صدر في مدينة " ياش" الرومانية مجموعة شعرية باللغة العربية بعنوان " فسيفساء الروحِ " للشاعرة و الدكتورة "كورينا ماتي غيرمان " وترجمها للعربية الشاعر و الروائي و المترجم " منير مزيد "، و سيوزع الكتاب على كليات الأدب العربي للجامعات الرومانية و الدول المجاوة لها ..
و كورينا ماتي غيرمان : شاعرة و أديبة و روائية رومانية و تحمل شهادة الدكتوراه .ولدت 30 آذار/ مارس عام 1967 في (ياش ) . ظَهرتْ في الحياةِ الأدبيةِ قبل سَنَوات قَليلة و كان ظهورها الأول عام 1998 من خلال مجموعتها الشعرية " أزهار الربيع " والذي لاقى استحسان الكثير من النقاد و الشعراء و من ثم بدأت تتوالى أعمالها الشعرية و الأدبية بالظهور، فقد قدمت بحدود 25 عملا متنوعا من شعر، و قصة، و رواية..
و الكتاب يحتوي على 60 قصيدة و سيرة ذاتية للشاعرة "كورينا ماتي غيرمان " ،و سيرة ذاتية للمترجم " منير مزيد " ، و مقدمة كتبها الشاعر و الناقد الفلسطيني " محمود فهمي عامر " والتي جاءت في بداية الكتاب ، وخاتمة كتبتها الأديبة " هيام فؤاد ضمرة " و جاءت في نهاية الكتاب ..
وكتب الأستاذ " محمود فهمي عامر " في مقدمته :
" المتتبع بتذوق فني لعناوين الأعمال الأدبية المنشورة للأديبة الرومانية كورينا ماتي غيرمان يصل إلى خلاصة تجربتها الحالمة في مستقبل التقارب الإنساني بكل اتجاهاته التي وصل إليها هذا الديوان التكتيكي في عنوانه فسيفساء الروح ، هي نتيجة ثلاثية الأبعاد في مشروعها العالمي ، فهي تركز في عناوينها على ثلاثة ثوابت أساسية تتمثل بهذا الترتيب التركيبي التراكمي لنتيجتها المرجوة : الطفل، والحلم، والكون، وهذه الثلاثية تعد رؤية مستقبلية تدرك حقيقة الإنسان بكلتا العينين اليمنى واليسرى المذكورتين في هذا الديوان الشعري دون تحيز لإحداهن في نظرتهما الطفولية الحالمة لمستقبل جديد تعيش فيه الإنسانية بسلام.
وما كان هذا الإنتاج الأدبي الضخم الذي بدأ ناضجا بتفوقه الإنتاجي ورؤيته وفاق خمسة وعشرين عملا منشورا في عشر سنوات إلا دليلا على عبقرية فريدة تعود بنا إلى صومعة الأدباء والكتاب، وهو إنتاج يعبر عن موهبة إلهية غير مصطنعة فرغت معظم وقتها لتحقيق مشروعها المستقبلي بأداتها الثقافية الواعية لهدفها المنشود .
هذا الديوان (فسيفساء الروح) يحمل ثمرة رسالتها العالمية ثلاثية الأبعاد؛ لأن الفسيفساء على الرغم من تعدد صورها ورسومها وجزيئياتها تتحد وتتعاون معا لتشكل أو تركب صورة إلهية فطرية المنشأ تعيش بسلام وإخاء مع كل متناقضاتها التي هي في أساسها مصدر الجمال لو أدرك الإنسان كنهها وما وراء طبيعتها من جمال وأحس به .
لقد نجحت الكاتبة دون إعلان أو تشهير لمشروعها أن تجعل أعمالها تنطق بوردية أحلامها، وأهدافها النبيلة، وتركت للقراء الحكم على ما فيها من عالمية انطلقت من ذاتها الحالمة لتصل بمشروعها الثلاثي إلى كل ذات تتمنى إنسانية وجودها.
وجاءت نصوص ديوان (فسيفساء الروح) مع أول قصيدة فيه بعنوان (كل شيء غدا) لتؤكد مشروعها المستقبلي القائم على مفهوم ثنائية (فسيفساء الروح)، هذه القصيدة التي لم تأت عبثا في بداية ديوانها، ولكن لتكون مقدمة أو تمهيدا يعبر عن فلسفتها في الحياة بثلاثية الأبعاد، واقتضت الضرورة النقدية أن أضع أرقاما لما اخترته من القصيدة؛ لتوضيح ما يؤكد هذه النظرية الغيرمانية:
(1)
أشيد الآن صباحاً نامياً
أَكْتبُ له قصيدة متجذرة
بجذور رائعة لأغنية
نظمت أبياتها بالإلهام المعلّق...ة
(2)
كلنا الآن أصبحناعائلة
في فضاءِ القلب الداخليِ
شمس ما سَتَخْلقُ
كلّكم تَعْرفونَها
(3)
أفكر في علاقتنا المتبادلة
ازدهار مدهش لمس الاكتشاف
(4)
ربما الاحتمال سَيُفرغُ ..
سَأَجِدُ اسمَه
في التأملِ الأكثرِ عمقاً
الذي سَأَخْلقُه غداً ...
وتسير كل قصائد (فسيفساء الروح) بهذا الاتجاه المستقبلي، فقصيدتها الثانية الموحية بعالمها المفضل كانت بعنوان (هناك) وفيها إشارة إلى مملكة النمل المعبرة عن تلك الروح الجماعية والألفة الفطرية التي تحلم الشاعرة بشبيهتها في مشروعها الإنساني أوعلى غرار أفلاطونية مدينتها الفاضلة؛ لتحقق عنوان قصيدتها الرابعة (ابتسامة وردية) بحبها الصادق المتمثل في عنوان قصيدتها الخامسة المعبرة عن (السحر) في لملمة الشمل الإنساني بكل اختلافاته المحمودة في بيت يحقق لنا السعادة الإنسانية التي شاء الله لها أن تكون حين اختار الإنسان خليفة له في الأرض، هي مشيئة (الانتقال) كما وجدناها في قصيدتها الثامنة التي ترفض التقليد لعالم أسود مضى صنعناه بأيدينا وجهلنا أو تجاهلنا حكمة خلقنا، هذا العالم الذي تخشى الشاعرة في قصيدتها التاسعة (السباق) فيه نحو الهاوية المجهولة أو للعودة إلى ما:
يسحق نبات الخشخاش و الأزهار و الأعشاب
إلى أين تَحْملُني في مثل هذه السرعة ...؟
يَجْري الحصانُ على عرفِ أسد الغروبِ
في الطريق نحو الأزلِ...
بهذه (الأفكار) أو بهذا الفهم الإنساني العميق الوارد في عنوان قصيدتها العاشرة خاطبت الشاعرة كورينا ماتي غيرمان العالم بلغات شرقه و غربه خاطبت الإنسان فيه بلغة واحدة هي لغة طفل حالم بالرحيل إلى عالم آخر جديد، و هذه الفلسفة الغيرمانية بدت في قصيدتها الحادية عشر (إلى أين) فكانت الإجابة في القصيدة التالية لها (الفسيفساء).
نعم نحن في خلاصة هذا الديوان لأعمال عشر سنين مضت نعيش مع شاعرة مبدعة ومع اكتشاف عالمي جديد يستحق قصيدتها الثالثة عشر(النشر) والثناء والتقدير، وتستحق قصيدتها الرابعة عشرة (الضوء) وتستحق كما قالت في قصيدتها السادسة عشرة (التنفس):
سأضطجع على الأغطيةِ الفضّيةِ
لسلسلة دواويني الشعرية
وهكذا سَأَبْقى و أكون..
و هكذا تصر الشاعرة كورينا ماتي غيرمان في القصيدة السابعة عشر (أين) على ثنائية العنوان في ديوانها (الفسيفساء والروح) الذي سيتحقق بتفاؤل قصيدتها الثامنة عشر (قريبا)، وهذا هو خيالها الذي تتوقع أن يتحقق، وهذه هي معاناتها المقدسة المنتظرة بربما يأتي الضوء مع أمنية الطيف.
نعم يا سيدتي أنت بهذا (القصيدة) التي لم تأت بعد، وأنت (الرفض) لقرن مضى بويلاته وأحزانه، وأنت منذ الآن (الحجر... من قوس الكهف، الذي رأى منه المسيح للوهلة الأولى الضوء والقشة) ، وأنت (شروق الشمس) وأنت (صوت الصدى) ونحن (معا) حلم السنفونية، وأمنية (كلانا جسد واحد)، والخيال أو اللامعقول كما قال توفيق الحكيم في مسرحيته (الطعام لكل فم) قد يصبح معقولا إذا حاولنا الخوض فيه.
و هكذا وجدها الشاعر و الروائي والمترجم الخبير بالفن العالمي الأصيل منير مزيد، الذي يعود له الفضل في نشر هذا المشروع الإنساني العالمي إلى الوطن العربي، و هذا ما عرفناه عن هذا الأديب المتميز و مختاراته الأدبية الهادفة في توعية كل طرف بثقافة غيره ليكمل مشروع كورينا ماتي غيرمان في تقريب وجهات النظر، و بدون هذه الترجمة الراقية الخبيرة بلغة الكاتبة و نوعية كتاباتها لا يمكن أن تحدث الاستجابة التي سعت إليها الشاعرة و غيرها من دعاة الإنسانية المتحضرة، و نحن في الوطن العربي نفتقد في أيامنا هذه لمثل هذه الحرفية التي يتمتع بها منير مزيد، و التي تدعونا إلى دعمه و تأييده في مواصلة هذه الروائع من الأدب المترجم الذي يطلعنا خلاله على ثقافة الآخر، و يؤسس فينا مفهوم الاحترام الإنساني، و نشكره على كل إنتاجه الذي يعد شامة فخر في أدبنا العربي، و على دوره الدبلوماسي، فهو سفير الكلمة المنتقاة، و أمير شعراء غربتنا.
ولا يقل دور منير مزيد في هذا الجانب أو ذلك الأثر عن أولئك الذين ترجموا الأعمال الخالدة و نقلوها إلى الشعوب التي تأثرت فيها و صاغت على أنوالها أعمالا فنية جديدة، لا يقل دوره عمن ترجم أو نقل كتاب ألف ليلة وليلة أو كما يسميه بعضهم ليالي العرب، لا يقل دوره عمن ترجم الكوميديا الإلهية لدانتي أو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري أو كليلة ودمنة لابن المقفع، أو ملحمتي أوديسا و جلجامش، أو أعمال الشاعر والمسرحي والناقد إليوت...
تستحق رومانية من منير مزيد ومنا جميعا الشكر والتقدير على دورها البارز في الحوار العالمي ونقل التراث الإنساني، و تستحق (حكايا مدينتين) وكل ما يقوم به منير مزيد من تبادل ثقافي و حضاري في مثل هذه الترجمات المعبرة عن انتمائه الإنساني .
وأنا أدعو القارئ العربي هنا إلى قراءة تجربة الشاعرة الرومانية كورينا ماتي غيرمان الناضجة، وقراءة غيرها من الأعمال الثقافية الرائدة التي نقلها مترجمون مبدعون من أمثال منير مزيد؛ ليتسنى لنا معرفة تجارب الآخرين، ورؤية الجانب المشرق من الحياة...."
و أما الأديبة هيام ضمرة كتبت في خاتمة الكتاب :
" الحياة عجلة دائرة بهمة مستديمة لا تعرف التوقف ولا ترضخ للانتهاز، يتساقط خلالها كثيرون وينجح في المقابل كثيرون، هي سنة خلقية تلازم سنة الاختلاف بالبشر، ولذلك المفلحون والمبدعون من أهل العزم هم وحدهم من تتجاوز أقدامهم كل الصعوبات، خطواتهم كبيرة، بل يكادون يقفزون دون عثرات مرتفعين ومحلقين عن كل الويلات حتى بلوغ الناصية العالية، ناصية العالمية الأرقى..
والترجمة كما التأليف هي إعادة تخليق لروح النص وتوليد للمعاني من جديد، حالة من الاستنساخ مأسورة ضمن ملامح النص الأصلي مستردة كامل شخصيته، تحفظه تماما من التصدع والتشرذم.. إنه جهد عظيم يتطلب سياحة مقتدرة داخل أروقة اللغة، فكيف إذا صاحب ذلك امتلاك أدوات النقد الصحيحة وفنياتها البالغة في توضيح الرؤى التي تخترق حاجز ما وراء الدلالات وتحلل رموز النصوص، ثم تجسدها على مرآة محدبة تعظم فواصلها دون انحياز أو مبالغة، والتحرك ضمن هوية العمل دون تنامي لحالة تغريبه عن هويته..إنها بحق تسجيل مؤرخ لحالة نجاح متميز.
هذه هي علائم أنساق الثقافة الراشدة التي تحدث عنها كبار المبدعون، واستطاع من خلالها الأديب المغترب والشاعر المترجم والناقد الحصيف منير مزيد أن يمتلك ناصيتها العالية في انجازه العظيم هذا بحرفية الفنان المبدع والخبير المتميز، وهو المعروف باسهاماته الكثيرة في هذا المجال، مسلطاً الأضواء وكاشفاً الأغوار ومحللاً الرموز ومبيناً دلالاتها دون أن ترهقه العبارات أو تتسلط عليه فوضى المصطلحات النقدية العجيبة التي كثيراً ما غيبت عند البعض امكانية وصول مادة النقد إلى إدراك المتلقين.. وهذا إنما يؤكد قدرته الفذة على التذوق واختياره مكامن الجماليات والمثليات، يخدمه في ذلك كونه شاعراً محلقاً يختزن موسيقى الكلمات في وجدانه كما يختزن قاموساً عامرًا بالمصطلحات، ذائقته العالية تصاحبها جوقة متفردة في التقييم، يدرك أبعاد الدور في استخدام مختلف الحواس، ومثل هذا الادراك الكلي المثير والمتميز قلة من الناقدين من تملك مفاتيحه وتمتلك أنامل السحر في القدرة على فتح أبوابه، لتنطلق إلى داخل نفس الشاعر من خلال نصه الشعري، والخوض في السديم الأعلى لمراميه وأهدافه وفك رموزه، وتواصل الربط ما بين تفاصيل النص وفكرته الأصلية من خلال تغيير الزوايا الذهنية التي ينظر منها إلى العمل.. وأحسب أن هذا الجهد الواضح يحقق لغة التقارب بين الشعوب، يقارب بين أمزجتها وفكرها وثقافتها، بل إنه يوازن ما بين هذه الثقافات، ويزيح الستار عن الملابسات المتراكمة، ويوضح ما غيبته الجدليات القائمة بين الشعوب.
فالخطاب الشعري خطاب متخيل يختزن الأحاسيس والمشاعر والرؤى، تغطيه قشور رقيقة من الرمزية، فيما الخطاب النقدي خطاباً تصورياً في المقام الأول يقوم على التشريح والتفكيك والتحليل، ومن المتعسف قطع أواصر الرحم بينهما، وهذا ما ذهب إلية الناقد "مزيد" حين قام بتقطيع القصيدة للاستدلال إلى كوامن العمل ودراسة مضمونيته الساطعة، لتحليله بعمق وكشف رؤى الشاعرة كورينا وما ذهبت إلية في تركيبتها الفسيفسائية للروح..
فكورينا إمرأة ناضجة وعلى درجة عالية من الثقافة، ومن الواضح أنها بخروجها المتأخر إلى الحياة الثقافية كانت تنتظر بنفسها نضوج الرؤى والفنية الأدبية قبل أن تقدم نفسها إلى المتلقي، وهي بذلك تؤكد حرصها على احترامها لإبداعها ومتلقي إبداعها في آن واحد، وحالما أحست بتقبل المتلقي لأعمالها فتحت صنبور أبداعها على أشده وراحت تغدق العطاء في منجزات عدة استهدفت جميع الأعمار، وخاضت في ألوان أدبية متنوعة، مما يؤكد امتلاكها لأدوات الابداع المتفرد، فخمسة وعشرون عملا أدبياً في شتى صنوف الأدب بين القصة والرواية والشعر، منه ما هو موجه للأطفال ومنه ما هو مخصص للكبار، كلها علائم إبداعية متفردة دفعت دارسنا عن إدراك حصيف لتناول أعمالها الشعرية بالترجمة والنقد، متذوقا فنيتها الفذة في التعبير، وهو صاحب الباع الطويل في هذه القدرة المتميزة، وإنتاجه الأدبي الغزير ومترجماته المتواصلة خير شاهد وأفضل مُعرّف على قيمته الابداعية.
وينطلق الأستاذ محمود فهمي عامر من الدلائل الأولى في كشف الرموز بتذوقه لعناوين الأعمال الأدبية للأديبة الشاعرة وحاملة رسالة السلام والتعايش الانساني كورينا، ليصل من خلالها إلى هدفها الرئيس متلمساً تلك المعاني السامية التي حمّلتها الشاعرة لنصوصها ورغبتها في وجود عالم إنساني حقيقي لا تلوثه المناحرات والحروب، عالم متقارب ومتحاب يحترم الآخر ويتقبله، بل ويتفاعل معه ثقافياً ووجدانياً، لتوصلنا من خلال أحلامها المأمولة لرغبتها في تحقيق سلام حقيقي لإنسان هذا الكوكب،وكورينا بهذ إنما ترفع حلمها إلى مستوى الرسالة العالمية، توجهها للعالم من مكانها القصي، مدركة أن شمسها المأمولة هي شمس العالم كله، هي السلام والتعايش السلس والجميل.. وعلى ضوء استقراءات الناقد ها هي تتخذ من عالم النمل قدوة للتعبير عن روح الجماعة وعن الدافعية الذاتية للإنجاز والأداء النافع، وهي مُثليات رائعة تعبر عن احترامها للقيم الايجابية التي توضح معالم الانسانية، ويتذاكى وعيها وهي تذكّربحكمة خلق الانسان، وهي بذلك تعبر من حيث لا تدري لحكمة وجود الانسان لإعمار هذه الأرض كما ورد في النصوص القرآنية المقدسة.
وأكاد أمنح هذه الأديبة لقب سفيرة السلام وهي تمنح نصوصها هذه القيمة العظيمة لقيم التعايش، فكم نحن نتوق لمثل هذه الروح في زماننا المنقلب هذا، وكم روحها قادرة على غسل النفوس المعذبة من أرزاء العنف الذي بات لغة كريهة تزكم الأنوف وتشوه العقول وتنسف معالم السلام؟. .
فللناقد العقبى في منحه التكريم على ذائقيته العالية وفنيته الراشدة التي تشكل إضافة مهمة في رصيده الغني، وتكفل له الاستمرار في الوجود إلى ما شاء الله لوجود الكون، فالأجساد مصيرها الفناء والأقلام مصيرها البقاء، فيما الأقلام البارزة تتسامى إلى الأعلى مكانة والأوفى
استحقاقًا. . "
د.بشار القيشاوي
راديو رومانيا
هذا الديوان (فسيفساء الروح) يحمل ثمرة رسالتها العالمية ثلاثية الأبعاد؛ لأن الفسيفساء على الرغم من تعدد صورها ورسومها وجزيئياتها تتحد وتتعاون معا لتشكل أو تركب صورة إلهية فطرية المنشأ تعيش بسلام وإخاء مع كل متناقضاتها التي هي في أساسها مصدر الجمال لو أدرك الإنسان كنهها وما وراء طبيعتها من جمال وأحس به .
لقد نجحت الكاتبة دون إعلان أو تشهير لمشروعها أن تجعل أعمالها تنطق بوردية أحلامها، وأهدافها النبيلة، وتركت للقراء الحكم على ما فيها من عالمية انطلقت من ذاتها الحالمة لتصل بمشروعها الثلاثي إلى كل ذات تتمنى إنسانية وجودها.
وجاءت نصوص ديوان (فسيفساء الروح) مع أول قصيدة فيه بعنوان (كل شيء غدا) لتؤكد مشروعها المستقبلي القائم على مفهوم ثنائية (فسيفساء الروح)، هذه القصيدة التي لم تأت عبثا في بداية ديوانها، ولكن لتكون مقدمة أو تمهيدا يعبر عن فلسفتها في الحياة بثلاثية الأبعاد، واقتضت الضرورة النقدية أن أضع أرقاما لما اخترته من القصيدة؛ لتوضيح ما يؤكد هذه النظرية الغيرمانية:
(1)
أشيد الآن صباحاً نامياً
أَكْتبُ له قصيدة متجذرة
بجذور رائعة لأغنية
نظمت أبياتها بالإلهام المعلّق...ة
(2)
كلنا الآن أصبحناعائلة
في فضاءِ القلب الداخليِ
شمس ما سَتَخْلقُ
كلّكم تَعْرفونَها
(3)
أفكر في علاقتنا المتبادلة
ازدهار مدهش لمس الاكتشاف
(4)
ربما الاحتمال سَيُفرغُ ..
سَأَجِدُ اسمَه
في التأملِ الأكثرِ عمقاً
الذي سَأَخْلقُه غداً ...
وتسير كل قصائد (فسيفساء الروح) بهذا الاتجاه المستقبلي، فقصيدتها الثانية الموحية بعالمها المفضل كانت بعنوان (هناك) وفيها إشارة إلى مملكة النمل المعبرة عن تلك الروح الجماعية والألفة الفطرية التي تحلم الشاعرة بشبيهتها في مشروعها الإنساني أوعلى غرار أفلاطونية مدينتها الفاضلة؛ لتحقق عنوان قصيدتها الرابعة (ابتسامة وردية) بحبها الصادق المتمثل في عنوان قصيدتها الخامسة المعبرة عن (السحر) في لملمة الشمل الإنساني بكل اختلافاته المحمودة في بيت يحقق لنا السعادة الإنسانية التي شاء الله لها أن تكون حين اختار الإنسان خليفة له في الأرض، هي مشيئة (الانتقال) كما وجدناها في قصيدتها الثامنة التي ترفض التقليد لعالم أسود مضى صنعناه بأيدينا وجهلنا أو تجاهلنا حكمة خلقنا، هذا العالم الذي تخشى الشاعرة في قصيدتها التاسعة (السباق) فيه نحو الهاوية المجهولة أو للعودة إلى ما:
يسحق نبات الخشخاش و الأزهار و الأعشاب
إلى أين تَحْملُني في مثل هذه السرعة ...؟
يَجْري الحصانُ على عرفِ أسد الغروبِ
في الطريق نحو الأزلِ...
بهذه (الأفكار) أو بهذا الفهم الإنساني العميق الوارد في عنوان قصيدتها العاشرة خاطبت الشاعرة كورينا ماتي غيرمان العالم بلغات شرقه و غربه خاطبت الإنسان فيه بلغة واحدة هي لغة طفل حالم بالرحيل إلى عالم آخر جديد، و هذه الفلسفة الغيرمانية بدت في قصيدتها الحادية عشر (إلى أين) فكانت الإجابة في القصيدة التالية لها (الفسيفساء).
نعم نحن في خلاصة هذا الديوان لأعمال عشر سنين مضت نعيش مع شاعرة مبدعة ومع اكتشاف عالمي جديد يستحق قصيدتها الثالثة عشر(النشر) والثناء والتقدير، وتستحق قصيدتها الرابعة عشرة (الضوء) وتستحق كما قالت في قصيدتها السادسة عشرة (التنفس):
سأضطجع على الأغطيةِ الفضّيةِ
لسلسلة دواويني الشعرية
وهكذا سَأَبْقى و أكون..
و هكذا تصر الشاعرة كورينا ماتي غيرمان في القصيدة السابعة عشر (أين) على ثنائية العنوان في ديوانها (الفسيفساء والروح) الذي سيتحقق بتفاؤل قصيدتها الثامنة عشر (قريبا)، وهذا هو خيالها الذي تتوقع أن يتحقق، وهذه هي معاناتها المقدسة المنتظرة بربما يأتي الضوء مع أمنية الطيف.
نعم يا سيدتي أنت بهذا (القصيدة) التي لم تأت بعد، وأنت (الرفض) لقرن مضى بويلاته وأحزانه، وأنت منذ الآن (الحجر... من قوس الكهف، الذي رأى منه المسيح للوهلة الأولى الضوء والقشة) ، وأنت (شروق الشمس) وأنت (صوت الصدى) ونحن (معا) حلم السنفونية، وأمنية (كلانا جسد واحد)، والخيال أو اللامعقول كما قال توفيق الحكيم في مسرحيته (الطعام لكل فم) قد يصبح معقولا إذا حاولنا الخوض فيه.
و هكذا وجدها الشاعر و الروائي والمترجم الخبير بالفن العالمي الأصيل منير مزيد، الذي يعود له الفضل في نشر هذا المشروع الإنساني العالمي إلى الوطن العربي، و هذا ما عرفناه عن هذا الأديب المتميز و مختاراته الأدبية الهادفة في توعية كل طرف بثقافة غيره ليكمل مشروع كورينا ماتي غيرمان في تقريب وجهات النظر، و بدون هذه الترجمة الراقية الخبيرة بلغة الكاتبة و نوعية كتاباتها لا يمكن أن تحدث الاستجابة التي سعت إليها الشاعرة و غيرها من دعاة الإنسانية المتحضرة، و نحن في الوطن العربي نفتقد في أيامنا هذه لمثل هذه الحرفية التي يتمتع بها منير مزيد، و التي تدعونا إلى دعمه و تأييده في مواصلة هذه الروائع من الأدب المترجم الذي يطلعنا خلاله على ثقافة الآخر، و يؤسس فينا مفهوم الاحترام الإنساني، و نشكره على كل إنتاجه الذي يعد شامة فخر في أدبنا العربي، و على دوره الدبلوماسي، فهو سفير الكلمة المنتقاة، و أمير شعراء غربتنا.
ولا يقل دور منير مزيد في هذا الجانب أو ذلك الأثر عن أولئك الذين ترجموا الأعمال الخالدة و نقلوها إلى الشعوب التي تأثرت فيها و صاغت على أنوالها أعمالا فنية جديدة، لا يقل دوره عمن ترجم أو نقل كتاب ألف ليلة وليلة أو كما يسميه بعضهم ليالي العرب، لا يقل دوره عمن ترجم الكوميديا الإلهية لدانتي أو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري أو كليلة ودمنة لابن المقفع، أو ملحمتي أوديسا و جلجامش، أو أعمال الشاعر والمسرحي والناقد إليوت...
تستحق رومانية من منير مزيد ومنا جميعا الشكر والتقدير على دورها البارز في الحوار العالمي ونقل التراث الإنساني، و تستحق (حكايا مدينتين) وكل ما يقوم به منير مزيد من تبادل ثقافي و حضاري في مثل هذه الترجمات المعبرة عن انتمائه الإنساني .
وأنا أدعو القارئ العربي هنا إلى قراءة تجربة الشاعرة الرومانية كورينا ماتي غيرمان الناضجة، وقراءة غيرها من الأعمال الثقافية الرائدة التي نقلها مترجمون مبدعون من أمثال منير مزيد؛ ليتسنى لنا معرفة تجارب الآخرين، ورؤية الجانب المشرق من الحياة...."
و أما الأديبة هيام ضمرة كتبت في خاتمة الكتاب :
" الحياة عجلة دائرة بهمة مستديمة لا تعرف التوقف ولا ترضخ للانتهاز، يتساقط خلالها كثيرون وينجح في المقابل كثيرون، هي سنة خلقية تلازم سنة الاختلاف بالبشر، ولذلك المفلحون والمبدعون من أهل العزم هم وحدهم من تتجاوز أقدامهم كل الصعوبات، خطواتهم كبيرة، بل يكادون يقفزون دون عثرات مرتفعين ومحلقين عن كل الويلات حتى بلوغ الناصية العالية، ناصية العالمية الأرقى..
والترجمة كما التأليف هي إعادة تخليق لروح النص وتوليد للمعاني من جديد، حالة من الاستنساخ مأسورة ضمن ملامح النص الأصلي مستردة كامل شخصيته، تحفظه تماما من التصدع والتشرذم.. إنه جهد عظيم يتطلب سياحة مقتدرة داخل أروقة اللغة، فكيف إذا صاحب ذلك امتلاك أدوات النقد الصحيحة وفنياتها البالغة في توضيح الرؤى التي تخترق حاجز ما وراء الدلالات وتحلل رموز النصوص، ثم تجسدها على مرآة محدبة تعظم فواصلها دون انحياز أو مبالغة، والتحرك ضمن هوية العمل دون تنامي لحالة تغريبه عن هويته..إنها بحق تسجيل مؤرخ لحالة نجاح متميز.
هذه هي علائم أنساق الثقافة الراشدة التي تحدث عنها كبار المبدعون، واستطاع من خلالها الأديب المغترب والشاعر المترجم والناقد الحصيف منير مزيد أن يمتلك ناصيتها العالية في انجازه العظيم هذا بحرفية الفنان المبدع والخبير المتميز، وهو المعروف باسهاماته الكثيرة في هذا المجال، مسلطاً الأضواء وكاشفاً الأغوار ومحللاً الرموز ومبيناً دلالاتها دون أن ترهقه العبارات أو تتسلط عليه فوضى المصطلحات النقدية العجيبة التي كثيراً ما غيبت عند البعض امكانية وصول مادة النقد إلى إدراك المتلقين.. وهذا إنما يؤكد قدرته الفذة على التذوق واختياره مكامن الجماليات والمثليات، يخدمه في ذلك كونه شاعراً محلقاً يختزن موسيقى الكلمات في وجدانه كما يختزن قاموساً عامرًا بالمصطلحات، ذائقته العالية تصاحبها جوقة متفردة في التقييم، يدرك أبعاد الدور في استخدام مختلف الحواس، ومثل هذا الادراك الكلي المثير والمتميز قلة من الناقدين من تملك مفاتيحه وتمتلك أنامل السحر في القدرة على فتح أبوابه، لتنطلق إلى داخل نفس الشاعر من خلال نصه الشعري، والخوض في السديم الأعلى لمراميه وأهدافه وفك رموزه، وتواصل الربط ما بين تفاصيل النص وفكرته الأصلية من خلال تغيير الزوايا الذهنية التي ينظر منها إلى العمل.. وأحسب أن هذا الجهد الواضح يحقق لغة التقارب بين الشعوب، يقارب بين أمزجتها وفكرها وثقافتها، بل إنه يوازن ما بين هذه الثقافات، ويزيح الستار عن الملابسات المتراكمة، ويوضح ما غيبته الجدليات القائمة بين الشعوب.
فالخطاب الشعري خطاب متخيل يختزن الأحاسيس والمشاعر والرؤى، تغطيه قشور رقيقة من الرمزية، فيما الخطاب النقدي خطاباً تصورياً في المقام الأول يقوم على التشريح والتفكيك والتحليل، ومن المتعسف قطع أواصر الرحم بينهما، وهذا ما ذهب إلية الناقد "مزيد" حين قام بتقطيع القصيدة للاستدلال إلى كوامن العمل ودراسة مضمونيته الساطعة، لتحليله بعمق وكشف رؤى الشاعرة كورينا وما ذهبت إلية في تركيبتها الفسيفسائية للروح..
فكورينا إمرأة ناضجة وعلى درجة عالية من الثقافة، ومن الواضح أنها بخروجها المتأخر إلى الحياة الثقافية كانت تنتظر بنفسها نضوج الرؤى والفنية الأدبية قبل أن تقدم نفسها إلى المتلقي، وهي بذلك تؤكد حرصها على احترامها لإبداعها ومتلقي إبداعها في آن واحد، وحالما أحست بتقبل المتلقي لأعمالها فتحت صنبور أبداعها على أشده وراحت تغدق العطاء في منجزات عدة استهدفت جميع الأعمار، وخاضت في ألوان أدبية متنوعة، مما يؤكد امتلاكها لأدوات الابداع المتفرد، فخمسة وعشرون عملا أدبياً في شتى صنوف الأدب بين القصة والرواية والشعر، منه ما هو موجه للأطفال ومنه ما هو مخصص للكبار، كلها علائم إبداعية متفردة دفعت دارسنا عن إدراك حصيف لتناول أعمالها الشعرية بالترجمة والنقد، متذوقا فنيتها الفذة في التعبير، وهو صاحب الباع الطويل في هذه القدرة المتميزة، وإنتاجه الأدبي الغزير ومترجماته المتواصلة خير شاهد وأفضل مُعرّف على قيمته الابداعية.
وينطلق الأستاذ محمود فهمي عامر من الدلائل الأولى في كشف الرموز بتذوقه لعناوين الأعمال الأدبية للأديبة الشاعرة وحاملة رسالة السلام والتعايش الانساني كورينا، ليصل من خلالها إلى هدفها الرئيس متلمساً تلك المعاني السامية التي حمّلتها الشاعرة لنصوصها ورغبتها في وجود عالم إنساني حقيقي لا تلوثه المناحرات والحروب، عالم متقارب ومتحاب يحترم الآخر ويتقبله، بل ويتفاعل معه ثقافياً ووجدانياً، لتوصلنا من خلال أحلامها المأمولة لرغبتها في تحقيق سلام حقيقي لإنسان هذا الكوكب،وكورينا بهذ إنما ترفع حلمها إلى مستوى الرسالة العالمية، توجهها للعالم من مكانها القصي، مدركة أن شمسها المأمولة هي شمس العالم كله، هي السلام والتعايش السلس والجميل.. وعلى ضوء استقراءات الناقد ها هي تتخذ من عالم النمل قدوة للتعبير عن روح الجماعة وعن الدافعية الذاتية للإنجاز والأداء النافع، وهي مُثليات رائعة تعبر عن احترامها للقيم الايجابية التي توضح معالم الانسانية، ويتذاكى وعيها وهي تذكّربحكمة خلق الانسان، وهي بذلك تعبر من حيث لا تدري لحكمة وجود الانسان لإعمار هذه الأرض كما ورد في النصوص القرآنية المقدسة.
وأكاد أمنح هذه الأديبة لقب سفيرة السلام وهي تمنح نصوصها هذه القيمة العظيمة لقيم التعايش، فكم نحن نتوق لمثل هذه الروح في زماننا المنقلب هذا، وكم روحها قادرة على غسل النفوس المعذبة من أرزاء العنف الذي بات لغة كريهة تزكم الأنوف وتشوه العقول وتنسف معالم السلام؟. .
فللناقد العقبى في منحه التكريم على ذائقيته العالية وفنيته الراشدة التي تشكل إضافة مهمة في رصيده الغني، وتكفل له الاستمرار في الوجود إلى ما شاء الله لوجود الكون، فالأجساد مصيرها الفناء والأقلام مصيرها البقاء، فيما الأقلام البارزة تتسامى إلى الأعلى مكانة والأوفى
استحقاقًا. . "
د.بشار القيشاوي
راديو رومانيا