كتاب:"الرواية المغربية الجديدة: دراسات في أعمال فريد الأنصاري الروائية"، مجموعة من الدراسات قدمها باحثون من منطلقات نقدية شتى، حول الأعمال السردية للأديب الراحل العلامة فريد الأنصاري رحمه الله، في ندوة وطنية احتضنتها مؤسسة المهدي بنعبود بمدينة الدار البيضاء خلال شهر أبريل من سنة 2014.
والراحل فريد الأنصاري ـ لمن لا يعرفه ـ شخصية متعددة الوسائط والقنوات الفنية. فهو شاعر كبير وفنان تشكيلي، وصاحب قبسات فنية تتوهج شعرا، فيما كتبه من كتابات نثرية في مجال الدعوة، وهو باحث أكاديمي، وأصولي فريد، كما قال عنه أحد أساتذته المميزين.
ولكن الذي خفي على كثير من المعجبين بالمرحوم فريد الأنصاري، ويخفى على كثير من محبيه، هو أن الأنصاري، روائي كبير ـ ليس بمعيار الكم، وإنما بمعيار النوع والكيف.
لقد خلف صاحب " قناديل الصلاة " ثلاثة أعمال سردية هي: "كشف المحجوب" و"آخر الفرسان" و "عودة الفرسان". وقد سجلت كل من "آخر الفرسان" و "عودة الفرسان " رقما قياسيا في المقروئية، إذ صنفتهما مكتبة الألفية الثالثة بالرباط، ضمن الكتب الأكثر مبيعا خلال سنة 2014، كما قرأت هذا بنفسي في لوحة من اللوحات الإشهارية داخل هذه المكتبة، لما زرتها خلال نهاية ربيع السنة المذكورة، كما قال محمد المتقن منسق ومقدم الكتاب.
إن الميسم الذي يسم أعمال الأنصاري الروائية، وخاصة روايتيه الآنفتي الذكر، هو أننا إذا قلنا إنهما روايتان عظيمتان، ثريتان بالجمال ثراء يفوق ثراء المحيطات، فهذا قليل في حقهما. ومن هنا جاءت وجهات النظر المتناولة لأعمال الأنصاري الروائية في هذا الكتاب، متنوعة ثرية باختلافها في الاعتراف بالفرادة، حتى وهي تتناول العمل الواحد. وهنا أذكر الدراسات التي تعرضت لرواية كشف المحجوب، في هذا الكتاب، على سبيل التمثيل لا الحصر!
سعت الدراسات التي نقدمها للقارئ في هذا العمل، إلى بناء خطاب نقدي يتجاوز اللامعرفة بالأعمال السردية المغربية. خطاب يتجاوز القراءة الانطباعية، التي سرعان ما تذوي كالوردة؛ والتمكين لخطاب معرفي يتسلح بالمنجز في النقد الروائي المتكئ على بلاغة الخطاب وعلم النص وإنجازات الشعرية.
إنها دراسات قليلة من حيث الكم، لكنها تبقى من حيث المقاربة على درجة كبيرة من العمق. فبينما أضاء الدكتور محمد الحسوني في دراسته "تاريخ العثمانيين من خلال الرواية" وركز على الظروف والأحداث التاريخية لتركيا في العصر الحديث؛ وكشف كثيرا من الملابسات التي أحاطت بحياة بديع الزمان سعيد النورسي، بطل رواية "آخر الفرسان"؛ والعناصر المؤثرة الفاعلة في مؤامرة إسقاط الخلافة العثمانية. بينما سلك الدكتور الحسوني هذا المسلك، سعى الصديق الدكتور سلام ادريسو إلى الكشف عن العلاقة بين وجه طيريزا/ ميلان كونديرا، والهجويري/ الأنصاري. والتقاطع القائم بين ثقافتين وحضارتين ونقطة الالتقاء بينهما، وتشريح اصطلاح كل من الراوي والسارد. أما الباحثان سعيد الشقروني ومحمد بنينر، فقد وفقا في إمتاعنا وإغرائنا بضرورة الرحلة المتكررة في العالم الروائي لفريد الأنصاري.
لا أود أن أطيل في هذا التقديم، فأفوت على القارئ الكريم، فرصة الاستمتاع بهذه الدراسات، كما استمتعت أنا بها. بقي شيء آخر لا بد من إضافته، وأنا بصدد التقديم لهذا المنجز، هو أن هذه الدراسات، تتعاقد مع القارئ المعجب بالمرحوم فريد الأنصاري، أصوليا وشاعرا كبيرا؛ تتعاقد معه على الإعجاب بهذا العلم الفريد، باعتباره روائيا كبيرا كذلك. داعية هذا القارئ إلى اطراح هذا الإعجاب الفج وراء ظهره، والتمتع بالإعجاب المؤسس على الرأي المسدد بالحجة والخبرة والمراس، فإذا به إعجاب يأخذ بالعقول والقلوب معا.
إن هذه الدراسات، وهي تؤكد الاختلاف في الرؤى، تؤكد في الآن نفسه، أن الحقيقة واحدة، لكن أوجهها متعددة بتعدد زوايا النظر.
أخيرا أود أن أقول، إن أصل هذا الكتاب فكرة، قبل أن يكون دراسات قدمت في ندوة. فكرة تقول بفضيلة الاعتراف. فكرة تضع لبنة إلى جوار لبنات أخرى في ثقافة الاعتراف، التي ما زالت في أدبنا المغربي جنينية. وكم هي جميلة هذه الثقافة ونبيلة، لو ترسخت في تربتنا الثقافية وأينعت..!هذا ما يريد أن يقوله هذا العمل وقد تجسدت فيه هذه الفكرة النبيلة، وهذا ما قاله بالفعل الناقد محمد المتقن في تقديمه للكتاب.
ليعذرني القارئ الألمعي، إن كنت أطلت عليه في هذا التقديم، فأنا أعول على حصافته في عذري، فالمقام والسياق سلطانان. فما قصدت إلا التعبير عن دعوتي له، إلى الاستمتاع بهذه الدراسات، لأصدقاء البحث والصبر على مشاق التنقيب، مثلما استمتعت بها قبله، استمتاعي بأعمال فريد الأنصاري السردية، قراءة وتأملا وتأويلا. وها أنذا أدعوه إلى الإبحار في عوالم هذا الشهاب الذي لمع في دنيانا فجأة ثم غاب. وليطمئن القارئ الكريم، فلن تكون هذه الرحلة إلا شيقة مليئة بالمفاجآت السارة، الممتعة، المؤنسة. وسل أيها القارئ اللبيب عمن آنسوا قبلك نارا، هل عادوا من رحلتهم خائبين؟