اتسم البحث العربي منذ نشأته الأولى بالنزوع إلى المعنى أو الدلالة، لذلك حرص العرب منذ القدم على تحصيل مراد الشاعر برصد معاني النصوص، والعناية ببسطها وتوضيحها. فشرح المعنى وإبرازه وإظهاره يعكس بوضوح التذوق السليم والطيب، والرؤية العميقة المتأنية لفهم المعاني المطوية والمقاصد الخفية، وإبراز ما يختزله النص من دلالات وإشارات، عن طريق تحليل الأقوال للوصول إلى المتعة الأدبية واللذة الفنية التي تسكن النص المشروح.
وقد انطلق الشراح في شرحهم للنصوص الشعرية، من مجموعة من العناصر والمستويات التى اتخذوها وسائل لخدمة وشرح المعنى العام للنصوص. وكان اهتمام البطليوسي بهذا العنصر بالغا، حيث اهتم به وأولاه عناية خاصة. وبما أن تعدد الدلالة في النص الشعري، كان من مشاغل الشراح واهتماماتهم، فقد كانت هذه القضية من أوليات اهتمامات البطليوسي كذلك، حيث عمل جاهدا على تحديدها وتقليب المعنى في الوجوه المتعددة التي يحتملها البيت، مع محاولة اختيار المعنى المناسب، وفي أحيان أخرى اعتماد المقارنة والترجيح بينها، وقد نحا البطليوسي في البحث عن ذلك عدة مناحي، كتأخير المعنى الكلي وتقديم معاني الألفاظ، والبحث عن عناصر الشرح الأخرى، أو تقديم المعنى الكلي على أي عنصر من عناصر الشرح؛ كل ذلك أجراه في خطوات منضبطة هي:
1
- الإجمال مع التقديم
من الطرق التي اعتمد عليها البطليوسي في شرح البيت الشعري وتتبع معناه، تقديمه للمعنى العام للبيت قبل مباشرة أي عنصر من عناصر الشرح أو تحليله، حيث وجدناه في مرات كثيرة يعرض عن إدراج أي عنصر من هذه العناصر، ويفضل مباشرة البحث في المعنى العام وتقديمه للقارئ، ومن الأمثلة الواضحة في باب تتبع المعنى عند ابن السيد، وتقديمه على باقي عناصر الشرح الأخرى قوله بعد هذا البيت:
فالعراقي بعده للحجازي قليل الخلاف سهل القياد
قال: "أراد أن هذا المرثي كان يحتج للعراقيين على الحجازيين، فلما مات لم يبق من يحتج له، فصار العراقي قليل المخالفة للحجازي، منقاداً له ضعفا عن نصر مذهبه والقيام بحجته".[i]
بناء على هذا الشاهد يمكن القول إن وضوح البيت وجلاء معناه، أغنت الشارح عن تقديم أي عنصر من العناصر التي من شأنها أن تضيء دلالة النص، وتكشف عن خباياه.
ومن صور ذلك أيضا قوله في شرح بيت أبي العلاء:
فيا أخا المفقود في خمسة كالشهب ما سلاَّك عن فقده
قال : "يا أخا المفقود مالك تتوجع لفقده وفي بقاء هؤلاء الخمسة من إخوته ما يسليك عنه، وفيهم لك العوض منه. ومن خلَّف مثلهم بعده، فقد أمن أن يُذهب الدهر مجده"[ii].
هذه النماذج من الصور التي عمد فيها الشارح إلى تقديم المعنى الإجمالي للبيت دون ذكر عنصر من عناصر الشرح من معجم ونحو وبلاغة...وهي نماذج كثيرة في شرح البطليوسي. هذه العناصر التي غيبها الشارح نجده يستحضرها في مناسبات ومواضع أخرى بعد تقديمه للمعنى العام للبيت. نحو قوله في بيت السقط:
فعامل كسرى على قرية من الطف سيدها المنذر
"قال : " إن كسرى استعمل المنذر بن ماء السماء على بعض أعماله، ورآه أهلا للرياسة، وفي ذلك تفخر اليمن. والطف: ما دنا من أرض العراق. ويقال: كسرى بفتح الكاف وكسرها "[iii].
ومثله أيضا في قول أبي العلاء:
ورسول أحلام إليك بعثته فأتى على يأس بنجح المطلب
يقول: " لما لم أجد وسيلة إلى مراسلتك في اليقظة لكثرة الرقباء والوشاة، راسلتك في الخيال في النوم، فنلت منك الذي أردت، وهو نحو من قول قيس بن الخطيم:
ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه في النوم غير مصرَّد محسوب
وقال محمد بن هانئ:
عيناك أم مغناك موعدنا وفي وادي الكرى ألقاك أم واديك"[iv]
فقد حاول البطليوسي أن يقدم بعد المعنى الإجمالي بعض عناصر الشرح، وكأنه يقدم للقارئ قرائن ودلائل لذلك الاختيار وذلك المعنى الذي توصل إليه، ويهدف من خلال ذلك حمل القارئ على التصديق والإقناع بمدلول الخطاب والتسليم به والركون إليه، خصوصا بعد أن سعى إلى إثبات الرأي بالدليل والشاهد.
2-الأجمال مع التأخير
لعل السمة المنهجية التي تميز بها البطليوسي في أحيان كثيرة في شرحه أنه كان يؤخر المعنى الإجمالي حتى يعرض لكل عناصر الشرح التي من شأنها أن تخدم المعنى، وتمهد له الطريق، "وقد كاد جميع شراح الشعر العربي القدماء أن يتفقوا على منهج محدد يسلكونه في شروحهم، إذ ينطلقون من شرح الألفاظ الغريبة، والعبارات المشكلة، ثم يلجون بعد ذلك إلى شرح المعنى الكلي للنص، وهو منهج تصاعدي، يبدأ بتفسير الجزئيات، إلى أن يصل إلى الكليات مستعينا مع هذا بعناصر الشرح الأخرى من بلاغة، ونقد وتاريخ، مدعما لذلك كله بالشواهد والمؤيدات العلمية"[v].
والنماذج من ذلك كثيرة أيضا نقدم منها قوله في شرح البيتين:
فيا دارها بالحَزن إن مزارها قريب، ولكن دون ذلك أهوال
إذا نجن أهللنا بــنؤيـك ساءنا فهلا بوجـه الـمـالكـيـة إهـلال
قال: "الحزن والحزم: ما ارتفع من الأرض وغلظ. والمزار: الزيارة، ويكون المزار: الموضع الذي يزار فيه، وهو المراد ها هنا، والأهوال: المخاوف: والإهلال: أن يرفع الرجل صوته بذكر الله تعالى عند رؤية شيء يحدث له. النؤى: حاجز يمنع الماء أن يدخل الخباء، فربما كان حفيرا، وربما كان شيئا شاخصا عن الأرض. يقول: إذا رأينا نؤيك وأهللنا به، عز علينا أن لا نرى فيه وجهك فنهل به"[vi].
إن توقف الشارح أمام الألفاظ وشرح دلالتها البعيدة والقريبة، وما توحي به تلك الألفاظ من معاني ومقاصد، تجعل القارئ يؤمن بأن العناية بشرح الألفاظ المفردة، تعتبر المدخل الأساسي والنواة المساعدة التي تقود الباحث لرصد معاني الأبيات، ومعرفة دلالاتها.
وإذا حاولنا أن ننتقل إلى مستوى آخر من جهود البطليوسي في دراسة معاني الأبيات بشكل أوفى، فإننا نجده أحيانا يعمد إلى إدراج المعنى العام للبيت بين عناصر الشرح الأخرى.
ومن أمثلة ذلك قوله في شرح البيت:
بالجفن بارزت القلوب وإنما بالنصل يبرز كل شهم محرب
قال: "الشهم: الحديد القلب، والمحرب: القوي على ممارسة الحروب، يقول: أنتِ أشجع من أنجاد الرجال وشجعانها، لأنهم يبارزون أقرناهم بالسيوف، وأنت تبارزينهم بأجفانك. والشعراء يشبهون عيون الأجنبة بالسيوف، وأجفانها بأجفان السيوف"[vii]
ومن صور ذلك قوله في شرح البيت التالي:
إذا أعزب الرعيان عنها سوامها أريح عليها الليل هيق وذبال
قال: " الإعزاب: إبعاد الماشية عن البيوت وطلب المرعى بها، والسوام: المال المرسل في المرعى. وأُريحَ: رُد بالعشي. الهَيق: الذكر من النعام. الذيال: الثور الطويل الذيل. يقول: إذا عزبت عنها الإبل، فلم يكن معها ما ينحر لها صيد لها بقر الوحش والنعام، فهي أبداً في خصب من عيشها، وإنما قال هذا لأن القوم إذا عزبت عنهم إبلهم كانوا في شظف من عيشهم حتى تعود إليهم، ألا ترى إلى قول حجية بن المضرب:
فقلت لعبدينا أريحا عليهم سأجعل بيتي مثل آخر مُعزب
فذكر أن هذه المرأة لا تبالي بعزوب إبلها عنها، لكثرة ما تؤتي به من صيد. وفي قوله: "إذا أعزب الرعيان عنها سواهما" وصف لأهلها بأنهم أعزة، فإبلهم تذهب حيت شاءت ولا تمنع من ماء ولا مرعى، وليسوا كالأذلاء الذين لا تبعد إبلهم عنهم خشية الإغارة عليها"[viii].
من خلال هذه النماذج يبدو اختلاف التناول والبعد عن أحادية المنهج عند البطليوسي ـ أثناء تقديمه المعنى ـ ويتجلى هذا البعد في محاولته توجيه فهم القارئ إلى المعنى، وتقييده بعناصر الشرح والتفسير خصوصا بعد توجيه الشواهد إلى المعنى الذي يحاول أن يذهب إليه في شرحه.
وإلى جانب ذلك، حاول في عملية البحث عن المعنى أن يقدم كل المعاني أو القراءات التي يمكن أن يحتملها أو ينتجها البيت الشعري وسعى وراء تخريج ما أمكن منها من الوجوه المحتملة، والتي من شأنها أن تزيد في معنى البيت، فكل زيادة في المبنى زيادة في المعنى، وهذا ما يؤكد قدرات الشارح على إدراك نفس المعاني والجمع بينهما. ويمكن أن نسوق في هذا الباب بعض الأمثلة التي تدل على تقليب المعنى على وجوهه المتعددة من مثل شرحه للبيت:
وكنت لأجل السن شمس عذبة ولكنها للبين شمس أصيل
قال ابن السيد في معنى البيت: "يقول: كنت من أجل صغر سنك، كالشمس أول طلوعها، فصرت يوم البين، كالشمس عند غروبها، شبه دخولها في الخضر لغروب الشمس... "[ix] هذا مستخلص ما قرره البطليوسي من معنى البيت المذكور، لكنه ورغبة في استكناه مرامي الناظم البعيدة ومقاصده القصية، يقدم مجموعة من الاحتمالات والافتراضات الأخرى منها قوله: "وقد يحتمل أن يريد أنها اصفرت يوم الفراق كما تصفر الشمس عند الأصيل"[x]
ويحمل هذا النوع من الشرح سمة التعدد الدلالي ، مما يؤدي بالقارئ أحيانا إلى نوع من الحيرة والتردد في اختيار السياق المناسب، مما يدل على أن البطليوسي كان على وعي بأن البيت الشعري يجب أن لا يحمل على معنى واحد، وقد جنح الشارح إلى ذلك، ربما ليقدم للقارئ فرصة لتحكيم خبرته، وقدراته المعرفية والفنية للمشاركة في اختيار المعنى المناسب، وربما لعجز الشارح نفسه عن تحليل المعنى المراد.
لكننا في أحيان كثيرة نجد البطليوسي، يخرج القارئ من هذه المتاهة، حيث يعمد إلى الترجيح والمقارنة بين كل المعاني التي يقدمها، وهذا يدلنا على مقدار جهود الرجال في تقليب البيت على وجوهه المتعددة ثم بسط أقرب هذه المعاني إلى الفهم انطلاقا من تحيكم مجموعة من المقومات لعل أهمها اعتمادها على ملكة الذوق الفني، التي يرتكز فيها ذلك على بعض الضوابط والأصول في حمل أو ترجيح معنى معين على آخر.
ومن هذا القبيل ما قاله البطليوسي عن البيت:
فإن يك ما بعثت به قليلا فلي حال أقل من القليل
قال: "يجوز أن يريد أقل من القليل الذي بعث به إليك، ويجوز أن يريد أقل مما يقع عليه اسم القليل، والأول أجود، لأن الشيء الكثير قد يقال فيه أنه قليلا بإضافته إلى ما هو أكثر منهن لأن القليل والكثير من باب الإضافة".
أكيد أن هذا الترجيح الذي خلص إليه البطليوسي، قد أعطى بعدا آخرا للشرح، بعدما كان اختيار المعنى المناسب من بين الاحتمالات المذكورة صعبا من لدن بعض القراء. ومن جهة أخرى، نجد الشارح أحيانا يقدم للقارئ معنيين: معنى أول ظاهر، وآخر مجاز عميق، فالأول مقدم للقارئ العادي الذي خبرته في ذلك بسيطة، والثاني مبسوط إلى الناقد الذي لا يكتفي بالشعور بالمتعة الجمالية كي يقر بجمالية النص الشعري، أو بإصابة المعنى، فكان لابد للشارح من أن يستعين بثقافته اللغوية والنقدية.... ليقدم له المعنى، نحو ما نقرأ في شرحه للبيت التالي:
أتعلم ذات القرط والشنف أنني يشنفني بالزار أغلب رئبال.
قال: " القرط: ما علق في شحمة الأذن. والشنف: ما علق في طرفها. الزار أو الزئير: صوت الأسد.والأغلب: الغليظ العنق.الرئبال: الكثير اللحم. أتعلم ذات القرط والشنف أنه لا يشنفي أذني إلا زئير الأسد، فما أبعد حالي من حالها" هذا هو المعنى البسيط الذي يلمح إليه الشاعر في بيته، لكن ابن السيد يتعمق في الدلالة أكثر ليصل إلى معنى آخر كشف عن محتواه الفكري مكاشفة أبانت عن حسن ذوقه ونباهة حسه وبراعته في توجيه المعنى حيث قال:" وإنما يريد أنه يألف الفلوات، فلا يزال يسمع زئير الأسد، فزئيرها ملائم لأذنه كملازمة الشنف"[xi].
وتجدر الإشارة إلى أن البطليوسي وهو يرصد معاني الأبيات، ينطلق من مجموعة من المستويات المعجمية، والنحوية والبلاغية، هذه المستويات تتضافر مع بعضها، وتتداخل فيما بينها، للوصول إلى المعنى الكلي للبيت لهذا المعنى، وفي أحيان أخرى نجده معنى جزئيا، حيث يرتبط بالتركيز على مستوى واحد فقط.
3 – الربط بين معاني الأبيات
ومن الظواهر المنهجية التي تطرد بشكل كبير في شرح البطليوسي شرح البيت في السياق البيت الذي قبله، في محاولة لإثبات الوحدة الموضوعية في قصائد المعري. فبعض الأبيات تتكامل فيما بينها وترتبط بغيرها، ويساعد حسن الشارح ونباهته وقدرته على تمثل المعنى وتحصيله، في الربط بين الأبيات وتقريب المسافات بينها إما بربط المعنى بالبيت الذي يليه أو بالذي تقدم عليه إن وجدت هناك صلة حميمة بين الأفكار والمعاني.
ومن أمثلة ذلك قوله في شرح بيت أبي العلاء:
كأن ثقيلا أولا تزدهى به ضمائر قوم في الخطوب تقال
"يقال: ازدهاه الشيء: يزدهيه، إذا استخفه، وحركه، وإنما قال هذا تتميما للبيت الذي قبله"[xii].
ويمكن أن نضيف إلى ذلك نموذج آخر يبحث من خلاله عن هذه الوحدة الموضوعية التي تتجلى في قصائد السقط، حيث يقول الشارح عقب البيت:
ترى العود منها باكية فكأنه فصيل حماه الخلف رب عيال
قال: "هذا البيت متمم للبيت الذي قبله"[xiii]
أما في أكثر الحالات، فإننا نجده يشرح البيت منعزلا عن أخيه، لكن قراءته وتأويله في ذلك لا يقلان أهمية عن المعاني التي يتوصل إليها، وهو يربط معنى البيت بالذي قبله، كأن بعض الأبيات تستقل في معانيها عن التي قبلها أو بعدها.
فعلى هذا الأساس، وبهذا المنهج رصد البطليوسي معاني الأبيات، وقدمها للقارئ بأكثر من طريقة. ولاشك أن في هذه التخريجات والتوجيهات والقراءات الصائبة لمعاني الأبيات، تدل على الوعي المنهجي الذي كان ينطلق منه البطليوسي في تفسيره وشرحه، وهو أن بعض الأبيات لا يجب أن تحتمل دلالة ألفاظها ومعانيها في كل الأحوال دلالة واحدة.
[i] - شروح سقط الزند للتبريزي والخوارزمي والبطليوسي: تح: مصطفى السقا، عبد الرحيم محمود، عبد السلام هارون، إبراهيم الإبياري ، حامد عبد المجيد، الدار القومية للطباعة والنشر القاهرة . ج: 3 ص: 987
[ii] - نفسه ص: 1026
[iii] - نفسه ص: 1088
[iv] - نفسه ص: 1131
[v] - شروح الشعر في كتب الأماني: قراءة في الموضوع والمنهج للدكتور الغواسلي المراكشي: رسالة لنيل دكتوراه الدولة تحت إشراف الدكتور عبد المالك الشامي سنة: 2001- 2002. ص: 138.
[vi] - شروح سقط الزند: ج:3 ص:1228 – 1229
[vii] - نفسه ص: 1128 – 1229
[viii] - نفسه ص: 1231
[ix] - نفسه ص: 1149
[x] - نفسه ص : 1149
[xi] - نفسه ص: 1228
[xii] - نفسه ص: 1149
[xiii] - نفسه ص : 1178