إن الصورة الشعرية تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لعلاقة بين شيئين يمكن تصويرهما بأساليب عدة، إما عن طريق المشابهة أو التجسيد أو التشخيص أو التجريد أو التراسل.
والصورة في الشعر لم تخلق لذاتها، وإنما لتكون جزءا من التجربة، ومن البناء العضوي في القصيدة، يقول مكليش:
"إن الصور في القصائد لا تهدف إلى أن تكون جميلة، بل عملها هو أن تكون صورا في القصائد، وأن تؤدي ما تؤذيه الصور في القصائد"(1) والصورة بدون سياقها العاطفي في التجربة، وبمعزل عن البناء الكلي للقصيدة، تصبح تصويرا مفتتا لا قيمة له.
وتكمن فاعلية الصورة الشعرية أساسا في تمثيلها للإحساس، إذ أن الصفات الحسية التي تخلقها الصور ـ وإن كانت تخلق نوعا من الحيوية لوضوح ودقة التفاصيل ـ فهي ليست العامل الحاسم في إضفاء الفاعلية على الصورة، إذ أن فاعليتها عند: أ. ريتشاردز "ترجع إلى مقدار ما تتميز به هذه الصورة من صفات باعتبارها حدثا عقليا لها علاقة خاصة بالإحساس، فالصورة أثر خلفه الإحساس على نحو لم يمكن تفسيره حتى الآن. ولكننا نعلم أن استجابتنا العقلية والانفعالية إزاء الصور تعتمد على كونها تمثل الإحساس أكثر مما تعتمد على الشبه الحسي بينها وبين الإحساس. وقد تفقد الصورة طبيعتها الحسية إلى حد يجعلها تكاد لا تكون صورة على الإطلاق، وإنما تصبح مجرد هيكل، ومع ذلك فهي تمثل إحساسا لا يقل عن الإحساس الذي تولده لو كانت على درجة قصوى من الحسية والوضوح." (2)
وهذا ما يثير مسألة مهمة ـ وتتمثل في تعدد مستويات الصورة الشعرية نظرا لتعدد العناصر المستقاة منها، وهذا ما ساعدها على إعطائها أبعادا رمزية، وفي هـذا يقـول د. مصطفى ناصف:
" والقارئ حينما يجد صورة ثرية في المدلول، يقول عادة أننا بصدد رمز. ويجب أن نتذكر أن الحد الفاصل بين الرمز وأية صورة أخرى لا وجود له، وأن المهمة الدقيقة هي كشف قدرة الصورة على تنوير العمل الأدبي من حيث هو كل من خلال ثرائها في المدلول، وترابط هذا المدلول بسائر الجوانب." (3)
ومن هنا تبرز أهمية الصورة الشعرية باعتبارها مزيجا متكسرا من عناصر الحلم والواقع، وهي بهذا جزء من العالم الخالي من جفاف الواقع وصلابته.
"ولما كان الشاعر إنسانا يمزج في باطنه بين الواقع والمحتمل.. أصبحت وسيلته الوحيدة للتعبير، هي نقل هذا المحتمل بالكلمات في صور فنية، مادام المنطق والأفكار أعجز من أن يثبتا هذا الشيء المحسوس".(4)
إلا أن الشاعر المعاصر يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن تطلعه أوسع، وحاجته إلى توحيد أبعاد العالم أشد، ولذلك بدت الصورة عنده معقدة، فهو يتوسل إليها عبر عدد من الوسائط التي تدخل في تركيب الصورة الشعرية، وهذه الوسائط تزداد اليوم ارتباطا برؤية مشدودة إلى المطلق.
فالشاعر المعاصر يريد أن يتوغل أكثر في قلب العالم، وهذا التوغل هو الذي يدخله في المطلق الحسي ـ أو الشعري على الأصح ـ والتعقيد إذن يأتي من ربط هذه الامتدادات النفسية والحسية الهائلة وعناصر هذا الطموح الكبير، ببوتقة عمل محدود هو: القصيدة.
وبذلك أصبحت الصورة الشعرية مقياسا أساسيا لقدرة الشاعر على الإحاطة بالعالم؛ إنها ـ بهذا المعنى ـ نقطة مركزية استطاعت الحركة الشعرية المعاصرة إدخالها بصيغتها الحديثة في بنية القصيدة، ولذلك طرحت مسألة الرمز الشعري بوصفه البنية التي تصب في داخلها عناصر الصورة مجتمعة.
وللقبض على جوهر الصورة الشعرية في متن ممدوح عدوان، ينبغي الإقرار مسبقا بأن عناصرها متعددة، ولذلك ينبغي الغوص وراء معانيها، ودراسة أساليب بنائها كما تتجلى في متنه الشعري.
وهذه المستويات في تعدد الصور الشعرية لديه، يحيل الصور إلى أشكال غير منطقية أحيانا لا يمكن الوصول إلى معانيها الحقيقية إلا عبر استجلاء الدلالات النفسية في إطار التجربة الشعرية كلها.
ولذلك يجب الاعتراف مسبقا بأن الاقتصار على الجانب الدلالي وحده، لن يسعف في القبض على جوهر الصورة الشعرية عند ممدوح عدوان.
1 ـ الصورة التشبيهية البسيطة:
وهي من أبسط الأساليب الفنية في التصوير، وأقلها قدرة على الإيحاء، إذ تعتمد على التشابه الحسي بين الأشياء. وهذا التشبيه الذي يمكن أن يكون واحدا من أشكاله المعروفة: كالتشبيه البليغ أو التمثيلي أو الضمني، يشكل مع الوصف المباشر ـ الذي قد يتحقق إما بالمجاز أو بالتصوير الحقيقي ـ وسيلة من وسائل تكوين الصورة.
ويأخذ التشبيه البسيط طابعا تقريريا في غالب الأحيان، إنه لحظة توقف تستجمع العناصر التي يتألف منها البناء المتعدد لإطراف الصورة الشعرية.
والمتتبع لمتن ممدوح عدوان الشعري، يلاحظ أن تشكيله للصورة التشبيهية البسيطة تتم عنده بالارتكاز على:
* التشخيص: ويتم من خلال خلع الصفات الإنسانية على كل من المحسوسات والماديات. وهذه بعض الأمثلة:
يقول ممدوح عدوان في قصيدة: "في الطريق" (5)
رأيتك أمس عابرة
وكنت غمامة بيضاء تغمرني
مررت، وكنت ترتعشين
مثل نوافذ الأكواخ في المطر
لففت الغربة السوداء شالا باكيا
ومضيت بين الأهل والمحن
وغلقت البكاء ببسمة صفراء:
كالمدن.
إن الضمير في "رأيتك" يعود على مدينة القنيطرة السورية، والشاعر من خلال مخاطبته لها يجسد حالتها ـ وهي ترزح تحت نير الغزو الصهيوني ـ عبر تشخيصه النسوي لها، حيث يعقد لها صلة في الصورة الأولى بالغمامة البيضاء، وهو تشبيه بليغ تبرز فيه القنيطرة كرمز للخصب والعطاء.
وفي الصورة الثانية، يقرر الشاعر حالتها إثر انتهاك العدو لها، فيمثل ارتعاشها وخوفها من الغزاة كارتعاشة نوافذ الأكواخ الواهية في فصل الشتاء.
ثم ينتقل في الصورة المفردة الثالثة ليعقد صلة بين ما تعيشه من غربة والشال الملفوف حول عنقها.
وفي الصورة الرابعة يصور الشاعر كيف تحاول أن تداري ما تحسه من حزن وألم بالبسمة الصفراء كما تداري المدن حقيقة ما يستقر في أعماقها بمظاهرها الخارجية. وهذه الصورة الأخيرة تبرز المجهود الفكري الذي بذله الشاعر ليقيم علاقة تشابه ما بين: الضحكة الصفراء والمظهر الخارجي للمدينة.
ويمضي الشاعر في مناجاته للمرأة/ المدينة، ليرسم لها صورا قاتمة يهيمن عليها جو الكآبة والغربة:
تيممت الهلال فلم أجد أحدا بضوء جبينه الخاوي
وأنت هناك واجمة
كعذراء تودع حبها الذاوي (6)
إن حساسية الشاعر هنا لا تستطيع الإفلات من هذه الصور القاتمة التي يرسمها لحبيبته/ المدينة، وهو يشبهها هنا بحالة العذراء في لحظة توديع حبيبها.
والأمثلة على تشخيص ممدوح عدوان للمدينة كثيرة سبق أن تعرضنا إلى بعض منها في البنية الدلالية تحت عنوان: العلاقة بالمرأة / المدينة.
وتثير المسألة الاجتماعية عند عدوان قدرة فائقة على تصوير حال الفقراء الجائعين في مقابل حال المترفين المتخمين، وذلك باتكائه على الصورة التشبيهية البسيطة كما تتجلى في النموذج التالي:
أوقف عاملة التفريخ
فوجوه الأطفال انسكبت كالغيم
فاجأها جوع التاريخ
والحزن متغلغل في الإضلاع نما كجنين
لقحنا منه ببدء التكوين. (7)
تبدو معاناة الأطفال من الجوع في الصورة الأولى بادية على وجوههم التي شبهها الشاعر بانكساب الغيم، في حين أن الحزن طاغ في الصورة الثانية. وهو وليد ظروف القهر التي يعيشها أطفال الفقراء، وحين يتلمس منابع هذا الحزن، يراه متغلغلا في الأضلاع، فيعقد بذلك صلة الجوع بالمراحل الأولى لنمو الأجنة في أرحام أمهاتهن.
إن الجوع يغدو في هذه الصورة ملازما للأطفال قبل ولادتهم، وكأنه لقاح يتجرعونه منذ بدء تكوينيهم. ولعل في ذلك مبالغة مقصودة من الشاعر لإبراز موقفه من الصراع الطبقي، كما يبدو اعتماده على التشبيه البسيط في رسم ملامح الإنسان العربي وهو يثير المسألة القومية:
مخروا عباب الليل كالأصوات
كالأضواء
صوب الموت والتيه
كفاك تساؤلا: (أين الطريق).(8)
يحيل هذا المقطع الشعري إلى أزمة جيل الشاعر الذي لم يتحمل مسؤوليته كاملة بسبب الخلافات السياسية، وهو يشبه الشهداء الراحلين هنا بالشهب المضيئة ـ وهي صورة قديمة وردت كثيرا في دواوين الشعر العربي القديم ـ وبالأصوات المخترقة لسكون الليل وظلامه، وهي دلالة على إيمانهم الراسخ بالمبادئ والقيم التي استشهدوا من أجلها، عكس ما يعيشه جيل الشاعر من تردد وحيرة وعدم الثبات على المبادئ:
رأيتكم
وكنت مغمسا بالصمت والأتعاب والبرد
وكنتم تعبرون الليل كالرعد
رأيتكم
سنابل في طريق الجوع، رائحة التنانير
جياعا.. يا رفوف النحل، حين يطالها الغرباء
تلسع لسعة لتموت. (9)
إن العلاقة هنا في الصورة الأولى واضحة بين المشبه والمشبه به، إذ وقع التركيز فيها على وجه الشبه الذي يفسر وضوح هذه العلاقة؛ وهو السرعة الفائقة والضياء. وهذا ما يضفي هالة ووزنا لهؤلاء العابرين ـ سواء كانوا شهداء أو مناضلين ثوريين ـ ، بينما تتشكل الصورة الثانية عن طريق الاستعارة، حيث يستعير الشاعر كلمة "السنابل" ليدل بها على مدى بذل وعطاء "عابري الليل" لكسر طوق الجوع على الأطفال والفقراء وهو ما يوحي بروح التضحية.
2 ـ الصورة التشبيهية الغربية:
ويعتمد فيها ممدوح عدوان على نقل علاقة مجردة بين طرفي الصورة، وإدخالها في قلب غنائية شعرية متواترة. وبفضل هذا النوع من الصور يصبح العالم في أشيائه وعلاقاته ميدان فعل جديد، إذ تولد الصورة عنا الدهشة والمفاجأة داخل بنية القصيدة.
يقول عدوان في قصيدة: "الزحام" (10)
كنا على الشطآن واقفين
يابسين
وكان يجري صوبنا الموت مع الفرح
كموجة تهيم نحو شاطئ مازال ينتظر
لكنها، وقبل أن تلمسه،
تشهق ثم تنكسر.
إن العلاقة التي يرسمها الشاعر بين طرفي التشبيه في هذه الصورة تبدو غربية ـ نوعا ما ـ، إذ كيف جاز له أن يشبه رفاقه بموجة البحر.
لكن المتأمل في هذه العلاقة يقف على مدى قتامة الصورة التي يريد الشاعر التعبير عنها هنا؛ وتكمن في تشبيه لرفاقه الذين يهيمون بالإبحار أو السفر ـ دون معرفة المآل الذي ينتظرهم، هل هو النجاة والفرح، أم الهلاك والموت ـ بالموجة الهائمة نحو الشاطئ.
ويقول الشاعر في قصيدة: " زمن الجنائز الجميلة"(11)
كل درب يضيق سراطا
يسيح صحاري
وكل صباح توشح بالدمع أو بالسواد
وكل أغاريدنا للحداد
كأنا نسير ولا نتحرك
أو أننا سائرون ارتداد
كأن المجازر أعراسنا
وكأن الجنائز أفراحنا
إن مجموع الصور في هذا القطع الشعري، تنحى منحى عكسيا غريبا، فكيف جاز للشاعر أن يقول بأن المرء يسير ولا يتحرك، أو يسير إلى الوراء، ثم كيف جاز له أيضا أن يشبه المجازر بالأعراس، والجنائز بالأفراح ؟ !
إن الشاعر هنا يعاني من ثقل هول الهزائم المتلاحقة على مجتمعه، وأسير النظرة السوداوية التي تلاحقه، ولذلك يلجأ في تعبيره عن إدانته لواقع الهزيمة بقلب كل الموازين، وعكس جميع العلاقات.
ويقول في قصيدة بعنوان: "وكيف يعشق القتيل" (12)
في ومضة التفجير، كالبرق،
رأيت أفق موطني وكان مقفلا
رأيت أرض موطني
وكانت الأرض أمامي مرجلا يغلي
وكان الحب بين أضلعي معتقلا.
فإذا كانت العلاقة واضحة في الصورة الأولى بين طرفي التشبيه: لحظة الانفجار والبرق، فإن هذه العلاقة تبدو غريبة بين الأرض والمرجل الذي يغلي. ولعل في ذلك إشارة إلى ما يتوقع الشاعر من أحداث تنبئ بها أرض موطنه.
إن الصورة هنا تصبح أكثر من مجرد لقطة خارجية لمشهد ما، بل هي تسعى إلى إعادة اكتشاف هذا المشهد وتعطيه مدلولات جديدة من خلال عالم الإشارات الشعرية التي تشكل حقلا إبداعيا يستطيع أن يضم ما هو موضوعي إلى ما هو ذاتي في علاقة امتدادية.
ويقول الشاعر في قصيدة: "رصاصات بيضاء للأيام السوداء":
ورجال، كالأشجار، اقتلعوا
وابتلعوا في الرمل المتحرك
غرقوا شبرا شبرا.. رجلا رجلا
ما مدت لهم يد
لم يتحرك حولهم غير كلام كحبال يمتد
يتحول بعد الخنق رثاء وأكاليل
وحصارا من جوقات طبول (13)
إن الشاعر في هذه القصيدة يرثي موت المناضل الشهيد:" غسان كنفاني" حيث يشبه موته في الصورة الأولى وكأنه عملية اقتلاع للأشجار اليانعة الوارفة الظلال دون أن يقوى أحد على فعل أي شيء. وهنا ينتقل الشاعر إلى رسم صورة ثانية تبدو غريبة بعض الشيء بالمقارنة مع وضوح الصورة الأولى، إذ يعقد صلة بين الكلام والحبال.
إن الكلام هنا يعني به الشاعر الرثاء، وعلاقة هذا الرثاء بالحبال تتمثل في أنه ممتد يكاد لا ينتهي، والشاعر من خلال هذا كله يريد أن يصور حالة العجز الذي ينتابه وينتاب رفاقه الذين لا يقوون على فعل أي شيء تجاه هؤلاء المناضلين والشهداء سوى الرثاء.
وهذا العجز الذي يريد ممدوح عدوان تصويره هنا، لا ينسحب على رفاقه فقط، وإنما ينسحب على الوطن ـ خاصة ـ، لأنه مشلول وفاقد الحركة، يعد فجائعه في صمت: وفي هذا يقول ممدوح عدوان ـ من نفس القصيدة ـ:
لم أبك عليه، بكيت الوطن المشلول
وهو يعد فجائعه في صمت
ويحولها مسبحة بلهاء
كنت وحيدا أنصت للأرض الخرساء
والأرض تئن وترمقني وجله
وأنا أحسبها خجلة.(14)
3 ـ الصورة المركبة:
وهي مجموعة من الصور المفردة تحكمها علاقات متفاعلة لتولد معاني مركبة. إذ التركيب في الصورة هو أحد الطرق التي تفتح آفاقا لإثراء المعاني، وهي التي عناها أرشيبالد مكليش حين قال بأن في الشعر علاقة معينة بين الصور، أو ما يمكننا تسميته بتزاوج الصور، وإن كان هذا التزاوج قد يتضمن أكثر من صورتين: "إن الصورة الواحدة ترسم وتوطد بالكلمات التي تجعلها حسية وجلية للعين أو للأذن أو اللمس لأي من الأحاسيس، ثم توضح صورة أخرى قربها، فينبلج معنى ليس هو معنى الصورة الواحدة منهما، ولا هو معنى الصورة الثانية، ولا حتى مجموع المعنيين معا، بل هو نتيجة لهما في اتصالهما وفي علاقاتهما الواحد بالآخر". (15)
إن الصورة المركبة إذن، هي نتيجة الصلة ـ أولا ـ بين صورتين مفردتين أو أكثر، وهي نتيجة ـ ثانيا ـ للعلاقة التي تخلق معنى منبثقا من طبيعة تلك العلامة. وبذلك تخرج الصورة المركبة نهائيا من زاوية الطرفين التقليديين (المشبه والمشبه به) إلى أطراف ثلاثية أو رباعية أو أكثر، مما ينفي تماما فكرة البحث عن تلاف بين حدود هذه الأطراف.
وتأخذ الصورة المركبة في متن ممدوح عدوان الشعري مظهرين اثنين:
أ ـ الصورة المركبة من خلال حشد الصور المفردة:
والشاعر هنا يقوم بعملية انتقاء مجموعة من الصور بعناية فائقة، تأخذ شكل تداعيات المعاني، بحيث لا يقصد الشاعر أن تكون كل صورة منها مقصودة لذاتها، وإنما تشكل كل صورة عنصرا أساسيا من تركيب أكبر تتفاعل مع بقية عناصره، وتتكامل معها لتحدث في الأخير تأثيرا معينا متكاملا.
يقول ممدوح عدوان في قصيدة: "أقبل الزمن المستحيل" (16)
حولي الخوف يضحي ترابا ويضحي سمادا
ويضحي بذارا ويضحي ثمارا
يزهر الخوف موسم جوع، مناجل تحصد جوعي
ويضحي هنا عرقا يتصبب، يضحي فخارا
ينتج الخوف في السهرات حكايا المذلة
حتى تزين في أعين الساهرات السكارى
يصبح الذل طقسا، يضحى أثاثا
وعرضا نستره ثم يضحي ستارا
يصبح الذل ضيفا عزيزا، قرى الضيف
يضحي لا كرام من زار
أو هدي من ضـل ثارا
يصبـح الذل أضحيـة في المواسـم
يضحي بخورا... ويضحي مزارا
لون الذل ريش الطواويس حتى تباهوا به في عناد.
إن الشاعر في هذه القصيدة يرسم ملامح فلسطين السليبة منددا بغرور السلطة الحاكمة التي قادت إلى الهزيمة. وهو في هذا المقطع الشعري حريص على مقابلة القيم الإيجابية في الماضي، بالقيم السلبية الطاغية على الحاضر، وهو يتوسل في تعبيره عن ذلك بانتقاء مجموعة من الصور للدلالة على شيء واحد.
فلنلاحظ تصويره للخوف الذي يراه ترابا ثم سمادا، ثم يضحي بذارا فثمارا وعرقا يتصبب، ثم فخارا ـ في الصورة الأولى ـ وكيف صور الذل: طقسا، وستارا، ثم ضيفا عزيزا، فنارا ـ لمن ضل السبيل ـ فأضحية للمواسم ثم بخورا ومزارا ـ في الصورة الثانية ـ
إن تراكم الصور هنا له دلالة بالغة عن انهيار الحلم القومي في تحرير فلسطين، لذلك يتصور ممدوح عدوان أن الخوف أصبح سمادا في تربتنا العربية، وبذارا لا تنتج إلا مواسم جوع. في حين أن الذل أصبح طقسا من الطقوس المنتشرة في كل مكان، بل إنه أصبح علامة دالة للوجود العربي، وهو يهدي سبيل من ضل.
هكذا ظلت فلسطين وحيدة بعدما تخلى عنها الجميع، وأصبحت "غزة" يتيمة تقاتل حتى النبضة الأخيرة ـ بعدما انفض عنها أهلها ـ لذلك فإن الشاعر يضفي عليها أوصافا إيجابية، مقابلة لتلك التي رسمها في المقطع السابق:
غزتي وحدها في الليالي صباح
زهرة في مهب الرياح
وحدها
وحدها وقفت بعد مقتل فرسانها
بعدما ضاقت الأرض،
سد الكماة المداخل
حوصر نبع برمل الصحاري
وحدها وقفت بالأظافر تدفع وحش الجموح
وبالحسن والدمع تدفع عنها اشتهاء السكارى،
وحدها نفس يتردد تحت الخناجر
همس سمعناه بين الرعود
وساقية رطبت حلقها في الرمال(17)
إن الشاعر هنا يحاول أن يقدم للقارئ لوحة تتشكل من عدة صور يعيد تركيبها من جديد، وتبدو من خلالها غزة رمزا للضياء (صباحا في مقابل الليل) وللمقاومة (زهرة في مهب الرياح ـ بالأظافر تدفع وحش الجموح) وللأمل (نفسا يتردد تحت الخناجر ـ همسا بين الرعود) وللخصب والحياة (ساقية رطبت حلقنا في الرمال).
ويقول في قصيدة بعنوان: "في الطريق" (18)
رآك الأصدقاء، وحدثوني عنك،
قالوا: كنت كالجرح
وكنت التأثر للجرح
وكنت ضماد جرح راعف سمح
نزيفا صامتا... في زمهرير الحزن عذبني
رأوك وحدثوني..
كنت قد أطفأت صوتك
في ضجيج الغانيات
وظلـمة الحـانـة
فعدت إلي رائحة من الأرض
غناء متعبا ضيعت ألحانه.
يعاني ممدوح عدوان في هذا المقطع الشعري من وضع مدينته القنيطرة، وهو في تشخيصه النسوي لها ـ عبر كاف المخاطبة ـ لا يستطيع الإفلات من رسم صورة مركبة لما أصابها من ذل وهوان بعد الغزو الصهيوني لها، فهي الجرح الذي لا يندمل، وهي ضماد الجرح، وهي النزيف الصامت الذي لا ينتهي.
إن القنيطرة ـ كما تبدو في هذه الصورة المتلاحقة ـ هي أرق الشاعر الدائم وداؤه المزمن ولذلك فهو لا يستطيع الإفلات من هذا الأرق رغم ارتداده على (ضجيج الغانيات، أو ظلمة الحانة)، إنها تتراءى له (رائحة من الأرض ـ وغناء متعبا) وهذا ما يدفع الشاعر إلى العزف على وتر اليأس الذي أصبح يلفه، وحين تبدو له بأرقة أمل، فإنها سرعان ما تتبدد على أرض الواقع، وفي هذا يقول في قصيدة: "الهروب من ثورة الزنج":
كنت في ظلمة اليأس مستنقعا
صرت نهرا يموج عليه البطر
زيزفونا، إذا أزهر الحلم،
أجهض فيه الثمر (19)
إن مجموع الصور هنا تصب في وظيفة واحدة، وهي إبراز هذا التحول في موقف الشاعر الذي كان يخنقه اليأس ـ ولذلك شبه هذه الحالة بالمستنقع الراكد ـ ثم سرعان ما دبت الحركة في أوصاله ـ وكأنه النهر الذي يموج عليه البطر ـ أو ـ الزيزفون الذي أزهر فيه الحلم ـ لكن هذه الحياة الدائبة في أوصاله سرعان ما يكتشف بأنهار زائفة، ومجرد حلم، لأن "الزيزفون قد أجهض فيه الثمر".
ب ـ الصورة المركبة من خلال تداعي الصور:
والشاعر هنا ينتقي ركاما من الصور المتتالية في المقطع الشعري الواحد، وتتم هذه العملية عن طريق الاستدعاء، فتتعرج الصورة الشعرية، ولا تتوقف عند وظيفة تشبيه شيء بشيء آخر، بل تتحول إلى لوحة شعرية.
يقول ممدوح عدوان في قصيدته: "الزحام": (20)
الحزن كالرماد؛
كالرماح
كالرمال الناعمة
ينهر حبة... فطعنة
فحبة من الضلوع
وكالرياح يلهب الرمال فارس الدموع
يأخذ الحزن ـ من خلال هذا التراكم التشبيهي في هذا المقطع الشعري ـ أشكالا مختلفة، وصورا متباينة، إلا أن هذه الصور تتشكل في النهاية للدلالة على مدى طغيان الحزن على الشاعر، لدرجة أنه يقوده إلى اليأس القاتل، ولذلك يصوره في السطر الشعري الأول بالرماد، وفي السطر الثاني بطعنة الرماح، وفي السطر الثالث بانتشار الرمال، وفي السطر الخامس بالرياح التي تذروه في كل اتجاه.
ويقول عن هذا الحزن في قصيدة: "ذكريات العشق والولائم"(21)
ها أنذا أتخفف من أثوابي
فالحزن الملبوس رداء
أصبح جلدا ودما في الشريان
والخوف الخافق أصبح حقدا
تحمر به العينان.
إن طغيان الحزن على الشاعر، هو ما يدفعه إلى أن يقابله بصفات تدل علـى أنـه لا يفارقه؛ فهو الرداء الملبوس، وهو الدم المنسكب في الشريان.
ويبدو أن مصدر هذا الحزن المخيم على الشاعر نابع أساسا من داخله، فهو لا يكاد يفارقه، ولذلك نجد أن نبرة هذا الحزن ترتفع عبر استدعائه لمجموعة من الصور المتلاحقة وهو يتحدث عن مدينته دمشق في قصيدة له بعنوان: "هاجرت من عروبتها"(22)
كنت أعرف هذي المدينة:
صوت بكاء أعزيه
فرحة عمر أغني لديها
ديارا تكفكف مني اغترابي
وحضنا على صدرها أترعرع
صوت انتخاء إذا ما أتاها الخطـر
كنت أعرف هذي المدينة:
كانت دمشق.
إن الصورة الشعرية الواحدة هنا تستدعي أخرى مناقضة لها وذلك من خلال تداع يمكن الشاعر ـ في النهاية ـ من رسم صورة كبرى لمدينته دمشق التي عاش فيها كل المتناقضات: البكاء والفرح، البشرى والعزاء، والغربة والحنان.
وفي معرض استلهام الشاعر لشخصية: "طارق بن زياد" كرمز تراثي، نجده يقوم بعملية استدعاء مجموعة من الصور ليسبغها على هذا البطل العربي، حيث يقول في قصيدة: "أمة خلعت موتها"(23)
كان جسر البيت، كان العين للدمع
وشيطانا لرجم الاتقيـاء
دمية للطفل كان
فارس الأحلام للعذراء، ينبوع ملذات السكارى.
إن مجموع الصور هنا تتشكل في النهاية لترسم لوحة معبرة عن الشخصية التراثية، وما تختزله من قيم إنسانية مثالية.
وينتقل الشاعر في مجموعته الشعرية الأخيرة: "وهذا أنا أيضا" ليستقي من ذاكرته مجموعة من صور الطفولة وما تزخر به من جزئيات دالة، فتستوقفه عاطفة الحب، حيث يقول في قصيدة: "مرة سكر البحر"(24)
وكنا نجمتين اختالتا ضوءا
إذا ما انكشـف الغـيم
وكنا دمعة تذرف في السر
وكنا ضحكة تطلق في البحر
وكنا راحة الجواب في عاصفة.
إن الشاعر حريص في انتقاء صوره على مقابلة صورة بأخرى مناقضة لها، ولكنها جميعا لها وظيفة محددة سلفا، تتمثل في تشكيل صورة كبرى لهذا التوحد الذي ينشده الشاعر في هذا المقطع.
وفي نفس السياق يقول من قصيدة: "يعسل التين فيك"(25)
وردة؟
أم فراشة ثلج بدت تتلألأ؟
أم دفقة الضوء ترقص عبر الرواق؟
أنت؟
أم حلم يترقرق،
والنجم يسطع؟
...
ويضيف في مقطع آخر موالي من نفس القصيدة:
تستعيد الأماكن أسماءها
نلتقي
فتصيرين سرا ليومي الرتيب
وهجعة سكري
ومرفأ خوفي
وأفق زماني الذي هدني ثم ضاق.
4 ـ الصورة الكلية:
تعتبر الصورة الكلية مظهرا من مظاهر التطور الذي أصاب بناء القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة، باعتبارها كيانا عضويا متكاملا؛ فالوحدة العضوية ليست "إلا وحدة الصورة، ووحدة الصورة هي بالضرورة وحدة الإحساس أو هيمنة إحساس واحد على القصيدة كلها، وعلى هذا فالوحدة العاطفية هي دليلنا على تحقيق الوحدة العضوية في العمل الفني، ومعنى هذا أن الصور في داخل العمل الفني ما هي إلا تجسيد للتجربة أو للحظة الشعورية التي يعانيها الفنان، والطبيعي أن تسيطر التجربة على كلماته وعباراته وموسيقاه وصوره"(26).
وهذه الوحدة المسيطرة على القصيدة هي وحدة غنية بالتنوع من خلال الصور، وفي هذا يقول د. محمد النويهي: "... لأن الوحدة المطلوبة لا تحجز الشاعر عن تعدد التجارب والعواطف في قصيدته، إنما تشترط أن تكون جميعها متجانسة المغزى، هادفة بتعددها إلى استجلاء وحدة في الوجود أو في موقف النفس البشرية منه" (27).
ويتضح من خلال استقراء المتن الشعري لممدوح عدوان أنه وظف الصورة الكلية من خلال البناء الدرامي الذي يعتمد فيه الشاعر على مجموعة من الأساليب الفنية: كالحوار والحوار الداخلي والسرد القصصي، وذلك لتمثيل الصراع والحركة التي تعج بها مجموعة كبيرة من قصائده.
يقول في قصيدة: "الجنازة" (28)
زغردوا للعروس
التي اكتشفت في الرياحين وجه الصبا
زغردوا...
واحملوها
إلى حيث فاح أريج التراب
وزفوا مباهجها
للربيع الذي يعتريها
...
زغردوا واحملوها وئيدا
فحزن الأمومة أثقف من جندل
....
لا تعجلوها
لئلا تضيق الهموم التي راودتها
مذ ابتلعت دمعها كبرياء
....
إنها متعبة
فلتوقفوا هذا الصراخ
...
افسحوا من حولها
كانت تحب النسمات الباردة
إنها متعبة من عمرها المضني
..
سرقوا حلم صباها
تركوها في الضنى محتلة
ترزح من وطأة هذا الحيف
من عجز عن الألفة للذل
مشت شوطا طويلا في طريق الخبز
حق الآن أن ترتاح
كان العمر حيفا
حملة من حطب الشوك
....
لن تبدأ الآخ من وجع العمر
أو وجع الظهر
لن تبدأ الآه من شهقات الرياح
وأمك ليست سوى زمن مستباح
إذ تغيب توسـع بيـتك
أضحى فلاه
وحزنك يرسو على رجفان المفاصل
شعرك يرسو على عتبات الفواصل
همسك يبدأ من بحة في الرياح
وأمك ليست سوى وطن مستباح
....
نفرت، مخرت الجموح
بعيدا عن القبر والدمع
عدت إلى النبع
ما يدفنون هناك
الذي حملوه هنا
ليس ضوء الأمومة
أمي هي الخبز والماء
والريح والأرض
أمي هي الدمع والجرح
والنهر والجمر
أمي هي الضوء والنوء
والبرد والورد
...
أنظروا
كيف جاءت تلوح في الزهر فواحة
أوقفوا الزغردات،
اسمعوا:
إن أمي تزغرد فينا دماء
هي الأرض تحبل
والخصب يقبل
والأغنياء الأبية
من رمم وئدت
ثم جاءت تحاسب
هذي قيامتها
المطر الآن يشرب شمسا
هلموا، استحموا عراة
تبارك هذا الصباح
فأمي تطل
وتبسم
قوس قزح.
من الواضح أن أهم الصور من حيث التكرار في هذه القصيدة هي صورة الأم التي تحمل رمز الأرض، إنها مرتبطة بالوجود المأساوي الذي يلح عليه الشاعر.
وسياق صورة الأم/ الأرض ـ في هذه القصيدة ـ يحمل في ثناياه توترا دلاليا بين:
أ ـ ما تحمله الأم من رموز الخصب والعطاء والتضحية والحنان (أمي هي الخبز والماء، والريح والأرض، والدمع والجرح، والنهر والجمر، والضوء والنوء، والبرد والورد)
ب ـ استشهاد الأم التي تزف لأريج التراب بعد أن سرق الدخلاء والأعداء حلم صباها وتركوها ترزح في الضنى والذل والعجز: (سرقوا حلم صباها ـ تركوها في الضنى محتلة ـ ترزح من وطأة هذا الحيف ـ من عجز عن الألفة للذل...)
ج ـ بعث الأم من جديد، حيث لاحت كالزهر الفواح، حاملة معها كل معاني الخصب والعطاء لتحاسب أعداءها وتنتقم منهم، وتحمل البشرى إلى قومها وتغذق عليهم كل معاني الخصب والعطاء: (من رمم وئدت ـ ثم جاءت تحاسب ـ هذي قيامتها ـ المطر الآن يشرب شمسا ـ فأمي تطل وتبسم قوس قزح).
إن القصيدة من خلال تجسيدها الدرامي لتحول الأم إلى أرض مخصبة ترسم صورة كلية لهذا التحول. ولذلك يرتبط فهم الصورة الشعرية هنا بفهم الموقف الشعري كله، وبإدراك التجربة الإنسانية المكتملة في القصيدة.
وفي قصيدة: "هكذا تكلم التل" من نفس الديوان، يجسد ممدوح عدوان مأساة "تل الزعتر" الفلسطيني عبر توظيفه للصورة الكلية في بناء درامي يضفي على القصيدة شحنة تعبيرية مليئة بالدلالات، إذ يقول في هذه القصيدة:
أنـا مفــرد
ومعي جراحات مكابرة
تورم في دمي همي
أنا الهم المتلل
لي روائح زعتر في الوعر تعرفني
ولي دمع وأغنية وقنبلة
ولي قلب يخبئ أمه من أعين الحساد
إني قائم عينا مفتحة
على أسرار هذا العهر
أبقى شاهدا وحدي على تلك الجريمة
جبل تطامن في التلال
وفي شراييني المخابئ للهموم
وللأغاريد التي اختزنت
لتبدأ في تناغمها المعارك
للرصاصات التي تكفي لدرء الذل
تكفي طفلنا زوادة حتى يلاقي الموت
تكفي كي تعوضنا عن الأم الرحيمة
أنا وقفة النخل الأبية
في عناق الموت
لم أنبت بمعجزة :
ولم يُعل النبي مقامه في تربتي
أرض مهلهلة
أتى لجوعي إلي وتللوني
إنني الهم المتلل
....
معي جوع أبي
لم يزل دربي إلى أمي مصوى
بالتواريخ التي وأدت بني
وبالثوابيت التي ازدحمت
وبالأهل الذين بأمنا غدروا
لأني شاهد الزمن الفلسطيني
شاهدة للأرض حولت قبرا
أنا باب لمقبرة مشجرة
ولا فتة مزخرفة لباب المسلخ العربي
وحدي قد كشفت السر:
إن البحر صحراء
...
والموت الفلسطيني عرس في المجازر
وازدحام للمقاصل
أقبل الشهداء صفا واحدا
وتطوعوا للدفن
لم أقبل
لأني لست مقبرة
أنـا المـيـدان
والفتيان ما حـلموا بـقبر
بعدما خسروا بلادا
....
جاؤوني
ودق أشعلت زعترهم منارات
لتهدي الميتين لموتهم
....
إنني التل المقاتل
حين تستشري الخديعة
إنني قدس وقدوس
تعرى في دمي المنفى
وأبنائي استباحوا الموت
هل كنا وعدنا بالقيامة؟
....
أنا الهم المتلل
إنني عين مفتحة
كشفت السر:
زقزقة العصافير الجميلة لم تكن إلا مسجلة
وخضرة هذه الأشجار أصبغة
وقعقعة العدو خديعة
....
علمتني ألف مجزرة
بأيدي الأهل والأعداء
إني يوسف العربي
دلاني الإخاء ببئر غدر
أوصلتني للمنافي والنخاسة والسجون
ولم أزل أطوي الحنايا حول سر الحلم
....
أنا القمح الذي كنا
سنابلي العريقة ترتمي للريح كالقتلى
وتنهض
تنطوي تحت التراب كأنها موتى
فتـبذر
والسنابل في عراقتها
تحول كل مقبرة كمائن
سوف تنهض دون صوت
ربما همست إلي بكلمة
أو طلقة
ما كان من قتل بأوردتي
هو الموت الذي جئناه
كي لا يصبح التل الذي كناه أودية
ويضحي دفق أدمعنا
ودفق جراحنا
للغدر أردية وأوسمة
لكي لا يستريح الزعتر البري في بيت وآنية
لكي لا تبرق الكلمات خادعة
فننسى أن نورث لليتم القادم
الذكرى الحميمة(29)
تتعدد صور "تل الزعتر" في هذه القصيدة بكيفية لافتة للانتباه، وتأخذ هذه الصور أبعادا درامية تشع روحا مأساوية في ثنايا القصيدة.
وتتمحور هذه الصور جميعها حول توحد الشاعر بالكون والرموز والأشياء، ويتجلى هذا التوحد في الصور المتلاحقة التالية:
أ ـ أنا الهم المتلل لي روائح زعتر في الوعر يعرفني ـ وتتكرر هذه الصورة ثلاث مراث.
ب ـ أنا وقفة النخل الأبية.
ج ـ أنا باب لمقبرة مشجرة ولاقتة مزخرفة لباب المسلخ العربي.
د ـ أنا الميـدان.
هـ ـ إنني التل المقاتل.
و ـ إنني قدس وقدوس.
ز ـ إنني عين مفتحة.
ن ـ أنا يوسف العربي.
ح ـ أنا القمح.
يبدو التوحد إذن في إلغاء الشاعر للفواصل بين عناصر الصورة؛ فتهيمن الاستعارة التي تدعم توحد الشاعر بالكون والأشياء، بالإضافة إلى التكرار النحوي لصيغة الجملة الاسمية التي تشكل الصورة "الم المتلل" أو تتجاوب معها ويتكاثف هذا التوحد ـ عبر تسع صورـ في بؤرة رئيسية واحدة هي: شهادة الشاعر على الزمن الفلسطيني.
" إني قائم عينا مفتحة على أسرار هذا العهر"
" لأني شاهد زمن الفلسطيني"
" أبقى شاهدا وحدي على تلك الجريمة"
" إني عين مفتحة"
" كشفت السر."
ويتحول هذا التوحد في المقطع الأخير من القصيدة إلى سنابل تصير - في النهاية - كمائن تنهض بطلقة تحسم كل هذا العذاب والقهر الفلسطيني، فتبعث الحياة في الموت.
من الواضح إذن؛ أن أهم الصور من حيث التكرار في هاتين القصيدتين (الجنازة ـ وهكذا تكلم التل) هي صورة الأرض المرتبطة بالوجود المأساوي ، والمتمثل في الاحتلال الصهيوني لها ـ ولذلك يلح الشاعر على اعتبارها رمزا للأم، لكنها الأم المقتولة التي "تطارد قاتلها" ـ وهو عنوان الديوان الذي تنتمي إليه هاتين القصيدتين ـ والتي تسيطر دماؤها على باقي القصائد الأخرى.
إن الأرض/ الأم، تظل متوترة في هذا الديوان، ولذلك فهي تبدو ـ من خلال هذه الصور الكلية ـ ظامئة لنيل ثأرها، يؤجج عطشها الغضب المنبعث من الماضي كهذا العطش الكربلائي الذي يبدو في الصورة التالية:
أمي تطارد قاتلها
لا تنام
وتشحنني كبرياء
تعبئني بالهموم وتشحذني
صار تأثرا لغزا
فلا يرتوي العطش الكربلائي
لا يكتفي بالدماء المهلهل
أسألها في الصباح:
هل القتل كفر؟
أم الدم مهر؟ (30)
بذلك تكون الصورة الشعرية قد احتلت حيزا هاما في متن ممدوح عدوان الشعري، وتعددت مستويات بنائها، فقد انطلق الشاعر من الصورة التشبيهية البسيطة والغربية، إلى الصورة المركبة ـ سواء من خلال حشد الصورة المفردة ـ أو من خلال تداعي الصـور ـ ليصل في النهاية إلى توظيف الصورة الكلية. وهذا ما يدل على أن فاعلية الصورة الشعرية عنده غنية بدلالاتها لأنه توسل إليها عبر وسائط متعددة في محاولته للإحاطة بعالمه الشعري.
غير أن الصورة وحدها، لا تعطي القصيدة كل تماسكها الداخلي، ولذلك طرح الشعر المعاصر مسألة الرمز الشعري.
الهوامش
1- أرشيبالد مكليش: "الشعر والتجربة" ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي. بيروت. 63. ص: 67.
2- أ. أ. ريتشاردز: "مبادئ النقد الأدبي" ترجمة مصطفى بدوي. القـاهرة 63. ص: 172.
3- د. مصطفى ناصف: "مشكلة المعنى في النقد الحديث" مكتبة الشباب. القاهرة. 65. ص: 88.
4- محي الدين محمد: (محاولات في تحليل التجربة الشعرية) مجلة "شعر" عدد 18 يونيو 85. ص: 32.
5- من مجموعته الشعرية: "الظل الأخضر". مصدر مذكور. ص: 37-38.
6- قصيدة: "تلويحة" الأيدي المتعبة" مصدر مذكور. ص: 39-40.
7- من مجموعته: "تلويحة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور. ص: 85.
8- قصيدة: "تلويجة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور. ص: 142.
9- قصيدة: "العابرون كالرعد". "الظل الأخضر" مصدر مذكور ص: 76.
10- من مجموعته الشعرية: "تلوحية الأيدي المتعبة" ص: 83-84.
11- من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" مصدر مذكور. ص: 53.
12- من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" مصدر مذكور. ص: 81.
13- من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 71/72.
14- من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 73.
15- أ. مكليش: "الشعر والتجربة" ترجمة سلمـى الـجيوسي. بـيروت 1963. ص 77.
16- من مجموعته الشعرية:" أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 24/25.
17- من مجموعته: "أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 27.
18- من مجموعته "الظل الأخضر" مصدر مذكور. ص: 39-40.
19- من ديوانه: "الدماء تدق النوافذ" ص: 16.
20- من ديوانه: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 84.
21- من نفس الديوان. ص: 171.
22- من ديوانه: "الدماء تدق النوافذ" ص: 31.
23- من ديوانه: "أقبل الزمن المستحيل". ص: 64-65.
24- من ديوانه: "وهذا أنا أيضا". منشورات اتحاد الكتاب العرب 1984. ص 5
25- من نفس المجموعة الشعرية.ص: 13-15.
26- د. محمد زكي عشماوي: "قضايا النقد الأدبي والبلاغة" دار الكتاب العربي. ص: 110-111.
27- د. محمد النويهي: "قضية الشعر الجديد" القاهرة. 64. ص: 117-118.
28- من ديوانه: "أمي تطارد قاتلها" منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1987
الصفحات: 5-6-7-10-11-13-14-24-30-31.
29 – قصيدة: "هكذا تكلم التل" من المجموعة الشعرية: "امي تطارد قاتلها" مصدر مذكور الصفحات: من 58 إلى 84.
30- من قصيدة: "أمي تطارد قاتلها" من مجـموعة الشـعرية بنـفس العنوان. ص: 42-43.
"ولما كان الشاعر إنسانا يمزج في باطنه بين الواقع والمحتمل.. أصبحت وسيلته الوحيدة للتعبير، هي نقل هذا المحتمل بالكلمات في صور فنية، مادام المنطق والأفكار أعجز من أن يثبتا هذا الشيء المحسوس".(4)
إلا أن الشاعر المعاصر يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن تطلعه أوسع، وحاجته إلى توحيد أبعاد العالم أشد، ولذلك بدت الصورة عنده معقدة، فهو يتوسل إليها عبر عدد من الوسائط التي تدخل في تركيب الصورة الشعرية، وهذه الوسائط تزداد اليوم ارتباطا برؤية مشدودة إلى المطلق.
فالشاعر المعاصر يريد أن يتوغل أكثر في قلب العالم، وهذا التوغل هو الذي يدخله في المطلق الحسي ـ أو الشعري على الأصح ـ والتعقيد إذن يأتي من ربط هذه الامتدادات النفسية والحسية الهائلة وعناصر هذا الطموح الكبير، ببوتقة عمل محدود هو: القصيدة.
وبذلك أصبحت الصورة الشعرية مقياسا أساسيا لقدرة الشاعر على الإحاطة بالعالم؛ إنها ـ بهذا المعنى ـ نقطة مركزية استطاعت الحركة الشعرية المعاصرة إدخالها بصيغتها الحديثة في بنية القصيدة، ولذلك طرحت مسألة الرمز الشعري بوصفه البنية التي تصب في داخلها عناصر الصورة مجتمعة.
وللقبض على جوهر الصورة الشعرية في متن ممدوح عدوان، ينبغي الإقرار مسبقا بأن عناصرها متعددة، ولذلك ينبغي الغوص وراء معانيها، ودراسة أساليب بنائها كما تتجلى في متنه الشعري.
وهذه المستويات في تعدد الصور الشعرية لديه، يحيل الصور إلى أشكال غير منطقية أحيانا لا يمكن الوصول إلى معانيها الحقيقية إلا عبر استجلاء الدلالات النفسية في إطار التجربة الشعرية كلها.
ولذلك يجب الاعتراف مسبقا بأن الاقتصار على الجانب الدلالي وحده، لن يسعف في القبض على جوهر الصورة الشعرية عند ممدوح عدوان.
1 ـ الصورة التشبيهية البسيطة:
وهي من أبسط الأساليب الفنية في التصوير، وأقلها قدرة على الإيحاء، إذ تعتمد على التشابه الحسي بين الأشياء. وهذا التشبيه الذي يمكن أن يكون واحدا من أشكاله المعروفة: كالتشبيه البليغ أو التمثيلي أو الضمني، يشكل مع الوصف المباشر ـ الذي قد يتحقق إما بالمجاز أو بالتصوير الحقيقي ـ وسيلة من وسائل تكوين الصورة.
ويأخذ التشبيه البسيط طابعا تقريريا في غالب الأحيان، إنه لحظة توقف تستجمع العناصر التي يتألف منها البناء المتعدد لإطراف الصورة الشعرية.
والمتتبع لمتن ممدوح عدوان الشعري، يلاحظ أن تشكيله للصورة التشبيهية البسيطة تتم عنده بالارتكاز على:
* التشخيص: ويتم من خلال خلع الصفات الإنسانية على كل من المحسوسات والماديات. وهذه بعض الأمثلة:
يقول ممدوح عدوان في قصيدة: "في الطريق" (5)
رأيتك أمس عابرة
وكنت غمامة بيضاء تغمرني
مررت، وكنت ترتعشين
مثل نوافذ الأكواخ في المطر
لففت الغربة السوداء شالا باكيا
ومضيت بين الأهل والمحن
وغلقت البكاء ببسمة صفراء:
كالمدن.
إن الضمير في "رأيتك" يعود على مدينة القنيطرة السورية، والشاعر من خلال مخاطبته لها يجسد حالتها ـ وهي ترزح تحت نير الغزو الصهيوني ـ عبر تشخيصه النسوي لها، حيث يعقد لها صلة في الصورة الأولى بالغمامة البيضاء، وهو تشبيه بليغ تبرز فيه القنيطرة كرمز للخصب والعطاء.
وفي الصورة الثانية، يقرر الشاعر حالتها إثر انتهاك العدو لها، فيمثل ارتعاشها وخوفها من الغزاة كارتعاشة نوافذ الأكواخ الواهية في فصل الشتاء.
ثم ينتقل في الصورة المفردة الثالثة ليعقد صلة بين ما تعيشه من غربة والشال الملفوف حول عنقها.
وفي الصورة الرابعة يصور الشاعر كيف تحاول أن تداري ما تحسه من حزن وألم بالبسمة الصفراء كما تداري المدن حقيقة ما يستقر في أعماقها بمظاهرها الخارجية. وهذه الصورة الأخيرة تبرز المجهود الفكري الذي بذله الشاعر ليقيم علاقة تشابه ما بين: الضحكة الصفراء والمظهر الخارجي للمدينة.
ويمضي الشاعر في مناجاته للمرأة/ المدينة، ليرسم لها صورا قاتمة يهيمن عليها جو الكآبة والغربة:
تيممت الهلال فلم أجد أحدا بضوء جبينه الخاوي
وأنت هناك واجمة
كعذراء تودع حبها الذاوي (6)
إن حساسية الشاعر هنا لا تستطيع الإفلات من هذه الصور القاتمة التي يرسمها لحبيبته/ المدينة، وهو يشبهها هنا بحالة العذراء في لحظة توديع حبيبها.
والأمثلة على تشخيص ممدوح عدوان للمدينة كثيرة سبق أن تعرضنا إلى بعض منها في البنية الدلالية تحت عنوان: العلاقة بالمرأة / المدينة.
وتثير المسألة الاجتماعية عند عدوان قدرة فائقة على تصوير حال الفقراء الجائعين في مقابل حال المترفين المتخمين، وذلك باتكائه على الصورة التشبيهية البسيطة كما تتجلى في النموذج التالي:
أوقف عاملة التفريخ
فوجوه الأطفال انسكبت كالغيم
فاجأها جوع التاريخ
والحزن متغلغل في الإضلاع نما كجنين
لقحنا منه ببدء التكوين. (7)
تبدو معاناة الأطفال من الجوع في الصورة الأولى بادية على وجوههم التي شبهها الشاعر بانكساب الغيم، في حين أن الحزن طاغ في الصورة الثانية. وهو وليد ظروف القهر التي يعيشها أطفال الفقراء، وحين يتلمس منابع هذا الحزن، يراه متغلغلا في الأضلاع، فيعقد بذلك صلة الجوع بالمراحل الأولى لنمو الأجنة في أرحام أمهاتهن.
إن الجوع يغدو في هذه الصورة ملازما للأطفال قبل ولادتهم، وكأنه لقاح يتجرعونه منذ بدء تكوينيهم. ولعل في ذلك مبالغة مقصودة من الشاعر لإبراز موقفه من الصراع الطبقي، كما يبدو اعتماده على التشبيه البسيط في رسم ملامح الإنسان العربي وهو يثير المسألة القومية:
مخروا عباب الليل كالأصوات
كالأضواء
صوب الموت والتيه
كفاك تساؤلا: (أين الطريق).(8)
يحيل هذا المقطع الشعري إلى أزمة جيل الشاعر الذي لم يتحمل مسؤوليته كاملة بسبب الخلافات السياسية، وهو يشبه الشهداء الراحلين هنا بالشهب المضيئة ـ وهي صورة قديمة وردت كثيرا في دواوين الشعر العربي القديم ـ وبالأصوات المخترقة لسكون الليل وظلامه، وهي دلالة على إيمانهم الراسخ بالمبادئ والقيم التي استشهدوا من أجلها، عكس ما يعيشه جيل الشاعر من تردد وحيرة وعدم الثبات على المبادئ:
رأيتكم
وكنت مغمسا بالصمت والأتعاب والبرد
وكنتم تعبرون الليل كالرعد
رأيتكم
سنابل في طريق الجوع، رائحة التنانير
جياعا.. يا رفوف النحل، حين يطالها الغرباء
تلسع لسعة لتموت. (9)
إن العلاقة هنا في الصورة الأولى واضحة بين المشبه والمشبه به، إذ وقع التركيز فيها على وجه الشبه الذي يفسر وضوح هذه العلاقة؛ وهو السرعة الفائقة والضياء. وهذا ما يضفي هالة ووزنا لهؤلاء العابرين ـ سواء كانوا شهداء أو مناضلين ثوريين ـ ، بينما تتشكل الصورة الثانية عن طريق الاستعارة، حيث يستعير الشاعر كلمة "السنابل" ليدل بها على مدى بذل وعطاء "عابري الليل" لكسر طوق الجوع على الأطفال والفقراء وهو ما يوحي بروح التضحية.
2 ـ الصورة التشبيهية الغربية:
ويعتمد فيها ممدوح عدوان على نقل علاقة مجردة بين طرفي الصورة، وإدخالها في قلب غنائية شعرية متواترة. وبفضل هذا النوع من الصور يصبح العالم في أشيائه وعلاقاته ميدان فعل جديد، إذ تولد الصورة عنا الدهشة والمفاجأة داخل بنية القصيدة.
يقول عدوان في قصيدة: "الزحام" (10)
كنا على الشطآن واقفين
يابسين
وكان يجري صوبنا الموت مع الفرح
كموجة تهيم نحو شاطئ مازال ينتظر
لكنها، وقبل أن تلمسه،
تشهق ثم تنكسر.
إن العلاقة التي يرسمها الشاعر بين طرفي التشبيه في هذه الصورة تبدو غربية ـ نوعا ما ـ، إذ كيف جاز له أن يشبه رفاقه بموجة البحر.
لكن المتأمل في هذه العلاقة يقف على مدى قتامة الصورة التي يريد الشاعر التعبير عنها هنا؛ وتكمن في تشبيه لرفاقه الذين يهيمون بالإبحار أو السفر ـ دون معرفة المآل الذي ينتظرهم، هل هو النجاة والفرح، أم الهلاك والموت ـ بالموجة الهائمة نحو الشاطئ.
ويقول الشاعر في قصيدة: " زمن الجنائز الجميلة"(11)
كل درب يضيق سراطا
يسيح صحاري
وكل صباح توشح بالدمع أو بالسواد
وكل أغاريدنا للحداد
كأنا نسير ولا نتحرك
أو أننا سائرون ارتداد
كأن المجازر أعراسنا
وكأن الجنائز أفراحنا
إن مجموع الصور في هذا القطع الشعري، تنحى منحى عكسيا غريبا، فكيف جاز للشاعر أن يقول بأن المرء يسير ولا يتحرك، أو يسير إلى الوراء، ثم كيف جاز له أيضا أن يشبه المجازر بالأعراس، والجنائز بالأفراح ؟ !
إن الشاعر هنا يعاني من ثقل هول الهزائم المتلاحقة على مجتمعه، وأسير النظرة السوداوية التي تلاحقه، ولذلك يلجأ في تعبيره عن إدانته لواقع الهزيمة بقلب كل الموازين، وعكس جميع العلاقات.
ويقول في قصيدة بعنوان: "وكيف يعشق القتيل" (12)
في ومضة التفجير، كالبرق،
رأيت أفق موطني وكان مقفلا
رأيت أرض موطني
وكانت الأرض أمامي مرجلا يغلي
وكان الحب بين أضلعي معتقلا.
فإذا كانت العلاقة واضحة في الصورة الأولى بين طرفي التشبيه: لحظة الانفجار والبرق، فإن هذه العلاقة تبدو غريبة بين الأرض والمرجل الذي يغلي. ولعل في ذلك إشارة إلى ما يتوقع الشاعر من أحداث تنبئ بها أرض موطنه.
إن الصورة هنا تصبح أكثر من مجرد لقطة خارجية لمشهد ما، بل هي تسعى إلى إعادة اكتشاف هذا المشهد وتعطيه مدلولات جديدة من خلال عالم الإشارات الشعرية التي تشكل حقلا إبداعيا يستطيع أن يضم ما هو موضوعي إلى ما هو ذاتي في علاقة امتدادية.
ويقول الشاعر في قصيدة: "رصاصات بيضاء للأيام السوداء":
ورجال، كالأشجار، اقتلعوا
وابتلعوا في الرمل المتحرك
غرقوا شبرا شبرا.. رجلا رجلا
ما مدت لهم يد
لم يتحرك حولهم غير كلام كحبال يمتد
يتحول بعد الخنق رثاء وأكاليل
وحصارا من جوقات طبول (13)
إن الشاعر في هذه القصيدة يرثي موت المناضل الشهيد:" غسان كنفاني" حيث يشبه موته في الصورة الأولى وكأنه عملية اقتلاع للأشجار اليانعة الوارفة الظلال دون أن يقوى أحد على فعل أي شيء. وهنا ينتقل الشاعر إلى رسم صورة ثانية تبدو غريبة بعض الشيء بالمقارنة مع وضوح الصورة الأولى، إذ يعقد صلة بين الكلام والحبال.
إن الكلام هنا يعني به الشاعر الرثاء، وعلاقة هذا الرثاء بالحبال تتمثل في أنه ممتد يكاد لا ينتهي، والشاعر من خلال هذا كله يريد أن يصور حالة العجز الذي ينتابه وينتاب رفاقه الذين لا يقوون على فعل أي شيء تجاه هؤلاء المناضلين والشهداء سوى الرثاء.
وهذا العجز الذي يريد ممدوح عدوان تصويره هنا، لا ينسحب على رفاقه فقط، وإنما ينسحب على الوطن ـ خاصة ـ، لأنه مشلول وفاقد الحركة، يعد فجائعه في صمت: وفي هذا يقول ممدوح عدوان ـ من نفس القصيدة ـ:
لم أبك عليه، بكيت الوطن المشلول
وهو يعد فجائعه في صمت
ويحولها مسبحة بلهاء
كنت وحيدا أنصت للأرض الخرساء
والأرض تئن وترمقني وجله
وأنا أحسبها خجلة.(14)
3 ـ الصورة المركبة:
وهي مجموعة من الصور المفردة تحكمها علاقات متفاعلة لتولد معاني مركبة. إذ التركيب في الصورة هو أحد الطرق التي تفتح آفاقا لإثراء المعاني، وهي التي عناها أرشيبالد مكليش حين قال بأن في الشعر علاقة معينة بين الصور، أو ما يمكننا تسميته بتزاوج الصور، وإن كان هذا التزاوج قد يتضمن أكثر من صورتين: "إن الصورة الواحدة ترسم وتوطد بالكلمات التي تجعلها حسية وجلية للعين أو للأذن أو اللمس لأي من الأحاسيس، ثم توضح صورة أخرى قربها، فينبلج معنى ليس هو معنى الصورة الواحدة منهما، ولا هو معنى الصورة الثانية، ولا حتى مجموع المعنيين معا، بل هو نتيجة لهما في اتصالهما وفي علاقاتهما الواحد بالآخر". (15)
إن الصورة المركبة إذن، هي نتيجة الصلة ـ أولا ـ بين صورتين مفردتين أو أكثر، وهي نتيجة ـ ثانيا ـ للعلاقة التي تخلق معنى منبثقا من طبيعة تلك العلامة. وبذلك تخرج الصورة المركبة نهائيا من زاوية الطرفين التقليديين (المشبه والمشبه به) إلى أطراف ثلاثية أو رباعية أو أكثر، مما ينفي تماما فكرة البحث عن تلاف بين حدود هذه الأطراف.
وتأخذ الصورة المركبة في متن ممدوح عدوان الشعري مظهرين اثنين:
أ ـ الصورة المركبة من خلال حشد الصور المفردة:
والشاعر هنا يقوم بعملية انتقاء مجموعة من الصور بعناية فائقة، تأخذ شكل تداعيات المعاني، بحيث لا يقصد الشاعر أن تكون كل صورة منها مقصودة لذاتها، وإنما تشكل كل صورة عنصرا أساسيا من تركيب أكبر تتفاعل مع بقية عناصره، وتتكامل معها لتحدث في الأخير تأثيرا معينا متكاملا.
يقول ممدوح عدوان في قصيدة: "أقبل الزمن المستحيل" (16)
حولي الخوف يضحي ترابا ويضحي سمادا
ويضحي بذارا ويضحي ثمارا
يزهر الخوف موسم جوع، مناجل تحصد جوعي
ويضحي هنا عرقا يتصبب، يضحي فخارا
ينتج الخوف في السهرات حكايا المذلة
حتى تزين في أعين الساهرات السكارى
يصبح الذل طقسا، يضحى أثاثا
وعرضا نستره ثم يضحي ستارا
يصبح الذل ضيفا عزيزا، قرى الضيف
يضحي لا كرام من زار
أو هدي من ضـل ثارا
يصبـح الذل أضحيـة في المواسـم
يضحي بخورا... ويضحي مزارا
لون الذل ريش الطواويس حتى تباهوا به في عناد.
إن الشاعر في هذه القصيدة يرسم ملامح فلسطين السليبة منددا بغرور السلطة الحاكمة التي قادت إلى الهزيمة. وهو في هذا المقطع الشعري حريص على مقابلة القيم الإيجابية في الماضي، بالقيم السلبية الطاغية على الحاضر، وهو يتوسل في تعبيره عن ذلك بانتقاء مجموعة من الصور للدلالة على شيء واحد.
فلنلاحظ تصويره للخوف الذي يراه ترابا ثم سمادا، ثم يضحي بذارا فثمارا وعرقا يتصبب، ثم فخارا ـ في الصورة الأولى ـ وكيف صور الذل: طقسا، وستارا، ثم ضيفا عزيزا، فنارا ـ لمن ضل السبيل ـ فأضحية للمواسم ثم بخورا ومزارا ـ في الصورة الثانية ـ
إن تراكم الصور هنا له دلالة بالغة عن انهيار الحلم القومي في تحرير فلسطين، لذلك يتصور ممدوح عدوان أن الخوف أصبح سمادا في تربتنا العربية، وبذارا لا تنتج إلا مواسم جوع. في حين أن الذل أصبح طقسا من الطقوس المنتشرة في كل مكان، بل إنه أصبح علامة دالة للوجود العربي، وهو يهدي سبيل من ضل.
هكذا ظلت فلسطين وحيدة بعدما تخلى عنها الجميع، وأصبحت "غزة" يتيمة تقاتل حتى النبضة الأخيرة ـ بعدما انفض عنها أهلها ـ لذلك فإن الشاعر يضفي عليها أوصافا إيجابية، مقابلة لتلك التي رسمها في المقطع السابق:
غزتي وحدها في الليالي صباح
زهرة في مهب الرياح
وحدها
وحدها وقفت بعد مقتل فرسانها
بعدما ضاقت الأرض،
سد الكماة المداخل
حوصر نبع برمل الصحاري
وحدها وقفت بالأظافر تدفع وحش الجموح
وبالحسن والدمع تدفع عنها اشتهاء السكارى،
وحدها نفس يتردد تحت الخناجر
همس سمعناه بين الرعود
وساقية رطبت حلقها في الرمال(17)
إن الشاعر هنا يحاول أن يقدم للقارئ لوحة تتشكل من عدة صور يعيد تركيبها من جديد، وتبدو من خلالها غزة رمزا للضياء (صباحا في مقابل الليل) وللمقاومة (زهرة في مهب الرياح ـ بالأظافر تدفع وحش الجموح) وللأمل (نفسا يتردد تحت الخناجر ـ همسا بين الرعود) وللخصب والحياة (ساقية رطبت حلقنا في الرمال).
ويقول في قصيدة بعنوان: "في الطريق" (18)
رآك الأصدقاء، وحدثوني عنك،
قالوا: كنت كالجرح
وكنت التأثر للجرح
وكنت ضماد جرح راعف سمح
نزيفا صامتا... في زمهرير الحزن عذبني
رأوك وحدثوني..
كنت قد أطفأت صوتك
في ضجيج الغانيات
وظلـمة الحـانـة
فعدت إلي رائحة من الأرض
غناء متعبا ضيعت ألحانه.
يعاني ممدوح عدوان في هذا المقطع الشعري من وضع مدينته القنيطرة، وهو في تشخيصه النسوي لها ـ عبر كاف المخاطبة ـ لا يستطيع الإفلات من رسم صورة مركبة لما أصابها من ذل وهوان بعد الغزو الصهيوني لها، فهي الجرح الذي لا يندمل، وهي ضماد الجرح، وهي النزيف الصامت الذي لا ينتهي.
إن القنيطرة ـ كما تبدو في هذه الصورة المتلاحقة ـ هي أرق الشاعر الدائم وداؤه المزمن ولذلك فهو لا يستطيع الإفلات من هذا الأرق رغم ارتداده على (ضجيج الغانيات، أو ظلمة الحانة)، إنها تتراءى له (رائحة من الأرض ـ وغناء متعبا) وهذا ما يدفع الشاعر إلى العزف على وتر اليأس الذي أصبح يلفه، وحين تبدو له بأرقة أمل، فإنها سرعان ما تتبدد على أرض الواقع، وفي هذا يقول في قصيدة: "الهروب من ثورة الزنج":
كنت في ظلمة اليأس مستنقعا
صرت نهرا يموج عليه البطر
زيزفونا، إذا أزهر الحلم،
أجهض فيه الثمر (19)
إن مجموع الصور هنا تصب في وظيفة واحدة، وهي إبراز هذا التحول في موقف الشاعر الذي كان يخنقه اليأس ـ ولذلك شبه هذه الحالة بالمستنقع الراكد ـ ثم سرعان ما دبت الحركة في أوصاله ـ وكأنه النهر الذي يموج عليه البطر ـ أو ـ الزيزفون الذي أزهر فيه الحلم ـ لكن هذه الحياة الدائبة في أوصاله سرعان ما يكتشف بأنهار زائفة، ومجرد حلم، لأن "الزيزفون قد أجهض فيه الثمر".
ب ـ الصورة المركبة من خلال تداعي الصور:
والشاعر هنا ينتقي ركاما من الصور المتتالية في المقطع الشعري الواحد، وتتم هذه العملية عن طريق الاستدعاء، فتتعرج الصورة الشعرية، ولا تتوقف عند وظيفة تشبيه شيء بشيء آخر، بل تتحول إلى لوحة شعرية.
يقول ممدوح عدوان في قصيدته: "الزحام": (20)
الحزن كالرماد؛
كالرماح
كالرمال الناعمة
ينهر حبة... فطعنة
فحبة من الضلوع
وكالرياح يلهب الرمال فارس الدموع
يأخذ الحزن ـ من خلال هذا التراكم التشبيهي في هذا المقطع الشعري ـ أشكالا مختلفة، وصورا متباينة، إلا أن هذه الصور تتشكل في النهاية للدلالة على مدى طغيان الحزن على الشاعر، لدرجة أنه يقوده إلى اليأس القاتل، ولذلك يصوره في السطر الشعري الأول بالرماد، وفي السطر الثاني بطعنة الرماح، وفي السطر الثالث بانتشار الرمال، وفي السطر الخامس بالرياح التي تذروه في كل اتجاه.
ويقول عن هذا الحزن في قصيدة: "ذكريات العشق والولائم"(21)
ها أنذا أتخفف من أثوابي
فالحزن الملبوس رداء
أصبح جلدا ودما في الشريان
والخوف الخافق أصبح حقدا
تحمر به العينان.
إن طغيان الحزن على الشاعر، هو ما يدفعه إلى أن يقابله بصفات تدل علـى أنـه لا يفارقه؛ فهو الرداء الملبوس، وهو الدم المنسكب في الشريان.
ويبدو أن مصدر هذا الحزن المخيم على الشاعر نابع أساسا من داخله، فهو لا يكاد يفارقه، ولذلك نجد أن نبرة هذا الحزن ترتفع عبر استدعائه لمجموعة من الصور المتلاحقة وهو يتحدث عن مدينته دمشق في قصيدة له بعنوان: "هاجرت من عروبتها"(22)
كنت أعرف هذي المدينة:
صوت بكاء أعزيه
فرحة عمر أغني لديها
ديارا تكفكف مني اغترابي
وحضنا على صدرها أترعرع
صوت انتخاء إذا ما أتاها الخطـر
كنت أعرف هذي المدينة:
كانت دمشق.
إن الصورة الشعرية الواحدة هنا تستدعي أخرى مناقضة لها وذلك من خلال تداع يمكن الشاعر ـ في النهاية ـ من رسم صورة كبرى لمدينته دمشق التي عاش فيها كل المتناقضات: البكاء والفرح، البشرى والعزاء، والغربة والحنان.
وفي معرض استلهام الشاعر لشخصية: "طارق بن زياد" كرمز تراثي، نجده يقوم بعملية استدعاء مجموعة من الصور ليسبغها على هذا البطل العربي، حيث يقول في قصيدة: "أمة خلعت موتها"(23)
كان جسر البيت، كان العين للدمع
وشيطانا لرجم الاتقيـاء
دمية للطفل كان
فارس الأحلام للعذراء، ينبوع ملذات السكارى.
إن مجموع الصور هنا تتشكل في النهاية لترسم لوحة معبرة عن الشخصية التراثية، وما تختزله من قيم إنسانية مثالية.
وينتقل الشاعر في مجموعته الشعرية الأخيرة: "وهذا أنا أيضا" ليستقي من ذاكرته مجموعة من صور الطفولة وما تزخر به من جزئيات دالة، فتستوقفه عاطفة الحب، حيث يقول في قصيدة: "مرة سكر البحر"(24)
وكنا نجمتين اختالتا ضوءا
إذا ما انكشـف الغـيم
وكنا دمعة تذرف في السر
وكنا ضحكة تطلق في البحر
وكنا راحة الجواب في عاصفة.
إن الشاعر حريص في انتقاء صوره على مقابلة صورة بأخرى مناقضة لها، ولكنها جميعا لها وظيفة محددة سلفا، تتمثل في تشكيل صورة كبرى لهذا التوحد الذي ينشده الشاعر في هذا المقطع.
وفي نفس السياق يقول من قصيدة: "يعسل التين فيك"(25)
وردة؟
أم فراشة ثلج بدت تتلألأ؟
أم دفقة الضوء ترقص عبر الرواق؟
أنت؟
أم حلم يترقرق،
والنجم يسطع؟
...
ويضيف في مقطع آخر موالي من نفس القصيدة:
تستعيد الأماكن أسماءها
نلتقي
فتصيرين سرا ليومي الرتيب
وهجعة سكري
ومرفأ خوفي
وأفق زماني الذي هدني ثم ضاق.
4 ـ الصورة الكلية:
تعتبر الصورة الكلية مظهرا من مظاهر التطور الذي أصاب بناء القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة، باعتبارها كيانا عضويا متكاملا؛ فالوحدة العضوية ليست "إلا وحدة الصورة، ووحدة الصورة هي بالضرورة وحدة الإحساس أو هيمنة إحساس واحد على القصيدة كلها، وعلى هذا فالوحدة العاطفية هي دليلنا على تحقيق الوحدة العضوية في العمل الفني، ومعنى هذا أن الصور في داخل العمل الفني ما هي إلا تجسيد للتجربة أو للحظة الشعورية التي يعانيها الفنان، والطبيعي أن تسيطر التجربة على كلماته وعباراته وموسيقاه وصوره"(26).
وهذه الوحدة المسيطرة على القصيدة هي وحدة غنية بالتنوع من خلال الصور، وفي هذا يقول د. محمد النويهي: "... لأن الوحدة المطلوبة لا تحجز الشاعر عن تعدد التجارب والعواطف في قصيدته، إنما تشترط أن تكون جميعها متجانسة المغزى، هادفة بتعددها إلى استجلاء وحدة في الوجود أو في موقف النفس البشرية منه" (27).
ويتضح من خلال استقراء المتن الشعري لممدوح عدوان أنه وظف الصورة الكلية من خلال البناء الدرامي الذي يعتمد فيه الشاعر على مجموعة من الأساليب الفنية: كالحوار والحوار الداخلي والسرد القصصي، وذلك لتمثيل الصراع والحركة التي تعج بها مجموعة كبيرة من قصائده.
يقول في قصيدة: "الجنازة" (28)
زغردوا للعروس
التي اكتشفت في الرياحين وجه الصبا
زغردوا...
واحملوها
إلى حيث فاح أريج التراب
وزفوا مباهجها
للربيع الذي يعتريها
...
زغردوا واحملوها وئيدا
فحزن الأمومة أثقف من جندل
....
لا تعجلوها
لئلا تضيق الهموم التي راودتها
مذ ابتلعت دمعها كبرياء
....
إنها متعبة
فلتوقفوا هذا الصراخ
...
افسحوا من حولها
كانت تحب النسمات الباردة
إنها متعبة من عمرها المضني
..
سرقوا حلم صباها
تركوها في الضنى محتلة
ترزح من وطأة هذا الحيف
من عجز عن الألفة للذل
مشت شوطا طويلا في طريق الخبز
حق الآن أن ترتاح
كان العمر حيفا
حملة من حطب الشوك
....
لن تبدأ الآخ من وجع العمر
أو وجع الظهر
لن تبدأ الآه من شهقات الرياح
وأمك ليست سوى زمن مستباح
إذ تغيب توسـع بيـتك
أضحى فلاه
وحزنك يرسو على رجفان المفاصل
شعرك يرسو على عتبات الفواصل
همسك يبدأ من بحة في الرياح
وأمك ليست سوى وطن مستباح
....
نفرت، مخرت الجموح
بعيدا عن القبر والدمع
عدت إلى النبع
ما يدفنون هناك
الذي حملوه هنا
ليس ضوء الأمومة
أمي هي الخبز والماء
والريح والأرض
أمي هي الدمع والجرح
والنهر والجمر
أمي هي الضوء والنوء
والبرد والورد
...
أنظروا
كيف جاءت تلوح في الزهر فواحة
أوقفوا الزغردات،
اسمعوا:
إن أمي تزغرد فينا دماء
هي الأرض تحبل
والخصب يقبل
والأغنياء الأبية
من رمم وئدت
ثم جاءت تحاسب
هذي قيامتها
المطر الآن يشرب شمسا
هلموا، استحموا عراة
تبارك هذا الصباح
فأمي تطل
وتبسم
قوس قزح.
من الواضح أن أهم الصور من حيث التكرار في هذه القصيدة هي صورة الأم التي تحمل رمز الأرض، إنها مرتبطة بالوجود المأساوي الذي يلح عليه الشاعر.
وسياق صورة الأم/ الأرض ـ في هذه القصيدة ـ يحمل في ثناياه توترا دلاليا بين:
أ ـ ما تحمله الأم من رموز الخصب والعطاء والتضحية والحنان (أمي هي الخبز والماء، والريح والأرض، والدمع والجرح، والنهر والجمر، والضوء والنوء، والبرد والورد)
ب ـ استشهاد الأم التي تزف لأريج التراب بعد أن سرق الدخلاء والأعداء حلم صباها وتركوها ترزح في الضنى والذل والعجز: (سرقوا حلم صباها ـ تركوها في الضنى محتلة ـ ترزح من وطأة هذا الحيف ـ من عجز عن الألفة للذل...)
ج ـ بعث الأم من جديد، حيث لاحت كالزهر الفواح، حاملة معها كل معاني الخصب والعطاء لتحاسب أعداءها وتنتقم منهم، وتحمل البشرى إلى قومها وتغذق عليهم كل معاني الخصب والعطاء: (من رمم وئدت ـ ثم جاءت تحاسب ـ هذي قيامتها ـ المطر الآن يشرب شمسا ـ فأمي تطل وتبسم قوس قزح).
إن القصيدة من خلال تجسيدها الدرامي لتحول الأم إلى أرض مخصبة ترسم صورة كلية لهذا التحول. ولذلك يرتبط فهم الصورة الشعرية هنا بفهم الموقف الشعري كله، وبإدراك التجربة الإنسانية المكتملة في القصيدة.
وفي قصيدة: "هكذا تكلم التل" من نفس الديوان، يجسد ممدوح عدوان مأساة "تل الزعتر" الفلسطيني عبر توظيفه للصورة الكلية في بناء درامي يضفي على القصيدة شحنة تعبيرية مليئة بالدلالات، إذ يقول في هذه القصيدة:
أنـا مفــرد
ومعي جراحات مكابرة
تورم في دمي همي
أنا الهم المتلل
لي روائح زعتر في الوعر تعرفني
ولي دمع وأغنية وقنبلة
ولي قلب يخبئ أمه من أعين الحساد
إني قائم عينا مفتحة
على أسرار هذا العهر
أبقى شاهدا وحدي على تلك الجريمة
جبل تطامن في التلال
وفي شراييني المخابئ للهموم
وللأغاريد التي اختزنت
لتبدأ في تناغمها المعارك
للرصاصات التي تكفي لدرء الذل
تكفي طفلنا زوادة حتى يلاقي الموت
تكفي كي تعوضنا عن الأم الرحيمة
أنا وقفة النخل الأبية
في عناق الموت
لم أنبت بمعجزة :
ولم يُعل النبي مقامه في تربتي
أرض مهلهلة
أتى لجوعي إلي وتللوني
إنني الهم المتلل
....
معي جوع أبي
لم يزل دربي إلى أمي مصوى
بالتواريخ التي وأدت بني
وبالثوابيت التي ازدحمت
وبالأهل الذين بأمنا غدروا
لأني شاهد الزمن الفلسطيني
شاهدة للأرض حولت قبرا
أنا باب لمقبرة مشجرة
ولا فتة مزخرفة لباب المسلخ العربي
وحدي قد كشفت السر:
إن البحر صحراء
...
والموت الفلسطيني عرس في المجازر
وازدحام للمقاصل
أقبل الشهداء صفا واحدا
وتطوعوا للدفن
لم أقبل
لأني لست مقبرة
أنـا المـيـدان
والفتيان ما حـلموا بـقبر
بعدما خسروا بلادا
....
جاؤوني
ودق أشعلت زعترهم منارات
لتهدي الميتين لموتهم
....
إنني التل المقاتل
حين تستشري الخديعة
إنني قدس وقدوس
تعرى في دمي المنفى
وأبنائي استباحوا الموت
هل كنا وعدنا بالقيامة؟
....
أنا الهم المتلل
إنني عين مفتحة
كشفت السر:
زقزقة العصافير الجميلة لم تكن إلا مسجلة
وخضرة هذه الأشجار أصبغة
وقعقعة العدو خديعة
....
علمتني ألف مجزرة
بأيدي الأهل والأعداء
إني يوسف العربي
دلاني الإخاء ببئر غدر
أوصلتني للمنافي والنخاسة والسجون
ولم أزل أطوي الحنايا حول سر الحلم
....
أنا القمح الذي كنا
سنابلي العريقة ترتمي للريح كالقتلى
وتنهض
تنطوي تحت التراب كأنها موتى
فتـبذر
والسنابل في عراقتها
تحول كل مقبرة كمائن
سوف تنهض دون صوت
ربما همست إلي بكلمة
أو طلقة
ما كان من قتل بأوردتي
هو الموت الذي جئناه
كي لا يصبح التل الذي كناه أودية
ويضحي دفق أدمعنا
ودفق جراحنا
للغدر أردية وأوسمة
لكي لا يستريح الزعتر البري في بيت وآنية
لكي لا تبرق الكلمات خادعة
فننسى أن نورث لليتم القادم
الذكرى الحميمة(29)
تتعدد صور "تل الزعتر" في هذه القصيدة بكيفية لافتة للانتباه، وتأخذ هذه الصور أبعادا درامية تشع روحا مأساوية في ثنايا القصيدة.
وتتمحور هذه الصور جميعها حول توحد الشاعر بالكون والرموز والأشياء، ويتجلى هذا التوحد في الصور المتلاحقة التالية:
أ ـ أنا الهم المتلل لي روائح زعتر في الوعر يعرفني ـ وتتكرر هذه الصورة ثلاث مراث.
ب ـ أنا وقفة النخل الأبية.
ج ـ أنا باب لمقبرة مشجرة ولاقتة مزخرفة لباب المسلخ العربي.
د ـ أنا الميـدان.
هـ ـ إنني التل المقاتل.
و ـ إنني قدس وقدوس.
ز ـ إنني عين مفتحة.
ن ـ أنا يوسف العربي.
ح ـ أنا القمح.
يبدو التوحد إذن في إلغاء الشاعر للفواصل بين عناصر الصورة؛ فتهيمن الاستعارة التي تدعم توحد الشاعر بالكون والأشياء، بالإضافة إلى التكرار النحوي لصيغة الجملة الاسمية التي تشكل الصورة "الم المتلل" أو تتجاوب معها ويتكاثف هذا التوحد ـ عبر تسع صورـ في بؤرة رئيسية واحدة هي: شهادة الشاعر على الزمن الفلسطيني.
" إني قائم عينا مفتحة على أسرار هذا العهر"
" لأني شاهد زمن الفلسطيني"
" أبقى شاهدا وحدي على تلك الجريمة"
" إني عين مفتحة"
" كشفت السر."
ويتحول هذا التوحد في المقطع الأخير من القصيدة إلى سنابل تصير - في النهاية - كمائن تنهض بطلقة تحسم كل هذا العذاب والقهر الفلسطيني، فتبعث الحياة في الموت.
من الواضح إذن؛ أن أهم الصور من حيث التكرار في هاتين القصيدتين (الجنازة ـ وهكذا تكلم التل) هي صورة الأرض المرتبطة بالوجود المأساوي ، والمتمثل في الاحتلال الصهيوني لها ـ ولذلك يلح الشاعر على اعتبارها رمزا للأم، لكنها الأم المقتولة التي "تطارد قاتلها" ـ وهو عنوان الديوان الذي تنتمي إليه هاتين القصيدتين ـ والتي تسيطر دماؤها على باقي القصائد الأخرى.
إن الأرض/ الأم، تظل متوترة في هذا الديوان، ولذلك فهي تبدو ـ من خلال هذه الصور الكلية ـ ظامئة لنيل ثأرها، يؤجج عطشها الغضب المنبعث من الماضي كهذا العطش الكربلائي الذي يبدو في الصورة التالية:
أمي تطارد قاتلها
لا تنام
وتشحنني كبرياء
تعبئني بالهموم وتشحذني
صار تأثرا لغزا
فلا يرتوي العطش الكربلائي
لا يكتفي بالدماء المهلهل
أسألها في الصباح:
هل القتل كفر؟
أم الدم مهر؟ (30)
بذلك تكون الصورة الشعرية قد احتلت حيزا هاما في متن ممدوح عدوان الشعري، وتعددت مستويات بنائها، فقد انطلق الشاعر من الصورة التشبيهية البسيطة والغربية، إلى الصورة المركبة ـ سواء من خلال حشد الصورة المفردة ـ أو من خلال تداعي الصـور ـ ليصل في النهاية إلى توظيف الصورة الكلية. وهذا ما يدل على أن فاعلية الصورة الشعرية عنده غنية بدلالاتها لأنه توسل إليها عبر وسائط متعددة في محاولته للإحاطة بعالمه الشعري.
غير أن الصورة وحدها، لا تعطي القصيدة كل تماسكها الداخلي، ولذلك طرح الشعر المعاصر مسألة الرمز الشعري.
الهوامش
1- أرشيبالد مكليش: "الشعر والتجربة" ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي. بيروت. 63. ص: 67.
2- أ. أ. ريتشاردز: "مبادئ النقد الأدبي" ترجمة مصطفى بدوي. القـاهرة 63. ص: 172.
3- د. مصطفى ناصف: "مشكلة المعنى في النقد الحديث" مكتبة الشباب. القاهرة. 65. ص: 88.
4- محي الدين محمد: (محاولات في تحليل التجربة الشعرية) مجلة "شعر" عدد 18 يونيو 85. ص: 32.
5- من مجموعته الشعرية: "الظل الأخضر". مصدر مذكور. ص: 37-38.
6- قصيدة: "تلويحة" الأيدي المتعبة" مصدر مذكور. ص: 39-40.
7- من مجموعته: "تلويحة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور. ص: 85.
8- قصيدة: "تلويجة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور. ص: 142.
9- قصيدة: "العابرون كالرعد". "الظل الأخضر" مصدر مذكور ص: 76.
10- من مجموعته الشعرية: "تلوحية الأيدي المتعبة" ص: 83-84.
11- من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" مصدر مذكور. ص: 53.
12- من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" مصدر مذكور. ص: 81.
13- من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 71/72.
14- من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 73.
15- أ. مكليش: "الشعر والتجربة" ترجمة سلمـى الـجيوسي. بـيروت 1963. ص 77.
16- من مجموعته الشعرية:" أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 24/25.
17- من مجموعته: "أقبل الزمن المستحيل" مصدر مذكور. ص: 27.
18- من مجموعته "الظل الأخضر" مصدر مذكور. ص: 39-40.
19- من ديوانه: "الدماء تدق النوافذ" ص: 16.
20- من ديوانه: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 84.
21- من نفس الديوان. ص: 171.
22- من ديوانه: "الدماء تدق النوافذ" ص: 31.
23- من ديوانه: "أقبل الزمن المستحيل". ص: 64-65.
24- من ديوانه: "وهذا أنا أيضا". منشورات اتحاد الكتاب العرب 1984. ص 5
25- من نفس المجموعة الشعرية.ص: 13-15.
26- د. محمد زكي عشماوي: "قضايا النقد الأدبي والبلاغة" دار الكتاب العربي. ص: 110-111.
27- د. محمد النويهي: "قضية الشعر الجديد" القاهرة. 64. ص: 117-118.
28- من ديوانه: "أمي تطارد قاتلها" منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1987
الصفحات: 5-6-7-10-11-13-14-24-30-31.
29 – قصيدة: "هكذا تكلم التل" من المجموعة الشعرية: "امي تطارد قاتلها" مصدر مذكور الصفحات: من 58 إلى 84.
30- من قصيدة: "أمي تطارد قاتلها" من مجـموعة الشـعرية بنـفس العنوان. ص: 42-43.