رحل, إذن, عبدالرحمن منيف, لكنه لن يغيب.. سوف يبقى طويلا في ضمير أمته: مناضلا خاض في العمل السياسي, علنا وسرا , من أول الشباب كانت فترة عاصفة, حبلى بكل الاحتمالات: بطش وقمع من ناحية, واشتداد حركات المعارضة الراديكالية من الناحية الاخرى, ولم يكن لكل الحالمين بمستقبل أفضل سوى أن يحددوا مواقعهم وينغمسوا في النضال, وهكذا فعل عبدالرحمن منذ قدومه من عمان الى بغداد نهاية الاربعينيات حتى أبعدته حكومة نوري السعيد منتصف الخمسينيات ليتابع النضال من مواقع أخرى. في 1958 سافر لاستكمال دراسته في جامعة بلغراد, وفي 1961 حصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية (كان موضوع رسالته «اقتصاديات النفط- الاسعار والأسواق»), ثم عاد ليعمل في صناعة النفط في سوريا, وفي 1973 غادرها الى بيروت للعمل بالصحافة, وفي 1975رجع الى بغداد حيث أصدر مجلة متخصصة هي «النفط والتنمية», وفي 1981 خرج من بغداد ثانية الى باريس حيث تفرغ للكتابة, وفي 1986 رجع الى دمشق التي ق در لها أن تكون منفاه الأخير.
ورغم صعوبة معرفة التفاصيل حول ممارسته العمل السياسي والحزبي حتى منتصف الستينيات على وجه التقريب, حين توقف عنها, فقد قمت بتحقيق صغير مع من يمكن أن يكون لهم قدر من المعرفة بهذه الممارسة, واستطعت أن أصل لبعض ملامح الصورة: كان منيف مثالا «للكادر» الحزبي الملتزم والمنضبط (يرتفع صوته بالجدل والنقاش في الاجتماعات الحزبية ويلتزم الصمت خارجها), وكان ينحاز دائما الى جانب المواقف والأفكار الأكثر جذرية وراديكالية داخل التنظيم وخارجه, كما كان مثالا للتعفف والنأي عن السعي لتحقيق أهداف او مطالب خاصة, ومن ثم لقي الاحترام من المخالفين له والمتفقين معه على السواء, وكان قارئا نهما ومثقفا عارفا بالتاريخ والتراث. وثمة تفاصيل كثيرة في هذا السياق تتردد فيها أسماء «الجناح اليساري» أو «جماعة الدكاترة» في البعث السوري. والموقف من الانفصال, ومؤتمر حمص في 1963. المهم هنا ان عبدالرحمن أسقطت عنه جنسيته (السعودية) بعد هذا المؤتمر, فعاش حياة المنفى حتى الرمق الأخير.
ليس في حياة عبدالرحمن منيف, إذن, ما يخفض جبينه الشامخ, لم يقف يوما في ظل حاكم أو نظام, وقد كان الحكام- في اكثر من بلد عربي, وفي ظل أكثر من فترة في هذا الزمان العربي المضطرب- رفاقا له او مريدين, يتمنى كل منهم أن يجتذبه لجانبه, لكنه عف عنهم جميعا , وعاش حياته فقيرا أو كالفقير, لكنه متشح بالنبل, مزدان بالكبرياء, لهذا قلت انه سوف يبقى في ضمير أمته مناضلا .
وسوف يبقى في وجدان أمته مبدعا عظيما كذلك. قال- أكثر من مرة- انه رأى الاستغراق في العمل السياسي «خدعة كبيرة.
كان الواحد منا يتصور أن المؤسسة السياسية يمكن أن تكون أمينة في قناعاتها ومقولاتها السياسية, ومن خلال التجربة رأينا ان هناك فارقا كبيرا بين الافكار التي كان يؤمن بها ويدعو لها, والممارسات الفعلية في الواقع...», ومن ثم كان لابد من البحث عن أشكال أخرى لمواجهة الواقع وتغييره, ووجد منيف في فن الرواية: أداة تعبير وتغيير, أداة جميلة للمعرفة والمتعة.
صدرت روايته الأولى «الأشجار واغتيال مرزوق» وهو في الأربعين, ورحل وهو في السبعين, لكنه كان قد أصبح أهم روائي عربي معاصر. قلت وأعيد: ان شروطا موضوعية وذاتية قد تحالفت لتجعل منه «المواطن العربي» بامتياز. وأضيف: إنه استطاع- ببذل الجهد, والكدح, والعكوف على العمل رغم مشقة الحياة وتغير المنافي- أن يجعل من نفسه «الروائي العربي» بامتياز كذلك.
بعد «الأشجار..» تتابعت الأعمال: «قصة حب مجوسية, 1974», «شرق المتوسط, 1975», «حين تركنا الجسر, 1976»/ «النهايات, 1977», «سباق المسافات الطويلة, 1979» (بين قوسين: «عالم بلا خرائط»- مع جبرا ابراهيم جبرا, 1982). وكان عقد الثمانينيات هو عقد «مدن الملح»: صدر جزؤها الأول «التيه» في 1984, والثاني «الأخدود» في 1985, والثلاثة الباقيات «تقاسيم الليل والنهار» و»المنبت» و»بادية الظلمات» في 1989. ثم عاد الى «شرق المتوسط» ليكتب «الآن هنا, أو شرق المتوسط مرة أخرى» في 1992, وأخيرا ثلاثية «أرض السواد» في 2000.
فلنلق نظرة طائر الى عالمه, وأرجو الا أثقل أو أطيل.
على خلاف كثير من الروايات الاولى, جاءت «الأشجار..» صلبة متماسكة, خالية من التزيد والترهل, وراء كل التفاصيل المختارة بعناية والمبذولة بسخاء, تبقى رواية شخصيتين, التقيتا مصادفة في قطار يقطع أرضا عربية لا ي سميها (ولم ي سم بعدها أرضا أخرى, فلا أهمية عنده للاسم, طالما بقي الاختلاف بين أرض عربية وأخرى خلافا في الدرجة لا في النوع), مع الحديث ورشفات العرق يتقارب الرجلان, يتشاركان الطعام والشراب والحديث وخبرات الحياة.
إلياس نخلة هو «الرجل الصغير», ابن بيئته وزمانه ومكانه, ومكانه هو تلك القرية التي تقع على أطراف المدينة والبادية: «الطيبة» (منها سيخرج أبطال أعمال تالية), إنه يرى نفسه منحوسا تطارده اللعنة, ولعنته انه قامر بما لا يملك, قامر بالأشجار التي لا يملكها أحد, تقلب في مهن عديدة وها هو الآن يعمل بتهريب الملابس عبر الحدود, لكنه يبقى متمسكا بالحلم. يقول لصاحبه وقد تدفأ وانتشى: «لولا الحلم لما تمكنت من الحياة لحظة واحدة»!
في مواجهته كان منصور عبدالسلام: الظهور الأول للمثقف صاحب الماضي السياسي المثقل بالنضال والسجن والملاحقة ثم الطرد من العمل, وها هو يركب القطار المتجه الى الجنوب كي يعبر الحدود ويعمل مترجما لبعثة آثار فرنسية. بعد أن تركه إلياس انفتح أمامه باب الحديث عن نفسه, الى نفسه وإلينا, لكن الروائي يحذرنا: «لا تصدقوا ما يقوله, لأن الهلوسات تختلط بالوقائع الصغيرة, بالاحلام, وأحيانا بالأكاذيب..», ولهذا السبب عليك بعد أن تفرغ من سماع حديثه وقراءة يومياته ومعرفة ما انتهى إليه, أن تعيد بناء التفاصيل وتجعل لها الاتساق الضروري. اذا كانت لعنة إلياس هي الأشجار, جاز أن نقول ان لعنة منصور كانت التاريخ. نعم. التاريخ الذي درسه وي درسه. ولكن: أي تاريخ؟ لنكتف بنص واحد: «قطعا لن يكون تاريخ الملوك والسماسرة والقوادين الذين يشبهون الديوك. سيكون تاريخ الناس الذين مروا دون أن يتذكر أسماءهم كتاب او قطعة من الرخام, سيكون تاريخ الأحداث التي غيرت الحياة دون أن تكتشف..». ولأنه يعمل ويقيم في احدى المدن «شرق المتوسط» (القرائن والشواهد والأمثلة تحددها أكثر) فقد كان من الطبيعي أن يتم استدعاؤه ومساءلت ه والتحقيق معه, ثم تسريحه من عمله في الجامعة. تبط ل منصور وجاع وتشرد واستدان وأدمن العرق والطواف على مكاتب المسؤولين لعلهم يوافقون على أن يعمل أو يسافر وبعد ثلاث سنوات تجر ع فيها المهانات الكبيرة والصغيرة منحوه جواز سفر وسمحوا له بالخروج. إن شخصية منصور تتكامل من خلال مستدعياته المنتقاة بحساسية وحرص: السنوات التي قضاها في التجنيد وعجزه عن فهم الهزيمة. كان يقول لطلابه: «لماذا ه زمنا أول مرة وكانت لدينا جيوش وكانوا, هم, عصابات؟ ولماذا هزمنا للمرة الثانية وكانت لدينا جيوش وعصابات وليس لديهم إلا الجيوش؟..), أضف لذلك خيباته الشخصية المتتالية خاصة مع الاوروبية التي دامت علاقته بها طوال فترة دراسته في بلادها, ثم لم يجرؤ على أن يعود بها الى بلاده, ورفض ان يبقى معها في بلادها.
أليس معقولا أن يطلق منصور الرصاص على صورته في المرآة, ثم ي حمل الى مستشفى الأمراض العقلية؟
وهل كان مصيره أفضل من مصير «رجب اسماعيل» بطل «شرق المتوسط»؟ اذا كانت هذيانات منصور واختلاط أفكاره قد يجعل من العسير وصول رسالته بالوضوح الكافي, خاصة ما يتعلق برمزه الرئيس: «مرزوق» الذي اغتاله الطغاة لكنه واثق انه سينهض, فان «رجب» يكتب أفكاره وعناءه بوضوح ناصع: واحد من غمار الناس, غاص في العمل السياسي السر ي وهو طالب, ما ان تخرج حتى قبضوا عليه, وحكموا عليه باحدى عشرة سنة. في سجنه لقي كل ألوان التعذيب كي يعترف, لكنه احتمل أقساها دون كلمة واحدة, وبعد خمس سنوات دب ت إليه الرغبة في الخروج مثل دبيب الملال: داهمه «روماتيزم الدم», وماتت أمه التي كانت تعينه على الصمود, وضاعت حبيبته, و»أنيسة»: أخته الكبرى وحاضنته لا تكف عن إغرائه بنقل صور الحياة في الخارج. وق ع رجب على الورقة التي طلبوا منه التوقيع عليها, ثم خرج.
وبناء الرواية بسيط متقشف: ستة فصول متتالية, تروي أنيسة فصلا ويروي هو التالي. لقد خرج رجب للعلاج (لم يسمحوا له بالخروج إلا بشرط التعاون معهم), ومع الطبيب الفرنسي العجوز أيقن رجب معنى النضال. كان الطبيب مناضلا قديما , شارك في مقاومة النازيين وفقد عائلته كلها. قال له: «أريدك أن تكون حاقدا وأنت تحارب.. اذا استسلمت للحزن فسوف ت هزم وتنتهي, سوف ت هزم كانسان وتنتهي كقضية...). لاحت فرصة لرجب كي يستعيد براءته الضائعة ويتطهر: لابد من فضح ما يحدث في هذه البلاد المرمية شرق المتوسط, وقرر أن يتخذ هذا الفضح شكلين: أن يكتب رواية, يقول عنها: «أريدها أن تكون جديدة في كل شيء, أن يكتبها أكثر من واحد وفيها أكثر من مستوى..», الشكل الثاني هو السفر الى الصليب الأحمر في جنيف وتقديم مذكرة أو لوحة عن العذاب اللا إنساني الذي يلقاه المسجونون السياسيون في الوطن. كتب رجب أوراقا كثيرة (توحي لنا أنيسة انها هذه الرواية), أما بعد أن تلقى رسالة من صديق بأن زوج أخته قد اعتقل بدله, قرر أن يعود, أرسل التقرير الى جنيف ثم عاد.
ماذا تتوقع؟. كانوا بانتظاره. أعادوه بعد ثلاثة أسابيع مهدما أعمى, وبعدها بثلاثة أيام مات رجب. والآن؟ تروي أنيسة: في الاسبوع الثاني لموت رجب اخذوا زوجها ولا يزال وراء الجدران, وتروي أيضا أنها شهدت ابنها الصبي يجمع الزجاجات الفارغة في البيت, وعجبت حين رأته يملأها بالزيت والبنزين ثم زال عجبها حين قال لها: اريد أن أهدم السجن وأخرج أبي!
هل كان رجب هو من يتمنى كتابة الرواية أم صاحبه وخالقه؟ على أي حال رجع منيف ليكتب «شرق المتوسط مرة أخرى». صدرت الرواية الأولى في 5791, آنذاك: كان الحزب الذي تركه منيف يحكم في أكثر من بلد عربي, فهل ثمة سبيل للتشكيك في أهمية شهادته؟ ألم ينجز وعده بأن تصبح الرواية «أداة» من أدوات النضال؟
ثمة ما يجمع بين «حين تركنا الجسر» و»النهايات». البطل في كل من الروايتين صياد, ولابد لكل صياد من كلب. أما بعد ذلك فما أشد الاختلاف بين «زكي نداوي» بطل الأولى, «وعساف» بطل الثانية. «النهايات» رواية البادية بامتياز, شهادة بدوي يعرف الصحراء والمواسم, والخصب والمطر, والقحط والجفاف, والحيوان والطير, يتشمم رائحة الغيم ويعرف نذر العاصفة, ثم هو نموذج الصياد, هو أعرف أهل «الطيبة» بمواسم الصيد وأماكنه وطرائقه ووسائله, لكن الأهم انه يعرف وظيفته ودوره في الابقاء على حياة الجماعة حين يتهددها القحط والجوع. ومرة واحدة انفجر في وجوه أهل الطيبة وقال لهم ما كان يجب أن يقال. قال: «لم يخلق الصيد للأغنياء الذين يقتلهم الزهق والشبع, لقد خلق للفقراء, الذين لا يملكون خبز يومهم..», غير أن كلماته, غاضبة الصدق, لم تثن سامعيها عن التلهي بالصيد, وحين جاء بعض ابناء الطيبة من العاملين في المدينة وبعض اصحابهم, خجل عساف أن يرفض طلبهم بالخروج معهم, فخرج معهم ليموت دونهم!
أما السهرة التي قضاها أهل الطيبة وجثة عساف مسجاة بينهم, فقد جاءت حكاياتها كلها تنويعات وتفريعات عن العلاقة بين الانسان والحيوان والطير, وعلى لحن النهاية, نهاية البشر والحيوانات والأشجار, ولأن عساف كان الفرد الذي تمث ل اصفى قيم الجماعة, وتقدم ليفديها ساعة الخطر, فقد خرجت الطيبة كلها لوداعه حتى النساء. ليس هذا فقط, بل إن موت عساف جاء انبثاقا لصحوة أهل الطيبة, ولأن يتكاتفوا ليفعلوا شيئا بدل انتظار الموت.
وسوف نلتقي بأشباه ونظائر لعساف في أعمال منيف التالية.
أما «حين تركنا الجسر» فلعل ها أكثر أعماله استعصاء. لا شيء سوى مونولوج طويل في اكثر من مائتي صفحة, يتحدث فيه زكي نداوي الى نفسه أو الى كلبه, ونحن نصحبهما في الغابة. وفي الغابة كل ما يمكن أن تزخر به من أدغال وأحراش ومستنقعات وسب حات وأشجار ونهر وجسر, وفي سمائها كل أنواع الطيور: السنونو والقطا والترغل وديوك السمن والحبارى والبط والزرازير ودجاج الأرض وسواها. ونحن نصحبهما عبر تغير الفصول والأجواء: في الريح والثلج والمطر وصحو السماء وتلبدها وسطوع القمر وغيابه. وما يشغل زكي أكثر من سواه أن يصيد تلك البطة الخرافية التي يسميها «الملكة». وحين صادها أخيرا وخاض الأوحال والمستنقعات ليلتقطها عن له أن ينظر إليها. وكانت خيبة أمل كاملة الشروط. يقول: «رفعت ها باجلال نحو القمر, ولأول مرة رأيتها.. كانت أقبح بومة تراها العين.. كانت باردة وميتة..».
لم تكن هذه غير هزيمة طازجة, أو هي بعث وتجديد للهزيمة القديمة. «حين تركنا الجسر» كلها تهدف الى خلق عالم مواز للهزيمة, محوره الجسر: بناه الرجال ثم لم يعبروه ولا هم نسفوه وراءهم. والبطل يحمل وق ر هذه الهزيمة من البداية, وهو أيضا يحمل الاحتقار لنفسه لأنه مهزوم. وسط سيل مستدعياته وهذره وملاحاته مع كلبه علينا أن نتلمس عناصر الهزيمة. انها تأتي متباعدة مثل نقاط صلبة وسط تيار دافق. هذه واحدة, يقول: «قالوا لنا بقسوة أقرب الى السب ى: تسمروا ولا تتحركوا.. التقدم ممنوع حتى تأتي الأوامر.. ولم تأت الأوامر(ص125-126). وهذه أخرى لعلها أكثر وضوحا : «يجب أن تعرف كيف حصلت الهزيمة.. كان الوقت عصرا .. مرت سيارة الضابط بسرعة بعد أن انقطعت عنا الأخبار أربعة أيام.. دون أية مقدمات قال الضابط: انسحبوا.. سيكون الانسحاب غير منظم.. وعلى كل واحد أن يدبر نفسه..».(ص174)
تلك النقاط القليلة الصلبة المتباعدة تضيء ما قبلها وما بعدها, وتفسر الشعور الفادح بالذنب واحتقار الذات عند البطل, وتفسر كذلك النهاية التي ينتهي اليها العمل. مرة ثانية: من الموت تنبثق صحوة. بعد موت الشاهد الوحيد على كل ما قال زكي, اتخذ قرارا ولم ينسه صباح اليوم التالي: قبل أن تغيب شمس اليوم التالي كنت قد ضعت في زحام البشر.. تأكدت أن جميع الرجال يعرفون شيئا كثيرا عن الجسر.. وأنهم ينتظرون.. ينتظرون ليفعلوا شيئا ..».
لعلهم ما زالوا ينتظرون!
«قصة حب مجوسية» هي نزوة عبدالرحمن منيف الأوروبية. عمل لا يشبه عملا آخر في ابداعه, لعلها بقية متلكئة عن ايام دراسته واقامته في أوروبا. قصة حب يرويها صاحبها وهو ممتلئ بالتحدي لسامعيه واللامبالاة بعدم تصديقهم لما يروي. لماذا يرويها إذن؟ يقول: «إن الكنيسة الكاثوليكية, رحيمة القلب, جعلت للانسان طريقا للخلاص عندما كلفت الآباء المقدسين بتلقي الاعتراف, كما ان علم النفس المعاصر بالضوء الخافت في غرفة الطبيب, والمقعد الوثير الذي يستلقي عليه المريض, أوجد طريقا لإذابة العذاب تمهيدا للشفاء..». إذا لم تكن من هؤلاء ولا من أولئك , فاذا يمكنك سوى ان تستمع؟... الراوي في مدينة اوروبية يتابع دراسته ويعرف من نسائها عددا لا بأس به, وفي منتجع جبلي مطل على البحيرة يقع في هوى امرأة ما أن تلتقي عيناه بعينيها: «آه! ما أشد رعب العيون التي أراها, وما أشد فتنتها! كانت تقول لي بهمس: ايها الغريب الذي لا مأوى له, مأواك في عيني ... الخ» وتصبح «ليليان» - عرف اسمها حين ناداها زوجها وهما على مقربة- هوسه الدائم, في صحوه ونومه, ويشتد هذا الهوس حين يرجعون الى المدينة, فيلوذ باحثا عنها في الشوارع والمقاهي والمسارح ودور السينما والباصات والترامات, يراها مرتين, وفي كل مرة يستحيل اللقاء, ويتدخل هذا الهوس في افساد علاقاته بالأخريات, وبعد أن يئس تماما من اللقاء يراها في محطة القطار, وهو محاط بأصدقاء وصديقات جاءوا يودعونه بعد أن أنهى دراسته واقامته في المدينة,ورغم ج مل الحوار القليلة التي يتبادلانها إلا أنه كان لقاء مستحيلا كذلك!
لسنا من الآباء المقدسين ولا من أطباء النفس, لكننا نعرف ان هذا النوع من الحب يمكن أن يقع, هنا يكون الحب- بتعبير جارودي- «صوتا ملحاحا كأنه يأتي من وراء الغيب». وأسبابه كامنة عند أصحابه, قد تشق معرفتها عليهم وعلى سواهم. وبحذق واضح ي فسد الراوي أية تفسيرات محتملة, فيتطوع بتقديمها ويسخر منها خاصة من يقول انه يلتمس حنان امرأة لأن أمه ماتت وهو صغير, لكنه يغفل عن مفتاح ملائم لتفسير آخر: انه يقول أكثر من مرة انه لا يشتهيها, ويفزع إن راوده هذا الخاطر!
ولماذا هي مجوسية؟ ذلك يعني انها صابئة, كافرة, مهرطقة, متحدية للسماء والأرض. هذا راويها يتحدث الى آباء الكنيسة: «أنتم أيها الأساقفة, يجب أن تتسامحوا, لأني مسيح مجوسي يحترق آلاف المرات كل ثانية..», ويناجي ليليان: «ليليان.. دعيني أقول شيئا مجوسيا .. النار التي اشتعلت في قلبي يوما لن تنطفئ..»!
قطعة من القص العاطفي الغنائي اللاهث, يلقيها إلينا راو لا نعرف اسمه ولا هويته, وقد لا نستطيع ان نتعاطف مع احتراقه في هذا الأتون!
قلت إن «مدن الملح» كانت رواية عقد الثمانينيات, لكن, «سباق لمسافات الطويلة» كانت التمهيد الضروري لها.
هي متفردة من حيث انها ذات مضمون سياسي, تدور أحداثها في هاتين السنتين المهمتين في تاريخ ايران الحديث: 1951- 1953, أي منذ قيام رئيس الوزراء, الدكتور محمد مصدق, بتأميم صناعة النفط الذي كانت تسيطر عليه شركة «انجلو- ايرانية» تملكها انجلترا, حتى سقوطه. كان مصدق على رأس تحالف «الجبهة الوطنية», لكن كان تحالفا هشا أكثر منه حزبا صلبا ومتماسكا . وكان عليه ان يواجه الشاه, ومن ورائه أمريكا, اضافة لانجلترا بحكم مصالحها المباشرة, ونشب الصراع الذي دام حوالي العامين وانتهى باسقاط مصدق في اغسطس 1953, ومن المؤكد الآن - كما أثبت كتاب كثيرون- أن المخابرات المركزية الامريكية لعبت الدور الاساسي في الاعداد للانقلاب الذي أسقط مصدق, ومن المؤكد كذلك ان المخابرات الانجليزية لم تكن غائبة عما يحدث أو بعيدة عنه, ومن المؤكد أخيرا , أن الامريكيين هم الذين فازوا في «سباق المسافات الطويلة».
أقول إنها متفردة لأنك لن تجد تحديدا دقيقا لأسماء الاعلام او الاماكن. ان اسم «مصدق» لا يرد أبدا في طول الرواية, بل يتم الحديث عنه بوصف «العجوز», ولن تجد اسم طهران رغم انك ترى شوارعها وتمشي في أسواقها وتشم روائحها وتشهد حشودها المتظاهرة صباح مساء, والحديث دائما يدور عن «الشرق» و»الشرقيين», وأقسام الرواية تتصدرها كلمات «لورانس» و»تشرشل», والبطل, الراوي, الشخصية الرئيسة في العمل هو بيتر ماكدونالد, الموظف في شركة النفط, ومن سيصبح مسؤول المخابرات الانجليزية في خضم هذه الاحداث.
وقلب الرواية صراع أساسي, لنقل: تسابق الى احراز الانتصار بين قوتين كبيرتين: انجلترا, بعلاقاتها السابقة بالمنطقة كلها كدولة مستعمرة, وامبراطورية لا تغرب عنها الشمس, وامريكا: الأكثر قوة وفتوة وقدرة على تحديد أهدافها دون أوهام, والعمل على تحقيقها بكل الوسائل وعلى رأسها الدولار العتيد. وما أكثر ما نطالع آراء الانجليز في حلفائهم- الأدق ان نقول : وارثيهم- وما أقل ما نعرف وجهات نظر الامريكيين لكننا نرى آثار أفعالهم التي يحققون بها النصر في النهاية, عن الامريكيين يقول ماكدونالد لنفسه: انهم حمقى هؤلاء الامريكيون.. مجرد خنازير في رقابهم أطواق من الذهب, لكنهم حلفاؤهم لا مفر فالسباق يدور في وجود الآخرين المتربصين وراء الحدود مباشرة, ولهم تاريخهم ورجالهم هنا, أي الروس. غير ان الحليفين يتفقان في النظرة الى «الشرق»: نظرة متعالية متأففة, من فوق والشرقيون عند الانجليز جاحدون لأفضالهم, وعند الامريكيين متخلفون يجب أن يتعلموا الحضارة, ولو بقوة السلاح!
بأحداثها وشخصياتها تنهي «سباق المسافات...» عهد الاستعمار القديم وعصر الامبراطورية, ليبدأ عصر جديد واستعمار من نوع مختلف. والحفل الباذخ الذي اقامته «شيرين»: المرأة الايرانية الجميلة الذكية الشبقة للمنتصرين, فيه تودع عشيقها القديم قبل عودته لانجلترا, وبه تنتهي الرواية, إنما يعني التأهب لاستقبال السيد الجديد, والارتماء في أحضانه لو كان هذا ضروريا ومفيدا .
وجوه الامتياز عديدة: توسيع أفق الرواية العربية والخروج بها لأرض جديدة, والنجاح في تقديم عالم روائي متكامل, شخوصه وأحداثه وطريقته في القص, يكافئ الواقع القديم ويلتزم محاوره الرئيسة لكنه ينطلق حرا في مساحات كبيرة من الابداع الخالص, ثم الوعي الصحيح وحسن قراءة الواقع السياسي, والارتفاع منه لأفق أرحب هو موقف القوى الاستعمارية في الغرب من الشرق وشعوبه بوجه عام.
وما أكثر ما ك تب, وما سوف يكتب لسنوات طويلة قادمة عن «مدن الملح»: د رة عبدالرحمن منيف الفريدة, واحدة من أهم الروايات المكتوبة بالعربية, إن لم تكن أهمها على الاطلاق. قاربت صفحاتها الألفين والخمسمائة صفحة, وامتدت في الزمان من السنوات الأولى للقرن العشرين حتى منتصف سبعينياته. خل الآن امتداداتها الأكثر عمقا في التراث والمأثور والممارسات والطقوس, تنقلت أحداثها ما بين «موران»- اقرأ: نجد, واقرأ كذلك: الرياض- ووادي العيون وعجرة وحر ان والحويزة والعوالي وعشرات الأماكن, الصغيرة والكبيرة, في الجزيرة العربية. وانطلق أبطالها الى أماكن كثيرة خارجها, الى دمشق وعم ان وبيروت والاسكندرية, الى بادن - بادن وجنيف وباريس ونيويورك وسان فرانسيسكو, وحفلت صفحاتها بقائمة غنية ومنوعة من الشخصيات, بدوا وحضرا , وعربا : شواما ولبنانيين ومصريين, وأجانب أمريكيين وانجليز وسويسريين وألمان. ورغم المساحات المتباينة التي تشغلها الشخصيات في هذه البانوراما الهائلة إلا أنها تتمايز تمايزا تاما , فلا تشتبه واحدة بالأخرى.
حين صدر الجزآن الأولان: «التيه» في 1984 و»الاخدود» في 1985, كان تصوري- الذي أكده الروائي لي ولغيري وأثبته الناشر في نهاية الجزء الثاني- ان الباقي جزء ثالث فقط هو «تقاسيم الليل والنهار». ثم صدرت أجزاء ثلاثة معا في 9891: «تقاسيم الليل والنهار» و»المنبت» و»بادية الظلمات». وفي ظني ان الجزء الاخير هو الذي كان يمكن أن يشكل الجزء الثالث, وعنوانه «تقاسيم الليل والنهار» اكثر انطباقا على مضمونه وصياغته منه على الجزء الثالث من الخماسية الجديدة, ربما أكد هذا الظن عندي ان الجزءين الثالث والرابع يشكلان انطلاقتين من المسار الذي يتخذه العمل, احداهما في الزمان والأخرى في المكان. صحيح انهما مرتبطان بالمشروع الروائي في مجمله, وانهما يضيفان قدرا من الانفساح لعالم هذا المشروع, بتعميق رؤيته الافقية والرأسية, لكن الصحيح كذلك انهما يكتسبان قدرا من الاستقلال النسبي لا يتوفر للأجزاء الثلاثة الأخرى: الأول والثاني والأخير.
هذا المشروع الروائي كله يمكن ايجازه في عبارة واحدة: انه لون من «التاريخ الفني» لظهور النفط في الجزيرة العربية, من ناحية, ثم قيام الدولة وترسيخ قواعدها في هذه المنطقة من العالم, من ناحية ثانية. هنا لن يجدينا أن نصرف النظر عن التزام الروائي بالحقيقة التاريخية المتمثلة في الاشخاص والقوى التي قامت بأهم الأدوار في الحقبة التي يعرض لها, على العكس تماما : إن معرفتنا بهذه الحقيقة سييسر لنا الدخول الى عالم «مدن الملح», وسيتيح لنا ان ننظر للشخصيات الروائية من حيث علاقتها بأصولها الواقعية: كيف استند الروائي الى هذه الصلة, ثم انطلق يعيد صياغتها وخلق شروط وجودها دون ان يمسخ جوهرها التاريخي أو يزي ف دلالاتها.
وهذا لا يعني - بطبيعة الفن الروائي ذاته- أن العمل قد تحول لشفرة ساذجة, تصبح فيها كل شخصية في المشروع الروائي مقابلة لأخرى في التاريخ الواقعي, أو واقفة بديلا عنها, فثمة مساحات واسعة للابداع الخالص, ينطلق فيها خيال الروائي حرا جسورا , يبدع الشخصيات ويقيم بينها العلاقات, ائتلافا واختلافا , ويطلق لها حرية الفعل والقول, يقيده, فقط, التزام عام واحد: ان يبقى صادقا - بالمعنى الفني أولا , ثم التاريخي بعد ذلك- مع شروط المرحلة التي يعرض لها, والقوى الفاعلة فيها, في ذلك المدى الواسع الممتد من مطالع القرن الماضي لمنتصف سبعينياته, ثم ان يبقى على اتساق مع مجمل الرسالة التي يود ان ينقلها لقارئه باكتمال عمله.
بايجاز: ان قارئ العمل كله يفيد كثيرا لو وضع في اعتباره أن «السلطنة الهديبية» انما هي المملكة العربية السعودية» وان «موران» هي نجد وهي «الرياض» ولو رت ب على هذا الفهم ما يمكن أن يترتب عليه.
وبضمير مرتاح يمكن القول ان عبدالرحمن منيف قد حقق مشروعا روائيا بالغ الاهمية والطموح. تنبع أهميته من القضية الأساسية التي يتصدى لها, وهي واحدة من أخطر قضايا الوجود العربي المعاصر: النفط وظهوره في المنطقة العربية, وما أحدثه في الداخل والخارج. وهو: بحكم انه من أهل الجزيرة أولا, ودارس لهذه القضية دراسة علمية متخصصة, ثانيا , ولقدرته الفائقة على الدراسة والعكوف على العمل, ثالثا , هو أقدر روائي عربي على الخوض في هذا «التيه» (أو الغوص في مدن الملح كما كان يحب أن يقول). أما طموح المشروع فيتمثل في انه لم يهدف الى تصوير حاكم باطش وحاشية فاسدة وشعب مقهور, ولم يهدف لكتابة «رواية أجيال» تصور اختلاف وجه الحياة في ملامحه «الثقافية»- بالمعنى الأوسع للكلمة- من جيل لجيل, ولم يهدف لابتعاث صورة قديمة للحياة في تلك البادية المترامية قبل أن تد ب فوقها آلات القادمين وتشق أديمها..
لم يهدف منيف الى شيء من هذا فقط, كان هدفه يشمل هذا كله ويتجاوزه في آن: لا أقل من صورة الحياة كاملة: بأضوائها وظلالها وظلامها, ما يدور منها في العلن وما تخفيه أسوار القصور وأقفاص الصدور. وما أحفل قائمة الشخصيات في عمله: من الرجال والنساء, أهل البلاد والوافدين والأجانب, الأمراء والسوقة, التجار ورجال الدين, حاشية الحاكم, ومناهضي الحاكم, قادة الجند وخدم القصور, السماسرة ورجال الاعمال والأفاقين, العرافين والمنجمين وقارئي الطالع, عشاق المال وعشاق السلطة وعشاق المتعة وعشاق الخيل وعشاق الكلمات وعشاق قولة الحق. وقارئ «مدن الملح» قد لا يستطيع أن يخلص من اثر عدد كبير من هذه الشخصيات, كلها مستديرة, كاملة الوجود, لها حق غير منقوص في ان تحيا غير مختلطة بسواها. لعل أبقاها تلك التي ت عد تجسيدا لثقافة المجتمع القديم, التي تمثلت أصفى قيمه وممارسته في التواؤم مع الطبيعة وحسن استغلال مصادرها, والعيش في ظل العدل والحرية. ان هذه شخصيات تتواتر على طول الملحمة الروائية, تبدأ بمتعب الهذال وم فضي الجدع ان وتنتهي الى شمران العتيبي وصالح الرشدان وشداد المطو ع, وتواصل وجودها- في سياقات متغيرة- في أبناء شمران وع مي ر, وآخرين لا نعرفهم, لكننا نحدس حدسا قويا أنهم موجودون في موران التي تعودت ان تصبر وتنتظر!
تلك كلها شخصيات قوية صلبة, كارهة للظلم والاستبداد, معارضة الحاكم والطغيان, مطالبة بالعدل والحرية. لم ي غرها المال وإن زاد, ولم ترهبها السلطة وإن بطشت, وهم يتحملون- بطبيعة مواقفهم- نصيبا موفورا من هذا البطش: ي سجن مفضى الجدعان ثم ي قتل, وتقطع يد صالح الرشدان ثم ي عدم, أما أبناء رشدان فهم من حبس الى حبس, كذلك ع مي ر: لم يشفع له انه خال أحد الحكام, وبعد أن قضى في السجون معظم سنوات عمره, أعدم أحد أبنائه, لكن ابنه الثاني أطلق النار على الحاكم, ودو ت طلقاته بأصوات كل الفقراء والمقهورين, مسلوبي الحق في الحياة وابداء الرأي في أمور بلادهم, والحصول على نصيب عادل من ثروتها.
وذلك هو الأفق النبيل الذي تتوجه نحوه «مدن الملح».
مستعيرا لسان «رجب اسماعيل» يقول «عادل الخالدي» لصاحبه: «لا يمكن ان نعدم السجون إلا إذا ألغينا حالة الخوف, وهذا لن يكون إلا بالفضح والتحدي.. والخطوة الاولى في هذا السبيل ان نقول الحقيقة..». كان عادل الخالدي يحر ض صاحبه «طالع العريفي» على أن يكتب ما رأى وشهد. من «موران»: عاصمة «مدن الملح» ورمزها واسم الجزء الدال على الكل, جاء طالع ومن «عمورية»: مدينة «عالم بلا خرائط», ورمز المدن العربية دون تخصيص, جاء عادل. وراء كل منهما ماض مثقل, كلاهما خاض تجربة العمل السياسي السر ي, وكلاهما قضى في سجون بلاده أزهى سنوات العمر, خاض فيها أهوالا دونها أهوال الجحيم, وكلاهما أبعدته سلطات بلاده كي يموت بعيدا وقد اصبح حطاما شبه عاجز. التقيا في مستشفى «كارلوف» بمدينة «براغ» يلتمسان الشفاء لعلل الجسد وأوجاع الروح.
بعد أن اقتنع طالع بأهمية أن يثبت شهادته. كتب في صفحتها الأولى: «إن جحيم العذاب الذي قد يلمسه من يقرأ هذه الاوراق.. يجب ألا يخلق الخوف والتردد, بل يجب أن يخلق موقفا معاكسا , أي أن يحفزنا على استثمار هذا الحق وتوجيهه في الاتجاه الصحيح, ليس ضد أفراد, إنما ضد حالة..», بهذا الهدف, إذن, رجع منيف الى «شرق المتوسط»: الرواية والموقع معا , ليكتب «الآن هنا.. أو شرق المتوسط مرة أخرى».
اكثر من خمسمائة صفحة تمتلئ بتفاصيل الهول والعذاب في سجون عمورية وموران, وسط هذا الجحيم الخانق يتألق الصمود الانساني مثل جوهرة تضيء في الظلام, فلا معنى لكل هذا الكم من العذاب دون تألق هذا الصمود, جوهر الإنسان الذي يأبى أن ي سحق: ويظل الكائن الذي حوله الجلادون كتلة شائهة م دماة, مرمية وسط فضلات الجسد, عاجزة عن أن ترفع يدا او تحرك إصبعا , قادرا على الاحتمال ومواصلة الرفض, قادرا على ان يرى نهاية النفق: الموت, في سياق مختلف: هناك لحظات وحالات يصبح الموت فيها شغفا ورغبة. وراء موقفه يقين ثابت بصحة قضيته: إنه يدافع عن قضية عادلة وبسيطة: حقه وحق الآخرين في الحياة والحرية, وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن الحكام والشيوخ الفاسدين, لذا يجب أن يكون الأقوى.
وتطرح الرواية قضية مهمة من قضايا «الآن هنا» هي قضية أولئك المناضلين في المنافي, التي افرزتها العقود الأخيرة بوجه خاص, ففي عالمنا العربي نتيجة الانقلابات المتتالية بين نظم الحكم وجماعاته, عرف الواقع أولئك الذين خرجوا- أو أخرجوا- من بلادهم, وصو رت لهم أوهامهم إمكان مواصلة النضال بعيدا عن مواقعهم وقواعدهم, وعن الأرض التي يتحتم أن يدور فوقها, ومن أجلها, هذا النضال.
وليس وهم النضال في المنفى غير سبب واحد من أسباب انحسار النضال الثوري- لو لم تزعج هذه الكلمة أحدا - وتناثر الحلم شظايا. وتلك هي التيمة المهمة الثالثة في رواية منيف. ولأن هؤلاء جميعا يدفعون الثمن الفادح لنضالهم, فمن الطبيعي ان يتساءلوا عن جدواه, وان تدور النقاشات حوله المرة بعد المرة. ولن يتسع لنا المجال لتفصيل وجهات النظر حول هذه القضية: نكتفي باشارات قليلة: لأن عادل الخالدي هو راوية القسمين الأول والثالث, وهو من يبقى معنا حتى الصفحة الأخيرة, بعد أن ترك له صاحبه أوراقه, ثم أدار وجهه للجدار, ومات, فانه هو الذي يقول بضرورة أن تتغير النظرة الى العمل السياسي, وان يتغير العاملون به أيضا, كيف وفي أي اتجاه؟
قد نجد مؤشرات الاجابة في الحوار الذي يدور بين عادل ومسؤولي التنظيم الذين جاءوا لزيارته فسخر بهم, واستعان عليهم بالساخر الأكبر: لوقيانوس. يقول عادل ان لديه ثوابت ثلاثة أساسية: الديمقراطية حقا , ايمانا وممارسة, للجميع وبالمستوى نفسه. ثانيا: سيادة مفهوم النقد, لا بمعنى حريتي في شتم الآخرين, انما مدى مسؤوليتي عن الاخطاء التي حصلت, ولماذا حصلت, وكيف يمكن تجاوزها في المستقبل. عن الثابت الثالث يقول عادل الخالدي: «إنني مع الحزب وضد الكتل, مع الديمقراطية وضد الحقوق المكتسبة والإرث التاريخي, مع النزاهة والاستقامة وضد الشطارة والتلفيق, مع المنطق وضد الارهاب والتشهير.. مع الانسان وضد الغول والبهلوان والصنم..».
وفي كل الأحوال, فان البدء بخصوصية الواقع لا عمومية التصورات والأفكار, والارتباط الحميم بالناس لا النزول اليهم, وممارسة الديمقراطية وإعمال النقد: نقد الذات والآخرين, هي جميعا ما يمكن أن تكون سبل التجاوز, وهذا ما يهب المعنى لكل نضالات المناضلين, من قضى نحبه ومن ينتظر, ولكل ما لقوا من أهوال, وما اصاب الأجساد والأرواح من وهن وجراح.
في ضوء هذا العمل الكبير تبدو «شرق المتوسط 5791» تخطيطا أوليا , لقد وسع منيف من آفاقه, وغاص عميقا في أغواره, وارتفع بقضية النضال السياسي الى مستوياتها الانسانية الشاملة, كما ارتفع بأدب السجون العربية الى ذروة لم يبلغها فيما أعرف من هذا الأدب.
«أرض السواد» هو الاسم الذي أطلقه العرب على العراق حين أتموا فتحه في سنة 156م. قيل: لأنهم دخلوه قبيل الغروب, وكانت ظلال آلاف النخيل ترتمي على الأرض فتكاد كثافتها ان تحيلها الى السواد. وقيل إنهم- وهم أبناء البادية بامتياز- أطلقوا هذا الاسم على العراق لخصوبة أراضيه التي يرويها نهران كبيران, وعديد من الأنهار الصغيرة.
ولكن.. أي عراق اختار منيف ان يحكي عنه في ثلاثيته بهذا العنوان, آخر أعماله الابداعية؟ أبادر للقول انها رواية واحدة متصلة, وليس تقسيمها لأجزاء ثلاثة إلا لاعتبارات النشر وحدها, فعدد صفحاتها يقارب الخمسمائة والألف صفحة. بعبارة أخرى: بعد فصل تمهيدي بعنوان «حديث بعض ما جرى», يوجز فيه الروائي الأحداث السابقة على ظهور بطله «داود باشا», تحمل فصول الرواية المتتالية أرقاما تنتهي الى الثالث والثلاثين بعد المائة. والشخصية الرئيسة في العمل- وعلى هذا الوصف أكثر من تحفظ- هي والي بغداد الشهير داود باشا: ولد حوالي 1774م, وتولى ولاية بغداد في 1817م, وهزمته قوات السلطان العثماني محمود الثاني واخرجته منها في 1831م, ومات مبعدا في 1850م. ربما كان الأدق ان نقول ان رواية منيف تتناول العراق خلال السنوات الأولى من ولاية داود, فهي لا تمضي لنهاية تلك الولاية, بل تتوقف عند 1821م, عندما خرج القنصل البريطاني كلاديوس جيمس ريتش شبه مطرود من بغداد, بعد تصاعد الخلاف بينه وبين الوالي, هي, اذن, رواية تاريخية تتناول بضع سنوات متصلة من القرن التاسع عشر في أرض السواد, ومن ثم فان التساؤل الاول يكون عن التزام الروائي بالحقائق الموضوعية للفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث روايته, وأبادر للقول كذلك بأن منيف قد التزم التزاما صارما بتلك الحقائق كما تكشف عنها الدراسة المستندة الى الوثائق والمراجع.
تلك الحقائق تتحدث عن ثلاث من قائمة الشخصيات الحافلة في «أرض السواد»: والي بغداد والقنصل البريطاني وأغا الانكشارية. والرواية تتابع الصراعات الدائرة بين ثلاثتهم, ومن حولهم يبدع الروائي شخوصه التي ينطلق فيها حرا , لا يقي ده سوى أن تبقى هذه الشخوص نتاجا طبيعيا للفترة المعنية. على رأسها يأتي «بدري»: ابن واحد من تجار بغداد, مرافق الباشا العسكري حتى غضب منه فأبعده الى كركوك, وهناك دخل في صدام مع الأغا انتهى نهاية دامية, ثم هناك «قهوة الشط» وروادها الدائمون: الأسطى اسماعيل, م زين المحلة, وسيفو: سقاء المحلة حتى ضاق بهذا العمل فانصرف عنه, والأسطى عواد صاحب القهوة, وحسون: الفتى الضائع الملقى في قاع القاع, والم لا حمادي إمام جامع المحلة. من حول هؤلاء يتغير الرواد ويتبدلون, وهم لا يتركون حدثا يحدث, أو أحدا يروح أو يجيئ دون أن يصبح محط حواراتهم وتعليقاتهم التي لا تنتهي.
كان داود يحلم بعراق قوي موحد, مستقل عن النفوذ الأجنبي, سواء من جانب اسطنبول أو الدول التي يمثلها القناصل الموجودون في بلاده, وكان النموذج والمثال الذي يتراءى له في صحوه ومنامه هو محمد علي, باشا مصر من 1805م الى 1848م, لكنه ليس غافلا عن الاختلافات القائمة بينهما. يقول لواحد من رفاقه بعض أحلامه: «مثل ما سو ى والي مصر راح نسوي, الجيش, السلاح, المعامل, المدارس, الجوامع...», وينبئنا التاريخ انه كان مصلحا كبيرا , وانه بذل جهودا هائلة لكي يضع أحلامه موضع التنفيذ في مشروعات الزراعة والصناعة, وحقق العراق في عهده قدرا من الازدهار الاقتصادي, كما ي عد داود من رعاة النهضة التي تقوم على نشر الثقافة العربية والتوجه العربي, فقد كان للثقافتين الفارسية والتركية حضور قوي في عراق القرن السابع عشر: اهتم بالتعليم , فزادت المدارس في عهده زيادة كبيرة, الى جانبها نشط التعليم في الجوامع وفي البيوت للفتيات. لهذا كله يعتبر المؤرخون ان ما تم في عهد داود من إحياء وتدعيم للثقافة العربية انما كان التمهيد القوي للنهضة العلمية والأدبية التي عرفها العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولهذا كله أيضا اختار عبدالرحمن منيف هذه الصفحة المشرقة من تاريخ العراق ليجلوها... «الآن.. هنا..», «أرض السواد» أغنية حب طويلة دافئة للعراق, لأهله أولا , ثم لطبيعته القاسية الحنون: حين يفيض دجلة فيغرق كل قائم, حين تتفتح الطبيعة بألوانها الساحرة في الموصل, أم الربيعي ن, حين تتدفق ينابيع الماء صافية في جبال الشمال, حين يلتهب القيظ في البادية ثم يهطل المطر فيصفو الجو ويعبق بروائح تحار كيف تتجمع وسط هذه الصحراء المترامية, ما أشبه طبيعة العراق بأهله: وراء الجهامة والغلظة البادية تترقرق انسانية دافئة خصبة, كأمواه دجلة الدفاقة بين الرصافة والكرخ.
وهو اذا كان قد اختار صفحة من ماضي بغداد, أو ماضي العراق, ليجلوها, فهي صفحة مشرقة مضيئة, لكن دلالاتها في الحاضر لا تخفى: سيبقى العراق دائما محط المطامع والتآمر, وستتحالف ضده القوى الراغبة في محاصرته واستنزافه والحيلولة دون أن يصبح قوة قادرة ومستقلة, تلعب دورها في رخاء الشعب وحماية المنطقة على السواء, ومهما خاض العراق من أهوال, فان في نهاية النفق ضوءا , ومن ضفاف العناء والعذاب يشرق الأمل.
تلك كانت نظرة الى رحلة عبدالرحمن منيف الابداعية, وانني أراها, حقا , رحلة صعبة ورحلة خصبة. لكن هناك جانبا آخر من مشروعه, لعله يستحق نظرة أخرى, هو أعماله الفكرية, صدر أولها: «الكاتب والمنفى- هموم وآفاق الرواية العربية», في 2991م, وآخرها «العراق, هوامش من التاريخ والمقاومة», الذي صدر نهاية العام الماضي, وهو وثيق الصلة بأرض السواد, وفيما بينهما: «.. سيرة مدينة», في 1994م, و»عروة الزمان الباهي», 1997م, «بين الثقافة والسياسة, 1887م», «لوعة الغياب, 1998م», وفي عام واحد أصدر ثلاثة من هذه الأعمال هي «رحلة ضوء» و»ذاكرة للمستقبل», ثم «الديمقراطية أولا..الديمقراطية دائما» وكلها صدرت في 2001م, وهي كلها تعبر عن اهتماماته وتعكس جانبا مهما من قراءاته وتأملاته.
أقرب هذه الاعمال الى ما يشي بوجه الروائي اكثر من سواه, هنا يأتي- على الفور- «عروة الزمان الباهي», وتفسير عنوان الكتاب, الذي يبدو ملغزا, هو الكتاب ذاته, انه عن حياة المناضل والكاتب المغربي الراحل الباهي محمد (1930م- 1996م), ندب منيف نفسه لكتابته عقب رحيله, ورغم انه يقول انه آثر تجنب أسلوب الرواية, رغم اغرائه «واستبعدت حشد الوقائع والاستشهادات, واكتفيت برسم الملامح العامة لهذا الانسان ومسيرته من خلال التوقف في عدد من محطات حياته..», رغم انه يقول هذا إلا ان صنعة الروائي لا تفارقه, وأشير في هذا السياق لملاحظتين: الاولى, ان الروائي يضع بطله دائما في اطار تاريخي او اجتماعي او سياسي بعينه, وهو ما يفعله منيف هنا: انه يقدم الباهي من خلال واقعه المتمثل في تحولات الواقع العربي من الخمسينيات, وتفاصيل النضال المغربي منذ نهاية الحرب العالمية, وصولا الى تحولات الثورة الجزائرية التي ارتبط بها الباهي أوثق ارتباط, الى الواقع الفرنسي بعد نهاية الحرب, وعلاقة فرنسا بمستعمراتها. بعبارة أخرى: انه لا ينفرد ببطله وحيدا معزولا عن سياقه, بل يضعه في مكانه الصحيح من هذا السياق, ثم هناك أيضا تلك الأناة في الوصف والسرد والتحليل, والتي هي سمة اساسية في ابداع منيف الروائي (راجع مشاهد مقاهي بيروت وتفاصيل الحياة في باريس على سبيل المثال). الملاحظة الثانية ان الصياغة الكلية لشخصية الباهي تميل بها للاقتراب من بعض أبطال منيف الذين عرفناهم في أعمال سابقة, واكتفي بالاشارة السريعة لاثنين منهم:: «عساف» بطل «النهايات»: البدوي بامتياز, الذي يعيش في قريته على أطراف البادية, محتضنا قيمها وأنماطها الثقافية, و»مفضي الجدعان» بطل «التيه»- الجزء الاول من الخماسية: «م لبي الحاجات» و»أبواليتامى». هو كذلك تمث ل أنقى قيم ثقافة البادية- بالمعنى الانثروبولوجي للكلمة, وفيه تجسدت تلك القيم المهددة بالزوال بعد أن جاء الغرباء.
لا عجب ولا غرابة, هو ذات المبدع في كل الاعمال, وتلك أفضل الفضائل في أعماله.
العمل الثاني «لوعة الغياب». هي تلك التي يتمثلها في رحيل عدد من أصدقائه المبدعين, وكلمة «الأصدقاء» هنا لا تعني المستوى الشخصي وحده, وان كان جل الكتاب ينصرف إليه, لكنها تتسع لتشمل بعض من أحبهم الكاتب, ووجد في أعماله شيئا يعنيه أن يقف عنده ويقدمه لقارئه: الشاعر والمسرحي والرسام الاسباني جارثيا لوركا, والروائي والقاص وكاتب الدراسات والرسائل اليوغسلافي ايفو أندريتش, وتبقى الموضوعات المكتوبة عن الأصدقاء الذين عرفهم الكاتب على المستوى الشخصي الأقرب للقلب والعقل, هنا يمتزج التحليل الدقيق والنفاذ لابداع الكاتب الراحل بدفء المشاعر الخاصة تجاهه. هنا تتجسد- حقا وصدقا - لوعة الغياب, وهنا, ايضا , يتقدم على الفور سعدالله ونوس (إليه يهدي منيف كتابه كله): اربعة موضوعات عن سعد تشغل حوالي المائة صفحة (الكتاب كله لا يبلغ الثلاثمائة) تختلف من حيث زاوية النظر الى اعمال المسرحي الراحل.
بعد سعدالله يأتي جبرا ابراهيم جبرا, صديق منيف وشريكه في كتابة «عالم بلا خرائط», بعدهما يأتي «المنفي الأبدي», الروائي العراقي غائب طعمة فرمان, هذا الروائي الكبير الذي عاش منفيا ومات مقهورا . أكثر من سبب, إذن, يوح د بين الكاتب وموضوعه, بين منيف وغائب: كلاهما منفى, وكلاهما روائي, وكلاهما عاشق لبغداد والعراق, يكتب منيف: «لا أعتقد أن كاتبا عراقيا كتب عن بغداد كما كتب عنها غائب, كتب عنها من الداخل, في جميع الفصول وفي كل الأوقات..», ويتحدث منيف عن مشكلة قد لا يحسها إلا من يعانيها, لا يعرفها ك ت اب السلطة, أية سلطة, والنظام, أي نظام, مشكلة اسمها «جواز السفر», يقول: «ربما كنت, وغائب, من أقدم او قدامى الذين عانوا من مشكلة اسمها «جواز السفر» (...) هذه المشكلة طالت غائب من وقت مبكر, وربما كان من أوائل العراقيين الذين ن زعت عنهم الجنسية, وظلت هذه المشكلة تطارده حتى نهاية العمر تقريبا , ومع ذلك احتمل, لم ي سل م, ولم يتنازل..».
هل كان منيف يتحدث عن غائب طعمة فرمان, حقا؟
) عبدالرحمن منيف كان صديقي, عرفت اعماله الابداعية وكتبت عن بعضها قبل أن أراه. التقينا حول منتصف الثمانينيات, لم نلتق خارج القاهرة, ولم تبلغ لقاءاتنا عدد أصابع اليد الواحدة, لكنها كانت حافلة وخصبة. توطدت الصداقة واستقرت عبر التراسل والمتابعة, أكدتها الهموم المشتركة والعناء الواحد. وسوف أفتقده طويلا.
صدرت روايته الأولى «الأشجار واغتيال مرزوق» وهو في الأربعين, ورحل وهو في السبعين, لكنه كان قد أصبح أهم روائي عربي معاصر. قلت وأعيد: ان شروطا موضوعية وذاتية قد تحالفت لتجعل منه «المواطن العربي» بامتياز. وأضيف: إنه استطاع- ببذل الجهد, والكدح, والعكوف على العمل رغم مشقة الحياة وتغير المنافي- أن يجعل من نفسه «الروائي العربي» بامتياز كذلك.
بعد «الأشجار..» تتابعت الأعمال: «قصة حب مجوسية, 1974», «شرق المتوسط, 1975», «حين تركنا الجسر, 1976»/ «النهايات, 1977», «سباق المسافات الطويلة, 1979» (بين قوسين: «عالم بلا خرائط»- مع جبرا ابراهيم جبرا, 1982). وكان عقد الثمانينيات هو عقد «مدن الملح»: صدر جزؤها الأول «التيه» في 1984, والثاني «الأخدود» في 1985, والثلاثة الباقيات «تقاسيم الليل والنهار» و»المنبت» و»بادية الظلمات» في 1989. ثم عاد الى «شرق المتوسط» ليكتب «الآن هنا, أو شرق المتوسط مرة أخرى» في 1992, وأخيرا ثلاثية «أرض السواد» في 2000.
فلنلق نظرة طائر الى عالمه, وأرجو الا أثقل أو أطيل.
على خلاف كثير من الروايات الاولى, جاءت «الأشجار..» صلبة متماسكة, خالية من التزيد والترهل, وراء كل التفاصيل المختارة بعناية والمبذولة بسخاء, تبقى رواية شخصيتين, التقيتا مصادفة في قطار يقطع أرضا عربية لا ي سميها (ولم ي سم بعدها أرضا أخرى, فلا أهمية عنده للاسم, طالما بقي الاختلاف بين أرض عربية وأخرى خلافا في الدرجة لا في النوع), مع الحديث ورشفات العرق يتقارب الرجلان, يتشاركان الطعام والشراب والحديث وخبرات الحياة.
إلياس نخلة هو «الرجل الصغير», ابن بيئته وزمانه ومكانه, ومكانه هو تلك القرية التي تقع على أطراف المدينة والبادية: «الطيبة» (منها سيخرج أبطال أعمال تالية), إنه يرى نفسه منحوسا تطارده اللعنة, ولعنته انه قامر بما لا يملك, قامر بالأشجار التي لا يملكها أحد, تقلب في مهن عديدة وها هو الآن يعمل بتهريب الملابس عبر الحدود, لكنه يبقى متمسكا بالحلم. يقول لصاحبه وقد تدفأ وانتشى: «لولا الحلم لما تمكنت من الحياة لحظة واحدة»!
في مواجهته كان منصور عبدالسلام: الظهور الأول للمثقف صاحب الماضي السياسي المثقل بالنضال والسجن والملاحقة ثم الطرد من العمل, وها هو يركب القطار المتجه الى الجنوب كي يعبر الحدود ويعمل مترجما لبعثة آثار فرنسية. بعد أن تركه إلياس انفتح أمامه باب الحديث عن نفسه, الى نفسه وإلينا, لكن الروائي يحذرنا: «لا تصدقوا ما يقوله, لأن الهلوسات تختلط بالوقائع الصغيرة, بالاحلام, وأحيانا بالأكاذيب..», ولهذا السبب عليك بعد أن تفرغ من سماع حديثه وقراءة يومياته ومعرفة ما انتهى إليه, أن تعيد بناء التفاصيل وتجعل لها الاتساق الضروري. اذا كانت لعنة إلياس هي الأشجار, جاز أن نقول ان لعنة منصور كانت التاريخ. نعم. التاريخ الذي درسه وي درسه. ولكن: أي تاريخ؟ لنكتف بنص واحد: «قطعا لن يكون تاريخ الملوك والسماسرة والقوادين الذين يشبهون الديوك. سيكون تاريخ الناس الذين مروا دون أن يتذكر أسماءهم كتاب او قطعة من الرخام, سيكون تاريخ الأحداث التي غيرت الحياة دون أن تكتشف..». ولأنه يعمل ويقيم في احدى المدن «شرق المتوسط» (القرائن والشواهد والأمثلة تحددها أكثر) فقد كان من الطبيعي أن يتم استدعاؤه ومساءلت ه والتحقيق معه, ثم تسريحه من عمله في الجامعة. تبط ل منصور وجاع وتشرد واستدان وأدمن العرق والطواف على مكاتب المسؤولين لعلهم يوافقون على أن يعمل أو يسافر وبعد ثلاث سنوات تجر ع فيها المهانات الكبيرة والصغيرة منحوه جواز سفر وسمحوا له بالخروج. إن شخصية منصور تتكامل من خلال مستدعياته المنتقاة بحساسية وحرص: السنوات التي قضاها في التجنيد وعجزه عن فهم الهزيمة. كان يقول لطلابه: «لماذا ه زمنا أول مرة وكانت لدينا جيوش وكانوا, هم, عصابات؟ ولماذا هزمنا للمرة الثانية وكانت لدينا جيوش وعصابات وليس لديهم إلا الجيوش؟..), أضف لذلك خيباته الشخصية المتتالية خاصة مع الاوروبية التي دامت علاقته بها طوال فترة دراسته في بلادها, ثم لم يجرؤ على أن يعود بها الى بلاده, ورفض ان يبقى معها في بلادها.
أليس معقولا أن يطلق منصور الرصاص على صورته في المرآة, ثم ي حمل الى مستشفى الأمراض العقلية؟
وهل كان مصيره أفضل من مصير «رجب اسماعيل» بطل «شرق المتوسط»؟ اذا كانت هذيانات منصور واختلاط أفكاره قد يجعل من العسير وصول رسالته بالوضوح الكافي, خاصة ما يتعلق برمزه الرئيس: «مرزوق» الذي اغتاله الطغاة لكنه واثق انه سينهض, فان «رجب» يكتب أفكاره وعناءه بوضوح ناصع: واحد من غمار الناس, غاص في العمل السياسي السر ي وهو طالب, ما ان تخرج حتى قبضوا عليه, وحكموا عليه باحدى عشرة سنة. في سجنه لقي كل ألوان التعذيب كي يعترف, لكنه احتمل أقساها دون كلمة واحدة, وبعد خمس سنوات دب ت إليه الرغبة في الخروج مثل دبيب الملال: داهمه «روماتيزم الدم», وماتت أمه التي كانت تعينه على الصمود, وضاعت حبيبته, و»أنيسة»: أخته الكبرى وحاضنته لا تكف عن إغرائه بنقل صور الحياة في الخارج. وق ع رجب على الورقة التي طلبوا منه التوقيع عليها, ثم خرج.
وبناء الرواية بسيط متقشف: ستة فصول متتالية, تروي أنيسة فصلا ويروي هو التالي. لقد خرج رجب للعلاج (لم يسمحوا له بالخروج إلا بشرط التعاون معهم), ومع الطبيب الفرنسي العجوز أيقن رجب معنى النضال. كان الطبيب مناضلا قديما , شارك في مقاومة النازيين وفقد عائلته كلها. قال له: «أريدك أن تكون حاقدا وأنت تحارب.. اذا استسلمت للحزن فسوف ت هزم وتنتهي, سوف ت هزم كانسان وتنتهي كقضية...). لاحت فرصة لرجب كي يستعيد براءته الضائعة ويتطهر: لابد من فضح ما يحدث في هذه البلاد المرمية شرق المتوسط, وقرر أن يتخذ هذا الفضح شكلين: أن يكتب رواية, يقول عنها: «أريدها أن تكون جديدة في كل شيء, أن يكتبها أكثر من واحد وفيها أكثر من مستوى..», الشكل الثاني هو السفر الى الصليب الأحمر في جنيف وتقديم مذكرة أو لوحة عن العذاب اللا إنساني الذي يلقاه المسجونون السياسيون في الوطن. كتب رجب أوراقا كثيرة (توحي لنا أنيسة انها هذه الرواية), أما بعد أن تلقى رسالة من صديق بأن زوج أخته قد اعتقل بدله, قرر أن يعود, أرسل التقرير الى جنيف ثم عاد.
ماذا تتوقع؟. كانوا بانتظاره. أعادوه بعد ثلاثة أسابيع مهدما أعمى, وبعدها بثلاثة أيام مات رجب. والآن؟ تروي أنيسة: في الاسبوع الثاني لموت رجب اخذوا زوجها ولا يزال وراء الجدران, وتروي أيضا أنها شهدت ابنها الصبي يجمع الزجاجات الفارغة في البيت, وعجبت حين رأته يملأها بالزيت والبنزين ثم زال عجبها حين قال لها: اريد أن أهدم السجن وأخرج أبي!
هل كان رجب هو من يتمنى كتابة الرواية أم صاحبه وخالقه؟ على أي حال رجع منيف ليكتب «شرق المتوسط مرة أخرى». صدرت الرواية الأولى في 5791, آنذاك: كان الحزب الذي تركه منيف يحكم في أكثر من بلد عربي, فهل ثمة سبيل للتشكيك في أهمية شهادته؟ ألم ينجز وعده بأن تصبح الرواية «أداة» من أدوات النضال؟
ثمة ما يجمع بين «حين تركنا الجسر» و»النهايات». البطل في كل من الروايتين صياد, ولابد لكل صياد من كلب. أما بعد ذلك فما أشد الاختلاف بين «زكي نداوي» بطل الأولى, «وعساف» بطل الثانية. «النهايات» رواية البادية بامتياز, شهادة بدوي يعرف الصحراء والمواسم, والخصب والمطر, والقحط والجفاف, والحيوان والطير, يتشمم رائحة الغيم ويعرف نذر العاصفة, ثم هو نموذج الصياد, هو أعرف أهل «الطيبة» بمواسم الصيد وأماكنه وطرائقه ووسائله, لكن الأهم انه يعرف وظيفته ودوره في الابقاء على حياة الجماعة حين يتهددها القحط والجوع. ومرة واحدة انفجر في وجوه أهل الطيبة وقال لهم ما كان يجب أن يقال. قال: «لم يخلق الصيد للأغنياء الذين يقتلهم الزهق والشبع, لقد خلق للفقراء, الذين لا يملكون خبز يومهم..», غير أن كلماته, غاضبة الصدق, لم تثن سامعيها عن التلهي بالصيد, وحين جاء بعض ابناء الطيبة من العاملين في المدينة وبعض اصحابهم, خجل عساف أن يرفض طلبهم بالخروج معهم, فخرج معهم ليموت دونهم!
أما السهرة التي قضاها أهل الطيبة وجثة عساف مسجاة بينهم, فقد جاءت حكاياتها كلها تنويعات وتفريعات عن العلاقة بين الانسان والحيوان والطير, وعلى لحن النهاية, نهاية البشر والحيوانات والأشجار, ولأن عساف كان الفرد الذي تمث ل اصفى قيم الجماعة, وتقدم ليفديها ساعة الخطر, فقد خرجت الطيبة كلها لوداعه حتى النساء. ليس هذا فقط, بل إن موت عساف جاء انبثاقا لصحوة أهل الطيبة, ولأن يتكاتفوا ليفعلوا شيئا بدل انتظار الموت.
وسوف نلتقي بأشباه ونظائر لعساف في أعمال منيف التالية.
أما «حين تركنا الجسر» فلعل ها أكثر أعماله استعصاء. لا شيء سوى مونولوج طويل في اكثر من مائتي صفحة, يتحدث فيه زكي نداوي الى نفسه أو الى كلبه, ونحن نصحبهما في الغابة. وفي الغابة كل ما يمكن أن تزخر به من أدغال وأحراش ومستنقعات وسب حات وأشجار ونهر وجسر, وفي سمائها كل أنواع الطيور: السنونو والقطا والترغل وديوك السمن والحبارى والبط والزرازير ودجاج الأرض وسواها. ونحن نصحبهما عبر تغير الفصول والأجواء: في الريح والثلج والمطر وصحو السماء وتلبدها وسطوع القمر وغيابه. وما يشغل زكي أكثر من سواه أن يصيد تلك البطة الخرافية التي يسميها «الملكة». وحين صادها أخيرا وخاض الأوحال والمستنقعات ليلتقطها عن له أن ينظر إليها. وكانت خيبة أمل كاملة الشروط. يقول: «رفعت ها باجلال نحو القمر, ولأول مرة رأيتها.. كانت أقبح بومة تراها العين.. كانت باردة وميتة..».
لم تكن هذه غير هزيمة طازجة, أو هي بعث وتجديد للهزيمة القديمة. «حين تركنا الجسر» كلها تهدف الى خلق عالم مواز للهزيمة, محوره الجسر: بناه الرجال ثم لم يعبروه ولا هم نسفوه وراءهم. والبطل يحمل وق ر هذه الهزيمة من البداية, وهو أيضا يحمل الاحتقار لنفسه لأنه مهزوم. وسط سيل مستدعياته وهذره وملاحاته مع كلبه علينا أن نتلمس عناصر الهزيمة. انها تأتي متباعدة مثل نقاط صلبة وسط تيار دافق. هذه واحدة, يقول: «قالوا لنا بقسوة أقرب الى السب ى: تسمروا ولا تتحركوا.. التقدم ممنوع حتى تأتي الأوامر.. ولم تأت الأوامر(ص125-126). وهذه أخرى لعلها أكثر وضوحا : «يجب أن تعرف كيف حصلت الهزيمة.. كان الوقت عصرا .. مرت سيارة الضابط بسرعة بعد أن انقطعت عنا الأخبار أربعة أيام.. دون أية مقدمات قال الضابط: انسحبوا.. سيكون الانسحاب غير منظم.. وعلى كل واحد أن يدبر نفسه..».(ص174)
تلك النقاط القليلة الصلبة المتباعدة تضيء ما قبلها وما بعدها, وتفسر الشعور الفادح بالذنب واحتقار الذات عند البطل, وتفسر كذلك النهاية التي ينتهي اليها العمل. مرة ثانية: من الموت تنبثق صحوة. بعد موت الشاهد الوحيد على كل ما قال زكي, اتخذ قرارا ولم ينسه صباح اليوم التالي: قبل أن تغيب شمس اليوم التالي كنت قد ضعت في زحام البشر.. تأكدت أن جميع الرجال يعرفون شيئا كثيرا عن الجسر.. وأنهم ينتظرون.. ينتظرون ليفعلوا شيئا ..».
لعلهم ما زالوا ينتظرون!
«قصة حب مجوسية» هي نزوة عبدالرحمن منيف الأوروبية. عمل لا يشبه عملا آخر في ابداعه, لعلها بقية متلكئة عن ايام دراسته واقامته في أوروبا. قصة حب يرويها صاحبها وهو ممتلئ بالتحدي لسامعيه واللامبالاة بعدم تصديقهم لما يروي. لماذا يرويها إذن؟ يقول: «إن الكنيسة الكاثوليكية, رحيمة القلب, جعلت للانسان طريقا للخلاص عندما كلفت الآباء المقدسين بتلقي الاعتراف, كما ان علم النفس المعاصر بالضوء الخافت في غرفة الطبيب, والمقعد الوثير الذي يستلقي عليه المريض, أوجد طريقا لإذابة العذاب تمهيدا للشفاء..». إذا لم تكن من هؤلاء ولا من أولئك , فاذا يمكنك سوى ان تستمع؟... الراوي في مدينة اوروبية يتابع دراسته ويعرف من نسائها عددا لا بأس به, وفي منتجع جبلي مطل على البحيرة يقع في هوى امرأة ما أن تلتقي عيناه بعينيها: «آه! ما أشد رعب العيون التي أراها, وما أشد فتنتها! كانت تقول لي بهمس: ايها الغريب الذي لا مأوى له, مأواك في عيني ... الخ» وتصبح «ليليان» - عرف اسمها حين ناداها زوجها وهما على مقربة- هوسه الدائم, في صحوه ونومه, ويشتد هذا الهوس حين يرجعون الى المدينة, فيلوذ باحثا عنها في الشوارع والمقاهي والمسارح ودور السينما والباصات والترامات, يراها مرتين, وفي كل مرة يستحيل اللقاء, ويتدخل هذا الهوس في افساد علاقاته بالأخريات, وبعد أن يئس تماما من اللقاء يراها في محطة القطار, وهو محاط بأصدقاء وصديقات جاءوا يودعونه بعد أن أنهى دراسته واقامته في المدينة,ورغم ج مل الحوار القليلة التي يتبادلانها إلا أنه كان لقاء مستحيلا كذلك!
لسنا من الآباء المقدسين ولا من أطباء النفس, لكننا نعرف ان هذا النوع من الحب يمكن أن يقع, هنا يكون الحب- بتعبير جارودي- «صوتا ملحاحا كأنه يأتي من وراء الغيب». وأسبابه كامنة عند أصحابه, قد تشق معرفتها عليهم وعلى سواهم. وبحذق واضح ي فسد الراوي أية تفسيرات محتملة, فيتطوع بتقديمها ويسخر منها خاصة من يقول انه يلتمس حنان امرأة لأن أمه ماتت وهو صغير, لكنه يغفل عن مفتاح ملائم لتفسير آخر: انه يقول أكثر من مرة انه لا يشتهيها, ويفزع إن راوده هذا الخاطر!
ولماذا هي مجوسية؟ ذلك يعني انها صابئة, كافرة, مهرطقة, متحدية للسماء والأرض. هذا راويها يتحدث الى آباء الكنيسة: «أنتم أيها الأساقفة, يجب أن تتسامحوا, لأني مسيح مجوسي يحترق آلاف المرات كل ثانية..», ويناجي ليليان: «ليليان.. دعيني أقول شيئا مجوسيا .. النار التي اشتعلت في قلبي يوما لن تنطفئ..»!
قطعة من القص العاطفي الغنائي اللاهث, يلقيها إلينا راو لا نعرف اسمه ولا هويته, وقد لا نستطيع ان نتعاطف مع احتراقه في هذا الأتون!
قلت إن «مدن الملح» كانت رواية عقد الثمانينيات, لكن, «سباق لمسافات الطويلة» كانت التمهيد الضروري لها.
هي متفردة من حيث انها ذات مضمون سياسي, تدور أحداثها في هاتين السنتين المهمتين في تاريخ ايران الحديث: 1951- 1953, أي منذ قيام رئيس الوزراء, الدكتور محمد مصدق, بتأميم صناعة النفط الذي كانت تسيطر عليه شركة «انجلو- ايرانية» تملكها انجلترا, حتى سقوطه. كان مصدق على رأس تحالف «الجبهة الوطنية», لكن كان تحالفا هشا أكثر منه حزبا صلبا ومتماسكا . وكان عليه ان يواجه الشاه, ومن ورائه أمريكا, اضافة لانجلترا بحكم مصالحها المباشرة, ونشب الصراع الذي دام حوالي العامين وانتهى باسقاط مصدق في اغسطس 1953, ومن المؤكد الآن - كما أثبت كتاب كثيرون- أن المخابرات المركزية الامريكية لعبت الدور الاساسي في الاعداد للانقلاب الذي أسقط مصدق, ومن المؤكد كذلك ان المخابرات الانجليزية لم تكن غائبة عما يحدث أو بعيدة عنه, ومن المؤكد أخيرا , أن الامريكيين هم الذين فازوا في «سباق المسافات الطويلة».
أقول إنها متفردة لأنك لن تجد تحديدا دقيقا لأسماء الاعلام او الاماكن. ان اسم «مصدق» لا يرد أبدا في طول الرواية, بل يتم الحديث عنه بوصف «العجوز», ولن تجد اسم طهران رغم انك ترى شوارعها وتمشي في أسواقها وتشم روائحها وتشهد حشودها المتظاهرة صباح مساء, والحديث دائما يدور عن «الشرق» و»الشرقيين», وأقسام الرواية تتصدرها كلمات «لورانس» و»تشرشل», والبطل, الراوي, الشخصية الرئيسة في العمل هو بيتر ماكدونالد, الموظف في شركة النفط, ومن سيصبح مسؤول المخابرات الانجليزية في خضم هذه الاحداث.
وقلب الرواية صراع أساسي, لنقل: تسابق الى احراز الانتصار بين قوتين كبيرتين: انجلترا, بعلاقاتها السابقة بالمنطقة كلها كدولة مستعمرة, وامبراطورية لا تغرب عنها الشمس, وامريكا: الأكثر قوة وفتوة وقدرة على تحديد أهدافها دون أوهام, والعمل على تحقيقها بكل الوسائل وعلى رأسها الدولار العتيد. وما أكثر ما نطالع آراء الانجليز في حلفائهم- الأدق ان نقول : وارثيهم- وما أقل ما نعرف وجهات نظر الامريكيين لكننا نرى آثار أفعالهم التي يحققون بها النصر في النهاية, عن الامريكيين يقول ماكدونالد لنفسه: انهم حمقى هؤلاء الامريكيون.. مجرد خنازير في رقابهم أطواق من الذهب, لكنهم حلفاؤهم لا مفر فالسباق يدور في وجود الآخرين المتربصين وراء الحدود مباشرة, ولهم تاريخهم ورجالهم هنا, أي الروس. غير ان الحليفين يتفقان في النظرة الى «الشرق»: نظرة متعالية متأففة, من فوق والشرقيون عند الانجليز جاحدون لأفضالهم, وعند الامريكيين متخلفون يجب أن يتعلموا الحضارة, ولو بقوة السلاح!
بأحداثها وشخصياتها تنهي «سباق المسافات...» عهد الاستعمار القديم وعصر الامبراطورية, ليبدأ عصر جديد واستعمار من نوع مختلف. والحفل الباذخ الذي اقامته «شيرين»: المرأة الايرانية الجميلة الذكية الشبقة للمنتصرين, فيه تودع عشيقها القديم قبل عودته لانجلترا, وبه تنتهي الرواية, إنما يعني التأهب لاستقبال السيد الجديد, والارتماء في أحضانه لو كان هذا ضروريا ومفيدا .
وجوه الامتياز عديدة: توسيع أفق الرواية العربية والخروج بها لأرض جديدة, والنجاح في تقديم عالم روائي متكامل, شخوصه وأحداثه وطريقته في القص, يكافئ الواقع القديم ويلتزم محاوره الرئيسة لكنه ينطلق حرا في مساحات كبيرة من الابداع الخالص, ثم الوعي الصحيح وحسن قراءة الواقع السياسي, والارتفاع منه لأفق أرحب هو موقف القوى الاستعمارية في الغرب من الشرق وشعوبه بوجه عام.
وما أكثر ما ك تب, وما سوف يكتب لسنوات طويلة قادمة عن «مدن الملح»: د رة عبدالرحمن منيف الفريدة, واحدة من أهم الروايات المكتوبة بالعربية, إن لم تكن أهمها على الاطلاق. قاربت صفحاتها الألفين والخمسمائة صفحة, وامتدت في الزمان من السنوات الأولى للقرن العشرين حتى منتصف سبعينياته. خل الآن امتداداتها الأكثر عمقا في التراث والمأثور والممارسات والطقوس, تنقلت أحداثها ما بين «موران»- اقرأ: نجد, واقرأ كذلك: الرياض- ووادي العيون وعجرة وحر ان والحويزة والعوالي وعشرات الأماكن, الصغيرة والكبيرة, في الجزيرة العربية. وانطلق أبطالها الى أماكن كثيرة خارجها, الى دمشق وعم ان وبيروت والاسكندرية, الى بادن - بادن وجنيف وباريس ونيويورك وسان فرانسيسكو, وحفلت صفحاتها بقائمة غنية ومنوعة من الشخصيات, بدوا وحضرا , وعربا : شواما ولبنانيين ومصريين, وأجانب أمريكيين وانجليز وسويسريين وألمان. ورغم المساحات المتباينة التي تشغلها الشخصيات في هذه البانوراما الهائلة إلا أنها تتمايز تمايزا تاما , فلا تشتبه واحدة بالأخرى.
حين صدر الجزآن الأولان: «التيه» في 1984 و»الاخدود» في 1985, كان تصوري- الذي أكده الروائي لي ولغيري وأثبته الناشر في نهاية الجزء الثاني- ان الباقي جزء ثالث فقط هو «تقاسيم الليل والنهار». ثم صدرت أجزاء ثلاثة معا في 9891: «تقاسيم الليل والنهار» و»المنبت» و»بادية الظلمات». وفي ظني ان الجزء الاخير هو الذي كان يمكن أن يشكل الجزء الثالث, وعنوانه «تقاسيم الليل والنهار» اكثر انطباقا على مضمونه وصياغته منه على الجزء الثالث من الخماسية الجديدة, ربما أكد هذا الظن عندي ان الجزءين الثالث والرابع يشكلان انطلاقتين من المسار الذي يتخذه العمل, احداهما في الزمان والأخرى في المكان. صحيح انهما مرتبطان بالمشروع الروائي في مجمله, وانهما يضيفان قدرا من الانفساح لعالم هذا المشروع, بتعميق رؤيته الافقية والرأسية, لكن الصحيح كذلك انهما يكتسبان قدرا من الاستقلال النسبي لا يتوفر للأجزاء الثلاثة الأخرى: الأول والثاني والأخير.
هذا المشروع الروائي كله يمكن ايجازه في عبارة واحدة: انه لون من «التاريخ الفني» لظهور النفط في الجزيرة العربية, من ناحية, ثم قيام الدولة وترسيخ قواعدها في هذه المنطقة من العالم, من ناحية ثانية. هنا لن يجدينا أن نصرف النظر عن التزام الروائي بالحقيقة التاريخية المتمثلة في الاشخاص والقوى التي قامت بأهم الأدوار في الحقبة التي يعرض لها, على العكس تماما : إن معرفتنا بهذه الحقيقة سييسر لنا الدخول الى عالم «مدن الملح», وسيتيح لنا ان ننظر للشخصيات الروائية من حيث علاقتها بأصولها الواقعية: كيف استند الروائي الى هذه الصلة, ثم انطلق يعيد صياغتها وخلق شروط وجودها دون ان يمسخ جوهرها التاريخي أو يزي ف دلالاتها.
وهذا لا يعني - بطبيعة الفن الروائي ذاته- أن العمل قد تحول لشفرة ساذجة, تصبح فيها كل شخصية في المشروع الروائي مقابلة لأخرى في التاريخ الواقعي, أو واقفة بديلا عنها, فثمة مساحات واسعة للابداع الخالص, ينطلق فيها خيال الروائي حرا جسورا , يبدع الشخصيات ويقيم بينها العلاقات, ائتلافا واختلافا , ويطلق لها حرية الفعل والقول, يقيده, فقط, التزام عام واحد: ان يبقى صادقا - بالمعنى الفني أولا , ثم التاريخي بعد ذلك- مع شروط المرحلة التي يعرض لها, والقوى الفاعلة فيها, في ذلك المدى الواسع الممتد من مطالع القرن الماضي لمنتصف سبعينياته, ثم ان يبقى على اتساق مع مجمل الرسالة التي يود ان ينقلها لقارئه باكتمال عمله.
بايجاز: ان قارئ العمل كله يفيد كثيرا لو وضع في اعتباره أن «السلطنة الهديبية» انما هي المملكة العربية السعودية» وان «موران» هي نجد وهي «الرياض» ولو رت ب على هذا الفهم ما يمكن أن يترتب عليه.
وبضمير مرتاح يمكن القول ان عبدالرحمن منيف قد حقق مشروعا روائيا بالغ الاهمية والطموح. تنبع أهميته من القضية الأساسية التي يتصدى لها, وهي واحدة من أخطر قضايا الوجود العربي المعاصر: النفط وظهوره في المنطقة العربية, وما أحدثه في الداخل والخارج. وهو: بحكم انه من أهل الجزيرة أولا, ودارس لهذه القضية دراسة علمية متخصصة, ثانيا , ولقدرته الفائقة على الدراسة والعكوف على العمل, ثالثا , هو أقدر روائي عربي على الخوض في هذا «التيه» (أو الغوص في مدن الملح كما كان يحب أن يقول). أما طموح المشروع فيتمثل في انه لم يهدف الى تصوير حاكم باطش وحاشية فاسدة وشعب مقهور, ولم يهدف لكتابة «رواية أجيال» تصور اختلاف وجه الحياة في ملامحه «الثقافية»- بالمعنى الأوسع للكلمة- من جيل لجيل, ولم يهدف لابتعاث صورة قديمة للحياة في تلك البادية المترامية قبل أن تد ب فوقها آلات القادمين وتشق أديمها..
لم يهدف منيف الى شيء من هذا فقط, كان هدفه يشمل هذا كله ويتجاوزه في آن: لا أقل من صورة الحياة كاملة: بأضوائها وظلالها وظلامها, ما يدور منها في العلن وما تخفيه أسوار القصور وأقفاص الصدور. وما أحفل قائمة الشخصيات في عمله: من الرجال والنساء, أهل البلاد والوافدين والأجانب, الأمراء والسوقة, التجار ورجال الدين, حاشية الحاكم, ومناهضي الحاكم, قادة الجند وخدم القصور, السماسرة ورجال الاعمال والأفاقين, العرافين والمنجمين وقارئي الطالع, عشاق المال وعشاق السلطة وعشاق المتعة وعشاق الخيل وعشاق الكلمات وعشاق قولة الحق. وقارئ «مدن الملح» قد لا يستطيع أن يخلص من اثر عدد كبير من هذه الشخصيات, كلها مستديرة, كاملة الوجود, لها حق غير منقوص في ان تحيا غير مختلطة بسواها. لعل أبقاها تلك التي ت عد تجسيدا لثقافة المجتمع القديم, التي تمثلت أصفى قيمه وممارسته في التواؤم مع الطبيعة وحسن استغلال مصادرها, والعيش في ظل العدل والحرية. ان هذه شخصيات تتواتر على طول الملحمة الروائية, تبدأ بمتعب الهذال وم فضي الجدع ان وتنتهي الى شمران العتيبي وصالح الرشدان وشداد المطو ع, وتواصل وجودها- في سياقات متغيرة- في أبناء شمران وع مي ر, وآخرين لا نعرفهم, لكننا نحدس حدسا قويا أنهم موجودون في موران التي تعودت ان تصبر وتنتظر!
تلك كلها شخصيات قوية صلبة, كارهة للظلم والاستبداد, معارضة الحاكم والطغيان, مطالبة بالعدل والحرية. لم ي غرها المال وإن زاد, ولم ترهبها السلطة وإن بطشت, وهم يتحملون- بطبيعة مواقفهم- نصيبا موفورا من هذا البطش: ي سجن مفضى الجدعان ثم ي قتل, وتقطع يد صالح الرشدان ثم ي عدم, أما أبناء رشدان فهم من حبس الى حبس, كذلك ع مي ر: لم يشفع له انه خال أحد الحكام, وبعد أن قضى في السجون معظم سنوات عمره, أعدم أحد أبنائه, لكن ابنه الثاني أطلق النار على الحاكم, ودو ت طلقاته بأصوات كل الفقراء والمقهورين, مسلوبي الحق في الحياة وابداء الرأي في أمور بلادهم, والحصول على نصيب عادل من ثروتها.
وذلك هو الأفق النبيل الذي تتوجه نحوه «مدن الملح».
مستعيرا لسان «رجب اسماعيل» يقول «عادل الخالدي» لصاحبه: «لا يمكن ان نعدم السجون إلا إذا ألغينا حالة الخوف, وهذا لن يكون إلا بالفضح والتحدي.. والخطوة الاولى في هذا السبيل ان نقول الحقيقة..». كان عادل الخالدي يحر ض صاحبه «طالع العريفي» على أن يكتب ما رأى وشهد. من «موران»: عاصمة «مدن الملح» ورمزها واسم الجزء الدال على الكل, جاء طالع ومن «عمورية»: مدينة «عالم بلا خرائط», ورمز المدن العربية دون تخصيص, جاء عادل. وراء كل منهما ماض مثقل, كلاهما خاض تجربة العمل السياسي السر ي, وكلاهما قضى في سجون بلاده أزهى سنوات العمر, خاض فيها أهوالا دونها أهوال الجحيم, وكلاهما أبعدته سلطات بلاده كي يموت بعيدا وقد اصبح حطاما شبه عاجز. التقيا في مستشفى «كارلوف» بمدينة «براغ» يلتمسان الشفاء لعلل الجسد وأوجاع الروح.
بعد أن اقتنع طالع بأهمية أن يثبت شهادته. كتب في صفحتها الأولى: «إن جحيم العذاب الذي قد يلمسه من يقرأ هذه الاوراق.. يجب ألا يخلق الخوف والتردد, بل يجب أن يخلق موقفا معاكسا , أي أن يحفزنا على استثمار هذا الحق وتوجيهه في الاتجاه الصحيح, ليس ضد أفراد, إنما ضد حالة..», بهذا الهدف, إذن, رجع منيف الى «شرق المتوسط»: الرواية والموقع معا , ليكتب «الآن هنا.. أو شرق المتوسط مرة أخرى».
اكثر من خمسمائة صفحة تمتلئ بتفاصيل الهول والعذاب في سجون عمورية وموران, وسط هذا الجحيم الخانق يتألق الصمود الانساني مثل جوهرة تضيء في الظلام, فلا معنى لكل هذا الكم من العذاب دون تألق هذا الصمود, جوهر الإنسان الذي يأبى أن ي سحق: ويظل الكائن الذي حوله الجلادون كتلة شائهة م دماة, مرمية وسط فضلات الجسد, عاجزة عن أن ترفع يدا او تحرك إصبعا , قادرا على الاحتمال ومواصلة الرفض, قادرا على ان يرى نهاية النفق: الموت, في سياق مختلف: هناك لحظات وحالات يصبح الموت فيها شغفا ورغبة. وراء موقفه يقين ثابت بصحة قضيته: إنه يدافع عن قضية عادلة وبسيطة: حقه وحق الآخرين في الحياة والحرية, وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن الحكام والشيوخ الفاسدين, لذا يجب أن يكون الأقوى.
وتطرح الرواية قضية مهمة من قضايا «الآن هنا» هي قضية أولئك المناضلين في المنافي, التي افرزتها العقود الأخيرة بوجه خاص, ففي عالمنا العربي نتيجة الانقلابات المتتالية بين نظم الحكم وجماعاته, عرف الواقع أولئك الذين خرجوا- أو أخرجوا- من بلادهم, وصو رت لهم أوهامهم إمكان مواصلة النضال بعيدا عن مواقعهم وقواعدهم, وعن الأرض التي يتحتم أن يدور فوقها, ومن أجلها, هذا النضال.
وليس وهم النضال في المنفى غير سبب واحد من أسباب انحسار النضال الثوري- لو لم تزعج هذه الكلمة أحدا - وتناثر الحلم شظايا. وتلك هي التيمة المهمة الثالثة في رواية منيف. ولأن هؤلاء جميعا يدفعون الثمن الفادح لنضالهم, فمن الطبيعي ان يتساءلوا عن جدواه, وان تدور النقاشات حوله المرة بعد المرة. ولن يتسع لنا المجال لتفصيل وجهات النظر حول هذه القضية: نكتفي باشارات قليلة: لأن عادل الخالدي هو راوية القسمين الأول والثالث, وهو من يبقى معنا حتى الصفحة الأخيرة, بعد أن ترك له صاحبه أوراقه, ثم أدار وجهه للجدار, ومات, فانه هو الذي يقول بضرورة أن تتغير النظرة الى العمل السياسي, وان يتغير العاملون به أيضا, كيف وفي أي اتجاه؟
قد نجد مؤشرات الاجابة في الحوار الذي يدور بين عادل ومسؤولي التنظيم الذين جاءوا لزيارته فسخر بهم, واستعان عليهم بالساخر الأكبر: لوقيانوس. يقول عادل ان لديه ثوابت ثلاثة أساسية: الديمقراطية حقا , ايمانا وممارسة, للجميع وبالمستوى نفسه. ثانيا: سيادة مفهوم النقد, لا بمعنى حريتي في شتم الآخرين, انما مدى مسؤوليتي عن الاخطاء التي حصلت, ولماذا حصلت, وكيف يمكن تجاوزها في المستقبل. عن الثابت الثالث يقول عادل الخالدي: «إنني مع الحزب وضد الكتل, مع الديمقراطية وضد الحقوق المكتسبة والإرث التاريخي, مع النزاهة والاستقامة وضد الشطارة والتلفيق, مع المنطق وضد الارهاب والتشهير.. مع الانسان وضد الغول والبهلوان والصنم..».
وفي كل الأحوال, فان البدء بخصوصية الواقع لا عمومية التصورات والأفكار, والارتباط الحميم بالناس لا النزول اليهم, وممارسة الديمقراطية وإعمال النقد: نقد الذات والآخرين, هي جميعا ما يمكن أن تكون سبل التجاوز, وهذا ما يهب المعنى لكل نضالات المناضلين, من قضى نحبه ومن ينتظر, ولكل ما لقوا من أهوال, وما اصاب الأجساد والأرواح من وهن وجراح.
في ضوء هذا العمل الكبير تبدو «شرق المتوسط 5791» تخطيطا أوليا , لقد وسع منيف من آفاقه, وغاص عميقا في أغواره, وارتفع بقضية النضال السياسي الى مستوياتها الانسانية الشاملة, كما ارتفع بأدب السجون العربية الى ذروة لم يبلغها فيما أعرف من هذا الأدب.
«أرض السواد» هو الاسم الذي أطلقه العرب على العراق حين أتموا فتحه في سنة 156م. قيل: لأنهم دخلوه قبيل الغروب, وكانت ظلال آلاف النخيل ترتمي على الأرض فتكاد كثافتها ان تحيلها الى السواد. وقيل إنهم- وهم أبناء البادية بامتياز- أطلقوا هذا الاسم على العراق لخصوبة أراضيه التي يرويها نهران كبيران, وعديد من الأنهار الصغيرة.
ولكن.. أي عراق اختار منيف ان يحكي عنه في ثلاثيته بهذا العنوان, آخر أعماله الابداعية؟ أبادر للقول انها رواية واحدة متصلة, وليس تقسيمها لأجزاء ثلاثة إلا لاعتبارات النشر وحدها, فعدد صفحاتها يقارب الخمسمائة والألف صفحة. بعبارة أخرى: بعد فصل تمهيدي بعنوان «حديث بعض ما جرى», يوجز فيه الروائي الأحداث السابقة على ظهور بطله «داود باشا», تحمل فصول الرواية المتتالية أرقاما تنتهي الى الثالث والثلاثين بعد المائة. والشخصية الرئيسة في العمل- وعلى هذا الوصف أكثر من تحفظ- هي والي بغداد الشهير داود باشا: ولد حوالي 1774م, وتولى ولاية بغداد في 1817م, وهزمته قوات السلطان العثماني محمود الثاني واخرجته منها في 1831م, ومات مبعدا في 1850م. ربما كان الأدق ان نقول ان رواية منيف تتناول العراق خلال السنوات الأولى من ولاية داود, فهي لا تمضي لنهاية تلك الولاية, بل تتوقف عند 1821م, عندما خرج القنصل البريطاني كلاديوس جيمس ريتش شبه مطرود من بغداد, بعد تصاعد الخلاف بينه وبين الوالي, هي, اذن, رواية تاريخية تتناول بضع سنوات متصلة من القرن التاسع عشر في أرض السواد, ومن ثم فان التساؤل الاول يكون عن التزام الروائي بالحقائق الموضوعية للفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث روايته, وأبادر للقول كذلك بأن منيف قد التزم التزاما صارما بتلك الحقائق كما تكشف عنها الدراسة المستندة الى الوثائق والمراجع.
تلك الحقائق تتحدث عن ثلاث من قائمة الشخصيات الحافلة في «أرض السواد»: والي بغداد والقنصل البريطاني وأغا الانكشارية. والرواية تتابع الصراعات الدائرة بين ثلاثتهم, ومن حولهم يبدع الروائي شخوصه التي ينطلق فيها حرا , لا يقي ده سوى أن تبقى هذه الشخوص نتاجا طبيعيا للفترة المعنية. على رأسها يأتي «بدري»: ابن واحد من تجار بغداد, مرافق الباشا العسكري حتى غضب منه فأبعده الى كركوك, وهناك دخل في صدام مع الأغا انتهى نهاية دامية, ثم هناك «قهوة الشط» وروادها الدائمون: الأسطى اسماعيل, م زين المحلة, وسيفو: سقاء المحلة حتى ضاق بهذا العمل فانصرف عنه, والأسطى عواد صاحب القهوة, وحسون: الفتى الضائع الملقى في قاع القاع, والم لا حمادي إمام جامع المحلة. من حول هؤلاء يتغير الرواد ويتبدلون, وهم لا يتركون حدثا يحدث, أو أحدا يروح أو يجيئ دون أن يصبح محط حواراتهم وتعليقاتهم التي لا تنتهي.
كان داود يحلم بعراق قوي موحد, مستقل عن النفوذ الأجنبي, سواء من جانب اسطنبول أو الدول التي يمثلها القناصل الموجودون في بلاده, وكان النموذج والمثال الذي يتراءى له في صحوه ومنامه هو محمد علي, باشا مصر من 1805م الى 1848م, لكنه ليس غافلا عن الاختلافات القائمة بينهما. يقول لواحد من رفاقه بعض أحلامه: «مثل ما سو ى والي مصر راح نسوي, الجيش, السلاح, المعامل, المدارس, الجوامع...», وينبئنا التاريخ انه كان مصلحا كبيرا , وانه بذل جهودا هائلة لكي يضع أحلامه موضع التنفيذ في مشروعات الزراعة والصناعة, وحقق العراق في عهده قدرا من الازدهار الاقتصادي, كما ي عد داود من رعاة النهضة التي تقوم على نشر الثقافة العربية والتوجه العربي, فقد كان للثقافتين الفارسية والتركية حضور قوي في عراق القرن السابع عشر: اهتم بالتعليم , فزادت المدارس في عهده زيادة كبيرة, الى جانبها نشط التعليم في الجوامع وفي البيوت للفتيات. لهذا كله يعتبر المؤرخون ان ما تم في عهد داود من إحياء وتدعيم للثقافة العربية انما كان التمهيد القوي للنهضة العلمية والأدبية التي عرفها العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولهذا كله أيضا اختار عبدالرحمن منيف هذه الصفحة المشرقة من تاريخ العراق ليجلوها... «الآن.. هنا..», «أرض السواد» أغنية حب طويلة دافئة للعراق, لأهله أولا , ثم لطبيعته القاسية الحنون: حين يفيض دجلة فيغرق كل قائم, حين تتفتح الطبيعة بألوانها الساحرة في الموصل, أم الربيعي ن, حين تتدفق ينابيع الماء صافية في جبال الشمال, حين يلتهب القيظ في البادية ثم يهطل المطر فيصفو الجو ويعبق بروائح تحار كيف تتجمع وسط هذه الصحراء المترامية, ما أشبه طبيعة العراق بأهله: وراء الجهامة والغلظة البادية تترقرق انسانية دافئة خصبة, كأمواه دجلة الدفاقة بين الرصافة والكرخ.
وهو اذا كان قد اختار صفحة من ماضي بغداد, أو ماضي العراق, ليجلوها, فهي صفحة مشرقة مضيئة, لكن دلالاتها في الحاضر لا تخفى: سيبقى العراق دائما محط المطامع والتآمر, وستتحالف ضده القوى الراغبة في محاصرته واستنزافه والحيلولة دون أن يصبح قوة قادرة ومستقلة, تلعب دورها في رخاء الشعب وحماية المنطقة على السواء, ومهما خاض العراق من أهوال, فان في نهاية النفق ضوءا , ومن ضفاف العناء والعذاب يشرق الأمل.
تلك كانت نظرة الى رحلة عبدالرحمن منيف الابداعية, وانني أراها, حقا , رحلة صعبة ورحلة خصبة. لكن هناك جانبا آخر من مشروعه, لعله يستحق نظرة أخرى, هو أعماله الفكرية, صدر أولها: «الكاتب والمنفى- هموم وآفاق الرواية العربية», في 2991م, وآخرها «العراق, هوامش من التاريخ والمقاومة», الذي صدر نهاية العام الماضي, وهو وثيق الصلة بأرض السواد, وفيما بينهما: «.. سيرة مدينة», في 1994م, و»عروة الزمان الباهي», 1997م, «بين الثقافة والسياسة, 1887م», «لوعة الغياب, 1998م», وفي عام واحد أصدر ثلاثة من هذه الأعمال هي «رحلة ضوء» و»ذاكرة للمستقبل», ثم «الديمقراطية أولا..الديمقراطية دائما» وكلها صدرت في 2001م, وهي كلها تعبر عن اهتماماته وتعكس جانبا مهما من قراءاته وتأملاته.
أقرب هذه الاعمال الى ما يشي بوجه الروائي اكثر من سواه, هنا يأتي- على الفور- «عروة الزمان الباهي», وتفسير عنوان الكتاب, الذي يبدو ملغزا, هو الكتاب ذاته, انه عن حياة المناضل والكاتب المغربي الراحل الباهي محمد (1930م- 1996م), ندب منيف نفسه لكتابته عقب رحيله, ورغم انه يقول انه آثر تجنب أسلوب الرواية, رغم اغرائه «واستبعدت حشد الوقائع والاستشهادات, واكتفيت برسم الملامح العامة لهذا الانسان ومسيرته من خلال التوقف في عدد من محطات حياته..», رغم انه يقول هذا إلا ان صنعة الروائي لا تفارقه, وأشير في هذا السياق لملاحظتين: الاولى, ان الروائي يضع بطله دائما في اطار تاريخي او اجتماعي او سياسي بعينه, وهو ما يفعله منيف هنا: انه يقدم الباهي من خلال واقعه المتمثل في تحولات الواقع العربي من الخمسينيات, وتفاصيل النضال المغربي منذ نهاية الحرب العالمية, وصولا الى تحولات الثورة الجزائرية التي ارتبط بها الباهي أوثق ارتباط, الى الواقع الفرنسي بعد نهاية الحرب, وعلاقة فرنسا بمستعمراتها. بعبارة أخرى: انه لا ينفرد ببطله وحيدا معزولا عن سياقه, بل يضعه في مكانه الصحيح من هذا السياق, ثم هناك أيضا تلك الأناة في الوصف والسرد والتحليل, والتي هي سمة اساسية في ابداع منيف الروائي (راجع مشاهد مقاهي بيروت وتفاصيل الحياة في باريس على سبيل المثال). الملاحظة الثانية ان الصياغة الكلية لشخصية الباهي تميل بها للاقتراب من بعض أبطال منيف الذين عرفناهم في أعمال سابقة, واكتفي بالاشارة السريعة لاثنين منهم:: «عساف» بطل «النهايات»: البدوي بامتياز, الذي يعيش في قريته على أطراف البادية, محتضنا قيمها وأنماطها الثقافية, و»مفضي الجدعان» بطل «التيه»- الجزء الاول من الخماسية: «م لبي الحاجات» و»أبواليتامى». هو كذلك تمث ل أنقى قيم ثقافة البادية- بالمعنى الانثروبولوجي للكلمة, وفيه تجسدت تلك القيم المهددة بالزوال بعد أن جاء الغرباء.
لا عجب ولا غرابة, هو ذات المبدع في كل الاعمال, وتلك أفضل الفضائل في أعماله.
العمل الثاني «لوعة الغياب». هي تلك التي يتمثلها في رحيل عدد من أصدقائه المبدعين, وكلمة «الأصدقاء» هنا لا تعني المستوى الشخصي وحده, وان كان جل الكتاب ينصرف إليه, لكنها تتسع لتشمل بعض من أحبهم الكاتب, ووجد في أعماله شيئا يعنيه أن يقف عنده ويقدمه لقارئه: الشاعر والمسرحي والرسام الاسباني جارثيا لوركا, والروائي والقاص وكاتب الدراسات والرسائل اليوغسلافي ايفو أندريتش, وتبقى الموضوعات المكتوبة عن الأصدقاء الذين عرفهم الكاتب على المستوى الشخصي الأقرب للقلب والعقل, هنا يمتزج التحليل الدقيق والنفاذ لابداع الكاتب الراحل بدفء المشاعر الخاصة تجاهه. هنا تتجسد- حقا وصدقا - لوعة الغياب, وهنا, ايضا , يتقدم على الفور سعدالله ونوس (إليه يهدي منيف كتابه كله): اربعة موضوعات عن سعد تشغل حوالي المائة صفحة (الكتاب كله لا يبلغ الثلاثمائة) تختلف من حيث زاوية النظر الى اعمال المسرحي الراحل.
بعد سعدالله يأتي جبرا ابراهيم جبرا, صديق منيف وشريكه في كتابة «عالم بلا خرائط», بعدهما يأتي «المنفي الأبدي», الروائي العراقي غائب طعمة فرمان, هذا الروائي الكبير الذي عاش منفيا ومات مقهورا . أكثر من سبب, إذن, يوح د بين الكاتب وموضوعه, بين منيف وغائب: كلاهما منفى, وكلاهما روائي, وكلاهما عاشق لبغداد والعراق, يكتب منيف: «لا أعتقد أن كاتبا عراقيا كتب عن بغداد كما كتب عنها غائب, كتب عنها من الداخل, في جميع الفصول وفي كل الأوقات..», ويتحدث منيف عن مشكلة قد لا يحسها إلا من يعانيها, لا يعرفها ك ت اب السلطة, أية سلطة, والنظام, أي نظام, مشكلة اسمها «جواز السفر», يقول: «ربما كنت, وغائب, من أقدم او قدامى الذين عانوا من مشكلة اسمها «جواز السفر» (...) هذه المشكلة طالت غائب من وقت مبكر, وربما كان من أوائل العراقيين الذين ن زعت عنهم الجنسية, وظلت هذه المشكلة تطارده حتى نهاية العمر تقريبا , ومع ذلك احتمل, لم ي سل م, ولم يتنازل..».
هل كان منيف يتحدث عن غائب طعمة فرمان, حقا؟
) عبدالرحمن منيف كان صديقي, عرفت اعماله الابداعية وكتبت عن بعضها قبل أن أراه. التقينا حول منتصف الثمانينيات, لم نلتق خارج القاهرة, ولم تبلغ لقاءاتنا عدد أصابع اليد الواحدة, لكنها كانت حافلة وخصبة. توطدت الصداقة واستقرت عبر التراسل والمتابعة, أكدتها الهموم المشتركة والعناء الواحد. وسوف أفتقده طويلا.