لقد مر الدرس المقارن بمجموعة من المحطات التاريخية والمعرفية قبل وصوله إلى مرحل متقدمة من حيث النضج. وتتمثل أولى إرهاصات الدراسة المقارنة في اكتشاف السانسكريتية من طرف المستشرق الانجليزي وليام جونز سنة 1786، إذ اكتشفت هذا الباحث التقارب المدهش بين اللغات التي يعرفها وبين عدد من اللغات الأسيوية على مستوى التركيب والمعنى مما جعله يؤسس لعلم أسماه آنذاك "النحو المقارن" نظرا لتشابه اللغات.
وبالموازاة مع ذلك أتى مستشرق آخر اسمه "فرانز بوب- Franz Bopp"، إذ أبرز العلاقة الأبوية الموجودة بين مجموع هذه اللغات من خلال مؤلفه المعنون بـ" نظام التصريف في السانسكريتية" إذ يوضح فيه نوعية العلاقة الرابطة بين السانسكريتية وبين باقي اللغات كالألمانية والإغريقية واللاتينية والانجليزية من منظور مقارن. ففرانز بوب إذن، شكل مرحلة لسانية جديدة، اعتبرت نقطة تحول وانطلاق مجموعة من البحوث الدقيقة انطلاقا من مقارنة النصوص القديمة التي شكلت بحق ميدانا خصبا للبحث.
فالدراسات المقارنة التي جاء بها الباحث، حاولت أن تظهر نقط التطابق والتشابه بين هذه اللغات. ولعل الجديد في دراسة "فرانز بوب" المُقارنة هي تتبعه لتطورات هذه العائلة اللغوية (الهندوأوربية) باعتماد مناهج لسانية دقيقة بعيدة كل البعد عن كل ما له علاقة بالميتافيزيقا. ولا بد من الإشارة إلى هذه الحقبة التي تم فيها اكتشاف السانسكريتية زامنت ظهور علم المقارنة، على اعتبار أن اللسانيات لم تكن تملك وسائلها الخاصة والدليل على ذلك متحها من مجموعة من العلوم السائدة آنذاك.
فاللسانيات إذن، حاولت أن تأخذ بعض مبادئ هذه العلوم وتطبقها على علمها، إلا أنها ورغم مجهوداتها الحثيتة لم تسلم من السقوط في الهفوات، نظرا لكون جل دراساتها المقارنة تمحورت حول جوانب معينة، في حين أغفلت أخرى من قبيل: محافظتها على التشابهات والتطابقات، وإهمالها الاختلافات، بالإضافة إلى تغيبها لتحديد دقيق للمرحلة التاريخية التي تنتمي إليها جملة من النصوص. ومجمل القول، فالدراسات المقارنة تبغي أن تقام المقارنات انطلاقا من نصوص تنتمي إلى أماكن ومراحل ولغات مختلفة ومتنوعة. فإذا كنا تطرقنا لبعض بوادر الدراسات المقارنة، فنحن نتساءل عن أهم عوامل ظهور ما يصطلح عليه الآن، بالأدب المقارن؟
الرومانسية أسسها ودورها في ظهور الأدب المقارن
تعد الرومانسية تيارا أدبيا مهّد لمجموعة من التحولات في أوربا سواء ما تعلق منها بالحياة الفنية أو الحياة العامة، وعلى رأسها التمهيد لنشأة الأدب المقارن، وتوجيه الدراسات الأدبية وجهة تنتهي بها إلى المقارنة. وكان وراء نشأة الرومانسية عوامل عدة، منا ما هو اجتماعي وسياسي، ومنها ما هو فكري وأدبي. إذ عرفت أوربا في القرن الثامن عشر زلزلة في القيم والأفكار والطبقات الاجتماعية، كان عصر تحول في الأفكار على أوسع نطاق وسادت أوربا خلاله أمواج عنيفة في الفلسفة والسياسة ونظم المجتمع، واتجهت عقول المفكرين إلى آفاق جديدة في فهم الفن والحياة. فتمخض عن هذه الظروف ولادة طبقة جديدة آلا وهي البرجوازية التي سعت جاهدة إلى التحرر السياسي والفكري، الذي يكبّل المجتمع ككل. فنشأ وسط هذه الطبقة البورجوازية كتّاب اختاروا لأنفسهم أن يتحرروا من قيود أسلافهم ليناصروا مطالب طبقتهم...وبهكذا منحى اتجه الأدب اتجاها شعبيا في اختيار الأشخاص والموضوعات الشعبية والتحدث عن المشاعر الفردية، والتعبير عن الآمال العامة للطبقة البورجوازية كذلك؛ التي كانت تحاول أن تستقر في المجتمع. وقد واكب ظهور هذه الطبقة قيام الثورة الفرنسية التي كان تأثيرها عميقا في الأدب الرومانتيكي في أوربا جميعا بما أوحت من أفكار جديدة في علاقة الأدب بالمجتمع. بحيث أصبح الأدب يتحدث بلسان حال صاحبه وحال المجتمع، وقد ساعدت الثورة على تدعيم حرية الكاتب بإقرارها مبدأ الحرية العامة وبهدم النظم الاجتماعية والسياسية السابقة، وينضاف إلى الثورة عامل آخر ساهم في تأسيس للرومانسية ويتجلى في الأسفار والرحلات بغية الوصول من وراء ذلك إلى معنى النسبية في الأدب والفن، بدل العقلانية السائدة والداعية إلى محاكاة الآداب القديمة واعتبارها مصدرا للجمال المطلق، انعكاسا لحقيقة واحدة يقول بوالو في هذا السياق: لا شي أجمل من الحقيقة، فهي وحدها أهل لأن تحب ويجب أن تسيطر على كل شيء. فرفض التيار الفلسفي السائد آنذاك هذه المبادئ، وسعى إلى كسر سلطة العقل والتوحد والاستقرار في المواضيع الأدبية فدعا الفيلسوف بوس إلى النظرية النسبية في الجمال وهي التي تنادي بأنه لا يوجد نموذج موحد للجمال وإنما توجد أشكال متعددة، وهي ترتبط بمناخات متعددة وشعوب متعددة ولغات مختلفة. واعتقد رواد هذا التيار الفلسفي بأن العاطفة طريق يوصل إلى الحقيقة التي لا يتطرق إليها شك وأن منبعها هو الضمير الذي هو بمثابة قوة من قوى النفس قائمة بذاتها، وهو غريزة خلقية تعي الخير من الشر عن طريق الإحساس والذوق. وكانت هذه الفلسفة وما ينتج عنها من مبادئ وأسس أقوى دعامة للرومانتيكييين في ثورتهم الشعورية والعاطفية وأساس خيالهم وأحلامهم.
وقد أدى انتشار هذه المبادئ إلى ترسيخ مقومات الذاتية الرومانسية، واعتدادها بالعاطفة وتقديسها على قيود المجتمع من عادات وتقاليد. كما كان للفلسفة العاطفية أثر بالغ في ولع الرومانسيين بجمال الطبيعة، وحبهم للخلوة بين أحضانها. وإلى جانب هذه العوامل الاجتماعية والفلسفية، ظهرت عوامل أدبية جديدة، ساعدت على اكتمال نشوء الحركة الرومانسية من جهة، وساعدت على تمهيد الطريق أمام الدراسات المقارنة من جهة أخرى، فكانت معرفة فولتير العميقة بالانجليزية قد ساعدته على اكتشاف هذه العبقرية التي كانت مجهولة، عبقرية شكسبير وتقديمه إلى القارئ الفرنسي والأوربي والعالمي من بعده. ويرجع اهتمام فولتير بشكسبير لكونه أعجب بما في مسرحياته من تحليل نفسي وقدرة على التصوير، ولكنه نقده مُر النقد لما في مسرحياته من حرية فنية، واتهمه بالتوحش والقسوة. ولعل هذا النقد هو الذي استرعى انتباه المتطلعين إلى التجديد وكسر قيود الكلاسيكية، إلى الاهتمام بمسرحيات شكسبير وعبقريته في التحليل وتصويره للألم دون الرجوع إلى تقليد الآداب القديمة، وكذا التحرر من الوحدات الثلاث في المسرح: الزمان، المكان، الحدث. فدعا فيكتور هوجو الرومانسيين إلى الاحتذاء به لأن أدبه أشد صلة بالحياة. فكان اكتشاف الرومانسيين الفرنسيين لأدب شكسبير ومن بعده بقليل معرفتهم بأدب جوته الألماني دافعا لتحطيم الفكرة التقليدية التي كانت شائعة عن أدب الشمال الأوربي وخلوه من الأصالة التي يتمتع بها أدب الجنوب.
كما زاد في ترشيح هذه الأفكار اطلاعهم على آداب فريدريك شليغل وجريم، يقول سعيد علوش: ونعثر مع شليغل وجريم وتلامذتها الرومانسيين على بحث جديد يتطلب مجهودا علميا لاستخلاص المعطيات الأولية الرومانسية التي بلغت نظاما محكما يشمل الفلكلور والموضوعات التي تدور حول مختلف الآداب المقارنة، وهو نظام يتسم بالجدية ويخدم معطيات المقارنين الأوائل لا في ألمانيا فقط بل امتد إلى فرنسا.
وانطلاقا من الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية، ومن خلال التأثر بالآداب المجاورة ترسخت مبادئ الرومانسية الفرنسية واكتملت أسسها المتمثلة في الذاتية أو الفردية التي تتحرر من قيود العقل والواقعية وتحلق في رحاب الخيال والصورة والأحلام ثم التركيز على التلقائية والعفوية في التعبير الأدبي، وأيضا الحرية الفردية والتعالي عن الأديان والمعتقدات والاهتمام بالطبيعة، فصل الآداب عن الأخلاق، الإبداع والابتكار، الاهتمام بالمسرح ثم الاهتمام بالآداب الشعبية والقومية. فكانت الرومانسية بهذه المبادئ تساعد اتصال الآداب فيما بينها وتعززت الصلات بين الآداب الأوربية، وتمهد الطريق أمام الدراسات المقارنة بين هذه الآداب.
وكان لبعض روادها إسهام خاص في مجال الدراسات المقارنة ومن بين هؤلاء مدام دي ستايل "Madam de stael" (1817-1766) التي تمكنت من خلال اتصالها القوي بالأدبين الفرنسي والألماني أن تربط جسرا بينهما وأن تؤكد على أهمية استفادة كل شعب من أفكار الشعوب الأخرى. ويتضح هذا بجلاء، من خلال ما جاء في كتابها "عن ألمانيا"، إذ تقول: إن الأمم ينبغي أن تستهدي كل واحدة منها بالأخرى، ومن الخطأ الفاحش أن تبتعد أمة عن مصدر ضوء يمكن أن تستعيره. إن هناك أشياء شديدة الخصوصية يفترق بها كل شعب عن الآخر: المناخ، الإطار الجغرافي، اللغة، نظام الحكم، ثم على نحو خاص حركة التاريخ الخاصة بكل شعب، والتي تسهم أكثر من غيرها في إعطائه خصوصيته، وليس هناك إنسان، أيا كان نصيبه من العبقرية يستطيع أن يحدس بما يعتمل ويتطور تطورا طبيعيا داخل روح الإنسان الذي يعيش على أرض أخرى ويتنفس هواء آخر، وإذن فإنه يوجد في كل أمة طائفة يمكن أن تتأثر بالثقافة الأجنبية وقانون الفكر يقضي بأن الذي يأخذ هو الذي تزداد ثروته. بهذا مدام دي ستايل لا تحصر عملية التأثر عن طريق الآداب فقط، بل تشمل جميع النواحي. وتقول أيضا إلى الشرائع والقوانين يكاد يرجع كل التخالف أو التشابه الفكري بين الأمم وقد يرجع إلى البيئة كذلك شيء من الاختلاف ولكن التربية العامة للطبقات الأولى في المجتمع هي دائما وليدة النظم السياسية القائمة والحكمة مركز مصالح الناس والأفكار والعادات تتبع تيار المصالح.
ولم تكن مقارنات مدام دي ستايل وحدها التي مهدت للدراسات المقارنة بين الآداب في التيار الرومانسي، بل كان سانت بوف من الذين أسهموا في دفع عجلة الدراسات المقارنة فاهتم في دلالة الأدب على مبدعه، وليس بالمجتمع فقط فيتتبع المبدع خطوة خطوة ووظيفة النقد الأدبي عند سانت بوف هي النفاذ إلى ذات المبدع لكي يفهمه قراؤه إذ يقول: فالنقد يعلم الآخرين كيف يقرؤون.
وقد استخلص سانت بوف منهج البحث في النقد الأدبي من مناهج البحث في العلوم التجريبية متأثرا في ذلك بداروين وكتابه المشهور "أصل الأنواع"، يقول سانت بوف في هذا الشأن: سوف يأتي يوم – أعتقد بأنني لمحته في تأملاتي- يوم سيكون فيه العلم في مجال النقد الأدبي قد تشكل، وتكون النفوس البشرية قد تم تقسيمها إلى عائلات كبرى وتحددت خصائص كل عائبة وعرفت، وعندما تتحدد الملامح يمكن أن يحلق بها، وأيما كان الأمر، فإنني أعتقد أن العلم مع الزمن، سيصل فيما أتصور إلى قدر أكبر من الهيمنة على الخصائص المعنوية.
المنهج التاريخي
ظهر في أوربا وهو اتجاه يتحرك نحو دراسة الظاهرة الأدبية لدراستها دراسة علمية، ويحاول أن يشرحها في إطار العلوم الإنسانية والمصطلح، وإذا غضضنا النظر في كتابات الفيلسوف الألماني يوهان هردر ففي وسعنا أن نعد كتاب "الأدب في علاقته بالمؤسسات الاجتماعية" لمدام دوستال بداية هذا الاتجاه الذي سينمو عن سانت بيف وعنايته المفرطة بسيرة الأديب المبدع، حيث ينشئ له وصفا حيويا دقيقا ينتهي في غايته ومدلوله إلى التأكيد نوع الحتمية بين الأعمال الأدبية ومبدعها.
وبين في دراسته لتاريخ الأدب الانجليزي على أساس نظريته الثلاثية في الجنس والبيئة والعصر وبرونيه في دراسته لتطور الأنواع الأدبية بحسب نظرية تطور الأنواع لداروين وقد دعا شيبنجلر إلى دراسة التاريخ والتأريخ الأدبي دراسة متأنية يلتزم فيها الباحث بذوق العصر الذي يدرسه وطبيعته، ويستخلص النتائج العلمية من هذه الدراسة، وأن ينتقي من العصر الذي يدرسه، لأن الباحث الأدبي لا يستطيع أن يكون مؤرخا فقط، وهو ناقد أيضا، ويتصل بذلك أن الشاعر الذي كان صغيرا في عصره يبقى صغيرا حتى لو امتلك عناصر تحدي الزمن، ويجد فيها اللاحق ما لا يجده عند مُعاصره الكبير، الكبير يبقى كبيرا بمعيار النسبية إلى ظروفه وزمانه، وبقي سانت بيف ناقدا كبيرا ومن بين النقاد الذين مارسوا هذا المنهج. وكان درايدن وجونسون ويستمدان من التاريخ للتفسير، كيف يقصر الأدباء ذو العبقرية أحيانا حتى عن بلوغ المقياس الذي يتطلبه الذوق الحديث.
ويتوخى هذا المنهج أن يدرس الأدب في ضوء التاريخ، وليس بالعكس بروح نقدية تستنتج النتائج الدقيقة الفعالة، لا مجرد سرد الأحداث التاريخية والأدبية، وان يقرر الحقائق ويتعرف على روح العصر والأدب، ويبيّن أثر كل منهما في الآخر لا أن يورد الأخبار الأدبية والنصوص من دون تدقيق أو استنتاج. وان يرقب الأثر الذي أحدثته الثقافات الأخرى في الأدب وعنصر التفاعل البناء والمنتج بين الأدب القومي والثقافات الأجنبية التي تفاعلت معه ويتبين أصولها التاريخية والنفسية والواقعية والثقافات الأجنبية التي تفاعلت معه، ويتبن أصولها التاريخية والنفسية والواقعية، وأن لا يكتفي بدراسة الموضوعات التي تناولها الأدب عبر تاريخه وإنما يهتم بدراسة اللغة والأساليب والحياة العقلية إلى جانب المعاني والموضوعات وظهرت دراسة السيرة الأدبية في إطار المنهج التاريخي، كان يدرس الباحث سيرة أديب معين وتحتاج مثل هذه الدراسة إلى المعلومات الكثيرة والتفاصيل الدقيقة المتعلقة بحياة الكاتب وعلى الباحث أن لا يهتم بتكديس هذه المعلومات قدر اهتمامه بالاسترشاد بها للكشف عن جوانب شخصية الأديب ومنابع إبداعه، ومدى انسجامه مع عصره أو ابتعاده عنه، وعوامل شهرته في عصره أو خفوت ذكره، والعناصر الأساسية في خلود أدبه أو انطفاء ذكره.
وقد لاقى الاتجاه العلمي والمنهج التاريخي اللذان شاعا في القرن التاسع عشر كثيرا من الشكوك حول أن يتحول النقد إلى علم، ومن ثم كان هجومه عليه، ويقول "أناتول فرانس": إن الطريقة النقدية لا بد نظريا من أن تشارك العلم ثبوته مادمت ترتكز إلى العلم نفسه...ولكن الأمور في هذا الكون متشابكة تشابكا لا ينفصم، وحلقات السلسلة في أي موضوع منها اخترته، مختلطة متراكبة، حتى أن الشيطان نفسه ليعجز عن أن يفك عقدها ولو كان منطقيا.
دفع "سانت بيف" (1869-1804) المنهج التاريخي إلى الإمام في أحاديثه المعروفة باسم: أحاديث الاثنين، وأحاديث الاثنين الجديدة، والأدباء في رأيه فصائل كفصائل النبات والحيوان، تتشكل بحسب المؤثرات الخارجية عليهم، ويحاول "بيف" أن يتعرف على الخصائص المشتركة التي تجمع بين الأدباء وما يربطهم من حوافز زمانية ومكانية لكي يسبر أغوارهم ويصفهم حسب أنماطهم الفنية، وقد شغل سانت بوضع الأدباء في فصائل الأدباء وطبقات مع دراسة الجوانب المميزة لشخصياتهم، وكاد اهتمامه بالفصائل الأدبية أن يطغى على السمات الفردية المميزة للأديب بأن يجعلهم وكأنهم أشياء بيولوجية على حساب الخصائص الفردية والذاتية المميزة لكل واحد منهم، على أن توزع "سانت بيف" للأدباء على شكل فصائل ساعد على خلق المدارس الأدبية؛ لأن المدرسة في واقعها مجموعة من الخصائص الأدبية التي تشترك فيها طائفة أو طوائف من الأدباء، وقد نما في عصره المذهب الرومانتيكي وحل تماما محل الكلاسيكية الجديدة، وقد دعت الرومانتيكية إلى التحرر من التقاليد الموروثة والعودة إلى الطبيعة والشكوى والتشاؤم والألم والحزن والحساسية وشيوع مرض العصر واللون المحلي، وتلتها البرناسية أو البرناسي – نسبة إلى جبل براناسوس في اليونان مقر آلهة الشعر في الأساطير القديمة- التي استلهمت في شعرها أساطير الشعوب البدائية وعنيت بالجمال عناية خاصة، واتخاذ الشعر للتعبير عن الذات وأن التجسيم أساس الشعر وقالوا بنظرية الفن للفن وتوالت بعد ذلك المذاهب الأدبية الأخرى، والباحث الأدبي يدرس فردا له شخصيته ومقوماته المستقلة على الرغم من انتسابه إلى مدرسة بعينها يخضع أفرادها لخصائص عامة مشتركة، أو كما قال سانت بيف إلى فصيلة عضوية لها مميزاتها وخصائصها.
وقد خلف سانت بيف في هذا الاتجاه تلميذه تين 1828-1893 وتعمق فيه حتى حاول إسقاط الفردية الأدبية تماما وأكد على الخصائص جماعية، تجمع بين الأديب وأبناء أمته، وهي قوانين حتمية كقوانين الطبيعة ومعاييره الأساسية وهي الجنس والبيئة والعصر، وقد طبق ذلك على الأدباء الانجليز في كتابه: تاريخ الأدب الانجليزي، وقد تأثر في دراسته سانت بيف الذي يظهر تأثيره في مقال عن الشعار الانجليزي بوب إذ درسته مستفيئا بعلله الجسمية في بيان خصائصه.
وحاول فيرديناند برونتير (1849-1906) أن يطبق ما كتبه تشارلز داروين عن عام الأحياء في كتابه أصل الأنواع وما حدده فيه من نظرية لتطور أن يجسد النظرية في الأنواع الأدبية وتطورها محاولا إثبات أن الشعر والنثر ينقسمان إلى فصائل، وان كل فصيلة أدبية تنمو وتتوالد وتكاثر متطورة من أثنا من البساطة إلى التركيب في أزمنة متعاقبة حتى تصل إلى مرتبة النضج وتنتهي عندها وتتلاشى كما تلاشت بعض فصائل الحيوانات، واختار لتطبيقاته ثلاثة أنواع أدبية وهي: المسرح والنقد الأدبي والشعر الغنائي مصورا تطورها باجتماع دوافع تاريخية تستمد من الظروف والبيئة والعناصر الاجتماعية، وذهب إلى أن الشعر لم يتطور عن أصل من نوعه مماثل له أو متحد معه، وإنما تطور عن نوعه متغير له فني فيه هو الوعظ الديني، الذي كان مزدهرا في فرنسا في القرن السابع عشر، ومر به نحو قرن كامل وهو يعاني فيه من سكرات الموت، ثم انبعث من جديد في الشعر الغنائي الوجداني ونسي برونتير أن هناك أنواعا أدبية لا تموت وإنما تخلد ذلك الشعر الغنائي في العصر الجاهلي.
وانبثقت المادية التاريخية في الدراسات الأدبية من النقد الواقعي في القرن التاسع عشر، وكان "فرنتز مهرنغ" في ألمانيا و"جورجي بلخانوف" (1918-1856) في روسيا، أول ممارسي النقد الماركسي: ولكنهما من وجهة النظر الستالينية كانا خارجين على الواقعية الاشتراكية فقد اعترفت كل منهما بقدر من استقلالية الفن. ويفهم النقاد الماركسيون أن الفن يؤدي عمله من خلال الشخصية والصور والأفعال والمشاعر وتركيزهم على مفهوم النمط هو الجسر الواصل بين الواقعية والمثالية. ويعد "لوكاتش"، أبراز النقاد الماركسيين وقد أظهر فهما عميقا للمادية الديالكتيكية وأصولها الهيغلية ومعرفة تامة بالأدب الألماني وتحاول كتبه الكثيرة التي تظم (غوته وعصره والرواية التاريخية أن تعيد تفسير مسار الأدب في القرن التاسع عشر من وجهة نظر الواقعية بتأكيد المضامين الاجتماعية والسياسية مع حس رهيف بالقيم الأدبية. وتكون الماركسية على أفضل ما يكون عندما تكشف المعاني الاجتماعية والأيديولوجية الكامنة في العمل الأدبي.
تأثر غوستاف لانسون (1857-1834) بتين تأثرا كبيرا وببرونتير، ولكنه لم يأخذ منهما إلا أقل الأمور صلاحا للمناقشة وما هو علمي فعلا، أخذ عن الأول فكرة البيئة، وأخذ عن الثاني فكرة التاريخ، وهو يؤكد سعة العلم، ليست إلا وسيلة تسمح قبل كل شيء أن نعرف الآثار معرفة جيدة، وهو يؤكد ما مفاده أن ندرس الأدب لا بد أن نبدأ بعدد من الأبحاث العميقة، تهدف إلى أبعاد كل أسباب الخطأ التي تتعلق بالحوادث وأن التاريخ يسمح لنا أن ندرك الأشياء ويسمح لنا دراسة المصادر، والذوق هو الذي يحكم في أخر الأمر، وأن هذا الذوق ذاتي يتغير وفق الناس، وهو يحكم بلا تحيز وبلا رأي مسبق ويقول: أنه يأمل ألا يكون قد أحب شيئا أو ذم شيئا إلا لأسباب ذات طبيعة أدبية، إن فضل لانسون لا يعود إلا أنه أدخل مناهج في الدقة والصواب وجعل لها الأغلبية بل إنه يعود بحرصه أن يكون مفكرا إنسانيا قد تدارك مسبقا بعض الأخطاء.
فأول هدف يهدف إليه المنهج التاريخي، هو اكتساب الوعي التاريخي ومادام المنهج يعتمد على الوثيقة المكتوبة وأن المؤرخ الأدبي هو أحد المتعاملين معها، وليس المتعامل الوحيد، فهذا يعني ضمنيا أن المؤرخ المحترف المتخصص لا يملك بالضرورة الوعي التاريخي، قد يؤلف الإخباري الكتب العديدة في شؤون الماضي، ومع ذلك يفشل في اكتساب الوعي التاريخي، والوعي بالتاريخ لا يكتسب إلا به بعد مقارنة المناهج المستعملة في العلوم الإنسانية وضمنها التاريخ ونقدها نقدا دقيقا وافيا. ولما كانت الوثائق هي الأساس في المنهج التاريخي، تبقى عملية جمعها عملية أساسية في هذا المنهج وتنقسم الوثائق إلى أثار ومخلفات خطية أو روايات أو نقوش فالخطوة الأولى في هذا المنهج، خطوة البحث عنها وجمعها، ويجب أن تجمع من مضانها في كل مكان حتى انتهى الباحث من جمعها، توفر على دراستها ليتمكن من التوصل إلى الحقيقة التي ليست هذه الوثائق غير أثار مختلفة عنها.
وتأتي بعد ذلك مرحلة الوثيقة في إطار القاموس، حيث يجب أن نضمن للكلمة معناها الجاري الذي في الوقت الذي كتبت فيه الوثيقة ولا يمكن إقحام المعاني اللاحقة، ومن الأمور التي يحتاجها الباحث، قاموس تاريخي يعطينا تسلسل المعاني بحسب التسلسل الزمني، لسان العرب، مثلا ليس قاموسا تاريخيا لأنه لا يخضع للترتيب الزمني. ولكل قراءة مقبولة ولكن بشروط ثلاث:
- أن نحاول فهم الكلمات فهما تاريخيا
- أن نفصل بين القراءة والتأويل
- أن نكون على استعداد للتخلي عن رأينا إذا تبين أننا أخطانا القراءة.
وبقدر ما يبتعد المرء عن عصر المؤلف بقدر ما تضيع أفكاره ويصعب فهم أقواله على وجهها الكامل، لأن كل قول صريح يخفي أقوالا ضمنية بديهية هي التي تضيع مع ذهاب الأجيال، ولكن لا يعني أن القارئ حر وأن له الحق أن يقول ما يشاء، المنهج التاريخي يحاول استكشاف ما كان يدور في ذهن المؤلف وأن يعلم بأن الغاية المنشودة لا تتحقق أبدا كاملة، الحقيقة التاريخية كالحقيقة العلمية تبتعد أمامنا بقدر ما نلاحقها، لكن المهم بالضبط هو الحرص على الملاحقة وفي غياب إرادة استكشاف المفهوم القاموسي، تعم الفوضى الفكرية كل واحد يقول ما يشاء عن هذا الكاتب أو ذاك ويواجه الباحث خطرين:
- أولا يمحي الفارق الزمني، ويصبح الأموات معاصرين لنا نستشيرهم ونحاورهم في أشياء مستجدة لا يمكن أن يكون لهم فيها رأي.
- ثانيا نتولى شيئا فشيئا منطق الكشف، والحد الفاصل بين الفكر التاريخي الأدبي وغيره.
يعيننا المنهج التاريخي على معرفة تطور التفكير واللغة، ويعيننا كذلك على تقدير كل عمل بالنسبة لعصر لا لعصرنا حين ندرس العصر والشخصية، فإذا رغبنا مثلا في دراسة مدى تأثر العمل الأدبي أو صاحبه بالوسط ومدى تأثيره فيه أو في دراسة مدى تأثر العمل الأدبي أو صاحبه بالوسط ومدى تأثيره فيه أو في دراسة الأطوار التي مر بها فن من فنون الأدب أو لون من ألوانه أو في معرفة مجموعة الآراء التي أبديت في عمل أدبي أو في صاحبه، لنوازن بين هذه الأراء أو لنستدل منها على لون التفكير السائد في عصر من العصور، وإذا حاولنا أن نجمع خصائص جيل أو امة في آدابها، وأن نصل بين هذه الخصائص ومجموعة الظروف التي أحاطت بها أو إذا أردنا أن نحرر نصا أو عدة نصوص فنتأكد من صحتها وصحة نسبتها وقائلها، إلى أمثال هذه المباحث التي تخرج من عملية التقويم الفنية الفردية للعمل الأدبي ولصاحبه. فإن المنهج الفني وحده لا ينهض بشيء من هذا فلا بد أن نلجأ حينئذ إلى منهج آخر هو المنهج التاريخي، فمعرفة التاريخ السياسي والاجتماعي لازمة لفهم الأدب وتفسيره، وكثيرا ما يستحيل فهم نص أدبي قبل دراسة تاريخية عريضة والكتب صدى لما حولها من أمور، ونحن معرضون للخطأ في فهم وتقدير آراء الأدباء وأخيلتهم ما لم نلاحظ صلتهم بعصورهم، وإذا كان الأديب ثمرة بيئته وعصره فقد لا يكون نابغة أو عبقري لو تقدم أو تأخر عليه، مادامت عوامل البيئة قد وجهته، والحياة الاجتماعية لها سلطان على الفنون الأدبية فكثيرا ما تعين فنا على الذيوع. فاختلاف الأدب الأندلسي عن العباسي مثلا يرجع إلى البيئة قبل غيرها، ولما كانت النصوص الأدبية تصدر مباشرة عن شخصية الأديب كان لا بد للباحث أن يرجع إلى هذه الشخصية فينير لنفسه سبيل الدراسة.
ويصلح المنهج التاريخي في معرفة المعالم الكبرى والدلالة على العوامل التي أثرت في الأدب كالبيئة والعصر والمصادر الثقافية والوثائق القديمة ودراسة شخصية الأديب وأثر ذلك في الإبداع الأدبي. من خلال تحديد أبرز محاور المنهج التاريخي المنهج التاريخي المعتمدة في دراسة النصوص الأدبية عبر صيرورتها التاريخية، والملاحظة التاريخية عبر الأزمنة وربطها بكاتب/المؤلف وبيئته وعصره، يكشف هذا المنهج عن الوجه الحقيق للمقارنة عبر ربطها بالأزمنة المختلفة سواء للنص أو المناخ العام الذي أنتج فيه أو من خلال كاتبه والظروف المحيطة به. غير أنه تجدر الإشارة أن المنهج بالرغم مما قد أسهم به في إغناء الدراسة الأدبية غير أنه ظل ناقصا بحيث أغفل بنية النص ومضمونه واهتم بالإطار التاريخي والنقدي للنصوص.
النهضة العلمية
لقد أدى ظهور النهضة العلمية خلال القرن السابع عشر إلى ولادة الأدب المقارن، وكذا تطور العلوم الإنسانية التي كان لها بالغ الأثر على النقد والأدب، على اعتبار أن الأدب عاد ليصف واقع الحياة وصفا موضوعيا متحررا من جموح الخيال وانطلاق العاطفة، إذ ظهرت الواقعية وانحسرت الرومانسية في القصة والمسرحية وفي الشعر.
إن بروز جمهور العمال للأدب الجديد، هو الذي وحد رؤى الواقعية والطبيعية باتجاهها العلمي، فلقد جاء داروين 1809-1882 بنظرية تطور الأنواع إلى جانب نظرية ماركس في الاقتصاد وولادة علم النفس على يد فرويد ودور فرايزر في تتبع جذور الأديان وكان لهذه العلوم الوضعية دورها في توجيه الأدب والنقد.
لقد وضع ارنست رينان (1823-1892) كتابه تاريخ أصول المسيحية في مجلدات (1863-1883) وكتابه التاريخ العام والمنهج المقارن للغات السامية 1855 وهو ما دفع لقراءة مقارنة لأصول الأفكار وكيفية وآليات التكوين...ثم يأتي الانجليزي بوسنت بكتابه الأدب المقارن 1881 ليدرس ظاهرة الأدب في تأثيراتها في دول مختلفة بالعوامل المخصوصة اجتماعيا لتلك الدول بين القبلي والمدني الإقطاعي والراسمالي فكان خطوة أخرى باتجاه التأسيس للأدب المقارن الذي تابعه فيه الفرنسي ليتورنو في كتابه تطور الأدب في مختلف الأجناس الإنسانية 1894.
ولظهور علم الحياة المقارن والتشريع المقارن والميثولوجيا المقارنة وعلم اللغة المقارن كان على الأدب وتاريخه أن يتجه نحو الأدب المقارن الذي انتهجه ادخار كينيه 1808-1875 وفي إشارة مباشرة واضحة للأدب المقارن وهي العالمة الأبرز في جهود التأسيس كما عند هيبولت تين وبرونتيير.
- أما "هيبولت تين" 1828-1863 نظرياته على مبدأين:
التأثير المتبادل بين العوامل الطبيعية والعوامل النفسية في نمو الجنس البشري وتقدمه. وقد أكد إمكانية قراءة النتائج النفسية من قراءة المؤثرات المولدة لها، وهو ما أشار إليه في كتابه الأدب الانجليزي، حيث حدد عوامل التأثير في الجنس، البيئة، الزمن، وقد قصد بالجنس تلك الاستعدادات الأولية لمجموعة إنسانية محددة بأصل واحد سواء منها النفسية أم العضوية، ما يعني أن الصفات التي تشكلت عبر التاريخ تحولت لما يشبه الغرائز الفطرية وهناك الجنس العربي، العبري، الآشوري، الآري...إلخ. في حين، قصد بالبيئة المحيط وعوامله الطبيعة والسياسية والاجتماعية المؤثرة في تفكير الإنسان وهو مؤثر من خارج الإنسان، في حين أن الجنس مؤثر من داخله. أما فيما يتعلق بالزمن فتم تفسيره بقلة الشعر عند قريش في مكة والطائف، اعتبارا لقلة الحروب كما يرد عند ابن سلام الجمحي؛ وقد وضع للزمن أو القوة الموجهة في تأثير الماضي في الحاضر والمكتسب من حركة ثقافية، لعبت عبر تاريخه موضعا ثالثا في التأثير في النتاج الأدبي.
إجمالا يمكن القول من خلال ما تقدم، أن الأدب المقارن وخلال سيره الحثيث نحو النضج، مر بعديد المراحل التي اختلفت من حيث طبيعة مراميها ومقاصدها وتصوراتها ومراحلها التاريخية، لكن تتفق في غالبيتها على أهمية الأدب المقارن في رسم وتوضيح خطوط الائتلاف والاختلاف بين آداب الأمم، والتمييز فيما بينها، مع توضيح علاقات هذه الآداب فيما بينها.
متابعة أكثيري بوجمعة على تويتر: أكثيري أكثيري @zxn1QhBPDakHGRW