تداخل النص بين القديم والجديد ـ د.عبد الرحيم الخلادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
khelladi.jpgتمــهـــيــــد :
إذا كانت الدراسات المتعلقة برصد العلاقات بين النصوص قد نشطت بشكل كبير منذ سنوات الستين من القرن الماضي انطلاقا من التصورات التي أعلنت عنها الباحثة البلغارية "جوليا كرستيفا " تحت عنوان " التناص" والتي بنتها على ما قدمه الشكلانيون الروس حول مفهوم الحوارية الذي انبثق بقوة عند باختين في دراسته لدوستوفسكي....فإن النقد العربي لم يغفل هذا الموضوع بل كان سباقا إلى طرح العديد من مفاهيمه وحدوده وقضاياه بصيغ متعددة ، وتنبه منذ القديم إلى هذا التعالق بين النصوص والذي جعل رولان بارث – مثلا – في العصر الحديث يؤكد بأن (كل نص تناص). فقد أورد أبو علي الحاتمي هذا القول " كلام العرب ملتمس بعضه ببعض وآخذ أواخره من أوائله والمبتدع منه والمخترع قليل إذا تصفحته ، والمحترس المتحفظ بلاغة وشعرا من المتقدمين والمتأخرين لا يسلم أن يكون كلامه آخذا من كلام غيره ، وإن اجتهد في الاحتراس ، وتخلل في الكلام ، وباعد في المعنى ، وأقرب في اللفظ وأفلت من شباك التداخل (...) ومن ظن أن كلامه لا يلتبس بكلام غيره ، فقد كذب ظنه ، وفضحه امتحانه " (1)
 من هنا نطرح تساؤلات حول طبيعة معالجة النقد القديم لموضوع التناص، وحول مفاهيم السرقة والمعارضة ، وحول ما يتيحه التناص من قدرات هائلة لتنظيم هذه التداخلات جميعا.
استشعار التناص :
             كانت ذبذبات الإحساس بتداخل النصوص الشعرية بعضها مع بعض ، ومع غيرها تلتقط عبر رادارات ملكة الشاعر وذوقه وحفظه، منذ القديم ، فكل نصوصه نتاج تلاقح وتفاعل وتحاور مع نصوص أخرى بكيفيات متعددة ، ولم يفت الشاعر الجاهلي التعبير عن هذا الأمر برأيين مختلفين :
 يقر الأول بأخذ اللاحق من السابق ، حيث كان اعتماد المقدمة الطللية منهجا متبعا في استهلال القصيدة الجاهلية ، وهو ما عبر عنه امرؤ القيس بقوله :
عوجا على الطلل المحيل لأننا             نبكي الديار كما بكى ابن خذام (2)
 بل إن الشعور بإعادة إنتاج ما سبق إنتاجه استشعره الشاعر آنئذ :
مـــا أرانا نـــقـول إلا مــعارا              أو معــادا من قولنا مـكــرورا (3)

2  -
ومقابل هذا الرأي الذي يقر بالتداخل وضرورة أخد المتأخر من المتقدم، نجد الرأي الثاني الذي يميل إلى استقباح هذا الأمر يقول طرفة:
ولا أغير على الأشعار أسرقها                 عنها غنيت وشر الناس من سرقا (4)
         نلاحظ أن الرأي الأول يستخدم مصطلحات التكرار و الإعادة......بينما وظف الثاني مصطلحات الإغارة والسرقة ، أي أن من الجاهليين من كان يؤمن بتداخل النصوص بعضها ببعض حتما ، ومنهم من اعتبر ذلك سطوا على إنتاج الغير ... واستمر هذان الرأيان بعد ذلك ، فحسان بن ثابت الإسلامي يؤكد :
لا أسرق الشعراء ما نطقوا             بل لا يوافق شعرهم شعري (5)
        بخلاف الفرزدق الأموي - مثلا – الذي بالغ في الإغارة وانتحال الأشعار .... الى أن تحولت السرقة الأدبية إلى قضية نقدية وازنة خصوصا خلال العصر العباسي وما تلاه .
السرقات : قراءة في بعض الخلفيات  :
ظهر موضوع السرقات منذ العصر الجاهلي ، ثم واكب تطور الإنتاج الأدبي خلال العصور اللاحقة ، فتأثر بالعصبيات التي تم إذكاؤها خلال العصر الأموي حيث سيظهر شعراء النقائض ، ثم عرف أوجه خلال العصر العباسي بظهور الشعراء المحدثين كأبي تمام والمتنبي ....وقد وقفت خلف إذكاء نارها مجموعة من الخلفيات .
منها ذلك الصراع النقدي الذي دار حول أبي تمام ، حيث ذهب أنصاره إلى ادعاء إبداعيته وسبقه، مما حمل معارضيه على وضع شعره تحت مجهر الكشف الدقيق مما أجل فضح سرقاته ، فقد أورد الآمدي أن من أدركه من أهل العلم بالشعر " لم يكونوا يرون سرقات المعاني من كبير مساوئ الشاعر ، وخاصة المتأخرين ، إذ كان هذا بابا ما تعرى منه متقدم ولا متأخر ، ولكن أصحاب أبي تمام ادعوا أنه سابق وأنه أصل في الابتداع والاختراع ، فوجب إخراج ما استعاره من معاني الناس " (6).
وتنبئ الكتب التي تناولت سرقات المتنبي عن بعض الشطط في استصدار الأحكام ، وعن شيء من المجازفة في النقد ، لأنها استحضرت حسابات عدائية في تتبع سرقات الشاعر المحدث: فشخصية التحدي و التعالي والترفع التي تميز بها أبو الطيب جلبت إليه الويلات ، إذ كان محاطا بالأعداء والحاقدين من كل جانب ، وهؤلاء انبروا إلى استدعاء كل ما يمكنهم من الحط من شعره، وعلى رأسهم بعض أصحاب السلطة والرياسة الذين أسعفهم في ذلك مكانتهم العلمية والأدبية الرفيعة كالصاحب بن عباد.
وحين نتوقف مع كتاب " الإبانة عن سرقات المتنبي" للعميدي نجد تعمد البحث عن كل ما يساعد على تلفيق تهمة السرقة ضده " وقد لاحظ ذلك صاحب " الصبح المبني على حيثية المتنبي " الشيخ يوسف المشهور بالبديعي ، فقال : وكان الشيخ أبو محمد العميدي صاحب كتاب الإبانة (...) في غاية الانحراف ، حائدا في التمييز من سنن الإنصاف ، ونحن نورد كلامه ونرد في نحره سهامه ، فإنه تجاوز الحد وأوجب الرد " (7).
وأضيف هنا صنفا آخر من الخلفيات التي حركت موضوع السرقات وأعطته بعده القدحي ، يمثله قول المرزباني بأن " تحامل الزبير بن بكار على كثير – فيما جمعه من أخباره وبين عليه من سرقاته – ظاهر ، وهو خصم لا يقبل قوله على كثير لهجاء كثير لولد عبد الله بن الزبير ، وانحراف الزبير عن أهل البيت عليهم السلام " (8).
من هنا نتبنى رأي الدكتور أمجد الطرابلسي في التعليق على هذا الأمر ، بقوله " إن الزلل والسقوط في الأحكام الخاطئة أمران واقعان لا محالة وخاصة حين يتعلق الأمر ببعض متعقبي الشاعر أو خصومه . إذ لا يعدم هؤلاء حين يريدون ذلك ويتعمدونه – معاني تقترب من شعره ، أو تناسبه من بعض وجوهه فيرمونه بالسرقة ويلتمسونها في سائر ما يقول " (9).
- أهمية موضوع السرقات :
          لا يخلو موضوع السرقات من أهمية ، لأنه أثار نقاشات كثيرة و جدالات هامة ، عرفت أوجها في عهد الشعراء المحدثين ، ونتج عن ذلك اغتناء الحقل النقدي العربي بالعديد من المصطلحات والمفاهيم وبالعديد من المؤلفات منها ما ذهب إلى وضع معايير إحسان الأخذ و إلطاف الحيلة فيه كعيار الشعر ومنها ما وضع شروطا للإعفاء من تهمة السرقة كالموشح ومنها ما نزع إلى تحديد السرقة وتصنيفها إلى أنواع ووضع كل مفهوم تحت اسم معين كالحاتمي في حلية المحاضرة... كما أن هذه الفترة لم تعدم وجود نقاد منصفين ، حاولوا إبعاد العديد من الخلفيات السابقة ، وحاولوا الخوض في هذا الموضوع ببعض الموضوعية ، فبدأت النظرة إلى السرقات تتغير بعض الشيء ، فمن اللهث خلف المعاني قصد الكشف عما يقترب منها من قريب أو بعيد بنية تلفيق تهمة السرقة ، إلى الإقرار بتداول المعاني ، إذ " ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم " (14)، مما يعني أن موضوع السرقات بدأ يعرف طريقه إلى التأسيس العلمي السليم ، بعدما كان موضع أخد ورد بين فريقين متصادمين من أنصار القديم وأنصار الحديث ، ولذلك حاول القاضي علي الجرجاني إنصاف كل فريق على حدة في وساطته ، وعمل على إبعاد كل الخلفيات التي تحكمت في الموضوع من قبل ودعا إلى الاحتكام إلى الجودة الفنية وجعلها معيارا نقديا شجاعا لنقد الشعراء ، واشترط على الناقد شروطا واضحة لاقتحام هذا الباب الذي لا ينهض به إلا الناقد البصير والعالم المبرز...إذ ليس كل من تعرض له أدركه ولا كل من أدركه استوفاه واستكمله (15).
- تطور المفهوم بالغرب الإسلامي :
              في الغرب الإسلامي نجد التسليم بتداخل النصوص قد صدر منذ " العقد الفريد " لابن عبد ربه الذي كان يقول بتوارد الخواطر ويدعو إلى الزيادة في المعنى عند الأخذ مستعملا مصطلح الاستعارة الخفية الذي يعني عنده أخذ الشعر من النثر والعكس (10) . أما عن السرقة بالأندلس فيقول د . محمد رضوان الداية : " وكانت السرقة إذا ثبتت عن شاعر تهمة تؤدي إلى حذف اسمه من ديوان العطاء ، هذا في خبر عن فترة حكم المنصور " (11).
            أما ابن رشيق القيرواني في " العمدة " فعلق على المصطلحات التي أوردها الحاتمي في "حلية الحاضرة " لدراسة أنواع السرقات فقال : " ليس لها محصول إذا حققت ، وكلها قريب من قريب ، وقد استعمل بعضها في مكان بعض "(12) لذلك سينبري إلى تحديديها بشكل أدق ، كما أشاد بالجرجاني لكونه " أصح مذهبا وأكثر تحقيقا " (12) وهنا أثار ابن رشيق مفهوم التوليد (13) الذي هو عبارة عن عملية إبداعية تتمثل في استخراج الشاعر لمعنى من معنى شاعر تقدمه أو زيادته فيه مما يجعل التوليد لا يصل إلى مستوى الاختراع ولا ينزلق إلى مستوى السرقة . وهذا يدلنا على بعض التقدم العلمي الإيجابي في معالجة موضوع السرقات ، تمثل في الابتعاد النسبي عن مصطلح السرقة وعن حمولته القدحية بما يعني ظهور ملامح نظرية جيدة تدرس التعالقات النصية بشكل أفضل .
           ونمر إلى القرنين السابع والثامن الهجريين بالأندلس  ، والغرب الإسلامي عموما، وقد تطور مفهوم السرقة ، وذلك بالإقرار بالاشتراك في المعاني وتداولها ، والتداخل بين النصوص وتفاعلها . وهذا لا يعني أن النقد انفصل عن مصطلح السرقة ، فقد تحدث عنها – على سبيل المثال – أبو البقاء الرندي في " الوافي في نظم القوافي " وحدد ضروبها ودعا إلى تحسين الأخذ من خلال الزيادة في المعنى .
-  التناص عند حازم القرطاجني :
           مع حازم القرطاجني في " منهاج البلغاء وسراج الأدباء " سننفصل كليا عن ذلك التتبع الممل لسرقات الشعراء ، نظرا لنزوع هذا الناقد نحو التنظير أساسا ، وكأنه بذلك يمثل ثورة حقيقية على المنهج المتبع في دراسة هذا الموضوع فقد قسم المعاني إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول : هو تلك المعاني التي تكون مرتسمة في كل فكر ومتصورة في كل خاطر ولهذا اشتهر أمرها عند الجميع وشاعت وكثرت .
القسم الثاني : وهو ما يكون ارتسامه في بعض الخواطر دون بعض وهو ما يعرفه البعض ويجهله البعض الآخر.
القسم الثالث : ما لا ارتسام له في خاطر ، وهو المعنى الذي يقال فيه أنه نذر وعدم نظيره (16).
                هذه المعاني التي يحددها حازم اشترط فيها نفس الشروط التي سبقت عند النقاد قبله ، وهي :
أ – الزيادة عليها .
ب – تركيب معنى آخر عليها أو نقلها إلى موضوع هي أليق به من الموضع الذي هي فيه .
              وكنتيجة منطقية لإلمام الشاعر بمعاني غيره أن يكون قد بلغ إحدى الدرجات التي حددها حازم في أربع : " اختراع واستحقاق وشركة وسرقة. فالاختراع هو الغاية في الاستحسان ، والاستحقاق تال له، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأول فهذا لا عيب فيه ، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا عيب ، والسرقة كلها معيبة وإن كان بعضها أشد قبحا من بعض (17).
           ومن خلال هذا التقسيم المنطقي لحازم ، نلاحظ أن مصطلح السرقة تقلص مفهومه كثيرا . فبعد أن كان يقصد به كل تداخل جزئي بين النصوص الشعرية ، أصبح يطلق على جزء من التداخلات فقط ، وهو أدناها وأحقرها .
         ولعل هذا الرأي الذي تحدثنا عنه من كون النقد العربي حقق مع حازم قفزة نوعية في اتجاه البحث عن العلاقات بين النصوص الشعرية فيما بينها بعيدا عن القدح والشطط ، هو ما استمر عليه المثقفون في ما بعد بالغرب الإسلامي ، رغم وجود من تتبع السرقات في إطار النقد التطبيقي كما هو حال شرح مقصورة حازم للشريف السبتي ، لكن هذا الأخير وظف مصطلحات بريئة مثل (أثار) (نظر) (أخذ) (ضمن) ...الخ.
- ضرورة التناص :
         مما سبق يتبين لنا أن التداخل والتفاعل بين النصوص أمر لا مفر منه، خصوصا وأن الدعوة إلى الاعتناء بالتراث بالحفظ والمدارسة والنقد كانت قائمة ، فقد أكد ابن خلدون على ضرورة حفظ ودراسة التراث من أجل تكوين الملكة الضرورية للإبداع ، ففي تعريف علم الأدب  قال ابن خلدون بأنه " هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف " ، وملكة اللسان العربي لا تحصل للشاعر إلا " بكثرة الحفظ من كلام العرب ، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه " . وإذا كان ابن خلدون يركز على ضرورة الأخذ من السابقين والاقتداء بهم ، فإنه لا يدعو إلى التقليد بقدر ما يشجع الإبداع الذي لا يمكن أن يكون من فراغ أبدا ، بل إنه – أي ابن خلدون – في تعريفه للشعر ركز على الجودة الفنية أولا بما تتضمنه من استعارة وأوصاف وغيرها، فقال " الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف ، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده ،الجاري على أساليب العرب المخصوصة " . وهذه المواقف لا تبتعد عن آراء نقاد العصر الحديث من أن التناص ضرورة لا مفر منها وأنه يوجد في كل النصوص وهذا ما يسهل ربط الماضي بالحاضر في هذا الموضوع .
-  التناص بين السرقة والمعارضة :
             هكذا تناول النقاد القدماء بشكل مستفيض موضوع العلاقات بين النصوص وقد جاء ذلك في فترة معينة ، وأنتجته ظروف تاريخية ومعرفية واجتماعية محددة وعملت على إذكائه العديد من الخلفيات . وقد طبعت " السرقة " بطابع أخلاق معياري وارتبطت بمفهوم مثالي ، يتمثل في وجود نصوص ممتلكة لأصحابها لا يجب الاقتراب منها اقتداء بقدسية القرآن الكريم ، وكان التشدد في إسناد النصوص إلى أصحابها ائتساء بمنهجية علوم الحديث في تصنيف الأحاديث النبوية الشريفة ، في نفس الوقت الذي كانت الدعوة إلى الاقتداء بالنموذج الإبداعي الأصيل والمحافظة عليه مما يجعل تتبع السرقات في أصله نوعا من التناقض مع هذه المبادئ.
                 لكن الأهم هو أن السرقة تعبير عن طبيعة الإبداع الأدبي الذي يتميز بالتكرار ويتجدد بواسطة توالده وتناسل بعضه من البعض ، بحيث لا وجود لمبدع ينطلق من الصفر كما أكد ذلك كل من المشتغلين بحقل التناص الحديث.
                 وموضوع السرقة يهتم بالكشف عن التداخلات النصية على المستوى الجزئي، لأن السرقة على تعدد مصطلحاتها في النقد القديم وعلى اختلاف الخائضين فيها ، كانت تربط بالبيت الشعري ، بخلاف المعارضة التي كانت ترتبط بالقصيدة كاملة، لهذا أسوق هذا التعريف للمعارضة كمظهر جلي للتناص كنت قد خلصت إليه في واحد من أبحاثي الأكاديمية : المعارضة في الشعر هي أن ينشىء الشاعر قصيدة تتفق مع قصيدة سابقة عليها أو معاصرة لها، في الوزن والقافية والموضوع ، أو مع بعض الانحراف عن هذه القاعدة ، وتتحكم في المبدع عند انبرائه للمعارضة مجموعة دوافع كالإعجاب أو محاولة التفوق والمبارزة والتحدي . وفي كل هذه الحالات ينسج الشاعر المعارض قصيدته على منوال السابقة إما بهدف تعضيدها أو نقضها.
                والمعارضة بشقيها التعضيدي و النقضي تكون إما تامة أي معارضة قصيدة لقصيدة ، أو جزئية تتعلق بمقاطع من القصيدة . وتدخل في إطار المعارضة أشكال أخرى كالتشطير والتخميس .... وإذا كانت المعارضة قد اشتهرت في مجال الشعر فإنها توجد كذلك في النثر ولها أوجه كثيرة ...
            انطلاقا من مفاهيم السرقة والمعارضة وبالنظر إلى مفاهيم أخرى كالاقتباس والتضمين نكون قد وضعنا اليد على مظاهر التناص التي استشعرها العرب منذ القديم ، و التناص بهذا المفهوم هو ما حدده ميشيل أريﭬي M.Arrivé  معرفا له بأنه " مجموعة النصوص التي تتداخل مع بعضها البعض في إطار نص حدث ، هذا التناص يمكن أن يأخذ أشكالا مختلفة، الحالة المحدودة هي بدون شك ، مكونة من مجموعة نصوص المعارضة " (18).
مفهوم التناص : النشأة والامتداد  :
          كل التداخلات و التعالقات النصية التي أشرت إليها أعلاه كانت تمثل أشكالا من التناص تنبه إليها القدماء ، لكن مصطلح التناص لم يظهر إلا في ستينية  القرن العشرين مع الباحثة البلغارية جوليا كريستيفا قبل أن ينتقل إلى الحقل العربي .
        وإذا كان هذا المفهوم قد ظهر أساسا ونشط مع هذه الباحثة من خلال ما بنته من مجهودات على أعمال ميخائيل باختين التي أطر بها دراسته للنص الأدبي من خلال التحليل عبر لساني للخطاب واقتراحاته الهامة حول مفهوم الحوارية فإن هذه الأخيرة لا تعدو بدورها " أن تكون قد عمدت إلى محاولة تنظيم مبحث "السرقات" تنظيما جديدا يكسبها أبعادا إيجابية ويزيل عنها الطابع القدحي الذي اتسمت به قبل فهمها في ضوء هذا التصور الذي تسعى الشعرية الحديثة إلى تأسيسه" (19) دون أن يعني ذلك انتقالا آليا من مفهوم إلى مفهوم ، لأن دراسة التناص جاءت في سياق تغييرات منهجية ومعرفية معينة، حيث ارتبط أساسا بالدراسة السيميائية للنص الأدبي ، فالسيميائيات (السيميوطيقا أو السيميولوجيا) ، والتي قامت على أنقاض البنيوية ، حاولت دراسة النص الأدبي  وتحليله منطلقة من بنيته الداخلية ، إلى عالمه الذي يؤشر عليه ، مع التركيز أيضا على تلقي النص، ثم تأويله من لدن القارئ ، فكان من اهتمامها الكشف عن العلاقات التي تنسجا النصوص السابقة في النص اللاحق مما أبان عن وجود فسيفساء من نصوص داخل نص واحد.
           فقد اهتمت كريستيفا بدراسة العلاقات بين النصوص ، معتبرة أن التناص (Intertextualité) هو " موقع اللقاء داخل النص للملفوظات المأخوذة من نصوص أخرى ، إنه تحويل لملفوظات سابقة ومتزامنة معه" (20) بمعنى أن كل نص يحمل بصمات نصوص أخرى ، وكل نص يستفيد من نصوص أخرى فيداخل معها و يتساكن ويتفاعل، وتطلق كريستيفا مصطلح التناص على هذا التداخل النصي الذي ينتج داخل النص الواحد ، بحيث تستوجب قراءة نص ما استدعاء النصوص الغائبة التي تعمل فيه ، والتي تخدم النص الحاضر بشكل جدي .
          وقد عرف جيرار جنيت التناص – أو تداخل النصوص – بأنه " التواجد اللغوي سواء كان نسبيا أم كاملا أم ناقصا لنص في نص آخر"(21) ودراسة التناص تعني الكشف عن حجم هذا التواجد ومستوياته ، أي العلاقة بين النصوص التي يتكون منها نص معين والتي تتحول إلى مجرد إشارات داخل النص الذي يتضمنها . وقد عبر عن ذلك من خلال خمسة أقسام التناص (Intertextualité) نظير النص(paratexte) الوصف النصي (métatexte)  جامع النص (architexte) التعالي النصي (Hypertexte)  .
       ومن منظور التلقي والتأويل يعرف مخائيل ريفاتير (Michael Riffaterre) التناص بأنه " إدراك القارئ للعلاقة بين نص ونصوص أخرى تكون قد سبقته أو تعاصره" (22) بذلك فهو يدرج القارئ ضمن الظاهرة الأدبية ويعطيه موقعا متميزا ، الشيء الذي نتج عنه توسيع مفهوم التناص، وذلك بالتركيز على أهم عنصر في العملية الإبداعية : القارئ وما يقوم به هذا الأخير من دور كبير في تأويل عمل المبدع واكتشاف مجالات التناص فيه ، وفق طريقته ومنهجه وأفكاره ومعارفه...
ويحدد شولز لتلقي النص شرطين أساسيين هما :
" 1- لكي نقرأ النص لا بد أن نعرف تقاليده الجنسية ( أي سياقه الفني داخل الجنس الأدبي الذي ينتمي له النص) .
2- لابد أن يكون لدينا مهارات ثقافية تمكننا من جلب العناصر الغائبة " (23).
        فهذا يشترط على المتلقي الامتلاء بثقافة متشعبة تمكنه من الكشف عن النصوص الغائبة في النص نفسه ، مما يدلنا أن المبدع ملزم بأن يكون مطلعا مثقفا ، لديه معرفة كاملة بالميدان الذي يختص فيه ...
-  التناص في الحقل العربي :
              دخل التناص إلى المتن النقدي العربي الحديث بشكل حذر ومتحفظ ، وتعددت الآراء حوله ، قبل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس حيث يواكب النقاد العرب كل ما يستجد حوله في العالم الغربي ويعملون على تكييفه مع البيئة الثقافية العربية .
            فعند صبري حافظ أن التناص يلفت انتباهنا إلى النصوص الغائبة والمسبقة و إلى التخلي عن أغلوطة استقلالية النص ، كما يمكننا من فهم النص الذي نتعامل معه وفض مغاليق نظامه الإشاري وبذلك ندرك كيفية تعامل النص مع النصوص السابقة ، حيث " يحاورها ويصادر عنها ، يدحضها ، يعدلها ، يقبلها ، يرفضها ، يسخر منها ، أو يشوهها ..." (24). والنص في استيعابه للنصوص السابقة يشكل ما يشبه الترسبات الأركيولوجية . ذلك أنه – حسب نفس الدارس – " ينطوي على مستويات أركيولوجية مختلفة ، على عصور ترسبت فيه تناصيا الواحد عقب الآخر دون وعي منه أو من مؤلفه.  وتحول الكثير من هذه الترسبات إلى مصادرات وبديهيات ومواصفات أدبية يصبح من الصعب إرجاعها إلى مصادرها أو حتى تصور أن ثمة مصادر محددة لها فقد ذابت هذه المصادر كلية في الأنا التي تتعامل مع النص كاتبة أو قارئة أو ناقدة " (24).
واعتبر الدكتور محمد مفتاح النص الأدبي عبارة عن " توليد ،تحويل لقالب لغوي في زمان وفضاء مهما كان مستواهما بكيفيتين أساسيتين هما جوهر أي نص وسر حياته وتعيينه ، سواء أكان ذلك التوليد والتحويل لقوالب خارجية أم داخلية "(25) ويأتي مجهود هذا الناقد ضمن أبحاثه الغنية لدراسة الثقافة العربية خصوصا وأنه استطاع الإفادة بشكل جيد من المدارس والاتجاهات الغربية في الآداب واللسانيات والفلسفة . هكذا فهو يعرف التناص بكونه " فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة ، ممتص لها بجعلها من عندياته ،و بتصييرها منسجمة مع فضاء بنائه ومع مقاصده ، محول لها بتمطيطها ، أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها ودلالاتها أو بهدف تعضيدها "(26)، فهذا التعريف جامع مانع لتحديد مفهوم التناص ، وقد أفاده وركبه محمد مفتاح من تعاريف نقاد آخرين .
          ويقسم محمد مفتاح التناص إلى خارجي وداخلي ،فالتناص الخارجي عنده هو عندما يتناص عمل مع عمل آخر ويمكن أن نسمي الموضوع الأصلي الذي يتناص معه نص آخر ويعارضه بالموضوع المركزي . وهناك أنواع أخرى من التناص يمكن أن نسميها فرعية أو جزئية ، وهي حين يستدعي الشاعر نصوصا من القرآن و الحديث والشعر وحقول أخرى. ولعل معرفتنا وتحديدنا لمقصدية الشاعر تسهل أمر التحليل والبحث عن النصوص الغائبة . و التناص الداخلي يعني به أن النص ينطلق من نواة معينة ثم يبدأ الشاعر في تنمية تلك النواة ويفرعها إلى أن ينتهي بها إلى نقطة ما، فالنص إذن ينطلق من بسيط إلى معقد وعملية النمو هاته تقوم على عمليتين اثنتين: عملية تمطيط وهي عملية توكيدية وتفسيرية وتوضيحية، وعملية تكثيف ، وهي عملية إبعادية و إقصائية(27) .
           أما الناقد سعيد يقطين ، فقد اهتم بما لحق مفهوم التناص من تطور ، بعد أن تم ضبط علاقات عدة تأخذها النصوص ببعضها. وقد ركز في دراسته على مفهوم التفاعل النصي الذي يعتبر في نظره من ضرورات الإنتاج ومكونا من المكونات الأساسية لأي نص " إذ لا يمكن لنص أن يتأسس – كيفما كان جنسه أو نوعه أو نمطه – إلا على قاعدة التفاعل مع غيره من النصوص"(20).وقد قدم هذا الناقد خدمة كبيرة للدراسات الأدبية ، وذلك بمجهوداته العلمية الجبارة التي انصبت على دراسة السرد العربي أساسا ، في القديم والحديث .
الخاتمة :
               كل نص هو عبارة عن فسيفساء من نصوص عدة امتصها واستقطبها بكيفيات متعددة وبمستويات متفاوتة ، تحت لواء مفهوم شاسع وشامل وهو " التناص " ، وتمظهر في السرقات بأشكالها المختلفة،و  في التضمين والاقتباس ثم في المعارضة بشقيها التعضيدي و النقضي وغير ذلك .
              هكذا فالتناص عبارة عن علاقة تداخل و تعالق تربط كل نص بنصوص أخرى، حيث ينبثق النص ، بواسطة التوالد والتناسل ، من غيره من النصوص المكتوبة والمسموعة . وقد اهتم النقد الحديث بهذا الموضوع كثيرا، ولازال إلى اليوم يحظى باهتمام بالغ ، وهو نفس الاهتمام الذي لقيه من طرف نقدنا العربي ، حتى أصبح من المستبعد تغييبه عن أية دراسة أدبية ، ولا زال هذا الموضوع يعرف تطورا ملحوظا ، بحسب تطور خلفياته المعرفية واتجاهاته ، وحسب الحقول المشغلة له ، والتصور المراد له ، خصوصا في إطار العلاقة مع التراث الأدبي والنقدي العربي ، و مع رهانات التلقي والتأويل والتواصل .
د. عبدالرحيم الخلادي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.




- الـــهــــــوامـــــــــــــش:


1)- الكلام لأحمد بن أبي طاهر ، أورده الحاتمي في كتاب " حلية المحاضرة في صنـــاعة الشعر" ج2/ص 28  (تحقيق د.جعفر الكتاني ، دار الرشيد ، العراق، 1979)
2)- ديوان امرئ القيس ، ص 114. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم .ط 2 ، دار المعارف مصر، دت.
3)- هامش الصفحة 13 .
4)- ديوان طرفة ، ص 216 . بتحقيق علي الجندي ، مكتبة الأنجلو المصرية .
5)- ديوان حسان ص : 97 . دار صادر بيروت .
6)- " الموازنة بين الطائيين" الآمدي ، ج 8/ص 29 ،بتحقيق أحمد صقر  دار المعارف مصر 1961 .
7)- " الإبانة عن سرقات المتنبي " التمهيد ، مقدمة المحقق إبراهيم الدسوقي ص 11 ( ط 2 دار المعارف مصر .د ت ).
8)- " الموشح " ، ص 245 . تحقيق محمد علي البجاوي . ط . مصر 1965 .
9)- "نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس الهجري" .ص 212 ترجمة ادريس بلمليح ط . 1 دار توبقال 1993).
10)- انظر" العقد الفريد" 5/186 وما بعد، تحقيق عبد المجيد الترحيني . دار الكتب العلمية بيــــروت ط 3. 1987
11)- " تاريخ النقد الأدبي في الأندلس" ص 176.
12)- " العمدة" II ص 1037 .تحقيق محمد قرقزان ط2 .1993 .
13)- نفسه I ص 450 .
14)- " كتاب الصناعتين " . أبو هلال العسكري ، ص 196 ، (تحقيق البجاوي وأبو الفضل .ط بيروت 1986.
15)- " الوساطة بين المتنبي وخصومه " ، القاضي الجرجاني ص 214 تحقيق البجاوي، ط 4 القاهرة 1966 .
16)- منهاج البلغاء وسراج الأدباء" ص 192 تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة ط3 دار الغرب الإسلامي .
17)- نفسه ، ص 196 .
18)-Catherine Kerbrat Oreccioni «  La connotation » P.130 ,2ème dition , presse universitaire de lyon 1997
      19)- " المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب ..." إدريس بلمليح ص 222 منشورات كلية
      الآداب الرباط ط 1 .1995 .
 20) – Sémiotique : recherche pour une sémanalyse . P52   Edition  1969 21)- " مدخل لجامع النص " ، جيرار جنيت ، ص 90 بترجمة عبد الرحمان أيوب دار توبقال الدار البيضاء 1986
      22)- P.108 Traduit de l’anglais par   « Sémiotique de la poésie »        
                                              Thomas J J 1983
       23)- " الخطيئة والتكفير " عبد الله الغذامي ص 49 (ط 1 جدة 1985)
       24)-  مجلة عيون المقالات .ص 92 و 93 (عدد 2 . 1986).
       25)- " دينامية النص" ص 52 ( ط2  . المركز الثقافي العربي 1987).     
       26)- " تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص" ص 121 ، ط 1 المركز الثقافي العربي1985.
       27)- انظر المرجع السابق الفصل 6 : التناص ص 119 فما فوق .
       28)- " الرواية والتراث السردي " ص 88 .( ط 1 . المركز الثقافي العربي 1992).

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة