تتنوع مظاهر الحضور المكاني في السرد المغربي المعاصر، حيث نتنقل ما بين المدن والبوادي ،المنافي والسجون والأضرحة،الشوارع و الاقامات،الشقق والفصول الدراسية، المصانع والمحاكم ،الحقول و المزارع.. بل إننا نسافر مع الشخصيات عبر الحافلات والقطارات لنعايش وإياها التجربة في أحياز داخل أ وخارج الوطن، و قد نقتحم عليها أماكنها الحميمية كما هو الشأن مع "الدار الكبيرة" أو البيت الكبير (بيت العائلة) :
انها عبارة عن فضاء كبير يتسع للعائلة الممتدة ،المشكلة من الأصول والفروع ،بل يسع أحيانا المطلقات والأرامل والمحتاجين من الأقارب ،مما يجعله تنظيما خاضعا لقواعد وأعراف وتراتبية، وقيادة فعلية أو رمزية ،تسند في غالب الأحيان إلى الشخصيات الكاريزمية القادرة على تدبير الاختلاف وإدارة الشؤون غالبا لسنها أو لهيبتها وخبرتها.
وقد تألقت الدار الكبيرة في الكثير من الكتابات السردية مما يحفز على فتح كوة نطل منها على هذا العالم الحافل بالحيوات والأسرار:
من الأعمال السردية التي تطرقت للمجتمع المغربي التقليدي خاصة بفاس (دفننا الماضي لعبد الكريم غلاب 1966+في الطفولة لعبد المجيد بنجلون1957+لعبة النسيان لمحمد برادة1987)وبمراكش رواية"قلاع الصمت" لحليمة زين العابدين2006...)على سبيل المثال .وقد انعكست في هذه الأعمال التفاصيل اليومية للعائلة المغربية في "الدار الكبيرة" بتقاليدها وأعرافها، في حالات السراء والضراء،طبيعة العلاقات بين المنضوين تحت لوائها، والخاضعين لقانونها العام المتوافق عليه، والذي لا يعترف بفردانية الشخص وخصوصيته ،ويغرق فيه الفرد وسط الجماعة حتى لو شعر وسط الزحمة بالوحدة والغربة رغم كثرة الأفراد من أصحاب البيت والخدم والحشم..وإذا كان البعد الاجتماعي التاريخي بارزا هنا فانه أحيانا يغتني بالبعد الترميزي كما في" لعبة النسيان" لمحمد برادة ، وهي رواية استرجاع للأزمنة الضائعة من خلال المكان والفضاءات ..(أ لم يكن مارسيل بروست يبحث عن الزمن الضائع في تفاصيل الأمكنة والأشياء؟) لاحظ الدارسون الحضور الرمزي الكثيف للام –وهي مركز "الدار الكبيرة" وبؤرة الضوء فيها-وتوقفوا عند العلاقة الوثيقة بين" الدار الكبيرة "والأم والتي تصل حد التماهي،يؤكد ذلك ماتشيعه "لالا الغالية "على البيت وسكانه من دفء و بهجة وحيوية.
ولأنها رمز القيم الأصيلة بجمع الشمل وصلة الرحم ، ستظل حاضرة طول الرواية عبر الكثير من الإشارات الأمومية. تغيرت فاس وانتقل الناس من "الدار الكبيرة "إلى الفيلات وتبدلت القيم على مختلف المستويات، لذلك يتم الاحتماء بقيم الأمومة/الدار الكبيرة /فاس، التي كانت تشكل ترياقا ضد التفسخ والزيف والمظاهر البراقة.
-2-تحضر "الدار الكبيرة" أيضا في الأعمال السردية لفاطمة المرنيسي التي تسترجع الحياة اليومية للمجتمع المغربي الفائي في أربعينات القرن العشرين حيث عاشت الطفلة فاطمة ، في بيت كبير مع كثير من الأفراد، وفق عادات وتقاليد جعلت الحركة مقيدة بالنسبة للعنصر النسوي خاضعة للأوامر تابعة لإذن الذكور /الحارس-الجد/الأب/الزوج/الخ.مما جعل الطفلة تهتم بالمكان وتجعله محط تساؤلات
ليصبح ضمن المفاهيم المركزية "الحدود-الحريم "التي اشتغلت عليها فاطمة المرنيسي الباحثة الأكاديمية
منذ البداية مستلهمة آراء الباحث الانثروبولوجي الأمريكي( ادوارد .ت. هال1914 -2009 ) من خلال كتابه الرائد"البعد اللا مرئي1966".فتتحدث عن ديناميكية المكان في تحديد العلاقة بين الجنسين في كتابها"ماوراء الحجاب -الجنس كهندسة اجتماعية."ص 147 ".لذلك سنجد المكان بطلا في عمليها السرديين (أحلام النساء الحريم.. طفولة في الحريم) و ( نساء على أجنحة الحلم))إن المكان قطب أساسي في هندسة العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، وعامل مهم في تحديد العلاقات ولاسيما التراتبية منها، وعنصر سلطة تحددها الثقافة وتمثلات الناس/الأفراد عن ذواتهم ومحيطهم "
والحريم مفهوم مكاني، وحدود تقسم الفضاء إلى قسمين:فضاء داخلي مستتر ومنغلق للنساء، وآخر خارجي منفتح للرجال... وهناك سلطة ترسم المحرم والمباح من الأمكنة داخل "الدار الكبيرة."
الحدود ،الفواصل،جدران وأسوار القلعة:ثالوث يؤثث عالم الحريم العائلي الذي ترعرعت فيه الطفلة فاطمة وشكل احد قضاياها ضمن الطابوهات التي اقتحمتها بجرأة فاطمة عالمة الاجتماع.اكتشفت الطفلة التناقضات في المواقف والقيم(هيمنة وسلطة الرجال على الحريم وخضوعهم واستئذانهم للمستعمر قبل القيام بأدنى حركة-(نساء على أجنحة الحلم) لذلك كانت تسجل وتسأل لتقف في ما بعد عند: ثنائية الداخل/الخارج.مكان النساء/ مكان الرجال- الأقوياء /الضعفاء-الانفصال/التواصل –الاختلاف/التماثل-الاستقلال /التبعية-الامتلاك والحرمان:
المكان بطل بامتياز تتقصد الكاتبة في مؤلفيها الإشارة إلى أهميته في تشكيل وعي الشخصيات وصياغة وجدانها وردود أفعالها .فالنساء سجينات لايمتلكن إلا السطح كمتنفس، يستعضن بالأحلام لاختراق الحدود وتكسيرا لقيود(تحديد مكان الإقامة+الاستئذان عند الدخول أو الخروج+تقييد حرية ومساحة التحرك) وتجاوز سطوة وسلطة الحراس. مما يجعل حريم البادية ارحم وأحسن على الأقل فهو بدون "أسوار علاوة على مافيه من إطلالات على الطبيعة والتمتع بالخرير وتغريد الطيور"(نساء على أجنحة الحلم).تبعث الساردة رسائل عدة من خلال أقوال بعض النساء وتبريراتهن لقبول الوضع أو رفضه.
-مواقف القبول: من الرجال وبعض النساء ،والتي ترعى الفكر ألذكوري معتبرة الحريم صيانة للمرأة من أخطار الخارج، ومشاكل الأسفار، وتحصينا للرجال من الافتتان بالنساء قصد التفرغ لأشغالهم ومهامهم.
-مواقف الرفض:من بعض النساء كالأم التي تزرع في ابنتها بذرة التحرر والتمرد، و"شامة" التي تساعد النساء على السفر عبر الخيال، وفك الحصار بالتمثيل والغناء وحكايات"ألف ليلة وليلة" والرقص (نساء على أجنحة الحلم)
وسواء كنا أمام مار صدته"فاطمة "الطفلة، أم ما وضعته الباحثة على مشرحة البحث والتحليل، أم هما معا’فان المكان، حظي بالبطولة لديها لما يلعبه من دور في تحديد الإقامة ورسم مجال التحركات وبالتالي تصنيف الفرد ضمن المعسكر الذي ينتمي إليه.
حضرت" الدار الكبيرة" وحضرت معها أنساق ثقافية ،وقيم ورموز في المجتمع المغربي التقليدي، سلطت عليها الأضواء في العديد من الكتابات السردية(سير ذاتية وغيرية –قصص-روايات)كل من زاويته الخاصة ورهاناته .وهي بحق عنصر مكاني جدير بالتناول والدراسة لما يثيره من قضايا و يكتنزه من أبعاد ودلالات..