منذ صدور ديوان: "واحة النسيان" للشاعر الستيني المغربي: بنسالم الدمناتي إلى اليوم، لم أعثر فيما أتصفح من مجلات وملاحق ثقافية لجرائدنا على ما يمكن أن ينصف هذا المبدع، أو يجلي الدور الطلائعي الذي نهض به من أجل إرساء معالم القصيدة المغربية الحديثة والمعاصرة. وهذا لعمري جحود من طرف نقادنا لا أجد له من مبرر سوى آفة النسيان التي ألمح إليها الدمناتي في ديوانه "واحة النسيان".
نعم أنا أحترم مواقف الشاعر وقناعاته حين يفضل أن يبقى بمنآى عن الأضواء، معتكفا في محراب إبداعه" متمسكا بخجل الناسك والصعلوك والمعصر، سابحا في مملكة الجن" ـ على حد تعبيره في قصيدة: "مأدبة الأفعال"، إلا أن فضيلة الاعتراف بمن صنعوا مجد القصيدة المغربية الحديثة دين يجب أن يسدد لأصحابه ـ وإن جاء بـعد فوات الأوان ـ. من هذا المنطلق، أرى أن التوقف عند ديوان "واحة النسيان "للشاعر المبدع بنسالم الدمناتي له ما يبرره اليوم.
صدرت الطبعة الأولى للديوان سنة 1996 من طرف المؤسسة الإسماعيلية للطباعة والنشر والتوزيع: (ALIED)، وهي طبعة ساهم الفنان التشكيلي المعروف حسين موهوب في إضفاء رونق عليها برسوماته ولوحاته المتميزة. ويضم هذا الديوان اثنتي وعشرين قصيدة كتبها الشاعر في فترات متفاوتة تتراوح ما بين 1972 و 1995، بالإضافة إلى قصائد أراد لها الشاعر أن ترى النور ضمن هذا الديوان، رغم أنها تنتمي إلى فترة التأسيس. ويغطي المتن الشعري للديوان ثلاث مراحل أساسية في حياة الشاعر:
مرحلة التأسيس: وتمثلها قصائد رأت النور في الستينيات ـ ولم يسبق للشاعر أن نشرها من قبل ـ حسب علمي ـ كقصيدة: "الذهب الشفاف" وقصيدة "أغنية مرتد" وقصيدة "اللهب الأحمر" وهي قصائد موزونة إيقاعا على أبحر الخليل (البسيط والرمل...).
مرحلة السبعينيات: وتمثلها في الديوان قصائد: ألام الحطيئة" وأحزان كامب ديفيد" و"مقدمة من غربة الحلاج"، وفيها يتحرر الشاعر كليا من إيقاع الخليل، ليعانق موسيقية الجملة والإيقاع الداخلي، موظفا بذكاء بارع إيقاع شعر التفعيلة.
ج) مرحلة التسعينيات: وهي الطاغية على مجمل قصائد الديوان الذي جاء استجابة لما حبلت به هذه الحقبة من أحداث؛ سواء شخصية أو
اجتماعية أو دولية، وتنحى فنيا إلى تجريب تقنيات القصيدة الحداثية أسلوبيا ومضمونيا.
وتتمحور تيمات ديوان "واحة النسيان "حول: الغربة". والمتأمل الفاحص لهذه الغربة، يلاحظ أنها جاءت تعبيرا عن الإحساس بالانكسارات والفجائع المتسربة من واقع الشاعر الذي لا تبدو فيه بارقة أمل. إنها نتيجة تخمرات طويلة وتراكمات فرضها الواقع فرضا، وما كان بمقدور الشاعر أن يغمض جفنيه عما يجري حوله من أحداث.
وللشاعر قدرة فائقة على الانتقال في القصيدة الواحدة بين الهم الذاتي الذابح المغلف بالحزن الذي ينساب كالسيل في ثنايا الأسطر الشعرية، وبين الهم القومي والوطني الذي يفضي بالشاعر إلى استشعار روح المهانة والانكسار في زمن الخيبات التي وشمت الذاكرة العربية، كمعاهدة "كامب ديفد" المهينة والتي خصص لها الشاعر قصيدة يستحضر فيها الفروسية الضائعة لامرئ القيس وينسج منها مرثية لعصر الهزائم.
فنلاحظ كيف يبدأ الشاعر في تأثيث الفضاء الدرامي لقصيدته "أحزان كامب ديفد" معبرا عن الهم الذابح على المستوى الذاتي حيث يقول:
"مازلت مرتعشا
حرارة معطفي لا تدفئ الكفين
فوقي ركام من ثلوج
دثروني
قد يزول البرد لكن حمأة البارود
من ملح الدموع، ومن حديد
تغتالني" ص 64
لينتقل إلى التعبير عن الهم القومي من خلال نسج حوار فني يوظف فيه التناص مع معلقة امرئ القيس موظفا إياه كرمز للبطولة الغائبة:
"قيل: السر في استبدال ملحمة بخلفية الوفاء
وجود ... ليل قد "تمطى"
و "الحوادث جمة"
وبأن ألبسة القروح تباح أو تهدى
سلام "للمكر"، المفر، المقبل "العاري الطريد
ودرب مصر، تلونت أحجاره
فاستحال اسمره مناخا للمحبة
بين شرقية الجباه وغربها
جثمان "عنخ امون" يعرض في متاحف "كامب ديفد" ص 65
وهذا ما يفجر عذاب الشاعر وحزنه الداخلي المفضي به إلى الشعور بالاغتراب، ومن ثم تفور نفسه التي لا تقبل الرضوخ لواقع الخزي والعار هذا فيصيح مستنكرا:
يا سيد السادات، لا
كلا
كلانا يوهم الأحزان
أنّا فوق متن المقبل الآتي
وأنّا صفوة الأجناس
أنّا:
نجلب النوق العجاف ونرتدي
"في يوم بؤس"
حلة النعمان ألبسه القروح ونغتدي
"والطير في وكناتها" حتى تموت
وإن تبدت في جناحيها الرياح
وأشجعت في القدس أو "بردى"
وفي حطين" ص 65-66.
إن للشاعر قدرة هائلة على إقامة حوار ثقافي بينه وبين امرئ القيس الملقب بذي القروح، وتوظيف قصته المأثورة مع النعمان بن المنذر، لتطعيم بوحه الشعري والسمو به للتعبير عن زمن الانكسار العربي، وانبطاح مسؤوليه للاملاءات الصهيونية. وهذا ما يتضح بجلاء في قصيدة أخرى بعنوان: "مأدبة الأفعال"، حيث يوظف فيها أحداث حرب البسوس بين بكر وتغلب، ليسقطها على ما آلت إليه الأوضاع بلبنان، ثم بالعراق وفلسطين، وهنا ترتفع نبرة حزن الشاعر وأساه على ما أصاب العروبة من خزي وعار:
" يا شقيا
كل رسم قد غدا وقفا على ما استوقف الشاعر
واستبكى
وآخى الدمع بالحزن، وأسجى البسطاء
صار في كان وما انفكت "عن الأطلال بيروت"
وأمست شجره
ناسخ المنسوخ في مأدبة الأفعال نفي
يا شقيا.
ما وراء النفي في "المذود" سمار
ولا لعبة" بكر" قذرة
ضاع في "تغلب" شماس
وقد كان يتيما
جرحت يمناه، وانساق مع الداعي إلى سبي سليمى
أي غاز لم تراقصه سليمي؟
وهي في "غزة" طاووس وملهى العطره" ص 37.
يوظف الشاعر ببراعة في هذا المقطع الشعري، وقوف الشاعر العربي على الأطلال وبكائه الحارق عليها، ليستمد من ذلك جو الأسى والحزن على ما آلت إليه الأوضاع ـ من حرب أهلية في لبنان والدمار الذي خلفته ـ كما يستمد من هذا البكاء الجو الملائم لرثاء حال غزة بعد غزوها واستباحة حرمتها.
وهذا ما يسلمه إلى هذا الشعور الخانق بالاغتراب على حال هذه الأمة، وهو ما يقوده إلى التنديد بالقوى السالبة لكرامتها. ومن ثم تتمطى دائرة التعبير عن سخطه العارم على ما آلت إليه أحوالها.
والغربة تيمة حاضرة في أكثر من قصيدة في ديوان "واحة النسيان"، ويمكن أن نجد لها أكثر من مصدر، منها ما هو غربة ذاتية تتفجر حزنا وأسى كما في قوله في "مذكرة من غربة الحلاج":
غريب
قصتي حمراء.. يكتبها المدى
ويتيه في ركبانها الشفق
....
غريب ما أعاني... في الفؤاد أراه في
العينين محترق" ص 8.
ومنها ما هو غربة وجودية يستشعرها الشاعر كما في قوله في أحزان
كامب ديفد":
"أمسيت الغريب
أمزق الألفاظ مرتعشا وأبكي
ليضحك المعتوه
أو أبكي وجودي دونما دمع" ص 63-64
أو كما قال في "مقدمة من مذكرة غربة الحلاج":
" لا أرض للمنفي، فأضحك
مذ متى النائي توارى عنه طيف؟
منسي تلك الأرض قد يأتي
بلادي
توأم عيني هناك
ورحلتي غب الأوار
وغب ما يفني النزيف" ص 8.
ومن مصادر هذه الغربة التي تغذي بوح بنسالم الدمناتي الشعري ما هو متعلق برحيل ثلة من أبناء جيله الذين ألفوا مسامراتهم الليلية في "مقهى الكارافيل" والذي لازال رواده يحتفظون بمغامراتهم الخمرية التي كانوا يستمدون منها القدرة على مواصلة السير في متاهة الزمن الموبوء، ففي قصيدة" مرثية لأحمد الأكرمي" يقول:
"صاحبي
في غرة الصبح وفي عيني ضحى مات
كان الليل أرساه على متن قلاع الفجر
حيث النجم يستهوي ارتفاع النور
في رحلة إشراقه"
...
يا أحمد تاريخك مفتون بمكناس
لماذا رحم التربة يخفي جبلا
ظلا ونبعا
...
أيها الراحل في الماضي، وآت في حروف الكلمات
يا "جناح الأمن" أضناك خريف
وسبات وسبات... وسبات" ص 81-82-83.
وفي رحيل صديقه ونديمه ـ بنفس المقهى ـ صاحب الأيادي البيض على الحركة المسرحية الحديثة في مكناس وأحد رواد "مسرح الهواة" في المغرب محمد تيمد يقول في قصيدة "تيمد بين الحضور والغياب":
"ويرحل في توددنا لدمع
ما توهمنا يؤوب غد
ليعلن أن ناسكنا انتهى
مات
وما بين الحضور وغيبة المشروب إلا بسمة تمضي
وأخرى تطعم العينين ما فات..."ص 87-88.
وفي رثاء الشاعر أحمد المجاطي، يستحضر الدمناتي رفيقه الذي أرسى معه معالم القصيدة الستينية في المغرب ـ رفقة الشاعر المرحوم محمد الخمار الكنوني، وشيخ الشعراء المغاربة الشاعر المجدد محمد السرغيني أطال الله في عمره. ويودعه بحرقة وأسى، يقول في قصيدة: و"ميض الذكريات":
"وداعا
وما يبكينك جفن
وما يذكرنك حزن
وما يندبنك زحف الدموع
ولا النوء في حسرة حين يظمأ حقل
فماذا وراء امتثالك للغيب؟
وكنا معا نشبع الليل نرويه ص (109)
...
قضاء يكسر ذاتي
يراود في الجذور إلى ضفتين
على الأخضر الأطلسي ورمانتين
أصدق أنهما لعنة مجاط" ص 111.
إن إحساس الشاعر بالمرارة والألم كبير جدا، لأنه أصبح يستشعر الوحدة القاتلة بعد رحيل هؤلاء الرفاق الذين عبروا إلى الضفة الأخرى، تاركين الشاعر يكابد من هذا الاحتراق الداخلي الذي سود جدار صدره، فلا يجد من حل سوى الارتواء من الكؤوس الحمراء، ومعاقرة المشروب السحري يستمد منه الحرارة لمواصلة الطريق في صقيع الزمن العربي الرديء:
" من هنا
من داخل القلب احتراق
نفس في زحمة المنفذ لم يحفر ضلوعي
ضاق حتى انصب في عمق ذهول اليأس
واسود جدار الصدر ـ مصلوبا ـ
فيا حشرجة الموت ابلعي السم دخانا
واشربي نكهة كأس صار محمولا مرارا
دون أن يأتي منك الرفض
أو رغبة ملحاح
ولا الساعة ينداح بها لغو الرفاق
ظامئ من علل الشرب
ودون الأهل في "مكناس"
حافات الكؤوس الحمر
أنّى واجهتك انكسارات المرايا
ساعيا أو واقفا بين طفلي و"كسرى"
تسمع الإنشاد، تستبدل أقداحا بأخرى
ليكن ثمة الشأن ممرا
لانسلال النشوة الكبرى على رحب العناق
....
ظامئ من علل الشرب
ودون الأهل في "مكناس"
حافات الكؤوس الحمر
أنّى واجهتك انكسارات المرايا
لوحة فيها شفوف الحزن فيها الخوف
فيها خجل الناسك والصعلوك والمعصر
والسابح في مملكة الجن" ص 35-36.
على هذه الطريقة، يستسلم الشاعر لانكفاء الخلان، واستعصاء البيان، فترتفع زفراته التي لا يهدئها إلا رحيق الكؤوس، إلا أن الشاعر لا يرتوي فيدور في عينيه البياض، وتغرورق بالدموع، فينكس رأسه دون أن يحرك راية استسلامه، مقاوما اليأس، ولذلك يصمم على الاستمرار في الإبحار رغم معرفته المسبقة بعدم جدواه:
" وأبحرت ... أبحرت
وما مجة من دخان
تعيد للرشد أو خمرة من سلاف ابن هاني
تنسيك ماض
وتخلق للصبح شوكة وردة "من قصيدة" متاهة" ص 105.
وهذا ما يؤلب عليه الحزن الداخلي، ويدفعه إلى الإحساس بالمرارة والانكسار، فهو يرى هنا وهناك، فلا يجد إلا سيوفا صدئه مكسورة، ودروعا مهمشة، فلا شهرزاد العرب أدركت صباحها، ولا شهريار أدرك معنى المشيئة، ولذلك فهو لا يبصر في المقبل إلا أطلال العصور، وغيمة سوداء تحجب الأفق:
" يا بلادي!
أصحيح أننا نبصر في المقبل أطلال العصور؟
وبقايا سيفنا المكسور، والدرع المهشم
وحكايا من قباب كن للفارس مغنم
ورماحا...؟
"شهرزاد" العرب لم تدرك صباحا
غيمة سوداء لا الصبح يغذيها
نغذيها نواحا". من قصيدة" اجترار في اجترار" ص 50.
وعلى العموم فإن القصائد التي تضمنها ديوان بنسالم الدمناتي" واحة النسيان" تزخر بما يلي:
لغة رصينة محبوكة بإثقان، تقاس ألفاظها بصرامة بالغة تحقق ما يطمح الشاعر إليه.
إيقاع دقيق لا تخطئه أذن القارئ، يفوح منه تمرس الشاعر بالكتابة الشعرية لعقود طويلة من الزمن، مع محاولته الذكية للخروج ممن الإيقاع الصارم إلى إيقاع التفعيلة المتحرر.
محاورة التراث الشعري العربي، والتعاطف مع مجموعة من الرموز العربية وتوظيف مواقفها الإيجابية.
حرص بنسالم الدمناتي ـ فيما استحضره من رموز عربية ـ على بعثها بمهارة فائقة، مستوحيا منها مواقف وآراء تنطبق على واقع المجتمع العربي عامة.
إن إثارة اهتمام القارئ برموز من التراث الساكن في أعماقه، هو وظيفة من وظائف الفن الذي يسعى إلى توسيع دائرة الوعي والانتماء. وهو بإحيائه لها، إنما يعبر عن ضمير أمته، وعن أنبل ما فيها من قيم، وأعرق ما في ماضيها من تمثل لمسألة الصراع الأبدي بين الخير والشر، والجمال، والقبح...
ويبقى بنسالم الدمناتي ـ بعد هذا كله ـ أحد الشعراء المغاربة القلائل، الذين أسسوا لميلاد القصيدة المغربية المليئة بأسرار المغامرة والتجديد مع ثلة من رفاقه الذين ساهموا معه في إرساء معالمها. وهذا ما منحه تجربة راكمها هذا المبدع منذ بداية الستينيات، ولا زال إلى يومنا هذا ناسكا في محراب هذه التجربة، غير آبه باللغط الذي يثيره المتشاعرون أو أشباه النقاد، وغير حافل بالأضواء المزيفة التي يحتمي بها صغار النفوس والذين انطفأت في أنفسهم شعلة الإبداع، فراحوا يستعيضون عنها بالتزلف والرياء والخوض في المياه العكرة، ليطلوا على القراء ـ دون خجل ـ من خلال بعض الملاحق المسماة" ثقافية" بفعل تواطئ بعض المحسوبين على الحقل الثقافي، وجهالة المشرفين عليه.
نعم لقد آثر بنسالم الدمناتي الإنزواء في واحة النسيان، حاملا تاريخه فوق ظهره، ومتنقلا كالنحل البري، ينفث عسله المر، ويمضي.
القصيدة المغربية ثكلى بعد رحيل فارسها الشريد:
بنسالم الدمناتي
د. امحمد برغوت
اخلع نعليك يا مارا بضيوف "مولاي مليانة"
وسبح بحمد ربك،
وحيي الراحل سليم الطوية
ورتل بأعلى صوتك:
"كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"
* * *
مكناسة الفيحاء شاحبة
بها الأنوار قد انكسرت
ومصابيحها تشهق مذهولة
بفقد من طواه الردى وخطاه اندثرت
فأين سنمضي يا صاحبي بعد خواء الكأس والليل طويل،
فالدروب استحالت منافي
والمقاهي واجمة بادية التجافي
* * *
أوصدوا ديوان القصائد
فاللغة ارتدت وشاح حدادها
والصورة قائمة
والبلاغة شاردة جف مدادها
انه زمن الفقد
فسبحان من خلق الأجساد من طين
وحولها سمادا
وسبحان من وهب القريحة لشاعر سلبه المداد.
* * *
اوقفوا سكب الدموع أيها الأحبة
وارقصوا رقصات الذبيح حتى الثماله
واتقنوا حزنكم وامزجوه بالسكر وشعل الشموع
انه زمن الفقد، فاعصروا الضلوع
اليوم حداد على القصيدة الثكلى
بعد رحيل فارسها الشريد،
* * *
كم أدمن الموت دون أن يرحل من كان مهووسا بـ " اللهب الشفاف"
كم صد الجفاء ليتماهى مع آلام الخطيئة المتلاف.
كم مرة ضغط على الزناد ليطلق آخر طلقه
كم لبس القفاز لإعلان افتتاح آخر جوله
فها هي القصائد تذروها الرياح وتتلوها على مسامع الراحلين
لتشهق روح غانية وتصيح مذعورة:
سلمت يا ابن سالم، ونزلت أهلا وسهلا
كيف حال الأحبة بعدنا
وكيف حال الندامى:
أما زالوا يفرغون الدنان ويكسرون المرايا؟
أما زالوا على العهد وافين، ويترددون على الزوايا؟
وكيف حال "فطومة":
أما زلت لواحظها ندية تحرس الرواد من شر البلايا؟
وكيف حال "باحسن":
أما رفع الستار لتبدأ فصول المسرحية في السرايا؟
* * *
إلى أين تمضي بنا الساعات بعد فقدك يا صاح
فما ترانا نلاقي إلا التضور من قهر،
صمتك أنشودة تتردد على ألسنة الطير.
عبرت الريح يا ابن سالم وقطفت ما تبقى من مزهرية العمر
فها هو الغروب يذكرنا بمن عاش مضمخا بالضوء على حافة النهر
أشرقتنا بالحزن وأسلمتنا للواعج الدهر
فالأسى بعدك خزان العيون التواقة لشعاع البدر
وأحباؤك لا يقوون إلا على احتراف الحزن والخمر،
فكيف ضعت وأضعت مرفأ نا؟ وأنت المرفأ الباقي
لنضل طريقنا إلى البر والسلوى عند الفجر،
ولم انسكبت فجأة ونضبت
مطأطأ رأسك المليء برجع الزفير وانصرفت.
مضيت وتركتنا لا نقوى على الإفصاح
لا نحسن الإنصات إلا لنزيف الجراح
فها نحن اليوم ظمأى من "علل شربك"
فكيف المعمول يا صاح؟ !!
وتتمحور تيمات ديوان "واحة النسيان "حول: الغربة". والمتأمل الفاحص لهذه الغربة، يلاحظ أنها جاءت تعبيرا عن الإحساس بالانكسارات والفجائع المتسربة من واقع الشاعر الذي لا تبدو فيه بارقة أمل. إنها نتيجة تخمرات طويلة وتراكمات فرضها الواقع فرضا، وما كان بمقدور الشاعر أن يغمض جفنيه عما يجري حوله من أحداث.
وللشاعر قدرة فائقة على الانتقال في القصيدة الواحدة بين الهم الذاتي الذابح المغلف بالحزن الذي ينساب كالسيل في ثنايا الأسطر الشعرية، وبين الهم القومي والوطني الذي يفضي بالشاعر إلى استشعار روح المهانة والانكسار في زمن الخيبات التي وشمت الذاكرة العربية، كمعاهدة "كامب ديفد" المهينة والتي خصص لها الشاعر قصيدة يستحضر فيها الفروسية الضائعة لامرئ القيس وينسج منها مرثية لعصر الهزائم.
فنلاحظ كيف يبدأ الشاعر في تأثيث الفضاء الدرامي لقصيدته "أحزان كامب ديفد" معبرا عن الهم الذابح على المستوى الذاتي حيث يقول:
"مازلت مرتعشا
حرارة معطفي لا تدفئ الكفين
فوقي ركام من ثلوج
دثروني
قد يزول البرد لكن حمأة البارود
من ملح الدموع، ومن حديد
تغتالني" ص 64
لينتقل إلى التعبير عن الهم القومي من خلال نسج حوار فني يوظف فيه التناص مع معلقة امرئ القيس موظفا إياه كرمز للبطولة الغائبة:
"قيل: السر في استبدال ملحمة بخلفية الوفاء
وجود ... ليل قد "تمطى"
و "الحوادث جمة"
وبأن ألبسة القروح تباح أو تهدى
سلام "للمكر"، المفر، المقبل "العاري الطريد
ودرب مصر، تلونت أحجاره
فاستحال اسمره مناخا للمحبة
بين شرقية الجباه وغربها
جثمان "عنخ امون" يعرض في متاحف "كامب ديفد" ص 65
وهذا ما يفجر عذاب الشاعر وحزنه الداخلي المفضي به إلى الشعور بالاغتراب، ومن ثم تفور نفسه التي لا تقبل الرضوخ لواقع الخزي والعار هذا فيصيح مستنكرا:
يا سيد السادات، لا
كلا
كلانا يوهم الأحزان
أنّا فوق متن المقبل الآتي
وأنّا صفوة الأجناس
أنّا:
نجلب النوق العجاف ونرتدي
"في يوم بؤس"
حلة النعمان ألبسه القروح ونغتدي
"والطير في وكناتها" حتى تموت
وإن تبدت في جناحيها الرياح
وأشجعت في القدس أو "بردى"
وفي حطين" ص 65-66.
إن للشاعر قدرة هائلة على إقامة حوار ثقافي بينه وبين امرئ القيس الملقب بذي القروح، وتوظيف قصته المأثورة مع النعمان بن المنذر، لتطعيم بوحه الشعري والسمو به للتعبير عن زمن الانكسار العربي، وانبطاح مسؤوليه للاملاءات الصهيونية. وهذا ما يتضح بجلاء في قصيدة أخرى بعنوان: "مأدبة الأفعال"، حيث يوظف فيها أحداث حرب البسوس بين بكر وتغلب، ليسقطها على ما آلت إليه الأوضاع بلبنان، ثم بالعراق وفلسطين، وهنا ترتفع نبرة حزن الشاعر وأساه على ما أصاب العروبة من خزي وعار:
" يا شقيا
كل رسم قد غدا وقفا على ما استوقف الشاعر
واستبكى
وآخى الدمع بالحزن، وأسجى البسطاء
صار في كان وما انفكت "عن الأطلال بيروت"
وأمست شجره
ناسخ المنسوخ في مأدبة الأفعال نفي
يا شقيا.
ما وراء النفي في "المذود" سمار
ولا لعبة" بكر" قذرة
ضاع في "تغلب" شماس
وقد كان يتيما
جرحت يمناه، وانساق مع الداعي إلى سبي سليمى
أي غاز لم تراقصه سليمي؟
وهي في "غزة" طاووس وملهى العطره" ص 37.
يوظف الشاعر ببراعة في هذا المقطع الشعري، وقوف الشاعر العربي على الأطلال وبكائه الحارق عليها، ليستمد من ذلك جو الأسى والحزن على ما آلت إليه الأوضاع ـ من حرب أهلية في لبنان والدمار الذي خلفته ـ كما يستمد من هذا البكاء الجو الملائم لرثاء حال غزة بعد غزوها واستباحة حرمتها.
وهذا ما يسلمه إلى هذا الشعور الخانق بالاغتراب على حال هذه الأمة، وهو ما يقوده إلى التنديد بالقوى السالبة لكرامتها. ومن ثم تتمطى دائرة التعبير عن سخطه العارم على ما آلت إليه أحوالها.
والغربة تيمة حاضرة في أكثر من قصيدة في ديوان "واحة النسيان"، ويمكن أن نجد لها أكثر من مصدر، منها ما هو غربة ذاتية تتفجر حزنا وأسى كما في قوله في "مذكرة من غربة الحلاج":
غريب
قصتي حمراء.. يكتبها المدى
ويتيه في ركبانها الشفق
....
غريب ما أعاني... في الفؤاد أراه في
العينين محترق" ص 8.
ومنها ما هو غربة وجودية يستشعرها الشاعر كما في قوله في أحزان
كامب ديفد":
"أمسيت الغريب
أمزق الألفاظ مرتعشا وأبكي
ليضحك المعتوه
أو أبكي وجودي دونما دمع" ص 63-64
أو كما قال في "مقدمة من مذكرة غربة الحلاج":
" لا أرض للمنفي، فأضحك
مذ متى النائي توارى عنه طيف؟
منسي تلك الأرض قد يأتي
بلادي
توأم عيني هناك
ورحلتي غب الأوار
وغب ما يفني النزيف" ص 8.
ومن مصادر هذه الغربة التي تغذي بوح بنسالم الدمناتي الشعري ما هو متعلق برحيل ثلة من أبناء جيله الذين ألفوا مسامراتهم الليلية في "مقهى الكارافيل" والذي لازال رواده يحتفظون بمغامراتهم الخمرية التي كانوا يستمدون منها القدرة على مواصلة السير في متاهة الزمن الموبوء، ففي قصيدة" مرثية لأحمد الأكرمي" يقول:
"صاحبي
في غرة الصبح وفي عيني ضحى مات
كان الليل أرساه على متن قلاع الفجر
حيث النجم يستهوي ارتفاع النور
في رحلة إشراقه"
...
يا أحمد تاريخك مفتون بمكناس
لماذا رحم التربة يخفي جبلا
ظلا ونبعا
...
أيها الراحل في الماضي، وآت في حروف الكلمات
يا "جناح الأمن" أضناك خريف
وسبات وسبات... وسبات" ص 81-82-83.
وفي رحيل صديقه ونديمه ـ بنفس المقهى ـ صاحب الأيادي البيض على الحركة المسرحية الحديثة في مكناس وأحد رواد "مسرح الهواة" في المغرب محمد تيمد يقول في قصيدة "تيمد بين الحضور والغياب":
"ويرحل في توددنا لدمع
ما توهمنا يؤوب غد
ليعلن أن ناسكنا انتهى
مات
وما بين الحضور وغيبة المشروب إلا بسمة تمضي
وأخرى تطعم العينين ما فات..."ص 87-88.
وفي رثاء الشاعر أحمد المجاطي، يستحضر الدمناتي رفيقه الذي أرسى معه معالم القصيدة الستينية في المغرب ـ رفقة الشاعر المرحوم محمد الخمار الكنوني، وشيخ الشعراء المغاربة الشاعر المجدد محمد السرغيني أطال الله في عمره. ويودعه بحرقة وأسى، يقول في قصيدة: و"ميض الذكريات":
"وداعا
وما يبكينك جفن
وما يذكرنك حزن
وما يندبنك زحف الدموع
ولا النوء في حسرة حين يظمأ حقل
فماذا وراء امتثالك للغيب؟
وكنا معا نشبع الليل نرويه ص (109)
...
قضاء يكسر ذاتي
يراود في الجذور إلى ضفتين
على الأخضر الأطلسي ورمانتين
أصدق أنهما لعنة مجاط" ص 111.
إن إحساس الشاعر بالمرارة والألم كبير جدا، لأنه أصبح يستشعر الوحدة القاتلة بعد رحيل هؤلاء الرفاق الذين عبروا إلى الضفة الأخرى، تاركين الشاعر يكابد من هذا الاحتراق الداخلي الذي سود جدار صدره، فلا يجد من حل سوى الارتواء من الكؤوس الحمراء، ومعاقرة المشروب السحري يستمد منه الحرارة لمواصلة الطريق في صقيع الزمن العربي الرديء:
" من هنا
من داخل القلب احتراق
نفس في زحمة المنفذ لم يحفر ضلوعي
ضاق حتى انصب في عمق ذهول اليأس
واسود جدار الصدر ـ مصلوبا ـ
فيا حشرجة الموت ابلعي السم دخانا
واشربي نكهة كأس صار محمولا مرارا
دون أن يأتي منك الرفض
أو رغبة ملحاح
ولا الساعة ينداح بها لغو الرفاق
ظامئ من علل الشرب
ودون الأهل في "مكناس"
حافات الكؤوس الحمر
أنّى واجهتك انكسارات المرايا
ساعيا أو واقفا بين طفلي و"كسرى"
تسمع الإنشاد، تستبدل أقداحا بأخرى
ليكن ثمة الشأن ممرا
لانسلال النشوة الكبرى على رحب العناق
....
ظامئ من علل الشرب
ودون الأهل في "مكناس"
حافات الكؤوس الحمر
أنّى واجهتك انكسارات المرايا
لوحة فيها شفوف الحزن فيها الخوف
فيها خجل الناسك والصعلوك والمعصر
والسابح في مملكة الجن" ص 35-36.
على هذه الطريقة، يستسلم الشاعر لانكفاء الخلان، واستعصاء البيان، فترتفع زفراته التي لا يهدئها إلا رحيق الكؤوس، إلا أن الشاعر لا يرتوي فيدور في عينيه البياض، وتغرورق بالدموع، فينكس رأسه دون أن يحرك راية استسلامه، مقاوما اليأس، ولذلك يصمم على الاستمرار في الإبحار رغم معرفته المسبقة بعدم جدواه:
" وأبحرت ... أبحرت
وما مجة من دخان
تعيد للرشد أو خمرة من سلاف ابن هاني
تنسيك ماض
وتخلق للصبح شوكة وردة "من قصيدة" متاهة" ص 105.
وهذا ما يؤلب عليه الحزن الداخلي، ويدفعه إلى الإحساس بالمرارة والانكسار، فهو يرى هنا وهناك، فلا يجد إلا سيوفا صدئه مكسورة، ودروعا مهمشة، فلا شهرزاد العرب أدركت صباحها، ولا شهريار أدرك معنى المشيئة، ولذلك فهو لا يبصر في المقبل إلا أطلال العصور، وغيمة سوداء تحجب الأفق:
" يا بلادي!
أصحيح أننا نبصر في المقبل أطلال العصور؟
وبقايا سيفنا المكسور، والدرع المهشم
وحكايا من قباب كن للفارس مغنم
ورماحا...؟
"شهرزاد" العرب لم تدرك صباحا
غيمة سوداء لا الصبح يغذيها
نغذيها نواحا". من قصيدة" اجترار في اجترار" ص 50.
وعلى العموم فإن القصائد التي تضمنها ديوان بنسالم الدمناتي" واحة النسيان" تزخر بما يلي:
لغة رصينة محبوكة بإثقان، تقاس ألفاظها بصرامة بالغة تحقق ما يطمح الشاعر إليه.
إيقاع دقيق لا تخطئه أذن القارئ، يفوح منه تمرس الشاعر بالكتابة الشعرية لعقود طويلة من الزمن، مع محاولته الذكية للخروج ممن الإيقاع الصارم إلى إيقاع التفعيلة المتحرر.
محاورة التراث الشعري العربي، والتعاطف مع مجموعة من الرموز العربية وتوظيف مواقفها الإيجابية.
حرص بنسالم الدمناتي ـ فيما استحضره من رموز عربية ـ على بعثها بمهارة فائقة، مستوحيا منها مواقف وآراء تنطبق على واقع المجتمع العربي عامة.
إن إثارة اهتمام القارئ برموز من التراث الساكن في أعماقه، هو وظيفة من وظائف الفن الذي يسعى إلى توسيع دائرة الوعي والانتماء. وهو بإحيائه لها، إنما يعبر عن ضمير أمته، وعن أنبل ما فيها من قيم، وأعرق ما في ماضيها من تمثل لمسألة الصراع الأبدي بين الخير والشر، والجمال، والقبح...
ويبقى بنسالم الدمناتي ـ بعد هذا كله ـ أحد الشعراء المغاربة القلائل، الذين أسسوا لميلاد القصيدة المغربية المليئة بأسرار المغامرة والتجديد مع ثلة من رفاقه الذين ساهموا معه في إرساء معالمها. وهذا ما منحه تجربة راكمها هذا المبدع منذ بداية الستينيات، ولا زال إلى يومنا هذا ناسكا في محراب هذه التجربة، غير آبه باللغط الذي يثيره المتشاعرون أو أشباه النقاد، وغير حافل بالأضواء المزيفة التي يحتمي بها صغار النفوس والذين انطفأت في أنفسهم شعلة الإبداع، فراحوا يستعيضون عنها بالتزلف والرياء والخوض في المياه العكرة، ليطلوا على القراء ـ دون خجل ـ من خلال بعض الملاحق المسماة" ثقافية" بفعل تواطئ بعض المحسوبين على الحقل الثقافي، وجهالة المشرفين عليه.
نعم لقد آثر بنسالم الدمناتي الإنزواء في واحة النسيان، حاملا تاريخه فوق ظهره، ومتنقلا كالنحل البري، ينفث عسله المر، ويمضي.
القصيدة المغربية ثكلى بعد رحيل فارسها الشريد:
بنسالم الدمناتي
د. امحمد برغوت
اخلع نعليك يا مارا بضيوف "مولاي مليانة"
وسبح بحمد ربك،
وحيي الراحل سليم الطوية
ورتل بأعلى صوتك:
"كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"
* * *
مكناسة الفيحاء شاحبة
بها الأنوار قد انكسرت
ومصابيحها تشهق مذهولة
بفقد من طواه الردى وخطاه اندثرت
فأين سنمضي يا صاحبي بعد خواء الكأس والليل طويل،
فالدروب استحالت منافي
والمقاهي واجمة بادية التجافي
* * *
أوصدوا ديوان القصائد
فاللغة ارتدت وشاح حدادها
والصورة قائمة
والبلاغة شاردة جف مدادها
انه زمن الفقد
فسبحان من خلق الأجساد من طين
وحولها سمادا
وسبحان من وهب القريحة لشاعر سلبه المداد.
* * *
اوقفوا سكب الدموع أيها الأحبة
وارقصوا رقصات الذبيح حتى الثماله
واتقنوا حزنكم وامزجوه بالسكر وشعل الشموع
انه زمن الفقد، فاعصروا الضلوع
اليوم حداد على القصيدة الثكلى
بعد رحيل فارسها الشريد،
* * *
كم أدمن الموت دون أن يرحل من كان مهووسا بـ " اللهب الشفاف"
كم صد الجفاء ليتماهى مع آلام الخطيئة المتلاف.
كم مرة ضغط على الزناد ليطلق آخر طلقه
كم لبس القفاز لإعلان افتتاح آخر جوله
فها هي القصائد تذروها الرياح وتتلوها على مسامع الراحلين
لتشهق روح غانية وتصيح مذعورة:
سلمت يا ابن سالم، ونزلت أهلا وسهلا
كيف حال الأحبة بعدنا
وكيف حال الندامى:
أما زالوا يفرغون الدنان ويكسرون المرايا؟
أما زالوا على العهد وافين، ويترددون على الزوايا؟
وكيف حال "فطومة":
أما زلت لواحظها ندية تحرس الرواد من شر البلايا؟
وكيف حال "باحسن":
أما رفع الستار لتبدأ فصول المسرحية في السرايا؟
* * *
إلى أين تمضي بنا الساعات بعد فقدك يا صاح
فما ترانا نلاقي إلا التضور من قهر،
صمتك أنشودة تتردد على ألسنة الطير.
عبرت الريح يا ابن سالم وقطفت ما تبقى من مزهرية العمر
فها هو الغروب يذكرنا بمن عاش مضمخا بالضوء على حافة النهر
أشرقتنا بالحزن وأسلمتنا للواعج الدهر
فالأسى بعدك خزان العيون التواقة لشعاع البدر
وأحباؤك لا يقوون إلا على احتراف الحزن والخمر،
فكيف ضعت وأضعت مرفأ نا؟ وأنت المرفأ الباقي
لنضل طريقنا إلى البر والسلوى عند الفجر،
ولم انسكبت فجأة ونضبت
مطأطأ رأسك المليء برجع الزفير وانصرفت.
مضيت وتركتنا لا نقوى على الإفصاح
لا نحسن الإنصات إلا لنزيف الجراح
فها نحن اليوم ظمأى من "علل شربك"
فكيف المعمول يا صاح؟ !!
بقلم: د. امحمد برغوت، أستاذ باحث في الأدب الحديث ـ المغرب ـ