مقومات الصورة الشعرية وطبيعتها عند شعراء الستينيات في سورية - د. امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسإن العرف السائد في تصور عملية الخلق الشعري عبر عصور الشعر والنقد، هو أن المشابهة بأنماطها المختلفة وفي تجلياتها المتعددة من تشبيه وتمثيل واستعارة ورمز، هي الطاقة المولدة للصورة الشعرية.
وقد افترض ـ لقرون طويلة ـ أن هذه العملية هي جوهريا إدراك مشابهة قائمة أو مكتشفة أو مبتكرة بين الأشياء. فذهب أرسطو إلى أن الاستعارة علامة العبقرية، ونص الجرجاني على أن إدراك الشبه بين الأشياء هو موضع التفاضل بين شاعر وآخر، وكلما ازداد الشبه خفاءا كلما ازدادت دلالة اكتشافه على تميز الشاعرية التي جلته، وأصر الجرجاني كما أصر أرسطو قبله ثم كولريدج: Collridge بعدهما، على أن المشابهة الأسمى هي تلك التي تكتشف بين مختلفات، وأن التشابه المطلق يعدم التشبيه والاستعارة أو الرمز، ويمنع تدفق الشعرية.
وقد طرح (ا.ريتشاردز Richards) فيما بعد فرضيته المعروفة في أن الاستعارة لا تقوم في الواقع على المشابهة، بقدر ما تقوم على المغايرة والاختلاف. إلا أن الشاعر في العصور الحديثة لم يعد سجين هذه المقولات منذ أن قال (رامبو Rimbeau) "أيها الليل الثلجي الأبيض" ليؤكد على أن مبدأ التناقض والتضاد بين المشبه والمشبه به يمكن أن يصبح طاقة مولدة لابتكار الصورة الشعرية.
وبتتبعنا للإنتاج الشعري الحديث، يتضح مدى الدور الذي أصبحت تضطلع به الكلمة ووظيفتها الجديدة التي يجب أن تتمرد على سلطة اللغة. لقد أصبحت مصدرا لطاقة شعرية قائمة على إيجاد علاقات جديدة بين الكلمات، وشحنها بمدلولات جديدة لاكتشاف أفق لغوي جديد. وهنا تم تبني مسألة الانزياح اللغوي، لأنه طاقة هائلة ساعدت على خلق علاقات جديدة بين المفردات يمنح الصورة ثراءا وغنى لم يتحقق لها في الشعر القديم حيث ظلت تكتسي طابعا منطقيا يقوم بوظيفة توضيحية.
إن الأسلوب الشعري أصبح يتميز باستخدامه أشكالا من التعبير المتخيل لتوصيل الأفكار والعواطف، وذلك من خلال الإيحاء بها عن طريق التصوير، لا التعبير المباشر. "والصورة الشعرية تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لعلاقة بين شيئين يمكن تصويرهما بأساليب عدة، إما عن طريق المشابهة أو التجسيد أو التشخيص أو التجريد أو التراسل"(1).
ولا تقدم الصورة الشعرية التجربة الخارجية ـ فحسب ـ بتصوير المعطيات الحسية التي يجريها الشاعر، بل إنها تتعدى ذلك، إلى تصوير انفعالاته ومشاعره الداخلية. فالشعر كما يقول (نوفاليس Novalis) "تصوير الكنه النفسي، كما هو تصوير العالم الداخلي بكلية. هذا ما توضحه الكلمات التي هي واسطته. إن الكلمات هي بالتأكيد التجلي الخارجي لهذا العالم الداخلي"(2).
والصورة في الشعر لم تخلق لذاتها، وإنما لتكون جزءا من التجربة ومن البناء العضوي في القصيدة، يقول مكليش:
"إن الصور في القصائد لا تهدف إلى أن تكون جميلة، بل إن عملها هو أن تكون صورا في القصائد، وأن تؤدي ما تؤديه الصور في القصائد"(3). والصورة بدون سياقها العاطفي في التجربة، وبمعزل عن البناء الكلي للقصيدة، تصبح تصويرا مفتتا لا قيمة له.
وتكمن فاعلية الصورة الشعرية أساسا في تمثيلها للإحساس، إذ أن الصفات الحسية التي تخلقها الصور، ـ وإن كانت تخلق نوعا من الحيوية لوضوح ودقـة التفاصيل ـ فهـي ليست العامـل الحـاسم فـي إضـفاء الفـاعليـة عـلى الصورة، إذ أن فاعليتـها عنـد أ.(ريتشاردزRichards)" ترجع إلى مقدار ما تتميز به هذه الصورة من صفات باعتبارها حدثا عقليا لها علاقة خاصة بالإحساس، فالصورة أثر خلفه الإحساس على نحو لم يمكن تفسيره حتى الآن. ولكننا نعلم أن استجابتنا العقلية والانفعالية إزاء الصور تعتمد على كونها تمثل الإحساس أكثر مما تعتمد على الشبه الحسي بينها وبين الإحساس. وقد تفقد الصورة طبيعتها الحسية إلى حد يجعلها تكاد لا تكون صورة على الإطلاق، وإنما تصبح مجرد هيكل، ومع ذلك فهي تمثل إحساسا لا يقل عن الإحساس الذي تولده لو كانت على درجة قصوى من الحسية والوضوح"(4).
وهذا يثير مسألة مهمة، وتتمثل في تعدد مستويات الصورة الشعرية نظرا لتعدد العناصر المستقاة منها، الشيء الذي ساعد على إعطائها أبعادا رمزية، وفـي هـذا يقـول د. مصطفى ناصف:
و"'القارئ حينما يجد صورة ثرية في المدلول، يقول عادة أننا بصدد رمز. ويجب أن نتذكر أن الحد الفاصل بين الرمز وأية صورة أخرى لا وجود له، وأن المهمة الدقيقة هي كشف قدرة الصورة على تنوير العمل الأدبي من حيث هو كل من خلال ثرائها في المدلول، وترابط هذا المدلول بسائر الجوانب"(5).
ومن هنا تبرز أهمية الصورة الشعرية باعتبارها مزيجا متكسرا من عناصر الحلم والواقع؛ وهي بهذا جزء من العالم الخالي من جفاف الواقع وصلابته. "ولما كان الشاعر إنسانا يمزج في باطنه بين الواقع والمحتمل أصبحت وسيلته الوحيدة للتعبير؛ هي نقل هذا المحتمل بالكلمات في صور فنية، مادام المنطق والأفكار أعجز من أن يثبتا هذا الشيء المحسوس"(6).
إلا أن الشاعر المعاصر يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن تطلعه أوسع، وحاجته إلى توحيد أبعاد العالم أشد، ولذلك بدت الصورة عنده معقدة فهو يتوسل إليها عبر عدد من الوسائط التي تدخل في تركيب الصورة الشعرية. وهذه الوسائط تزداد اليوم ارتباطا برؤية مشدودة إلى المطلق. فالشاعر المعاصر يريد أن يتوغل أكثر في قلب العالم. وهذا التوغل هو الذي يدخل في المطلب الحسي ـ أو الشعري على الأصح ـ والتعقيد إذن يأتي من ربط هذه الامتدادات النفسية والحسية الهائلة وعناصر هذا الطموح الكبير، ببوتقة عمل محدود هو القصيدة.
وبذلك أصبحت الصورة الشعرية مقياسا لقدرة الشاعر على الإحاطة بالعـالـم. إنها ـ بهذا المعنى ـ نقطة مركزية استطاعت الحركة الشعرية المعاصرة إدخالها بصيغتها الحديثة في بنية القصيدة، ولذلك طرحت مسألة الرمز الشعري بوصفه البنية التي تصب في داخلها عناصر الصورة مجتمعة.
وللقبض على جوهر الصورة الشعرية في المتن الشعري الستيني، ينبغي الإقرار مسبقا بأن عناصرها متعددة، ولذلك ينبغي الغوص وراء معانيها، ودراسة أساليب بنائها كما تتجلى في هذا المتن.
وهذه المستويات في تعدد الصور الشعرية، يحيل الصور إلى أشكال غير منطقية أحيانا لا يمكن الوصول إلى معانيها الحقيقية إلا عبر استجلاء الدلالات النفسية في إطار التجربة الشعرية كلها. ولذلك يجب الاعتراف ـ مسبقا ـ بأن الاقتصار على الجانب الدلالي وحده، لن يسعف في القبض على جوهر الصورة الشعرية عند أبرز شعراء هذا الجيل.
لقد عرفت الصورة في إنتاج ممثلي العقد الستيني في سورية نوعا من التجديد تجلى عندهم في التخلي عن العلاقة التقليدية بين المشبه والمشبه به، إذ عمد شعراء هذا الجيل إلى الإيحاء بالصورة بدلا من التوضيح، وقد غالوا في ذلك أحيانا لدرجة أن القارئ يحتاج إلى التأويل المناسب كي يفك ألغاز الصور في بعض الأحيان. لقد استطاع الشاعر هنا أن يتحرر من البعد الواقعي في تناوله للصورة والمرتبطة في الإنتاج الشعري الاتباعي بالأبعاد المكانية والزمانية والمنطقية، ليجعل صوره مرتبطة برؤيته الشعرية القائمة على الحلم، ومن ثم بدت صوره هذه منفلتة من القواعد المؤطرة للصورة البلاغية القديمة، لأنها تجمع بين أشياء لا ترابط بينها في المنطق أو الواقع.
ومن خلال تتبعنا لظواهر هذه الطبيعة الجديدة للصورة الشعرية في المتن الشعري الستيني في سورية، يمكن أن نجملها في عدة مظاهر منها:
ـ المظهر الأول: تباعد أجزاء الصورة
من أجل أن تكتسب الصورة تأثيرا قويا على المتلقي، راح الشعراء يوظفون صورا أكثر حدة وتطرفا ـ كما ذهب إلى ذلك (عزرا باوند EZRA-POUND) حينما طالب بأن "تكون الاستعارة مشعة، تعصف خلالها أفكار تتردد أصداؤها ترددا غير متناه"(7).
وفي هذا الإطار، يقول علي الجندي:
" هذا البحر الماثل للاعين ليس الماء
هذا ألوان مازجها ملح،
ذوبها فنان مهووس كي تحرس كنزا فنيا
كي تخفي سر بلاد غاصت في الأرض بما فيها
وتظل دليلا للشمس يجنبها الأنواء" (8).
تختلف هنا أطراف الصورة، فتبدو متداخلة حينا، ومتباعدة حينا آخر من غير أن يربطها رابط منطقي أو عقلي؛ فالبحر عبارة عن لوحة رسمها إنسان مجنون يموه بها عن الأعين أسرار العوالم والكنوز المفقودة في أعماق المياه، وليكون بريق سطحها منارة تهتدي بها الشمس كي تتجنب العواصف.
أما عند محمد عمران، فالصورة تتجاوز الواقع إلى ما وراء العقل حين يحشد في أجزاء صورته أشياء قد لا تجتمع لأنها متباعدة، كقوله في "مرفأ الذاكرة الجديدة" لحم زنابق ـ عصير قنابل ـ لحم وردة(9) ولنلاحظ كيف يتحد بالكون في ديوانه" الدخول في شعب بوان" ليقيم علاقات غريبة بين أطراف جد متباعدة حيث يقول:
" وجدت زنار النهار حول خصري
والشمس كانت، في يدي، حناء
والريح نعلا ازرقا،
وكانت البحار
تفاحة أقضمها"(10)
لقد أتاح الشاعر لنفسه في هذا المقطع الشعري أن يحيل السماء منديلا، والنهار زنارا، والشمس حناءا، والريح نعلا، والبحار تفاحة.
ومثل هذه الصور كثيرة عنده كقوله في مقطع آخر:
"قدمي طير يرقص، ساقي جنية بحر صدري
سفن شفتي جزر، عيناي لآلئ قاع
يسكن شعري فارس ريح، في الشعرة مهر
تصهل. في كل أصابع كفي يستوطن عفريت"(11).
إن فاعلية الصورة هنا تكمن في تمثيلها للإحساس كما ذهب إلى ذلك ا.ريتشاردز حينما قال: "قد علق كثير من الأهمية على الصفات الحسية للصور. إن ما يعطي الصورة فاعليتها ليس حيويتها كصورة بقدر ميزتها كحادثة ذهنية ترتبط نوعيا بالإحساس"(12).
وهذا ما يتجلى بوضوح في النموذج التالي لمحمد الماغوط، حيث يحشد ركاما من الصور لمدينته دمشق تبدو متنافرة ومتباعدة لدرجة يصعب معها معرفة العلاقة التي أرادها الشاعر بين دمشق والموصوف أو بين المشبه والمشبه به يقول في قصيدة "أمير من المطر وحاشية من الغبار":
"دمشق البيضة المسلوقة"
والرغيف المطوي "بعناية" في حقيبة المدرسة
دمشق الخيول الجامحة
والسفن التي تسد وجه الأفق
دمشق الغبار
والدراجة المستوردة على الحائط
دمشق النجوم والمشاعل المضاءة على ذرى الأورال
دمشق الليل، والقنديل المطفأ بالشفتين
دمشق الحذاء والخناجر الممسوحة برايات كسرى
دمشق التأتأة
... ويسترسل هكذا دون انقطاع إلى حد قوله:
دمشق المحدودبة أمام الصنوبر
دمشق الوحل، النجوم، فقاقيع الحمى"(13).
إن الخصيصة الطاغية في فاعلية الصورة الشعرية في هذا المقطع الشعري لا تقوم على التشابه والتماثل بين طرفي الصورة، بقدر ما تقوم على المغايرة والتنافر.
ومثل هذا الإدراك لأهمية المغايرة والتنافر وقدرته على الإضاءة يتمثل أيضا في المبدأ المستقر في الفكر العربي القديم وفي الشعر العربي كذلك، وهو: "والضد يبرز حسنه الضد" كما يعبر صاحب الدرة اليتيمة"(14).
المظهر الثاني:
ابتداع "صور لغوية" تؤدي في تركيبتها الجديدة دور الصورة الشعرية، وإن كانت أشد غموضا وتعقيدا منها. ودور الشاعر هنا مع الكلمة دور "تفجيري" فهو: "يضم المحسوس والخيالي في سياق واحد، ويصف الأشياء بألوان لا تنطبق عليها في الواقع، وبذلك يزيدها حسية، ولكنه يجردها في الوقت نفسه من كل صلة بالواقع"(15).
وهذا يقودنا إلى الحديث عن الدور الجديد للكلمة في الصورة الشعرية كما آمن بها شعراء الستينيات، وذلك بفعل استحداثهم لطرق جديدة في التعامل مع اللفظ تختلف عن الطرق المعهودة في إقامة علاقة بين المشبه والمشبه به، وتتجاوزها لإقامة جدلية يقيمها الشاعر بين الكلمات المتجاورة.
يقول أدونيس: "اللفظ محدود والمعنى غير محدود، فكيف يمكن إقامة الصلة بين المحدود واللامحدود؟ والجواب هو في أن نجعل اللفظ كالمعنى غير محدود. لكن ذلك لا يعني أن نخترع ألفاظا لا يعرفها معجم اللغة، وإنما يعني أن نستخدم اللغة بطريقة تخلق في كل لفظ بعدا يوحي بأنها تتناسخ في ألفاظ عديدة، بحيث تنشأ لغة ثانية تواكب أو تبطن اللغة الأولى"(16).
وقد استطاع الشاعر، بفعل هذا التوجه الجديد ـ أن يصوغ صور غنية بألوان التضاد اللغوي حين جمع فيها بين المجرد والمحسوس.
إن اللغة الشعرية هنا أصبحت تقوم على "التنافر الدلالي" الذي ينتج عن الانزياح بين الدال والمدلول، وهذا ما قاد الشعراء الحداثيين إلى تعبير متعدد الدلالات والإيحاءات يقوم على بناء مجازي استعاري.
وتختلف درجة الانزياح من شاعر إلى آخر، إلا أن درجته المكثفة والقصوى تظهر جليا في النصوص ذات البنية الرؤيوية عند كل من محمد الماغوط ومحمد عمران وفايز خضور وعلي الجندي. وقد كانوا في ذلك متأثرين إلى أبعد حد بأنصار مجلة "شعر" الذين قرنوا بين الشعر و"الرؤيا".
واتخذت الانزياحات عند أصحاب هذا الاتجاه في المتن الشعري الستيني، بنية استعارية واضحة تلغي الفاصل التقليدي بين الذات والموضوع، فتجاوز المجاز هنا الحقيقة حتى تحول الواقع في شعرهم إلى سيل من العناصر المتداخلة يعجز الذهن عن الإمساك به. من هنا فإن القصيدة ـ كما يقول يوسف الخال ـ "لا تشرح العالم أو تفسره أو تنقله أو تكتشفه، وإنما تعيد خلقه من جديد على محك تجربة الشاعر، وبواسطة الشاعر، وبواسطة حدسه ومخيلته"(17).
إن مهمة الشاعر إذن لم تعد منحصرة في إعادة إنتاج الواقع، بل تتعداها إلى ابتكار وخلق عالم آخر بديلا تحدسه الرؤيا الشعرية.
من هذه المنطلقات، انفلتت الصورة الشعرية من العلاقات المنطقية، لتدخل عالما من التنافرات الدلالية الناتجة عن الانزياحات، فغذا الشعر خلقا أكثر مما هو تعبير، كما غذا حلما.
وإذا كان هذا الحلم هو مادة القصيدة، فإن الوصول إليه يتم عبر اختراق الواقع اليومي، و"من أجل ذلك يقتضي أن يكون كل شيء في الكون (التاريخ والسياسة والعلوم والفلسفات، والموت والوجود والمستقبل) موجودا في الذهن كجوهر متحد عند كتابة أية قصيدة"(18).
والحقيقة أننا نجد في هذا التوجه الجديد "صورية" حديثة تقطع صلاتها بالاستعارة التقليدية لتخلق أسسا جديدة للتعبير الشعري، تنزع فيها الصورة إلى أن تحل كليا محل المعايير المعتادة للغة.
وأحسن ممثل لهذا التوجه في ديوان الشعر الستيني في سورية هو محمد الماغوط. ففي قصائده ثم الانعطاف الأهم والحاسم في بنية الصورة الشعرية.
فحين يقول الماغوط مثلا:
" ونحن نعدو كالخيول الوحشية على صفحات التاريخ
نبكي ونرتجف"(19).
نلاحظ أنه يريد أن يتحرر من العلاقة المقامة بين الصورة ومرجعها، لأنه يريد إقامة علاقة معينة بين العناصر الدالة من جهة، وبين هذه العناصر والدلالة التي تصدر عنها من جهة ثانية. ومن ثم يفتح إمكانية تعدد قراءة مكونات هذه الصورة التي توحي لنا بالصيغة التالية:
- يخوض الشاعر نضالا صعبا ومستمرا ودائما، ومن ثم فهو يسعى إلى الانفلات من قبضة الجلاد رغم شعوره بالخوف.
فـ "صفحات التاريخ" تتمتع دائما بمرجع يربط معناها بالواقع، وبالمشاهد اليومية. و"الخيول الوحشية" استعارة بعيدة لا تعدم الشبه بما خبره المناضلون الذين كان الشاعر واحدا منهم، وما عاشوه من إيمان مندفع متأجج ومن ذعر نتيجة المطاردات البوليسية. ويقول في معرض حديثه عن دمشق:
" دمشق يا عربة السبايا الوردية
من قلب السماء العالية
اسمع وجيب لحمك العاري"(20).
إن صرخة عتاب حبه لدمشق اختار لها انزياحا لغويا مكثفا لدرجة أن القارئ يستعصي عليه الأمر في فك رموزه، فهل يتعلق الأمر بمقارنة بين المدينة التي يجتاحها الطغيان، وبين "الأجساد العارية" لضحايا التعذيب في السجون. ربما؟
ولكن لماذا وكيف يمكن سماع ارتجاف هذا اللحم العاري "من قلب السماء العالية"؟
هكذا أصبحت تبدو العلائق بين الصورة وأصولها المرجعية غائمة وفضفاضة لا يمكن القبض عليها. وتحفل دواوين محمد الماغوط بمثل هذه الصور، ويكفي أن أسوق في هذا المضمار الأمثلة التالية:
" في أظافري تبكي نواقيس الغبار"(21).
و"غزال يتأبط صحراءه كتلميذ"(22).
"لنبكي، لنسمع رحيل الأظافر وأنين الجبال،
لنسمع صليل البنادق من ثدي امرأة"(23).
"التثاؤب هو مركبتي المطهمة، وترسي الصغيره
والأحلام، كنيستي وشاعري"(24).
"أنا رجل غريب لي نهدان من المطر
وفي عيني البليدتين
أربعة شعوب جريحة، تبحث عن موتاها"(25).
إن الانزياحات هنا ذات بنية استعارية واضحة، تلغي الفاصل التقليدي بين الذات والموضوع، من هنا فهي لا تتمتع بصفة التمايز والوضوح التقليدية، بل بسمة اختلال علاقات التناسب المنطقي.
إننا نحس أمام هذه المقابلات المثيرة ـ كما يقول أحمد بسام ساعي ـ "وكأن فقاعات من الخيال تتفجر في نفوسنا، فيصل رذاذها إلى أبعاد عميقة من أغوارنا لتترك آثارا أخرى تختلف عن الآثار التي تتركها الصورة العادية"(26).
المظهر الثالث: الصورة وحركة المجتمع داخل المدينة
إن تجربة جيل الستينيات في سورية رغم وضوح التصوير الغنائي فيها، لا تحذف الواقع، بل يظهر هذا الأخير داخل النص نفسه في صورة علاقات ووقائع يصب محورها في المحيط الدلالي للحياة اليومية. من هنا تبدو هذه الغنائية، وهي تعبر عن مشاعرها وانفعلاتها وحسها المتوتر الإشكالي بالعالم الذي يحيط بها، وكأنها اقتراب من كتابة الحياة اليومية في المقهى والشارع والحارة الشعبية والمبغى والحانة والرصيف... إلخ.
لقد عاش الشاعر الستيني في سورية تجربة مريرة في علاقته بالمدينة، فمعظم شعراء هذا الجيل عبروا عن رفضهم لها، وهو في حقيقة الأمر، رفض لمجتمعها. ويمكن القول مع "عبد الله عساف": إن الطابع الصدامي بين الشاعر والمدينة ما هو إلا ذلك الطابع الصدامي بين الفرد والمجتمع"(27).
ومن هذا المنطلق. تم التركيز على ما يحبل به الواقع الاجتماعي في فضاءات المدينة. والتقاط مفاصلها بحساسية أعطت أفقا شعريا للغة الاعتيادية اليومية، وإدخالها في تركيب شعري جديد. وقد تطلب ذلك إعادة النظر في الطبيعة الميتافيزيقية الوجودية أو شبه الوجودية والحدسية للرؤية الحديثة في الشعر.
وبالمعنى الذي يميز به (بنفينيست Benevenist)(28) ومن بعده (تودوروف Todorov) و(جنيت Genette) بين الخطاب والسرد، فإن شعر محمد الماغوط يبدو كخطاب شعري ذاتي يقص وحدات سردية أو زمنا وقائعيا يحيل مباشرة إلى مرجعية الواقع. وكما برهن (جيرار جنيت G.Genette) أن حدود الخطاب والسرد لا تتمايز في حالة صافية، بل ثمة تداخل بينهما، فإنه يمكن القول أن شعر الماغوط صورة لهذا التداخل. إنه شاعر مدينة بالمعنى العميق تنغرس قدماء في أرصفة دمشق كنابين في لثة، ويطل على أرصفتها كل صباح، وهو يقذف بقدميه الحصى في طرقها:
"كنت أطل على أرصفتها كل صباح
ما من حصاة في الطريق
إلا وقذفتها بقدمي
ما من صنبور في حاراتها الضيقة
إلا وشربت منه بفمي
ما من حارس ليلى أو بائع صبار.
في لياليها المقمرة
إلا وسامرته وسامرني
ما من مزلاج في أبوابها العتيقة
إلا وداعبته بجبهتي وأصابعي
ولكن ما من باب مغلق
فتح ذات ليلة
وقال أهلا أيها الغريب"(29).
وهكذا يدخل المحيط الدلالي للحياة اليومية في القصيدة محملا بصور متدفقة وينهض هذا المحيط الدلالي في النص ليس عبر هيمنة الوظيفة اللغوية المرجعية، بل أساسا على الوظيفة الانفعالية، تلك المرتبطة بـ "الأنا" التي لا تعبر عن مشاعرها وانفعالاتها فحسب، بل تسردها عبر علاقتها بالأشياء والتفاصيل. فالماغوط يرى أن الشعر بالنسبة إليه هو داخل اللغة الاعتيادية، وهذا ما سماه (هنري ميشونيك Henri Michounic): بـ "الشفوية" أو اللغة الأبسط والأكثر اعتيادية"(30).
وتضفي هذه اللغة الاعتيادية تلقائية في إنتاج صور غريبة كما يتجلى في النموذج التالي:
" سأمرر يدي على خطوط الحافلات
على الأرصفة التي تسكعت عليها
والأبواب الصدئة التي اتكأت عليها
واسمع قلبي وهو يهتف من أعماق الأرض المذنبة:
انتقم لبأسك وكفاحك
تذكر دموعك في باحة المدرسة
وأصابعك التي اهترأت على قبضات الحقائب
تذكر شقيقاتك النحيلات
وآذانهن المثقوبة بالخيطان"(31).
إن هذا التعبير الشعري، رغم وضوح التصوير الغنائي فيه، لا يحذف الواقع، بل يظهر هذا الأخير داخل النص نفسه في صورة علاقات ووقائع يصب محورها في المحيط الدلالي للحياة اليومية.
ومن القصائد التي تستحضر مناخا من هذه التلقائية والغرابة، يمكن العودة إلى قصيدة الماغوط "الخطوات الذهبية" ص 53، وكذا "الرعب والجنس" ص 161.
هكذا يحضر المرجع الواقعي الحي داخل الخطاب الشعري، والسمة الأساسية لهذا التداخل تتجلى في إشكالية هذه العلاقة. إذ أن غنائية الماغوط، غنائية احتجاج حاد على الواقع السائد من موقع المثقف الحساس الذي يستعجل التغيير:
إذ يقول في قصيدة: "تبغ وشوارع":
" سامحيني أنا فقير يا جميلة
حياتي حبر ومغلفات وليل بلا نجوم
شباب بارد كالوحل
عتيق كالطفولة
طفولتي يا ليلى... الا تذكرينها
كنت مهرجا
ابيع البطالة والتثاؤب أمام الدكاكين
العب الدحل
وآكل الخبز
وكان أبي لا يحبني كثيرا، يضربني على قفاي كالجارية
ويشتمني في السوق
وبين المنازل المتسلخة كأيدي الفقراء
ككل طفولتي
ضائعا.. ضائعا
اشتهى منضدة وسفينة... لأستريح
لا بعثر قلبي طعاما على الورق"(32)
تحضر في هذا النص علاقة متكلم ومخاطب ذات أبعاد نفسية واجتماعية جلية، وهي علاقة يصاحبها التعبير الانفعالي، والاعتذار، والاعتراف، ومحاولة إشراك الآخر في هموم الذات، ويقص المتكلم وحدات سردية تنتمي إلى المحيط الدلالي للحياة اليومية في الحارة الشعبية، (بيع البطالة والتثاؤب أمام الدكاكين، لعبة الدحل، أكل الخبز في الطريق، الضرب على القفا، الشتم في السوق...)
وفي قصيدة القتل يوظف الماغوط قضية صراع الفرد مع السلطة ويصيغه فنيا من خلال صور مجسدة لهذا الصراع، حيث يطرح من بداية القصيدة طرفين غير متكافئين، تبدو السلطة/الطرف الأول متعطشة للدماء، شرهة جنسيا، فاقدة لكل القيم الإنسانية، في حين يبدو الفرد/ الطرف الثاني مستلبا، ضائعا، يعيش ضمن كابوس دموي. إذ يقول فيها:
" أين كنت يوم الحادثة؟
كنت الأحق امرأة في الطريق يا سيدي
سطحوه على الأرض
انني على الأرض منذ أجيال
اتسكع بين الوحوش والأسنان المحطمة
اضربه على صدره، انه كالثور
سفله، دعني لآكل لحمه
... مئات السياط والأقدام اليابسة
انهمرت على جسدي اللاهث
وذراعي الممدة كالحبل
كنت لا أميز أي وجه من تلك الوجوه
... لقد فقدنا حاسة الشرف
أمام السياط التي ترضع لحم طفلة بعمر الورد
تجلد عارية أمام سيدي القاضي
وعدة رجال ترشح من عيونهم نتانة الشبق
والهياج الجنسي.
وجوه طويلة كقضبان الحديد
تركتني وحيدا في غرفة مقفلة، امضغ دمي
وابحث عن حقد عميق للذكرى"(33).
فمن خلال عناصر الزمان (وهو بعد الاعتقال مباشرة)، والمكان (غرفة التحقيق)، والشخصيات (السلطة والفرد)، والحدث (المحاكمة)، تنتقل الصورة بين مجموعة غزيرة من الصور الجزئية، وتأخذ فاعليتها ضمن قناتين رئيسيتين، يربط بينهما تصاعد الحدث دراميا.
يبدو عنصر الواقع بشقيه: الحسي والاجتماعي بارزا في الصورة، حيث استطاع الشاعر أن يجسد المشهد، ويجعله في حكم المرئي، وعلى أساس ذلك، فطبيعة الصورة الأساسية هي الحسية، وقد أبرز الشاعر من خلالها ملامح الطرفين المذكورين. فالطرف الأول يبدو: متشردا، لا مباليا، مدركا للمآل الذي ينتظره، لا يقبل كل ما يؤمر به.
أما الطرف الثاني فيبدو قاسيا، دمويا، غير إنساني.
ومما أعطى الصورة توهجا هنا، هو عنصر العاطفة الذي يكشف عن شعور الفرد بالقهر والظلم والاضطهاد.
وقد قدم الماغوط كل ذلك عن طريق الحوار اللامتكافئ تارة، وعن طريق تجسيد المشاهد تارة أخرى. ويحفل ديوان الشعر الستيني بأمثال هذه الصور المجسدة لمسألة الصراع بين الحاكم والمحكوم، أو بين السلطة والأفراد، لدرجة أنه صدرت عشرات الدواوين التي تسير في هذا الاتجاه الذي يدين السلطة، ويعتبرها السبب المباشر فيما آلت إليه أوضاع الشعوب العربية في العصر الحديث، ويكفي أن أشير إلى الصفحات التالية من دواوين كل من:
محمد عمران: "أغان على جدار جليدي": ص 109-110 و"الدخول في شعب بوان" ص 112-113.
فايز خضور: " صهيل الريـاح الخرساء": " ص 33-34-35، و"كتاب الانتظار" ص 14-15، 64-65.
ممدوح عدوان: "الدمـاء تـدق النـوافذ": ص 56-61 و"تلويحة الأيدي المتعـبة" ص 37-38.
علي الجندي: "الشمس وأصابع الموتى " ص 68-69.
محمد الماغوط: ديوانه ص 281-283-304.
شوقي بغدادي: "بين الوسادة والعنق" ص 5 وما بعدها.
وقد تميزت الصور الفنية التي عكست هذا الجانب عامة بالمباشرة والوصف، وأخذت طابعا صداميا يتميز بالسخرية تارة، وبالشراسة تارة أخرى.
يتضح مما سبق أن معظم الصور الفنية التي عكستها تجربة الشعر الستيني في سورية كانت تركز في الغالب على عنصري الفكر والواقع، وتهمل عناصر الخيال والعاطفة، باستثناء محمد الماغوط. ولعل مرد ذلك يعود ـ كما قال عبد الله عساف إلى "معاناة الماغوط المزمنة على المستويين الاجتماعي والسلطوي، ووعيه بتلك المعاناة التي شكلت لديه هاجسا دائما يساعده على إبداع يلقي فاعليته التأثيرية الكبيرة لدى المتلقي بفعل توازن الأبعاد الدلالية والفنية والنفسية(34).

المظهر الرابع: الصورة الكلية
تعتبر الصورة الكلية مظهرا من مظاهر التطور الذي أصاب بناء القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة باعتبارها كيانا عضويا متكاملا. فالوحدة العضوية ليست " إلا وحدة الصورة، ووحدة الصورة هي بالضرورة وحدة الإحساس أو هيمنة إحساس واحد على القصيدة كلها. وعلى هذا فالوحدة العاطفية هي دليلنا على تحقيق الوحدة العضوية في العمل الفني، ومعنى هذا أن الصور في داخل العمل الفني ما هي إلا تجسيد للتجربة أو للحظة الشعورية التي يعانيها الفنان، والطبيعي أن تسيطر التجربة على كلماته وعباراته وموسيقاه وصوره"(35).
وهذه الوحدة المسيطرة على القصيدة هي وحدة غنية بالتنوع من خلال الصور، وفي هذا يقول د. محمد النويهي" لأن الوحدة المطلوبة لا تحجز الشاعر عن تعدد التجارب والعواطف في قصيدته وإنما تشترط أن تكون جميعها متجانسة المغزى، هادفة بتعددها إلى استجلاء وحدة في الوجود أو في موقف النفس البشرية منه"(36).
ويتضح من خلال استقراء المتن الشعري لممدوح عدوان أنه وظف الصورة الكلية من خلال البناء الدرامي الذي يعتمد فيه الشاعر على مجموعة من الأساليب الفنية كالحوار والحوار الداخلي والسرد القصصي، وذلك لتمثيل الصراع والحركة التي تعج بها مجموعة كبيرة من قصائده.
يقول في قصيدة: "الجنازة"(37).
"زغردوا للعروس
    التي اكتشفت في الرياحين وجه الصبا
زغردوا
    واحملوها
إلى حيث فاح أريج التراب
وزفوا مباهجها
    للربيع الذي يعتريها
افسحوا من حولها
كانت تحب النسمات الباردة
انها متعبة من عمرها المضني
سرقوا حلم صباها
    تركوها في الضنى محتلة
    ترزح من وطأة هذا الحيف
...
    لن تبدأ الآخ من وجع العمر
    أو وجع الظهر
لن تبدأ الآه من شهقات الرياح
    وأمك ليست سوى زمن مستباح
إذ تغيب توسع بيتك
    أضحى فلاة
    وحزنك يرسو على رجفان المفاصل
    شعرك يرسو على عتبات الفواصل
    همسك يبدأ من بحة في الرياح
    وأمك ليست سوى وطن مستباح.
... أمي هي الخبز والماء
    والريح والأرض
    أمي هي الدمع والجرح
    والنهر والجمر
    أمي هي الضوء والنوء
    والبرد والورد
... انظروا
    كيف جاءت تلوح في الزهر فواحة
أوقفوا الزغردات،
    اسمعوا:
    إن أمي تزغرد فينا دماء
هي الأرض تحبل
والخصب يقبل
والأغنيات الأبية
من رمم وئدت
ثم جاءت تحاسب
هذي قيامتها
المطر الآن يشرب شمسا
هلموا، استحموا عراة
تبارك هذا الصباح
فأمي تطل
    وتبسم
    قوس قزح".
من الواضح أن أهم الصور من حيث التكرار في هذه القصيدة هي صورة الأم التي تحمل رمز الأرض، إنها مرتبطة بالوجود المأساوي الذي يلح عليه الشاعر.
وسياق صورة الأم/الأرض ـ في هذه القصيدة ـ يحمل في ثناياه توترا دلاليا بين:
أ- ما تحمله الأم من رموز الخصب والعطاء والتضحية والحنان. (أمي هي الخبز والماء، والريح والأرض، والدمع والجرح، والنهر والجمر، والضوء والنوء، والبرد والورد).
ب- استشهاد الأم التي تزف لأريج التراب بعد أن سرق الدخلاء والأعداء حلم صباها وتركوها ترزح في الضنى والذل والعجز (سرقوا حلم صباها ـ تركوها في الضنى محتلة ـ ترزح من وطأة هذا الحيف ـ من عجز عن الألفة للذل...).
ج- بعث الأم من جديد، حيث لاحت كالزهر الفواح، حاملة معها كل معاني الخصب والعطاء لتحاسب أعداءها وتنتقم منهم، وتحمل البشرى إلى قومها وتغذق عليهم كل معاني الخصب والعطاء: (من رمم وئدت ـ ثم جاءت تحاسب ـ هذي قيامتها ـ المطر الآن يشرب شمسا ـ فأمي تطل وتبسم قوس قزح).
إن القصيدة من خلال تجسيدها الدرامي لتحول الأم إلى أرض مخصبة ترسم صورة كلية لهذا التحول. ولذلك يرتبط فهم الصورة الشعرية هنا بفهم الموقف الشعري كله، وبإدراك التجربة الإنسانية المكتملة في القصيدة.
 وفي قصيدة: "هكذا تكلم التل" من نفس الديوان؛ يجسد ممدوح عدوان مأساة" تل الزعتر" الفلسطيني عبر توظيفه للصورة الكلية في بناء درامي يضفي على القصيدة شحنة تعبيرية مليئة بالدلالات، إذ يقول في هذه القصيدة:
" أنا الهم المتلل
لي روائح زعتر في الوعر تعرفني
ولي دمع وأغنية وقنبلة
    ولي قلب يخبئ أمه من أعين الحساد
إني قائم عينا مفتحة
    على أسرار هذا العهر
أبقى شاهدا وحدي على تلك الجريمة
.... أنا وقفة النخل الآبية
    في عناق الموت
    لم انبت بمعجزة:
ولم يعل النبي مقامه في تربتي
    أرض مهلهلة
    أتى الجوعى الي وتللوني
انني الهم المتلل
... شاهدة لأرض حولت قبرا
أنا باب لمقبرة مشجرة
ولافتة مزخرفة لباب المسلخ العربي
وحدي قد كشفت السر:
    إن البحر صحراء
... أنا الميدان
والفتيان ما حلموا بقبر
    بعدما خسروا بلادا
... إنني التل المقاتل
    حين تستشري الخديعة
إنني قدس وقدوس
تعرى في دمي المنفى
وأبنائي استباحوا الموت
هل كنا وعدنا بالقيامة؟
... أنا الهم المتلل
    إنني عين مفتحة
    كشفت السر:
    زقزقة العصافير الجميلة لم تكن إلا مسجلة
    وخضرة هذه الأشجار أصبغة
    وقعقعة العدو خديعة
... علمتني ألف مجزرة
    بأيدي الأهل والأعداء
إني يوسف العربي
    دلاني الإخاء ببئر عذر
    أوصلتني للمنافي والنخاسة والسجون
ولم أزل أطوي الحنايا حول سر الحلم
... أنا القمح الذي كنا
سنابلي العريقة ترتمي للريح كالقتلى
            وتنهض
تنطوي تحت التراب كأنها موتى
            فتبذر(38).
تتعدد صور "تل الزعتر" في هذه القصيدة بكيفية لافتة لانتباه، وتأخذ هذه الصور أبعادا درامية تشع روحا مأساوية في ثنايا القصيدة.
وتتمحور هذه الصور جميعها حول توحد الشاعر بالكون والرموز والأشياء، ويتجلى هذا التوحد في الصور المتلاحقة التالية:
أ- أنا الهم المتلل لي روائح زعتر في الوعر يعرفني- وتتكرر هذه الصورة ثلاث مرات.
ب- أنا وقفة النخل الأبية.
ج- أنا باب لمقبرة مشجرة ولافتة مزخرفة لباب المسلخ العربي.
د- أنا الميدان.
ﻫ- إنني التل المقاتل.
و- إنني قدس وقدوس
ز- إنني عين مفتحة.
ن- أنا يوسف العربي.
ح- أنا القمح.
يبدو التوحد إذن في إلغاء الشاعر للفواصل بين عناصر الصورة، فتهيمن الاستعارة التي تدعم توحد الشاعر بالكون والأشياء، بالإضافة إلى التكرار النحوي لصيغة الجملة الإسمية التي تشكل صورة "الهم المتلل" أو تتجاوب معها. ويتكاثف هذا التوحد ـ عبر تسع صور ـ في بؤرة رئيسية واحدة هي: شهادة الشاعر على الزمن الفلسطيني:
" إني قائم عينا مفتحة على أسرار هذا العصر"
" لأني شاهد الزمن الفلسطيني"
" أبقى شاهدا وحدي على تلك الجريمة"
" إني عين مفتحة"
" كشفت السر".
ويتحول هذا التوحد في المقطع الأخير من القصيدة إلى سنابل تصير ـ في النهاية كمائن ـ تنهض بطلقة تحسم كل هذا العذاب والقهر الفلسطيني. فتبعث الحياة في الموت.
من الواضح إذن، أن أهم الصور من حيث التكرار في هاتين القصيدتين (الجنازة، وهكذا تكلم التل) هي صورة الأرض المرتبطة بالوجود المأساوي ـ والمتمثل في الاحتلال الصهيوني لها ـ ولذلك يلح الشاعر على اعتبارها رمزا للأم، لكنها الأم المقتولة التي "تطارد قاتلها" ـ وهو عنوان الديوان الذي تنتمي إليه هاتين القصيدتين ـ والتي تسيطر دماؤها على باقي القصائد الأخرى.
إن الأرض/الأم، تظل متوترة في هذا الديوان، ولذلك فهي تبدو ـ من خلال هذه الصور الكلية ـ ظامئة لنيل ثأرها، يؤجج عطشها الغضب المنبعث من الماضي كهذا العطش الكربلائي الذي يبدو في الصورة التالية:
أمي تطارد قاتلها
فلا يرتوي العطش الكربلائي
لا يكتفي بالدماء المهلهل
أسالها في الصباح
        هل القتل كفر؟
        أم الدم مهر؟(39)
وبالإضافة إلى ممدوح عدوان، فقد وظف الصورة الكلية كلا من: محمد عمران وعلي الجندي وفايز خضور، ويمكن العودة إلى:
"عرض حال مواطن من الدرجة الثالثة "لفايز خضور في ديوانه: "صهيل الرياح الخرساء".
و"مرفأ الذاكرة الجديدة" لمحمد عمران في ديوانه بنفس العنوان و"طرفة في مدار السرطان" لعلي الجندي، وهي قصيدة طويلة تحتل ديوانا بكامله بنفس العنوان.
نستنتج من خلال تتبعنا لتجليات الصورة الشعرية في المتن الشعري الستيني، أنها احتلت حيزا هاما متعدد المظاهر، إذ تجلى مظهرها الأول: في تباعد أجزائها حتى باتت متداخلة ومرتبطة بالواقع حينا، ومتباعدة متجاوزة هذا الواقع حينا آخر، نظرا لإيمان الشعراء بأن فاعلية الصورة الشعرية يجب أن تكون حادثة ذهنية غنية بتمثلها للإحساس.
وتجلى مظهرها الثاني: في ابتداع الشاعر الستيني لصور لغوية أكثر غموضا وتعقيدا، قائمة على الانزياح اللغوي، حيث استطاع الشاعر هنا صياغة صور غنية بألوان التضاد، إذ جمع فيها بين المجرد والمحسوس وبرهن فيها على قدرته التخييلية الخلافة.
أما المظهر الثالث من مظاهر الصورة الشعرية؛ فقد تمثل في التقاط صور الواقع الاجتماعي كما حبلت به فضاءات المدينة، والتقاط مفاصلها بحساسية، وعكس الصراع الدائر بين السلطة والفرد، أو بينها وبين الجماعة وقد وظف الشاعر من أجل صياغة هذه الصور، لغة اعتيادية يومية أدخلها في تركيب شعري جديد.
في حين أن المظهر الرابع للصورة كما تبدت في ديوان الشعر الستيني، فقد تجلت في توظيف الشاعر للصورة الكلية التي عكست مدى التطور الذي أصاب بناء القصيدة الستينية في سورية.
غير أن الصورة وحدها لم تكن لتعطي القصيدة كل تماسكها الداخلي في أفق صياغة تجربة شعرية طموحة من أجل تأسيس تيار حداثي واضح المعالم، ولذلك طرحت مسألة الرمز الشعري.


الهوامش:
1- انظر تعريفات  الصورة في: Encyclopedia Britanica. V.12. Ed 14. p 108.
2- نوفاليس: (Novalis): " فن الشعر" ترجمة رشيد حبشي، مجلة مواقف، العددان 24-25 بيروت، ص 207.
3-ارشيبالد مكليش "الشعر والتجربة" ترجمة سلمى الخضراء الجيوشي، بيروت 63، ص 670
4- أ ريتشاردز "مبادئ النقد الأدبي، ترجمة مصطفى بدوي القاهرة 63، ص 172.
5- مصطفى ناصف: "مشكلة المعنى في النقد الحديث" مكتبة الشباب، القاهرة 65، ص 88.
6- محي الدين محمد "محاولات في تحليل التجربة الشعرية" مجلة "شـعر"، عـدد 18 يونيـو 65 ص 32.
7- عن عبد الغفار مكاوي: "ثورة الشعر الحديث"، ج 1، القاهرة 1972، ص 313.
8- علي الجندي، من ديوانه "الشمس وأصابع الموتى" قصيدة، "الحجر والماء"، ص 18.
9- محمد عمران: "مرفأ الذاكرة الجديدة" ص 31، وانظر كذلك الصفحات من 90 إلى 103.
10- محمد عمران: "الدخول في شعب بوان" الدخول الثالث، الحب، ص 59.
11- محمد عمران: "نفس الديوان، نفس القصيدة، ص 59.
12- اريتشاردز: "مبادئ النقد الأدبي"، لندن 1924، (تحليل قصيدة).
13-محمد الماغوط: "ديوانه" "الأعمال الكاملة"، ص 178-179.
14- يراجع كمال أبوديب: "في الشعـرية" مجـلة الثقافة الجديـدة" عدد 25، السنة السادسة، 1982، ص 36.
15- عبد الغفار مكاوي: "ثورة الشعر الحديث"، مرجع مذكور، ص 142.
16- أدونيس أحمد علي: "الثابت والمتـحول، بحـث في الاتباع والإبداع عند العرب، بيروت 1974، ص 11.
17- يوسف خال: مجلة "شعر" عدد 25، شتاء 1963، ص 143.
18- البيان الشعري: فاضل العزاوي، سامي مهدي، فوزي كريم، خالد علي مصطفى، مجلة: "الشعر" عدد 1، السنة الأولى، بغداد، إيار 1969.
19- محمد الماغوط: ديوانه "حزن في ضوء القمر" ص 12.
20- محمد الماغوط: نفس المصدر، ص 11-12.
21- محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر"، ص 53.
22- محمد الماغوط: "عزفة بملايين الجدران"، ص 54.
23- محمد الماغوط: "حزن في ضوء القمر"، ص 50.
24- محمد الماغوط: نفس المصدر، ص 17.
25- محمد الماغوط: نفس المصدر، ص 51.
26- أحمد بسام ساعي: "حركة الشعر الحديث في سورة من خلال أعلامه" مرجع مذكور، ص 36.
27- عبد الله عساف: "الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا: تجربة الحداثة في مجلة "شعر" وجيل الستينيات في سورية، دار دجلة القامشلي ط 2، 1996، ص 106.
28- يميز ينفينيست بين (الخطاب: Discours) و(السرد Récit) وللتفصيل في الحدود بينهما يمكن العودة إلى مجلة: "Ed Seuil. Paris 1966 « communications "
29- محمد الماغوط: ديوانه، ص 259، وينطبق ذلك تماما على قصيدته الطويلة: "القتل" ص 58، وكذا على قصيدته "تبع وشوارع"، ص 32، من أعماله الكاملة.
30- يراجع حوار شوقي عبد الأمير مع هنري ميشونيك، مجلة "مواقف" 49 شتاء 1984.
31- محمد الماغوط: ديوانه من قصيدة" وجه بين حداثيين" ص 183.
32-محمد الماغوط: ديوانه "تبغ وشوارع" ص 44.
33-محمد الماغوط: ديوانه قصيدة "القتل" ص 96-97-98 (بتصرف).
34- عبد الله عساف: "الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا" مرجع مذكور، ص 129.
35- محمد زكي عشماوي: "قضايا النقد الأدبي والبلاغة" دار الكتاب العربي، ص 110-111.
36- محمد النويهي: "قضية الشعر الجديد" القاهرة. 64، ص 117-118.
37- من ديوانه: "أمي تطارد قاتلها" دار العودة، بيروت 1982، الصفحات 5-6-7-10-11-13-14-24-30-31. وقد سبق أن استخلصت هذا المظهر من مظاهر الصورة الكلية في دراستي السابقة حول أعمال ممدوح عدوان الشعرية.
38- ممدوح عدوان: قصيدة: "هكذا تكلم التل" من المجموعة الشعرية: "أمي تطارد قاتلها"، مصدر مذكور، الصفحات من 58 إلى 83 بتصرف.
39- من قصيدة: "أمي تطارد قاتلها" من المجموعة الشعرية بنفس العنوان، ص 42-43.
   د. امحمد برغوت أستاذ باحث في الأدب الحديث- المغرب   

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة