بين الكتابة والإنشاء:حين تطرح الحداثة مصطلحا غريبا عن الإبداع - أ.د.حبيب مونسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasseربما كان مصطلح "الإنشاء" أصوب اصطلاح يمكن استعماله للحديث عن "الكتابة"، لأن الكتابة إنما تفيد في معناها المباشر التسجيل والخط الذي من شأنه تدوين القول وحسب. ويذهب "الإنشاء" إلى معنى التكوين والخلق. فقد جاء الإنشاء مصدرا لأنشأ، وأنشأ مزيد نشأ بالتعدية، وفيه معنى التكوين والارتفاع والسمو. وكأن المنشئ يعمد إلى مواد يتخيرها ليصنع منها جديدا يبدعه على غير هيئة سابقة، وإنما يصنع ذلك استنادا إلى تصور خاص يختمر في ذاته فيكون له منه الصنيع الذي يجسد رغبته، والشكل الذي يناسب مقولته.
    وإذا كنا اليوم نغلّب اصطلاح الكتابة، فلأن الكتابة غدت تشمل الإنشاء بمعانيه السالفة و تضيف إليها جملة الإشارات والملاحظات التي يلقي بها الكتاب على مر العصور، فتشكل في نهاية المطاف ما يشبه القواعد التي يتأسس عليها "علم الكتابة" . كما تقف الكتابة من ناحية أخرى في مقابل "القراءة"، قيام تشاكل وتقابل في آن. أما التشاكل فلأن الكتابة في حقيقة أمرها نتاج قراءة قبلية شاءت لنفسها أن تتجسد في الحرف، وأن تجعل حصادها في الخط. والكتابة من هذه الوجهة تقييد لقراءة جمعت حصيلتها في المكتوب. إذا تأملنا هذه العلاقة بدت الكتابة وهي تتوسط قراءتين: قراءة قبلية تحدث على مستوى الخواطر والفكر، تتفحص الحياة وأحوال الناس ومعارفهم. وقراءة بعدية موكول إليها فك الحرف واستخراج مكنونه، اعتمادا على ما يرسب في النفس من إيحاءات المكتوب من جهة، وعلى ما يعمر النفس من معارف وأحوال من جهة ثانية. وشتان ما بين القراءتين من فروق. إذ الأولى تدبُّر وتفكُّر، واستخراج للمعاني من معادنها الأولى، وبحث لما يوافقها من ألفاظ تنمّ عنها. أما الثانية فتابعة تالية تنتظر من الخط البوح بسره أولا، ثم تضفي عليه من مكنوناتها الزيادة التي يقتضيها النص، والتي يحملها أصالة دون الإفصاح عنها.
أما التقابل بين الكتابة والقراءة، فمردود إلى آليات كل واحدة منها، إذ تحتاج كل واحدة إلى نمط خاص من الجهد والاجتهاد، وإلى هيئة خاصة من التلقي والتقبل. ولا يمكن صرف آليات هذه إلى تلك. وإنما اختصاص كل واحدة منها بالذي يوافقها، ويسمح بامتدادها في مجالها الخاص عطاء وطواعية. وإذا عدنا إلى الإنشاء لمسنا منه الشرط الذي يلتفت إلى البناء، وكأن الهم في الإنشاء الرفعَ وحده، مما يوحي بوجود المواد حاضرة بين يدي المنشئ، يتخير لها الكيفيات التي تناسبها لقيام النشء، وكأن الأمر يتعلق بمسار تعليمي ابتدائي، يروِّض المتعلم على امتلاك الآلة الكتابية من خلال التجريب، والمعاودة، والمكابدة. أما الكتابة فتتجاوز ذلك التحديد لابتغائها صفة العلم، ولمحاولتها استقطاب ما للإنشاء من معنى، ثم تزيد عليه ذلك الهم القائم وراء تحديد قوانين "الحرفة" من مبتداها إلى منتهاها، إن كان لها منتهى تقف عنده.
وإذا أخذنا في حسباننا طبيعة العصر، والذائقة المتحولة، والمقاصد المتوخاة وراء الفعل الكتابي، شككنا في المنتهى الذي سوف تقف عنده الكتابة. بل تُحتِّم علينا طبيعتها المنفتحة الإقرار بوجوب ترك باب الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه، تتجدد من جلاله قواعدها وشروطها. خاصة وأن عصر الحاسوب، والصورة، والصوت، يتهدد النمط القديم، ويقدم بين يديه أشكالا جديدة للفعل التواصلي السريع. بيد أن جوهر الكتابة يظل قائما، حتى وإن أخذت الصورة المتحركة الناطقة حيزا خطيرا في حياة الناس. إذ وراء كل صورة وصوت كتابة من نوع خاص. وقد لا يطرح هذا التصور مصير الكتابة والقراءة في مستقبل الأيام، ولا شكل الكتاب  وكيفية القراءة! ولكن فعل الكتابة سيظل في جوهره قائما على عين الشروط التي أسسته من ذي قبل، حتى وإن حملت اقتضاءات التقدم شيئا من التحوير والتلوين. لأننا ما زلنا نشهد طغيان المكتوب في الكتب، والمجلات، والصحف. وما زلنا نشهد حاجة الصورة إلى التعليق القصير والطويل. وما زلنا نرى حاجة الصوت إلى الرسم والخط.
    وعندما نقف على الكتابة عند علمائنا المتقدمين، لا نقف عليها وكأنها الفعل العادي العملي اليومي، الذي تجري به الأقلام اليوم. ولكننا نجد ما يشبه الأخلاق التي يتخلّق بها المرموقون من الناس. كأن الكتابة درجة يرقى إليها الطامحون إلى الاستواء  والاكتمال. وبهذا تخرج الكتابة عن كونها الفعل الممارس على سبيل العادة والحاجة، إلى الفعل الذي يستكمل المروءة والشهامة. فهي بذلك حلية تنضاف إلى صاحبها تزيِّنه، وتجعل له مكانة في السلم الاجتماعي،لا بمعنى "الحرفة" ولكن بمعنى الدرجة الأخلاقية التي يصبو إليها المتخلّقون في كل أطوار العمر.
وليس أدل على ذلك من وصية أب لولده في ذلك الزمان. فقد روى "ابن عبد ربه" في "عقده الفريد" أن بعض المهالبة قال لولده :» تزيوا بزي الكتاب، فإن فيهم أدب الملوك، وتواضع السوقة.« (1) وكأن الكتابة وحدها قادرة على جمع المرتبتين في نفس واحدة : فمن جهة تكسب صاحبها أدب الملوك، لأن الكاتب وحده القادر على معرفة أحوالهم، ودرجات ألسنتهم، وكيفية منادمتهم، وأساليب التحدث إليهم في أحوال الرضا والغضب. و يعرف مقاماتهم في الحل والترحال. لأنه من خلال الكتابة على اطلاع مستمر بآداب الملوك عربا وعجما، شيوخا وشبانا. فهو بمعرفته تلك يشاطرهم نصيبا متميزا من ملَكيَتهم. بل قد يحصل له من فنه ما يجعله يتخير من الصفات ما تضيق عنه نفس الواحد منهم. فقد روى "أحمد بن محمد" قال : » كنت عند يزيد بن عبد الله أخى ذبيان، وهو يملي على كاتب له، فأعجل الكاتبَ ودَارَك في الإملاء عليه، فتلجلج لسان قلم الكاتب عن تقييد إملائه، فقال له: أكتب يا حمار! فقال له الكاتب: أصلح الله الأمير، إنه لما هطلت شآبيب الكلام، وتدافعت سيوله على حرف القلم، كلّ القلم عن إدراك ما وجب عليه تقييده. فكان حضور جواب الكاتب أبلغ من بلاغة يزيد. وقال له يوما وقد مطّ حرفا في غير موضعه: ما هذا؟ قال: طغيان في القلم!« (2) وبلاغة الكاتب في هذا المقام، أرفع أدبا من بلاغة الأمير الذي رخّص لنفسه وصف الكاتب بالحمار، بيد أن ذلك لم يغير شيئا من هيئة الكاتب، وربما وجدنا في الرد المقرون ب"أصلح الله الأمير" شيئا من الاحتقار، لأن العبارة التي تلت ذلك إنما كانت من قبيل التعريض ببلاغة الأمير، وكأنه يقول له: إن الاسترسال في القول ليس وقفا عليك وحدك ! وقد كان في "مط الحرف" حسن تخلص، يعرض بالطغيان: إما طغيان الأمير وتطاوله على كاتبه، وإما حركة اليد وقد أضجرها توالي الإملاء.
    وفي موقف الكاتب ما يفسر التواضع الذي ذكره المهلبي قبلا، لأن الكاتب مهما ارتفع في مجلسه، وجالس الشريف، والأمير، يتذكر دوما أنه من عامة الناس، وأن صناعته هي التي أوجبت له ذلك المجلس، وأن تواضعه فيه، وفي غيره من المجلس، ليس خضوعا ولا خنوعا، ولا جريا وراء رزق، وإنما هو "تواضع" وحسب. وقد تزداد هذه الصورة وضوحا، إذا التفتنا إلى جانب آخر من شخصية الكاتب. وعلمنا أن الكتابة لم تكن "حرفة" وإنما كانت سلوكا وأخلاقا قبل أن تكون خطا بالقلم. وكأن الكتابة لا ترضى أن تكون ذلك الفعل البسيط الآلي، بل تسعى إلى أن تُلبس صاحبها ثوبا يكسوه من أمّ رأسه إلى أخمص قدميه. إنها إسباغ لا يتناول المخبر وحده، بل يتعداه إلى المظهر، فيكون الكاتب كاتبا بجملته: داخليا وخارجيا. وكأن الكتابة شارة ونصبة، يتميز صاحبها عن غيره من الناس : ملوكا وعامة. فقد قال"إبراهيم بن محمد الكاتب" :» من كمال آل الكتابة أن يكون الكاتب نقي الملبس، نظيف المجلس، ظاهر المروءة، عطر الرائحة، دقيق الذهن، صادق الحس، حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الإشارة، مليح العبارة، لطيف المسالك، مستقر التركيب.« (3) فإذا كانت الكتابة أخلاقا وتهذيبا، فإنها تتجاوز هذا الشرط إلى المظهر تتفقد الملبس، لتجعله نقيا عطرا، يختلف عن لباس العامة من أهل الحِرَف. فشرف الكتابة يقتضي الزي الذي يعطيها حقها في الدرجة والمكانة، ويجعل الكاتب "هيئة" متميزة بين الناس، يتفرد بالثوب، والرائحة الزكية. ففيه وبه تعتمل الأفكار الرشيقة اللطيفة، وتخرج في ثوب من اللفظ يشاكل الثوب الذي يرتديه مديرها. وكأن نقاء هذه من ذاك، وعطر هذا من تلك، ينبئ المظهر منه عن المخبر منها.
    وقد نجد في الأوصاف الأخرى ما يخول لنا قراءة معانيها الحافة التي يمكن نقل ظاهرها إلى ما يستفاد منها دلالة. ف "نظافة المجلس" لا تنصرف فقط إلى النظافة الحسية وحسب، بل نقرأ فيها أخلاق البطانة التي يجالسها الكاتب، والمواقف التي يقفها في معاشه اليومي، إذ الكاتب غير النديم الذي يبتذل أخلاقه من أجل إرضاء نزوات الأمير الليلية، فيدوس الأخلاق من أجل اللطافة التي خُصَّ بها الندمان . بل الكاتب موقوف على تسجيل شوارد الفكر، وجواهر الخاطر، وليس يشين موقفه ذاك سوى المجلس الرديء، والرفيق السوء. ذلك ما جعل "إبراهيم الكاتب" يعطف على عبارته الأولى، عبارة "ظاهر المروءة" وكأنها شرط المجلس النظيف وعمدته.
    ومما نعجب له حقا أن يمتد الوصف إلى صفات ليس للكاتب فيها حيلة، ولا يملك لها دفعا، لأنها صفات فيه خلقةً. يقول "إبراهيم الكاتب" :» .. ولا يكون مع ذلك فضفاض الجثة، متفاوت الأجزاء، طويل اللحية، عظيم الهامة. فإنهم زعموا أن هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذكاء والفطنة. وأنشد سعيد بن حميد في إبراهيم بن العباس:
رأيت لهازم الكتـاب خـفت = و لهزمتاك  شأنهما الفدامــه
و كتاب الملوك  لهـم  بيـان= كمثل الدر قد رصفوا  نظامه
وأنت إذا نـطقت كأن  بعيرا = يلوك  بما  يفوه  به  لجامــه.      « (4)
    فإذا كان الملوك يتخيرون من الناس أناسا يروق منظرهم لمجالسهم، فذلك أمر قد نجد له ما يبرره في أبهتهم، ولكنه لا يجوز لنا أن نقصر شرف الكتابة على من رزق مثل هذه الصفات وحده، وأن نجعلها وقفا عليه، ونحرم منها البقية الباقية ممن لم يكن له حظ الوسامة! ولكن شروط المتقدمين تجعل مثل هذا الشرط إضافة في شرف الكتابة ومكانتها. ألم يجعلها بعضهم أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة ؟ فقد قال "المؤيد"  : ».. والكتابة أشرف مراتب الدنيا بعد الخلافة، وهي صناعة تحتاج إلى آلات كثيرة.«(5) وقال "سهل بن هارون" :» الكتابة أول زينة الدنيا، وإليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة.« (6) وكأني باستقامة الخلقة، وتجانسها، كمال يلحق الكتابة قبل أن يلحق صاحبها. والوجه الحسن أدعى إلى تمثيل أمارات الفطنة والذكاء، من الوجه الأربد، المتغضن، العبوس. وكثيرا ما يكون الوجه الحسن رسول صاحبه، يقضي حوائجه قبل أي جارحة أخرى.
    وفي قول "إبراهيم الكاتب"  سمة أخرى، حين جعل للكتبة عشيرة تختص بها، ويكتمل لهم الشرف بها، حين قال:»من كمال آل الكتابة.« (7) وكأنهم طبقة خاصة من الناس، يتميزون عن غيرهم بالصفات المذكورة ظاهرا وباطنا. فآل الكتابة موصوفون بدقة الذهن، وصدق الحس، وحسن البيان، ورقة الحواشي، وحلو الإشارة، ومليح العبارة، ولطف المسالك، ومستقر التركيب.. وإذا أنت بحثت عن هذه الخلال في الناس لما وجدت لها من تمثيل إلاّ عند آحاد منهم، وكأن الكتابة تتخير منهم ما يوافق نهجها، و يأتلف مع مسلكها، فهي تأبى أن تكون أداة في يد الغلف منهم، الفظ الغليظ، البليد العيي.
    أما إذا راقبنا أحوال الكتاب اليوم، بدا البون شاسعا بين هذه الصورة الزاهية، الجميلة، وما نصادفه عند الكتاب شرقا وغربا من سوء المظهر والمخبر: من شعث في الصورة، ونكد في السريرة. وكأن الكاتب اليوم وهو يهمل الهندام والقسمات، يهمل من طرف خفي الأخلاق والسلوك. بل أضحت الخمرة، والمخذر عونا على الإبداع، وأي إبداع ! الإبداع الذي يسل سخيمة صدر معلول، وقلب مشحون بالضغناء والحقد على النفس والناس. وما التلفّع بالغموض، والإيغال في متاهات الأحاسيس الشاذة، وورود مكارع المجون والخلاعة، إلاّ من إملاء المظهر والمخبر. حتى غدا إتراع الكتاب بالفسوق والمجون عنوانا على الشأو البعيد في الإبداع. وقد ترفّع الأقدمون عن إيراد لفظ – في مكاتباتهم – سبق وأن شاع في الاستعمال بما يرفضه العرف، وتأباه الأخلاق . فما بالك  ببسط عورات الناس، وفضح سرائر ربّات الخدور!
    وقد امتد الاعتداد بالمظاهر الحسنة من الهيئة العامة للكاتب، إلى هيئة المكتوب ذاته. فقد روى "إبراهيم الشيباني" في شأن الخط قولا أحسبه عنوان فن جليل يلحق الكتابة، فيضفي عليها من رونقه هالة من الفخامة و الشرف ما يجعلها بحق "أشرف مراتب الدنيا". فهو في حديثه عما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه، يؤكد على :» حسن الخط، الذي هو لسان اليد، وبهجة الضمير، وسفير العقل، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، وأنس الإخوان عند الفرقة، ومحادثهم على بعد المسافة، ومستودع السر، وديوان الأمور«(7).وكأن ما يشمل الذات الكاتبة من محاسن لابد له أن يؤول في نهاية المطاف إلى المكتوب، تحمل منه الكتابة الحظ الذي يعطيها المظهر الحسن، حتى يتجانس المظهر والمخبر في حلة قشيبة واحدة رائقة. وكأن الطهر آية في كل ما يتصل بالكتبة من قريب أو بعيد. بل تراه لا يقنع بما قدم من أوصاف استوفت حظ الخط،ويذهب يسائل أهل "الصناعة" عنه مستزيدا، وكأنه يجد في ما قدم تقصيرا، وإقلالا. فيضيف قائلا: » ولست أجد لحسن الخط حدا أقف عليه أكثر من قول "علي بن برن النصراني" فإني سألته، واستوصفته الخط، فقال: أعلمك الخط في كلمة واحدة. فقلت له: تفضل بذلك. فقال: لا تكتب حرفا حتى تستفرغ  مجهودك في كتابة الحرف، وتجعل من نفسك أنك لا تكتب غيره، حتى تعجز عنه. ثم تنتقل إلى ما بعده.. واعلم أن محل القلم كمحل الرمح من الفارس.«  (8) وليس بعد هذا الحرص من حرص على سلامة الخط وجودته. وكأن المكتوب إذا استوفى حسن الخط كان بحق خير لسان، وأبين جنان، يسر الخاطر إذا تملاّه، يقدم له مادة الكتابة بيّنة جلية، لا يشوشها خلط، ولا تشطيب. تقفز كلماتها إلى العين سافرة من غير إمعان نظر، ولا تطويل تحديق. فهي تلامس العين ملامسة الشيء الجميل، لا رهق فيها ولا عنت. بل تدعو إلى الاستزادة في القراءة. ولذلك كان الخط سفيرا للعقل، ووحيا للفكرة، وأنسا عند الفرقة. وكأنه يستحضر صورة صاحبه، زيا وعطرا، ليملأ بها حضرة القارئ، فيسمع من مكاتبه مناجاته وإسراره. وقد رأينا اليوم من كتابتُهُ – مع علو درجته العلمية – وكأنها عراك مع الحرف، قبل أن تكون عراكا مع الفكرة. فإذا بوجه الورقة ميدانا يكشف عن إرهاق وشقاق، ينبئ فيها "طغيان القلم" عن طغيان الثورات التي تجتاح النفس أثناء الكتابة، يلقي بها صاحبها جانبا غير راض، يأكله الامتعاض، وتذهب به الحيرة مذاهبها، فإن هو عاد ثانية يقرأ ما كتب حذف أكثره. يغير هنا كلمة، ويشطب على أخرى. أو يمزق الورقة ليعيد الكرة، وقد علت النفس سحابة من التكدّر والضّجر، فينقلب سحر ما أراده أولا إبداعا، إلى شيء نُكُر، لا يحمل رسالة "الكتابة" بقدر ما يحمل عذابات الروح وهي تضطرب في قفص الجسد المحموم. 
هوامش:
1-ابن عبد ربه. العقد الفريد. ج4.ص:171.
2-م.س.ص:174.
3-م.س.ص:171.
4-م.س.ص:172.
5-م.س.ص:179.
6-م.س.ص:179.
7-م.س.ص:179.
8-م.س.ص:179.

تعليقات (1)

This comment was minimized by the moderator on the site

لم أقرأ مقالة في وصف الإنشاء والكتابة أبلغ وأبين وأحسن من هذه.

عبد الكريم الراجي
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة