يُشير أكثر من دارس لنصوص الشعر الحداثي إلى دور الاسطورة في تكثيف المعنى إلى درجة الإبهام والغموض، وهذه العودة إلى الفكر الانساني في تراثه القديم وثقافته العالمية من الناحية الفنية تبرز اهتمام شاعر الحداثة العربية بالأساطير كونها شكلا من اشكال التعبير يتجاوز لغة التعبير الخطابي « فشاعر الحداثة يبحث عن اشكال يتجاوز بها لغة عصره لأنه في أمس الحاجة إلى جديد يخرجه من دائرة المباشر والواضح».
لقد أرادت حركة الحداثة الشعرية العربية أن ترتفع بالشعر إلى مستوى يتحقق معه الدور الفلسفي أو المعرفي للوجود، أي أن يستوعب الشعر كل ما يطرح من مسائل فلسفية وقضايا اللاهوت وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا فضلا عن السياسة والتاريخ وعلم النفس من خلال امتلاك الشاعر المعاصر لثقافة عالمية في بعدها الإنساني، حيث كونت لديه مخزونا ومرجعيات ثقافية وفكرية نهل منها ما انسجم مع تجاربه الآنية، ومنها الأساطير التي عرفها واطلع عليها وعلى أبعادها الرمزية والإنسانية والدلالية.
لقد اصبحت الاسطورة تمثل جانب التجديد الشعري والذي لم تألفه الذائقة المتلقية في شعرنا العربي المعاصر مع متلقي ألّف هيئة كتابية وإنشائية لنص شعري يغلب عليه الوضوح والشكل والمضمون السهل، وقد كان هذا التجديد مدخل من مداخل الغموض الذي بدأت مغاليقه في الانفتاح مع دوام ألفة القصيدة المؤسطرة، وعلى الرغم من الصعوبة التي يسببها استدعاء الاسطورة والتقنع بها عند القارئ وبالأخص ذلك المتلقي الذي لا يمتلك آليات وخلفيات معرفية بالأسطورة ورموزها ومصادرها.
من هنا تنوع قراء القصيدة المؤسطرة إلى مستويات في عملية الفهم والتذّوق وهذا حسب احاطة كل متلقي بمدلولات الرموز الاسطورية ودرجات توظيفها، وعلى قارئ اشعار الحداثة ادراك المحاولة التي يرومها اكثر من شاعر في نقل التجربة الشعرية من مجرد كونها تفجير للعواطف او استجابة تلقائية لها إلى الولوج بها عالم الفكر وإعمال العقل والنزوع إلى الفكر التأملي.
هذا التحوّل في طبيعة ووظيفة الشعر كشفت عنها الحداثة بخطابها الشعري المدثر بالفلسفة والتجريد والقضايا العقلية التي امتصها الشعر الحداثي وصهرها في بنية جمالية وفكرية، مما استدعى تحوّلا في الادوات والعناصر، والتي اغنت النص الشعري وانتقلت به من مستوى الخطابة المباشرة الى مستوى التكثيف الدلالي والإيحائي الذي أضفى بعدا جماليا اسهم في نقل التجربة الشعرية بطريقة فيها الكثير من الإشباع والتركيز، يدعو القارئ إلى استلهام استدعاء الاسطورة وإستحثاء أجوائها ومناخها.
وإذا كان جوهر شعر الحداثة هو قلق السؤال والمغامرة في مجهول الذات والبحث عن امكانات جديدة للغة شعرية واختيار طاقاتها التعبيرية، فإنّ مستوى الاستلهام والتوظيف تجاوز به الشاعر المعاصر مجرد ذكر الرمز الاسطوري إلى مستوى خلق رمز أسطوري ذاتي يتفاعل مع التجربة الشعرية الحديثة.
لقد استطاع الشاعر المعاصر الارتقاء بمستوى الرمز الأسطوري بوصفه أداة شعرية فذة تعبّرُ عن صراع الإنسان ضد الظلم والحرمان بما يحقق له الحرية والإنعتاق من كل قيود الواقع المكبلة لطموحاته وذلك تجسيدا للمعاناة الحقيقية للإنسان في سعيه للخلاص من قيود الواقع بالثورة عليه والتحرر من كل أشكال الظلم والاستبداد.
ومن هنا نجد الشاعر المعاصر يُكثر من المعادلات الموضوعية لرموزه نتيجة لأحاسيسه وقناعته السياسية والاجتماعية والدينية ليوظفها في خدمة فكرته، هذه الرموز استحضر من خلالها الشاعر المعاصر التاريخ الإنساني بظلاله وأسقطه على الواقع وعلى تجربته الشعرية مما أغنى المحتوى وأثرى الموضوع وأضفى على الشعر المعاصر إيحاءات متميزة وقد أشار الدكتور إحسان عباس الى هذا التحوّل
و الانعطاف« أنّ الشعر لم يكن في يوم من الأيام أقرب إلى الأسطورة منه في الوقت الحاضر.»
ومن الشعراء الذين أكدوا على اهمية توظيف الاسطورة في نسيج القصيدة المعاصرة عبد الوهاب البياتي عندما قال: « استخدام الأسطورة ضرورة لبناء معمار القصيدة الحديثة، وهي محاولة ابداعية لتجنيب القصيدة الوقوع في المباشرة والغنائية التي تكاد تطغى على الكثير من شعرنا العربي الحديث، وهذا الاستخدام بالنسبة لي هو نتيجة من نتائج تطوري الفكري والثقافي، فأنا باحث دؤوب عن ينابيع الشمس، وقد اعتمد شعري منذ بدايته على المغامرة الوجودية واللغوية والأسطورية، لذلك ابتعد عن التقريرية والمباشرة والثرثرة.»
وبالتالي فإنّ هذا الاختراق الذي مارسه حضور الأسطورة بشكل مكثف في القصيدة الحداثية أفادها في بعديها الشكلي والمضموني، وقد عدها أكثر من ناقد ظاهرة فنية استقلت بمساحات واسعة في مجمل الدراسات التي تناولت دراسة الشعر الحداثي، وأضحت فصلا من فصول الدراسة لهذا الشعر بوصفها بعدا جماليا من أبعاد الكتابة الشعرية الجديدة.
غير أن جمالية الأسطورة تكمن في طريقة توظيفها ودمجها في بنيات النص الشعري حتى تحقق الغموض الفني الذي يكثف من الدلالة ومن المعنى ويجعل القارئ باحثا في أعماق النص ومُؤوّلا لدلالاته.
ومن ثم أدت الأسطورة دورا مهما في تحوّل القصيدة المعاصرة على أساس أنها تؤدي معنى إنسانيا في الحاضر، فقد ألبسها معاناة الإنسان المعاصر ومشكلاته وهمومه الآنية، مما جعل من الأسطورة جسرا بين الماضي والحاضر من أجل استشراف المستقبل في بُعده الحضاري لا بمعناه التاريخي.
لم يكن همُّ الشاعر المعاصر تحديد معنى رموزه الأسطورية من خلال نتاجه الشعري، بل ترك للمتلقي حرية اكتشاف الرموز عن طريق خلق حياة مادية جديدة يتفاعل فيها المتلقي مع النص الشعري وبالتالي تحوّلت الرموز الأسطورية في الشعر المعاصر الى عقيدة جمالية، مهمة الرمز الأسطوري هو أن يخرج العام من الخاص والحي من الميت والوجود من العدم والحضور من الغياب والحاضر من الماضي، فالرمز الأسطوري بطقوسه وأجوائه يقدم لنا وظيفة الإدراك والشعور بالمجتمع وعكس الحياة الانفعالية الجماعية للمجتمع ككل.
لقد ارتقى الشاعر المعاصر من خلال الرمز الأسطوري بالواقعة الفردية إلى مستوى الواقعة الإنسانية، حيث أصبحت الأشياء الحسية تعبيرا دلاليا عن أزمة الإنسان ووجوده في الحياة على لسان أبطال معالم أسطورية خرقت المألوف ودنت من الخيال من أجل ربط تلك العلاقة الحميمية بين الأشياء في صورة مدهشة جديدة لم يكن يعرفها الواقع ولا يدركها إلاّ في الخيال الإنساني.