون على جثمانهِ الأنخاب حيث الكلُّ يدَّعي صداقتَهُ , ولكي يثبتَ لك ذلك فإنه ينسى ( حزنَهُ وحِدادَهُ ) على رحيل الشاعر فيُظهِر لك بفرحٍ وزهوٍ صُوَراً فوتوغرافيةً التَقَطَها مع الشاعر الراحل كأعزِّ ما يمكن أن يقدِّمَهُ للتأريخ وللقُرّاء بعد أن عَجَزَ عن كسبِ إعجابِ القُرّاء واعترافهم به من خلال ما يَكتبُ فهنا ليس الفتى مَن قال إني انا , بل الفتى مَن قال إني صديق الراحل !
وهذه الورطة هي بحدِّ ذاتها سورياليةٌ جسَّدوها على أرض الواقع ولم يجسِّدوها , رغم رخاوتها , في كتاباتهم , فالمكالمات الهاتفية واللقاءات والبرقيات والفاكسات والنواح الإليكتروني , كلُّ هذا لم يترك لك مجالاً لمعرفة شيءٍ من شيء والجميعُ يُعرب عن عميق خسارتهِ مستعيداً بكلِّ أسفٍ ذكرياتهِ الحنون مع الشاعر الراحل , كلُّ هذا والشاعر سركون بولص يحتضرُ ولم يمتْ بعد !!
أمّا وقد مات بالفعل فَعَليَّ أنْ أشيرَ الى أنَّ هناك حقاً أصدقاء لهذا الشاعر قد حزنوا بصدق وتألَّموا في وحدتهم لأنهم كانوا يفهمون هذا المبدع ويقدِّرون إبداعهُ وسموَّ روحهِ إلاَّ أنهم قِلةٌ وعليَّ أن أشير كذلك الى أنَّ الغالبية , وهي هذه الطفيليات التي تعتاش على أوجاع الضحايا الأنقياء , هي ما دعاني الى كتابة هذه السطور وقد ذكرتُ في رسالة إيميل الى الروائي العراقي المبدع حمزة الحسن قائلاً : ( إنَّ مقالك الأخير حول هذه المأساة قد أغناني عن الكتابة كما أغنى الكثيرين ) . إلاّ أني وجدتُ أنَّ هناك أموراً أخرى تضغط باتجاه المزيد من التعبير علماً أن الروائي حمزة الحسن حسب علمي هو الوحيد - لحدِّ الآن - الذي انبرى ليقول ما هو مختلِف , ليكتبَ مُنَدِّداً بسلوكيات هذه الجوقة من الإنتهازيين بشجاعة وألمٍ (*) وذلك في مقالهِ الأخير المنشور في موقع آرام تحت عنوان ( شاعرٌ ميِّتٌ يحمل جنازةَ مُشَيِّعيهِ ) وقد قرأتُهُ بحرصٍ فما كان مني إلاّ أن أرسلتُ إيميلاً الى كاتب المقال عبَّرتُ فيه عن تقديري لمقالهِ فأجاب في رسالةٍ طارحاً فيها سؤالاً محزناً مرتاباً : مَن سيكون الجثةَ القادمة ؟
وممّا جاء في مقالتهِ , بعد أن استثنى أصدقاءَ الشاعر الحقيقيين : ( سركون بولص المنعزل المبدع الخجول , الشاعر الحقيقي يفضح في موتهِ كما في حياتهِ مأدبةَ ذئابٍ تعيش على الجيَف وعلى ألمِ الناس وعلى الشرفات العالية , لأنَّ المزابل تريد الظهور في مأتم الشرفات للتعريف بنفسِها لا بالميت . ) وأمّا عن حزنهِ هو فيقول :
( خجلتُ أن أشارك في محفل الزور وفضَّلتُ الحزنَ الخاص على ضوء شمعةٍ عائلية . ) ثم يُنهي مقالَهُ بهذا التعبير المؤثِّر شديدِ الإيحاء : ( حملَ سركون بولص على ظهرهِ جثةَ مُشيِّعيه الى المقبرة وعاد وحيداً كما كان . ) ومن هذا التعبير صغتُ عنوانَ مقالي هنا .
ومن ناحيتي فقد قلتُ لأحد الأصدقاء : حقيقةً كنتُ أعرف عن الشاعر سركون بولص ما يكفي لأخذِ تصوُّرٍ وافٍ عن حياتهِ وطبيعة قصائدهِ ولكني الآن أمام ألفِ سركون بولص ! فَمَن المسؤول عن هذا التناقض وهذا الإدِّعاء ؟ وهل هذا الإهتمام لا يحدث إلاّ بعد الموت ؟ فأجاب بمزاحٍ وألمٍ : مُتْ وسأكتب عنك أروع مرثيةٍ !
وأتذكّرُ هنا لقطةً من مسرحية ( كأسك ياوطن ) حيث أنَّ أحد المرضى يصرخ من شِدة الألم الذي يُحْدِثهُ الداءُ بينما مُحقِّقو المخابرات يضربونه في نفس الوقت – وهو البريء من أية تهمةٍ - لإنتزاع اعترافاتهِ !
ذكرتُ هذا لأنَّ من زائريْ الشاعر سركون بولص في المستشفى جماعة أحضرتْ كاميراتها معها لإلتقاط الصور التذكارية مع الشاعر فيما الشاعر يتألَّم ويصرخ على فراش الموت !
والطريف أنَّ الكثيرين في نَعيِهِم الشاعرَ يقتبسون من أشعاره أضعفَ مفاصلها واذا اقتبسوا ما هو جميلٌ من شعرهِ فإنهم في الغالب يقتلونهُ بتعليقهم عليهِ وتأويلهم له وذلك بأخذِهِ الى مساراتٍ لا يعنيها الشاعرُ أبداً !
هؤلاء ( الحزانى ) على رحيل المبدع سركون بولص أرى لسانَ حالِ لا شعورِهِم يقول بما لا يقبل اللَّبْس : حسناً فعلتَ أيّها الشاعر بأنْ متَّ فأنقذتَنا من شعورنا بالفشل وإنْ كان لقليلٍ من الوقت , ولو نفعتْ الأماني لتمنَّينا أن تموت كلَّ يومٍ !
قُطِعَتْ يدُ أحدِ المقاتِلين المسلمين في إحدى معارك العرب مع الروم فجاءَهُ نفرٌ من أصحابهِ يعودونه الى بيتهِ ويعزّونهُ فقالوا له : لا عليك , فإنك لو علِمْتَ ما يُخبِّيءُ لك الله يوم القيامة من أجرٍ وثوابٍ لتمنَّيتَ لو أنَّ الله لم يكتفِ بقطعِ يدك فقط وإنما ستتمنّى لو أنه قطعَ يديك ورجليك ودَقَّ عنقَك !!
-------
(*) صوَّبَ رأيي الأستاذ حمزة الحسن لاحقاً بالقول أنَّ هناك مقالاً آخر في موقع – كلام - للناقد ماجد السامرائي بعنوان : أولئك الذين حاربوا سركون بولص في الوطن والمنفى .
***************************************
كولونيا – تشرين الثاني – 2007
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ومن ناحيتي فقد قلتُ لأحد الأصدقاء : حقيقةً كنتُ أعرف عن الشاعر سركون بولص ما يكفي لأخذِ تصوُّرٍ وافٍ عن حياتهِ وطبيعة قصائدهِ ولكني الآن أمام ألفِ سركون بولص ! فَمَن المسؤول عن هذا التناقض وهذا الإدِّعاء ؟ وهل هذا الإهتمام لا يحدث إلاّ بعد الموت ؟ فأجاب بمزاحٍ وألمٍ : مُتْ وسأكتب عنك أروع مرثيةٍ !
وأتذكّرُ هنا لقطةً من مسرحية ( كأسك ياوطن ) حيث أنَّ أحد المرضى يصرخ من شِدة الألم الذي يُحْدِثهُ الداءُ بينما مُحقِّقو المخابرات يضربونه في نفس الوقت – وهو البريء من أية تهمةٍ - لإنتزاع اعترافاتهِ !
ذكرتُ هذا لأنَّ من زائريْ الشاعر سركون بولص في المستشفى جماعة أحضرتْ كاميراتها معها لإلتقاط الصور التذكارية مع الشاعر فيما الشاعر يتألَّم ويصرخ على فراش الموت !
والطريف أنَّ الكثيرين في نَعيِهِم الشاعرَ يقتبسون من أشعاره أضعفَ مفاصلها واذا اقتبسوا ما هو جميلٌ من شعرهِ فإنهم في الغالب يقتلونهُ بتعليقهم عليهِ وتأويلهم له وذلك بأخذِهِ الى مساراتٍ لا يعنيها الشاعرُ أبداً !
هؤلاء ( الحزانى ) على رحيل المبدع سركون بولص أرى لسانَ حالِ لا شعورِهِم يقول بما لا يقبل اللَّبْس : حسناً فعلتَ أيّها الشاعر بأنْ متَّ فأنقذتَنا من شعورنا بالفشل وإنْ كان لقليلٍ من الوقت , ولو نفعتْ الأماني لتمنَّينا أن تموت كلَّ يومٍ !
قُطِعَتْ يدُ أحدِ المقاتِلين المسلمين في إحدى معارك العرب مع الروم فجاءَهُ نفرٌ من أصحابهِ يعودونه الى بيتهِ ويعزّونهُ فقالوا له : لا عليك , فإنك لو علِمْتَ ما يُخبِّيءُ لك الله يوم القيامة من أجرٍ وثوابٍ لتمنَّيتَ لو أنَّ الله لم يكتفِ بقطعِ يدك فقط وإنما ستتمنّى لو أنه قطعَ يديك ورجليك ودَقَّ عنقَك !!
-------
(*) صوَّبَ رأيي الأستاذ حمزة الحسن لاحقاً بالقول أنَّ هناك مقالاً آخر في موقع – كلام - للناقد ماجد السامرائي بعنوان : أولئك الذين حاربوا سركون بولص في الوطن والمنفى .
***************************************
كولونيا – تشرين الثاني – 2007
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.