المصطلح السردي في المدونة النقدية الجزائرية - عبد المالك مرتاض نموذجا- د. سليمة لوكام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
انفاسأفرزت التحولات الثقافية والفكرية التي شهدتها أوربا في العقود الأخيرة من القرن العشرين جوا نقديا خاصا اتسم بانتحائه نحوا مباينا للتوجهات السياقية التي طبعت التعامل مع النص الأدبي والروائي بوجه خاص لتنعطف إلى أبنية النصوص والعلاقات التي تنتظمها، والصيغ التي تتجلى فيها والدلالات التي تسكنها، و أنفق الباحثون في المدرسة الفرنسية تحديدا جهدا كبيرا في هذا المجال المعرفي، وقدموا نظريات ومناهج ومقاربات استرعت أنظار الباحثين في العالم.
    وعلى الرغم مما تنفرد به الساحة النقدية الجزائرية من خصوصيات تميزها عن مثيلاتها العربية  بالنظر إلى اختلاف المعطيات التاريخية التي أنتجت وضعا يحفه كثير من التداخل واللبس، فإن الباحث الجزائري، وإن تأخر عن مواكبة هذا المنجز الغربي في أوانه – كما هو الشأن بالنسبة للباحثين التونسيين والمغاربة- أبدى منذ بداية الثمانينات رغبة وقدرة على التعاطي مع هذا المعرفة ، إذ سعى إلى التعريف بها وإشاعتها بهدف تعميم امتلاكها وإجرائها على النصوص العربية، السردي منها والشعري، الحديث منها والتراثي.         
       ونحن نتقصى أنحاء النظر في المدونة النقدية الجزائرية المنضوية تحت مظلة هذا الضرب من التعامل، ألفينا أن أكثر الأسماء تداولا في مسألتي الريادة والاشتغال اثنان هما :عبد المالك مرتاض وعبد الحميد بورايو، ووقعنا على كم هائل من الأعمال التي لا يتسع المقام لبسط القول فيما  حوته جميعا
فآثرنا أن نشتغل على إشكالية هامة بدت لنا جماع الأمر في التلقي، وهي المصطلح، ولأن للمصطلح السردي في أعمالهما غلبة وسلطان، فقد رأينا أن نبحث عند عبد الملك مرتاض  في حضور المصطلح الموصول بما طرحته السرديات بوصفها نظرية للمحكي سعت إلى البحث في شعريته من خلال تحليل بنياته، و الكشف عن علاقاته، والتمحض لصيغه، و استنطاق دلالاته، بإجراء جملة من الآليات التي  من شأنها أن تسعف الباحث إلى إدراك تلك الأهداف.
فهذا الدرس الغربي الجديد نسبيا يتكىء على شبكة مفهومية  توظف جهازا اصطلاحيا يستمد نسغه الدلالي من سياقاته الحضارية، و يتحدد معرفيا ضمن مناخاته الفكرية، و هذا الأمر يلقي على المتلقي العربي تبعة توخي الحذر، وتوقي الزلل في التعاطي مع هذا المصطلح، سواء أتعلق الأمر بترجمته، أو توظيفه. وفي هذا السياق، يقول الناقد المغربي محمد برادة: "إن مرجعيات الثقافة المترجم عنها هي متباينة ومختلفة عن سياقنا الخاص، ومن ثم فإن الذات القارئة الساعية إلى المعرفة تجد نفسها أمام اختبار قوي، لأن الترجمة تخرجها من إقليميتها لتلقي بها إلى رحابة المجهول ومتاهات الأفكار والمشاعر القصوى التي ربما لم تصادفها داخل ثقافتها الموروثة."1
وقد اخترنا في هذه الورقة أن نقدم تفاديا للتشعب والإطالة  عملا واحدا يكون أكثر تمثيلا لما نحن إليه بسبيل وهو كتاب "في نظرية الرواية" لعبد المالك مرتاض على أن نردفه بمقال ثان يتناول المسالة نفسها عند عبد الحميد بورايو في كتابه "منطق السرد".   
         يأتي كتاب "في نظرية الرواية" * في نهاية التسعينيات بعد أن صارت السرديات إلى رسوخ في النقد المغاربي  وبعد أن أصبحت مقولاتها شائعة بين الدارسين على المستويين النظري و التطبيقي.
       وقد وزع مرتاض عمله على تسع مقالات، يفترض أن تختص كل واحدة بجانب من جوانبها ، فكانت الأولى عن الرواية : الماهية و النشأة ،و عرضت الثانية لأسس البناء السردي في الرواية الجديدة، وكانت الشخصية و ماهيتها  وبناؤها و إشكاليتها هي مدار المقالة الثالثة ، بينما عني في المقالتين الرابعة  والخامسة على التوالي بمستويات اللغة الروائية و أشكالها و بالحيز الروائي  وأشكاله.
     وتشترك هذه المقالات الخمس الأولى في نهجها منهجا و صفيا يهدف إلى تناول الرواية جنسا أدبيا، وكذا في العلاقات المتعددة التي تقيمها مع الأجناس الأدبية الأخرى عند الغربيين لينعطف إلى البحث في المصطلح وما يحيل عليه في اللغة العربية في محاولة تأصيلية عابرة ، ليعمد بعد ذلك إلى ربط الرواية بالتاريخ و المجتمع ، ليعود إلى الحديث عن بنيتها و تطورها, وتحديدا إلى ما عرف بالرواية الجديدة عند الغربيين و خاصة في فرنسا.
        وهكذا لم نكد نقف في هذه المقالات الخمس على ما يدل على إفادة من السرديات أو تلق لمناهجها أو اتكاء على بعض مقولاتها النظرية أو آلياتها الإجرائية، بل إننا ألفيناه على نقيض ذلك، يجاور ما لا يتجاور من المناهج، ويساكن ما لا يتساكن من الاتجاهات، فلم يستقر بذلك على منهج محدد، ولم يركن إلى نظرية بعينها.
      و إذا ما تصفحنا ما يوظف من مصطلحات، وجدنا أن ما يكتنفها من غرابة يدعو إلى التساؤل: ما الذي دفع مرتاض إلى تجاهل المصطلحات التي شاع استعمالها وجعله ينحت مصطلحات مغايرة لما درج الدارسون على التعامل معه، فقد اقترح مصطلح "سردانية" للإحالة على narratologie، ومصطلح "سرديات"  للإحالة على récits، وهو بهذا يذهب بعيدا عن كل ما وضع في هذا الشأن، ويختط لنفسه طريقا منافرا، غير آبه بالجهود التي أنفقها الدارسون العرب في سعيهم إلى توحيد المصطلحات و استقرارها.
       ففي المقالة الثامنة مثلا، وفي أثناء بسطه لشبكة العلاقات السردية، عرض مرتاض للعلاقة التي تنعقد بين السارد والمؤلف والقارئ ملقيا الضوء على آراء كل من" جينيت" و "تودوروف" و"واين بوث" وغيرهم ممن وصفهم بمنظري الرواية الغربيين، لكن أعلق قسم بالسر ديات هو ذلك الذي وضع له عنوانا في شكل سؤال هو" هل من تقنين لشبكة السرد؟"2
عمد مرتاض في هذا القسم إلى إبداء ملاحظاته حول شبكة المصطلحات  والمفاهيم من مثل ( السرد والمسرود، والمسرود له، والسردانية و السرديات...) و هي -حسب رأيه- تمثل إشكالية شديدة التعقيد بالنظر إلى تداخلها، وتمايزها،  وتناقضها أحيانا، وقد اختار أن يثبت هذا الرأي بقراءة سريعة لعمل جريماس الذي ينزله ضمن السردانية narratologie فيسم بالغموض و بالإبهام اللغة التي اصطنعها في نص قصير له ينظر به للسردانية، وقد أخذ مرتاض هذا النص من المعجم المعقلن الذي ألفه كل من جر يماس و كورتيس، وبالرجوع إلى الصفحة التي أشار إليها في الهامش وجدنا أن المؤلفين لم يقصدا بهذا النص التنظير للسردانية، كما يرى، وإنما تحديد المسار السردي le parcours narratif3.  وسعيا إلى إجلاء الرؤية أكثر، نفضل إيراد هذا النص القصير:
Nous nous trouvons ainsi en présence d'une hiérarchie syntaxique ou à chaque unité correspond un type actanciel défini. Les actants syntaxiques stricto sensu, sont des constituants des programmes narratifs. Les roles actanciels sont calculables à l'intérieur des parcours narratifs , alors que les actants fonctionnels relèvent du schéma narratif d'ensemble.
وقد تولى مرتاض ترجمة هذا النص من المعجم على النحو التالي: « أمام تراتبية تراكبية حيث كل وحدة تقابل صنفا عاملاتيا محددا ، فالعاملات التراكبية ،بالمعنى الدقيق ،هي مشكلات البرامج السردية ،والأدوار العاملاتية هي القابلة للحساب داخل المسار السردي ،على حين أن العاملات الوظيفية تتمحض للرسمة السردية في المجموع.»4
      ثم انبرى للتعليق على ما ورد فيه، موجها نقده لجر يماس (دون كورتيس) مركزا على الدلالة اللغوية لكلمة تراتبية محيلا على أصلها الإغريقي، وقد أوغل مرتاض في التفاصيل المحيطة باستعمال الكلمة في أصلها، وفي ترجمتها إلى العربية إيغالا جعله ينصرف عن الخوض في المفاهيم، والانعطاف إلى طرح الأسئلة التي تشي بالتجاهل من مثل:« ..ثم هل الترجمة العربية التي تجعل "العامل" مقابلا لمصطلح actant ترجمة سليمة حقا؟ وأنها تعني في العربية معنى ما حقا؟ ثم ما الرسمة السردية؟ Le schéma narratif)) ؟ وهل تعني شيئا حقا في نظرية السرد بحيث إذا تعاملنا معها استطعنا أن نحلل النص السردي بكفاءة و فعالية؟ ثم ما البرامج السردية ((des programmes narratifs  ؟ التي لعلها أن تتجسد في سلسلة من المفاهيم المعقدة التي يحيل بعضها على بعض، ويتوالج بعضها مع بعض إلى درجة التيه و الحيرة..»5 
        و ما يثير الغرابة أن مرتاضا ترك البحث في أمر هذه المعاني المستغلقة جميعها باستثناء البرنامج السردي الذي رجع في تحديده له إلى المعجم المعقلن ثانية، ليمر من ذلك إلى إظهار مواطن القصور في عمل جريماس واصفا إياه بغير المجدي، وبالمفضي إلى تعقيد الكتابة السردية، و بالحاشد لكم هائل من المصطلحات التي تدل في أغلب الأحيان على التقعر والإخفاق.
      كان من الممكن أن نقبل نقد مرتاض لو حصنه بقراءة ما أنجزه جريماس من دراسات، وكان بالوسع أن نقتنع بوجاهة اعتراضه على المفاهيم التي صاغها جر يماس، وعلى المصطلحات التي وضعها لو عضد ذلك بتحليل موضوعي علمي بعيد عن الأحكام غير المبررة ، والواقعة في إسار نظرة تقليدية ترى "من المحال على مفكر لغوي أن يكون ناقدا، محللا للنص، ومنظرا له أيضا من الطراز الأول وفى المستوى الذي يكونه بالقياس إلى منزلته في اللغة» 6
     إن تطلع مرتاض لنقد المنجز الغربي الفرنسي وغربلته خاصة في مجال السرديات ظاهر بين، ومعرفته للأصول أكيدة لا تنازع، لكن الذي يحد من ذاك التطلع ويضئل من فاعلية تلك المعرفة ، انشغال مرتاض بالبحث في جانبين ميزا دراسة جريماس :
-أولهما ، السعي إلى علمنة 7 أو مكننة 8 الكتابة السردية، و هو في رأيه سعي محكوم عليه بالفشل وعدم الإثمار، ذلك أن الرواية تقوم على التحول وعلى ثبات بنيتها ، ولذلك "فالذي يضعف من قيمة جهد "جريماس" هو أن البنية الروائية مترجرجة معتاصة على التنظيم الصارم، لعلة واحدة و لكنها جوهرية،وهي أن الكتابة الروائية إبداع مفتوح"9 ويتجاوز مرتاض هذا الحد ليذهب بعيدا مقررا أمرا يتطلب غير قليل من الدقة والتعمق والتمحيص والتروي حين يقول :"إنه من العسير محاولة وضع نظرية لعمل يعتاص على التنظير. إن الخيال طليق ، و إن الإبداع سمته الأولى حرية، وإن وظيفته الجمال وإن غايته الابتكار، فكيف يجوز تقييد حرية يجب أن تظل طليقة،ووظيفة يجب أن تظل دون حدود..."10
وثانيهما، نفي صفة النقد الأدبي عن" جريماس" الذي يفتقر – في رأي مرتاض- إلى ما ينبغي أن ينجح مهمته في التعامل مع الأدب من طول مراس و حسن التذوق للنص الأدبي، ولذلك فهو لا يني يعرض بقصوره ، وكل الأسباب ترتد في مجموعها إلى أن"جريماس "عالم لسانياتي، فهو منظر لغوي ...)ولذلك(فهو حين يتحدث عن الأدب تعثر به القدم ،ويضطرب له الطريق، فلا يعرف المستوى الذي يعرفه حين يتحدث عن شؤون اللغة واللسان"11. وغير خاف على المتتبع ما في هذه الآراء المرتاضية من غمط اللحق، ومجافاة للمنطق، ولعل أظهر دليل نقيمه على ذلك هو عدم استناده في آرائه إلى أعمال "جريماس"التي لم يحل منها إلا على كتاب "الدلالة البنوية" في إشارة سريعة موجزة سيقت على النحو التالي )كتابه:الدلالة البنوية( كان هذا خاصا بما هو موصول بالحكم على عمل "جريماس"،أما فيما يتعلق بإضفاء صفة العالم اللسانياتي و المنظر اللغوي على "جريماس"،وتجريده في المقابل من صفة الناقد الأدبي،و المحلل النصاني ،فلا يعدو أن يكون رأيا شخصيا صادرا عن فكرة خاصة لم يستطع مرتاض أن يقيم دليلا منطقيا على صوابها .
     أما ما أنصف فيه مرتاض، فهو اعتراضه على التعميم الذي سعى "جريماس" إلى إحلاله في بنية الرواية، ذلك أن ما يصلح في التعامل مع بنية الحكاية الخرافية
"Le conte merveilleux " ذات الطبيعة الثابتة لا ينسحب  على الرواية النازعة دوما إلى التحول والتغير .
     وهكذا بدا مرتاض، فيما يتصل بعمل "جريماس" مولعا بالنقد، مهتما برصد مواطن القصور، مستعليا عن إيراد ما يدعم مذهبه في النقد، غير آبه بما يمكن أن تثيره آراؤه من اشكالات وتساؤلات عن مدى صحتها ووجاهتها، وهو السمت ذاته الذي انتهجه في التعليق على أعمال جينيت، فهو يستهل كلامه عنه بقوله:«... و ربما يكون تودوروف أعرف من غريماس بالسرديات لدى حديثه عنها في أكثر من موقع ... لكن جيرار جينيت قد يكون أبرع منهما معا في تحليل الأعمال السردية  ومحاولة مقاربتها بالتنظير، وسيظل جهد هذا الرجل في مجال السرديات، ، متداولا بين الناس زمنا طويلا.. »12
من البين هنا، أن مرتاضا راض عن عمل جينيت كما صرح، لكن هذا الرضى كان قد انبنى على ما يبدو انطلاقا من المقالة التي صدرت لجينيت في العدد الثامن من مجلة تواصل بعنوان"حدود العمل السردي" frontières du récit  ونلاحظ في هذا الموضع عدم استقرار مرتاض على المصطلح المقابل لـ récit فهو حينا يوظفه مترجما إلى سرديات، وإلى العمل السردي حينا آخر، ولذلك لا يمكننا الجزم بأن ما يقصده من مصطلح السرديات في الفقرة السابقة، هو ما يقابل علم السرد narratologie خاصة وأن السياق يحيل على ذلك ، أو أنه يقابل مصطلح محكيات récits ،وقد استعمله في أكثر من موضع في الكتاب بهذا المعنى .
     ومن مقالة frontières du récit    أراد مرتاض أن يستبين معالم " العمل السردي" le récit فأدرج تعريف جينيت له بأنه "عرض لحدث أو سلسلة من الأحداث، واقعية أو خيالية، بواسطة اللغة ، وبخاصة اللغة المكتوبة ." 13 ثم أظهر اعتراضه عليه، واصفا إياه بأنه" ليس مانعا جامعا، ولا دقيقا لطيفا، بل لعل الضعف أن يأتيه من بين يديه ومن خلفه ، وذلك على الرغم من أنه يزعم أنه يمكننا تعريف العمل السردي دون أي صعوبة."14
وللأمانة ينبغي أن نبادر بإضاءة الموقف فنعود إلى مقالة جينيت المشار إليها حيث نلفيه يورد هذا التعريف مشروطا ،و موضوعا في صيغة الافتراض لا في صيغة التسليم به، مدرجا بغرض المناقشة والإثراء  مفتوحا على التساؤل والاستفهام،  قابلا للنقد والتعديل، وإلا، كيف نفهم قوله :" ولا يعني هذا بأي وجه من الوجوه تبرئة ذاك التحديد، وهذا الطرح من الشوائب في مجال معتمل بالعديد من الإشكالات ". لكن ما أكب مرتاض على العناية به لا ينهض على الإلمام بما خطه جينيت في نصه  وإنما يمضي إلى طي بعض التفاصيل، و اختزال أخرى ، فقد اكتفى بإثارة النقاش في ثلاثة جوانب حملها "التعريف"، يتصل الأول بالأحداث التي قاربها مرتاض في بعدها التاريخي، وهو بهذا يخوض في مسألة التمييز بين السرد التخييلي والسرد الوقائعي، ومدى انضواء الثاني تحت لواء " الحكي " وقد أدرك مرتاض أن ما يثيره عصي على التصنيف والتحديد، وعلى البت القاطع، فآثر طرح الأسئلة القلقة الحيرى، فلم نظفر منه برأي حاسم  إلا ما كان من قناعته بأننا " إذا أدرجنا السرد التاريخي، فإن اللعبة حينئذ ستتغير قواعدها وتختلف ضوابطها"15.
       وليس في وكدنا في هذا المقام أن نستعرض الآراء المختلفة و المؤتلفة حول هذا الجانب، ولكننا نرى أنه من المنهجي الإشارة إلى أن مثل هذا الطرح يقتضي تدبرا في مبحث الأجناس الأدبية و تدرعا بالمفاهيم النقدية للسرديات لما لهاتين الآليتين من فاعلية في التمييز بين الأنواع التي يكون للسرد حضور مهيمن فيها، وبين الطرائق التي تتم مقاربتها بها.
    أما الاعتراض الثاني الذي أبداه مرتاض على ما ورد في التعريف الذي صاغه جينيت، فمتعلق بتخصيص الحديث عن الحكي على اللغة  المكتوبة مدعما اعتراضه بكون "أصل الحكي في جميع آداب الشعوب منذ الأعصار الموغلة في القدم ­[كانت تنهض] على اللغة الشفوية ."16    
ولا نروم في هذا الموضع أن نقلل من شأ ن هذه الملاحظة بقدر ما نود أن ندقق ونتقصى لإحقاق ما ينبغي إحقاقه، فجينيت جعل اللغة وسيطا عاما للمحكي، ثم خص اللغة المكتوبة بشيء من التركيز بعد أن أطر الأمر ضمن "التعبير الأدبي" .
 ويجرنا الحديث عن اللغة إلى الاعتراض الثالث الذي ساقه مرتاض، حيث أكد على عنصر من "بين عناصر كثيرة تتضافر وتتظاهر، وتتكاتف وتتآلف، من أجل أن تنجز عملا سرديا كاملا "17 و لهذا استغرب قصر جينيت تعريف العمل السردي على عنصري اللغة و الحدث.

   و هنا أيضا لا يمكن لأحد ألا يشاطر مرتاضا فيما أكده، ولكن في المقابل لا أحد يساوره أدنى شك في أن جينيت لم يكن غافلا، وهو يستعمل الدال "حدث" عن المدلولات التي يحيل عليها كارتباط الحدث عادة بالزمن و المكان، واستحالة حصوله خارجهما، وافتراض تعالق الحدث بشخصية أو بعدة شخصيات، كما أن وجود هذه العناصر مجتمعة لإنجاز عمل سردي يستلزم آليا وجود سارد ينهض بمهمة سرد هذا الحدث عن طريق ما تصنعه اللغة.
و لم يشأ مرتاض أن ينهي نقده واعتراضه على آراء رواد السر ديات دون أن ينعطف على إنجاز بارت في هذا المجال محددا في مقالته "مدخل إلى التحليل البنيوي للمحكي"، ولقد انكب على ترجمة الفقرة التي استهل بها مقالته، وهي التي تتضمن التمثيلات التي يمكن أن يأخذها السرد، وما يلفت الانتباه في هذه الترجمة هو استحداث مرتاض بعض المصطلحات مثل: " الأحدوثة " لترجمةl'histoire  و"المهذاة " لترجمة la fable والمشجاة لترجمة la tragédie ، وهو بهذا يضرب صفحا عما استقر في المصطلحية العربية التي حصل فيها شبه إجماع على أن تترجم l'histoire بالقصة أو الحكاية و تترجم la fable بالحكاية العجيبة أو الحكاية الخرافية وتترجمla tragedie  بالمأساة أو التراجيديا .
 ولئن كان "بارت" قد جعل تلك المقدمة الاستهلالية سبيلا للخلوص إلى السرد الأدبي المتوسل للغة، فقد ذكر مرتاض أشكالا عديدة عرفها السرد العربي ليحيل منها على دور الفنون السردية في تطور الثقافة، وعلى مكانتها في الذاكرة الجماعية، وعلى أثرها في الدلالة على ثقافة شعب من الشعوب ،  لأجل ذلك نظر إلى "السردانية" من زواية كونها "تركح على السرد ، و السرد يجسده العمل السردي، والعمل السردي يركح على الذاكرة الشفوية، و الذاكرة الشفوية تركح على الذاكرة الجماعية،و الذاكرة الجماعية تجسد ذهنية شعب من الشعوب بامتياز».18
ولا يمكن أن يغيب عن أذهاننا أن السرديات أو السردانية -كما يعبر عنها هو- تتنكب عن الخوض في هذا الجانب الذي يكون أقرب إلى الدراسات الأنثروبولوجية منه إلى هذا المجال.
أما فيما يرتبط بقضية التمييز بين المؤلف والسارد، فقد التزم فيها مرتاض سبيل مناقشة آراء كل من كايزر  وقد عرب اسمه بـ" قيصر"، و تودوروف، وجينيت ، وبارت،  فأبدى عدم موافقته على تمييز كايزر بين السارد و المؤلف لأن ذلك يتناقض مع المنطق، فهما "كائنان اثنان لا يلتقيان، أحدهما كائن إنساني.و أحدهما الآخر مجرد كائن ورقي.... و الأمر لدينا أن السارد ينصرف دوره خصوصا إلى المحكيات الشفوية...»19.
ويعضد ما ذهب إليه بتحديده دور كل من المؤلف و السارد ووظيفتهما، فالمؤلف "هو الذي يسوق الحكاية، ويلفق أحداثها، ويبني كيانها، ويحبك خيوطها، ويرسم ملامح شخصياتها، وينسج لغتها، ويضع أحيازها، لا أحد غيره، و لا غيره أحد يشترك معه في العمل السردي الذي كتبه –ليكن العمل الروائي هنا – وألفه  والذي سجله بالقلم على القرطاس للمتلقين»20
       إن تصريح مرتاض هذا يجعلنا نتساءل :عن أي موقف نقدي صدر؟ وأي اتجاه يتبنى؟ وما الغاية التي يرومها من حملته على استحداث مقام" السارد" في نظريات السرد المعاصرة؟ وعلام أسس وصفه"للسارد "بالشيء الوهمي العبثي "، ويختلف لأجل ذلك مع  كايزر «في جعله السارد شخصية خالية يندس من خلالها المؤلف»21.
         والتدبر فيما تدرع به مرتاض من تعليلات و تفسيرات لا يفي بغرض الإجابة، فهو يتكىء على مسألة التمييز بين شفوية السرد و كتابته، فالسارد عنده هو ذلك الكائن الحي الذي يروي أخبارا، أو يسرد حكايات باعتماد المشافهة،  والمؤلف كائن مادي أيضا، يوقع العمل السردي باسمه، وهو من يكتبه، و يدفع به إلى الطباعة ليقرأ.
وغير خاف ما في هذا الرأي من دلالة على الاكتفاء بالمناقشة العامة المبسطة   والسطحية، فمرتاض لم يتعمق الدرس السردي ، أو بالأصح لم يشأ أن يتعمقه، فهو ينكر على النقاد الجدد إلغاءهم مقام المؤلف "بعدوانية عابثة"،ويتصدى لكل من يسعى إلى إحلال السارد محله، والإخلال بمبادئ العقل  والمنطق ، و لذلك نلفيه يتفرس في آراء أولئك النقاد الجدد، فيعرج أولا على تودوروف و ديكرو* اللذين يدعوان إلى وجوب التسليم بوجود مؤلف ضمني Auteur implicite في النص"  فيستغرب دعوتهما و يصفها بالعبثية و الهوس، ولكنه لا يقيم دليلا على بطلان زعمهما إلا ما كان قد ذكره في رده على كايزر"من ارتباط "السارد" بما هو شفوي  وارتباط المؤلف بما هو مكتوب، ويمعن في تأكيد رأيه إمعانا يجره إلى دعوة المنظرين في هذا المجال إلى التدقيق فيقول:«وعلى منظر الرواية، والسردانية بعامة، أن يدقق في مثل هذه العلاقات و التفا ريق وإلا اختلط الحابل بالنابل، وأمسينا لا أحد يفهم الآخر».22
        ومضى مرتاض في تسفيه آراء تودوروف ووصفها ب"البلاء المبين"، خاصة لما عرض لمسألة القارئ الضمني le lecteur implicite ، فرد الأمر كله إلى مغالطة اغتيال الناص، وما ترتب عنها من لبس ، فقد قتل تودوروف المؤلف ، ثم أقام مقامه عنصرا وهميا و هو المؤلف الضمني «ليوقع شهادة وفاة المؤلف و ليدفع بالتاريخ إلى المزبلة ، وليرمي بالإنسان إلى العدم.»23
     ومن تودوروف ينتقل مرتاض إلى رأي جينيت في هذا الجانب، فيشير إلى شيء من التقارب الحاصل بينهما على الرغم من اصطناع جينيت تقنية " المؤلف/ السارد" ، ذلك أن فكر جينيت لا يقوم على التطرف في إقصاء المؤلف، بل إنه على العكس من ذلك يعترف بالمؤلف علانية، وأنه هو الذي يتولى شؤون نصه ."24 ومن هنا لم ير مرتاض بأسا في استعمال السارد مرادفا للمؤلف.
     وأما رأي بارت فقد عرضه مرتاض بشيء من الحذر، و بشيء من الإعجاب أيضا، وانطلق في ذلك من المقالة الشهيرة حيث صرح أنها  "ما دامت تدور من حول السردانية فإنه من الأليق أن نعرج عليها، لنقرأ فقرة منها ، وهي:" مدخل إلى التحليل البنوي للسرديات ."25
     في البدء آثر مرتاض أن يقدم التصورات الثلاثة  التي تؤطر النظرة المتداولة لحد الآن إلى من ينشئ العمل السردي،  فأنكر على بارت رفضه لها جميعا، ورمى عمله بالعبثية و الخلط، ودافع بشراسة أكبر عن المؤلف، كما عاب عليه قصور نظرته إلى القارئ الذي يجعله بارت طرفا في عملية البث السردي ، ومكونا  من مكونات العمل السردي لاينفصل عنه ، وحجة مرتاض في ذلك مؤسسة على إمكان عدم حدوث القراءة لأن " العمل السردي الذي ينشئه الكاتب ، أو يكتبه المؤلف، يظل قائما بمعزل عن قراءته ، وذلك على الرغم من أننا نربط الكتابة  بالقراءة ربطا حميما، لكن بالقياس إلى المؤلف نفسه الذي يقرأ مخيلته فيستخرج منها ما هو فيها بالكتابة..»26
     و نحن ننهي هذه القراءة  التي أطلعتنا على كيفية تعامل "مرتاض" مع  المصطلح السردي ، أليس لنا أن نتساءل: ما مدى فاعلية نحت مصطلح لم يشفع بتعليل؟ و يتفرع سؤال ثان: هل يمكن لمخالفة المواضعات الاصطلاحية أن تؤسس لفعل تأصيلي، وبالتالي ما الغاية من نقد لم يقترن باقتراح، ولم يعضد ببديل؟ 

الهوامش:
محمد برادة، سياقات  ثقافية، منشورات وزارة الثقافة، الرباط ، 2003، 287.
*عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة ، 240، الكويت، 1998.
2- المرجع نفسه، ص 246.
3- A.J.Greimas,J.Courtés,Dictionnaire Raisonné de la théorie du langage,Hachette,Paris, 1979,p242.
4 – في نظرية الرواية، ص 246.
5- م، ن. ص، ن.
6- م.ن ،ص249.
7- م، ن.ص، ن.
8- م، ن. ص، ن.
9- م، ن. ص250.
10- م،ن.ص، 251.
11- م،ن.ص،248.
12- م،ن. ص252.
13- م،ن . ص ، ن.
14- م،ن. ص، ن.
15- م،ن . ص 253.
16- م،ن . ص، ن.
17- م،ن . ص254.
18- م،ن. ص 275.
19-  م،ن. ص260.
20- م،ن. ص261.
21- م، ن .ص263.
 *قصد المعجم الموسوعي لعلوم الكلام Oswald Ducrot, T.Todorov,Dictionnaire Raisonné des sciences de langage,Seuil, Paris, 1972
22- في نظرية الرواية، ص 268 .
23- م، ن .ص272.
24- م،ن.ص273.
25- م،ن .ص274.
26- م، ن . ص 282.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة