افتتاح: كي لا نقع ضحيّة لسخرية الرّاوي
لا يزال "المشرط" لكمال الرياحي يتعهدنا استفزازا، موقعا في روعنا أنّنا إزاء نصّ تقوى فيه زاوية الانحراف لا عن سائد الكتابة الروائية فحسب، وإنّما حتّى عن مألوف انزياحاتها، بما يجعله نصّا اقتحاميّا اختراقيّا يستنهض فعل قراءة من جنسه، يناوش المعتاد للوقوف على ما تَخَفّى في تضاعيف النّصّ من جماليّات ودلالات لا تمنح نفسها إلّا بعد مناورة ومداورة، إغراءً بتدبّر فراغات، الصّمت ومن ثَمّ بالاستقصاء السّرابيّ الفاتن لغائر الأدبيّة وروغان المعنى، وإلّا وقعنا ضحيّة لسخرية الرّاوي ومن ورائه الرّوائيّ بداهة.
فالنّصّ برمّته خطاب ساخر يستهزئ بكلّ الثّوابت والمستقرّات، ويوقعها تحت سطوة سخرية لاذعة ينهض بها راو موغل في مَكرِه الفنّي حدّ التّلاعب بكلّ ما يطاله من العوالم والنّصوص تفكيكا وتركيبا وتشظية لعناصرها، دفعا للمماثلة وبحثا عن المغايرة، سعيا نحو الإخصاب عبر المؤاخاة بين المتناقضات. ومن أشدّ ألاعيب الرّاوي فتنة ههنا الزّج باليوميّ المعيش في دائرة العجائبيّ والكابوسيّ. ولعلّ تلك مفارقة النّصّ الجوهرية في تركيب مُتُونه المقامة أصلا على حشد المتنافرات وتدَبّر مثير علائقها، باعتبار ذلك استراتيجيّة خطاب تستهدف قراءة ساخرة يقوى فيها البعد التّداولي المنبثق عن جدل المفارقة (ironie)، بما هي "لعبة...ماهرة وذكيّة بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها على نحو يقدّم فيه صانع المفارقة النّصّ بطريقة تستثير القارئ وتدعوه إلى رفضه بمعناه الحرفيّ لصالح المعنى الخفيّ الّذي غالبا ما يكون المعنى الضّدّ" ، وهو المعنى العريق للسّخرية في قيامها على منطق الضّدّية.
الواقعيّ والحكائيّ: المشهد والخلفيّة:
إنّ النّصّ عبارة عن متنين متراكبين: يَعرِض الأوّل عوالم من مألوف الشّخصيّات والوقائع والأُطُر الزّمانيّة والمكانيّة نكاد نعايشها ملء وجودنا، أمّا الثّاني فيَعرض عوالم سحيقة من عجيب الخرافة. ومن طريف الرّوائي أن يجعل كلّا منهما يرى نفسه في مرآة الآخر، حاملا ومحمولا، صوتا وصدى، في فضاء نصّ محكوم بالتّفاعل والحواريّة، وتعدّد مرايا البثّ والتقبّل، ضمن ضرب من الكتابة يغامر "هاتكا تلك الحدود الوهميّة الّتي تريد الفصل بين المرجع والخيال" . فإذا العوالم المألوفة منها والعجيبة آخذ بعضها برقاب بعض، مردّدة أصداء أوضاع إنسانيّة موغلة في مأسويتها تطحن الكائن الإنسانيّ في بدائيّته كما في مدنيّته، لا سيما في ما يتعلّق بالانتهاك الجسدي، حتّى لكأنّ مدار أمر النّصّ الرّوائي برمّته أن يجترح كتابة انتهاكيّة تعود بالفواجع الإنسانيّة إلى الكيانات الأولى، من أجل تعْرية حقيقةٍ مُحَصَّلُها أنّ الجسد في ظلّ المدنيّة الحديثة لا يقلّ تهتّكا عنه زمن البدائيّة، على الرغم ممّا شُرع لحماية حرمته. فإذا للعنف امدادات وارتدادات، حتّى أنّ العنف الجسديّ الّذي يُوقعه "شْوِرّبْ" أو السّلطان بـــ"النّيڤْرُو" أو بنساء اللّيل الشّبقات – فيما يروي "الثّابتة" - لا يقلّ فظاعة وبشاعة عمّا يوقعه المخّاخ بالمنافيخ في القرية العجيبة، "ذلك الطّائر الخرافيّ البشع الّذي...يلحس مخّ الرّجل المصلوب" ، وكذا حال نساء الرّصيف بشارع بورقيبة الّتي لا يستقيم أمرها قصصيّا إلّا أن ينهض لها نظير عجيب من القرية نفسها، حيث المرأة "تفتح الشّباك وتضيء البيت وتهزّ صوتها بالغناء في ليالي الشّتاء الماطرة لعلّ الصّوت يصل إلى أحدهم فيأتيها" . فانتهاك الجسد الأنثوي في أيّامنا لا يقلّ وحشيّة وكابوسيّة عمّا كان يُفعل بالمرأة إذ "تُذبح في الكهف ويُنثر لحمها على الصّخور" في قرية المنافيخ في الأزمنة السحيقة.
الجسد القربان/الجسد الرّهان:
تغدو الرواية إذا ما استتب لنا هذا المنحى التحليلي قصّة الجسد وقضيّته بلا نظير: فهو من جهة قصّته من حيث هو موطن أسرار وحمّال رموز، بقدر ما يُجلِّي النّصّ بعضها يُعمِّي بعضها الآخر، من ذلك مثلا أنّ عتبة العنوان في قسمه الفرعيّ ("من سيرة خديجة وأحزانها") تنبئنا بأنّنا في صميم لغة الجسد ومتعلّقاته، إذ ينير المتن القصصيّ عتمة هذه العتبة بقول الرّاوي مفسّرا: "ونُسمّي المؤخّرة – تغزّلا - خديجة وخدّوجة" ، وهو من جهة أخرى قضيّته وهو يُنتهك ويستباح، واقعا أبدا تحت طائلة فعل الإفناء المسلّط عليه سواء أأُحرق في أتون نار البدائيّة أو مُزّق بمشرط الحداثة. وكأنّ صور الإفناء يتناسل بعضها من بعض، فتُعرض في العالم القصصيّ مشاهدَ مكرّرة حاملة القسمات ذاتها، وإن اعتراها بعض التّشويه والتّحريف. فالرّوائيّ إذ يدين ساخرا هذا الموقف من الجسد، إنّما يحتفي في السّياق ذاته بشكل مواز بجماليّة الجسد بؤريّا مكثّفا رموزه على نحو إيروسيّ يتصاعد فيه فحيح الشّهوة، ويضجّ الجسد حركة وحياة غير متهيّب عرض مكبوتاته وحالات انفلاته من عقاله، مُخرِجا إياها من دائرة المسكوت عنه إلى صوت قائم الذّات معترف به. وذلك على سبيل ردّ الفعل ضدّ كلّ أشغال الانتهاك والإفناء من جهة، وعلى سبيل ردّ الاعتبار للجسد موضوعا جماليّا وقيمة اعتبارية ضمن الرهان الحداثي تقاوم ثقافة التقبيح عبر استغوار حميميّة الكينونة من خلاله من جهة أخرى. فعلى قدر التّشويه في مستوى الوقائع القصصيّة كان التّجميل النّصيّ للجسد هاجسا أساسيّا لدى الرّوائيّ، إذ يتّخذ هُزُؤا تلك الوقائع والأوضاع الّتي يُقمع فيها الجسد وما يستدعيه من مرجعيات، وذلك على سبيل المباعدة (Distanciation) الّتي وقّع عليها نصّه على نحو احتفاليّ أشبعه شعريّة.
ويمكر الرّاوي: ترويض المادّة السّرديّة:
إنّ النّصّ الروائيّ إذ يُبنى من أمشاج النّصوص وتعدّد الأصوات القلقة قد يهفو إلى قول نقيض ما تصرّح به تلك العناصر في سياقاتها الأصليّة. فالصّوت الرّوائي الساخر لا يُبقي على دلالات تلك الأصوات إذ يضعها تحت سطوة سخريته، وذلك "اعتبارا لحدّة تأثير الصّوت السّاخر في غيره من الأصوات...فهو لا يحمل صوتا على آخر فحسب، وإنّما يفرض عليه سلطته ويوظّفه لأغراضه" ، حتّى أنّ المفارقة تنشأ "من التّعارض القائم بين المادّة القصصيّة نفسها والطّريقة الّتي تقدَّم بها" ، أو لنقل بين مناخات تبدو للوهلة الأولى متباعدة، لكن مُنعِم النّظر في النّظام الرّمزيّ للنّصّ لا يفوته إفضاؤها إلى بعضها البعض وجوها مكررةً، رموزا ومرموزات، ناطقة بالبؤس الإنسانيّ يتدبّر الرّوائي ما يراه لائطا بها من الخطابات وما يناسبها من الأشكال والأبنية، مداخلا بين العوالم المتباعدة غير مستنكف أن يروّض المادّة السّرديّة حتّى يستوعبها خطابٌ مّا لا عهد له باستيعابها، أو أن يختبر إمكانات جديدة لذلك الخطاب حتّى يغدو فائضا عن حدوده.
فالعنف والقتل والاغتصاب والتّشرّد والحرمان أوضاع تظلّ تتكرّر، وإن اختلفت أشكالها بين عالم الواقع والخرافة، مشكّلة التّيمات (thèmes) المركزيّة لعالم المهمّشين الأثير في النّصّ الرّوائيّ الذي يوازي فيه ساخرا بين الواقع والحكاية، مُوقِعا بينهما من اللّبس ما يُحيل العلاقة بينهما استحواذا متبادلا، وكذا يفعل بــ"هراء" "الثّابتة" في المقهى الذي قُدَّتْ مادّته من عجيب اليوميّ المعيش، فيُحيله وجها آخر لحَكايا تمثال ابن خلدون حول مغامراته في القرية العجيبة. وإذا "الحكاية تنقلب واقعا" ، مثلما ينقلب الواقع حكاية. "ففى الحياة ما هو أعجب من...القصّ العجائبيّ" . غير أنّ تعاقب الواقعيّ والحكائيّ في النّصّ الرّوائيّ ينطوي على توتّر جوهري مأتاه أنّ كلاّ منهما يمارس التّظنّن على ذاته والآخر في الآن، دون أن يُفضي ذلك إلى أفق جليّ المعالم، حتّى لكأنّ أصداء صيحة كافكا (Franz Kafka) - في ما ينقل عنه جورج باتاى (Georges Bataille) - تظلّ تتجاوب: "أنا غير راض حتّى عن عدم رضاي" . ولعلّ ذلك ديدن النّصّ الرّوائيّ في تشكّله غير المنتهي أبدا المفتوح على مطلق إمكانات الكتابة الإبداعية.
مشرط الجسد/مشرط النّصّ:
يبدو نصّ "المشرط" من النّصوص الّتي تتشبّه فيها الكتابة الرّوائية بما تبنيه من عوالم سرديّة. فبقدر ما يمزّق المشرط في المتخيّل السرديّ أجساد النّساء وتحديدا في مناطق حسّاسة منها، يمزق مشرط الكتابة أوصال البناء السّرديّ في عمقها الغائر، حتّى ليكاد يذهب بماء قصصيّته، وعلى قدر جرأة المروي وإعماله المشرط في المواضعات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة، يكون إعماله في مواضعات الكتابة الرّوائية موقعا صدمة بالغة العنف بالمتلقّي، لا بما يفتحه من أبواب السّرّيّ الثّاوي في أغوار النّفس الإنسانيّة فحسب، وإنّما أيضا بقطع مشرطي لأواصر العلاقة بين عناصر السّرد لاختبار إمكانات صلات جديدة بينها سمتها الغرابة والإثارة، عبر إعادة الروائي رتق بعض تلك الأجزاء والعناصر على نحو صادم، والإمعان في بعثرة بعضها الآخر، مغريا القارئ بلمّ شتاتها على سبيل استدعاء الأشباه والنّظائر إيهاما بالمشاكلة بينها على الرّغم من تباعدها، موحيا بأنّها وإن تناءت تظلّ صورا شتّى للإنسان المقموع والمستلب أبدا، سواء أسَحَقتْه البدائية قربانا لمقدّساتها، أم أحالته المدنيّة الحديثة إلى مجرّد "صدى لضجيج المدينة...دون أن تتيح له المدينة أن يعرف ذاته أبدا" . وبين كلّ صورة ونظيرها تشتغل ذاكرة السّارد مشكّلة هذه من تلك، وتلك من هذه، وهكذا.
الصّورة لغة المرعوب:
بدا زمن الرّواية جماع كلّ الأزمنة "أي...الزّمن...الإنسانيّ، والإلهيّ، اليوميّ، والكونيّ الهُنا والهناك" ، على هيئة صور متداعيّة متدافعة حينا متجاذبة حينا آخر. فصورة تشريد العصافير في "شارع الشّوارع...[بعد أن] ذبّحوا الأشجار" ما هي إلّا صورة مستعادة لتشرّد السّارد عن قريته، حتّى أنّ مشهد "العصافير...تنوح كلّ الوقت على أعشاشها التي بعثرتها الصّقور وصغارها التي أكلتها الثّعالب" استنهض مشهدا ثاويا في ذاكرة السّارد إذ يقول: "تذكرت قريتي التي أكلها الغول وخرّوبتنا التي خرّبتنا" . فبين المشهد المرئي والمشهد المستحضر التقاءات شتّى أبرزها بشاعة لوضع الإنسانيّ وحدّة الوعي المفجع به، باعتبار أنّ "لغة المرعوب هي الصّور...ولغة الصّور لا تقول إنّ الواقع عصيّ على الشّرح، بل تبيّن فقط أنّه جاوز في تفاهته المراجع الإنسانيّة المتعارف عليها" ، إلى حدّ استدعاء أجواء المسخ الكافكاويّ.
كابوسيّة المشهد وسخرية الخطاب:
جعل الرّاوي كابوسيّة المشهد بمثابة الإيقاع المصاحب لوقائع نصّه السّرديّ، ناحيا بها منحى تغريبيا أقامه على التّخييل الرّمزي، عبر النّبش في أعماق المخيال الشّعبيّ الحافل بالكائنات العجيبة، على غرار "النّسناس وهو كمثل نصف الإنسان، بيد واحدة، ورجل واحدة، ويثب وثبا، ويعدو عدوا شديدا...وقيل إنّه يتغذّى بالثّمار والنّبات، ويصبر على العطش" ، وطائر المخّاخ، وهو مسخ نتج عن جماع بين رجل وبغلة، فــ"طرحت البغلة مولودا عجيبا وجهه بغل وقوائمه مثل رجليْ الإنسان نبتت له أربعة أجنحة وطار...وحلّق في السّماء مطلقا صراخا كصراخ الرُّضَّع" ، ملمحا بذلك إلى أنّ الواقع الرّاهن لا يقل مسخا عن المتخيّل. لذلك يؤطّره ويمهّد له ليطرح الرّاوي من خلاله - مفتعلا السّذاجة - عنف اليوميّ المعيش. وكأنّ المشهد المسخيّ الكابوسيّ يأتي على سبيل التّطهير (catharsis) الذي قد يجعلنا نتعامل مع واقع المسخ مؤمنين بأنّنا لسنا وحدنا في مواجهة عنفه من جهة، وأنّ منه ما هو أفظع وأفتك بالكائن الإنساني من جهة أخرى. فإذا النّصّ الرّوائيّ يفسّر بعضه بعضا، باعتبار هذا المسخ رمزا لذاك، لا سيما وقد استبدّت بالنّصّ الرّؤى والكوابيس نازعة منزع استدعاء الرّمز لمرموزه، بما يحقّق "الإيحاء الضّروريّ والدّلالة اللّازمة التي تُشعر الإنسان بفداحة التّهميش" المسلّط عليه. وهو ما يجلّيه النّصّ لا من حيث المادّة المرويّة فحسب، بل خاصّة من حيث فنّيّات الكتابة الرّوائيّة. ومن أبرزها ههنا افتعال السّذاجة والإيهام بتشكيل النّصّ من شذرات من اليوميّ والتّاريخيّ والحكائيّ في تَبَالُهِ مَنْ يجعل "الأحداث تبدو وكأنّها تُسرد من تلقاء نفسها" ، على حدّ عبارة بنفينيست (Emile Benveniste)، فتتنادى تلك الشّذرات لتُقيم أوْد النّصّ وتَمدّ الجسور بينها ساخرة حتّى "تلامس قضايا مغرقة في الجديّة بشكل يثير الهزل" . فإذا "حكاية المؤخّرة [استعادة لحكاية] حرب العرب ضدّ إسرائيل...[و] إنّ تلك القصّة بسخريتها كانت أصدق تعبير عن الهزيمة" ، وإذا "قضيّة قناص النّساء" تتحوّل من قضيّة رأي عامّ إلى موضوع جدل بين أساتذة الجامعة، بم يؤهّلها لأن تصبح من قضايا الفكر وإشكالاته.
النّصّ الرّوائيّ يدور على نفسه:
إنّ الرّاوي قد يتحوّل في بعض المواطن من النّصّ من رواية القصّة نحو رواية قصّة كتابتها، كاشفا بذلك كواليسها فاتحا أرشيفها، على غرار قوله: "الكتابة في السّرير مقلقة، سأنام، لا أدري لماذا حملت هذا الدّفتر اللّعين معي إلى الفراش" . فيدور النّصّ الرّوائي بذلك على نفسه تأمّلا ومساءلة، في ضرب من الخطاب الواصف يجعل الرّاوي يعود على مرويّه بالمراجعة والتّقويم، بل قد ينفيه ويُلغيه إلغاء ناكثا سرده من أساسه، من تلك قوله: "لقد حسمت أمرين لن أكتب شيئا بعد اليوم عن ابن خلدون، أصبحت متأكّدا أنّي أتوهّم، لا يمكن للتّماثيل أن تتكلّم وتتحرّك... التّماثيل هي التّماثيل، عيب ما أفعله لأدعها تنام في سلام" . فمن مخاتلات الرّاوي في هذا النّصّ الزّج بالخطاب القصصيّ ضمن جدل النّفي والإثبات، والقول والتّراجع عنه، باعتبار أنّنا إزاء نصّ من شروط وجوده أن يظلّ على هيأة مشروع في طور التّكوين وقيد الإنشاء، بل يظلّ "نصّا غير مستقرّ، وغير مكتمل، وغير مغلق" ، وهو فضاء لالتباس الرّؤى وتعدّد وجهات النّظر وتنسيب الأفكار والمواقف، مثيرا بحدّة قضية الجنس الأدبيّ في نفي ذاته وإثباتها، باعتباره من النّصوص التي "تعدّل علاقة الكتابة بجنسها" ، موحيا "بالسّخرية من كلّ قراءة تعتبره رواية أو...من اعتباره كذلك بمفاهيم تقليديّة" ، داعيا بذلك إلى ميثاق قراءة جديد.
تخييل الوثائق:
لعلّ من أهمّ مسالك مكر الرّاوي التي يضرب فيها غير هيّاب في هذا النّصّ الرّوائي افتعاله الحياد مضمّنا الأسلوب الصّحفيّ على سبيل المحاكاة السّاخرة (Parodie) إلى حدّ جعل بعض قصاصات الجرائد والمجلات بمثابة الوثائق المرجعيّة – وإن على سبيل الادّعاء والافتعال - حتّى أنّ "الرّاوي...يتناوب السّرد مع الوثيقة" . فإذا بنا إزاء نصّ يذهب بعيدا في تخييل الوثائق، على الرّغم ممّا يشاع لدى النّقاد من أنّ "لغة التّقارير والمذكّرات التّقريريّة...تُضعف من السّياق الرّوائيّ" . غير أنّ النّصّ التّجريبيّ ينأى بجانبه عن هذه الفكرة، إذ ما يفتأ تجرّب ويختبر بحثا عن المادّة السّردية في مظانّها. وهو أمر قد يُعزى إلى تأثّر الرّوائيّ ذاته بالأسلوب الصّحفيّ لطول تمرّسه به إياه أثناء اشتغاله بالصّحافة. فضلا عن استلهامه لضروب من الفنّ التّشكيليّ على غرار الرّسم والنّحت لاجتراح تشكيلات للسّرد مختلفة.
اختتام: التّجريب والتّعجيب
وهكذا ينزع النّصّ الرّوائيّ التّجريبيّ إلى كشف خيوط لعبته السّردية وفتح أرشيفه أو مكتبته، بما يجعله أفقا تفاعليّا مع القارئ يقع ضمن حيّز المشترك المرجعيّ (Co-référence) ضمن معايشة جماليّة يلابس فيها فعلُ الكتابة فعلَ القراءة، وقد تغيّرت مواثيق كلّ منهما بحسب المناخات التي يرتادها النّصّ ويداخل بينها في ضرب من الفتنة والغواية مربك عجيب، لعلّه سرّ جماليّة النّصّ الرّوائيّ التّجريبيّ، حتّى أنّنا نكاد نجزم بصلة رحِم عميقة بين التّجريب والتّعجيب في هذا النّصّ، وربّما في غيره من النّصوص التي اختارت أن تضرب في متاهة التّجريب.
الهوامش والإحالات:
1 صدرت عن دار الجنوب للنّشر، سلسلة عيون المعاصرة، تونس، 2006
2 نبيلة إبراهيم: فنّ القصّ في النّظرية والتّطبيق، مكتبة غريب، القاهرة، د.ت ، ص 198
3 الأمين بن مبروك: القصّة القصيرة عند زكريا تامر، مكتبة علاء، الدّين، صفاقس - تونس، 2008، ص 248
4 الرواية، ص 35
5 المصدر نفسه، ص 37
6 م . ن ، ص . ن
7 م . ن ، ص 134
8 محمد رشيد ثابت: التّجريب وفنّ القصّ في الأدب العربيّ الحديث في السّبعينات والثّمانينات، دار ابن زيدون للنّشر، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، سوسة - تونس، 2004، ص 318
9 سيزا قاسم: المفارقة في القصّ العربيّ المعاصر، مجلة فصول، العدد 68، مصر، شتاء- ربيع 2006، ص 149
10 الرواية، ص 131
11 المصدر نفسه، ص 143
12 Georges Bataille: la littérature et le mal, Gallimard, Paris, 1990, p 186
13 فيصل درّاج: نظريّة الرّواية والرّواية العربيّة، المركز الثّقافي العربيّ، ط 2، الدّار البيضاء، 2002، ص 287
14Henri Lefebvre: la vie quotidienne dans le monde moderne, Gallimard, Paris, 1968, P 12
15 الرواية، ص 97
16 المصدر نفسه، ص 98
17 م . ن ، ص 98
18 فيصل درّاج: نظريّة الرّواية والرّواية العربيّة، ص 301
19 الرواية، ص 30 - 31
19 المصدر نفسه، ص ص 31 - 32
21 الأمين بن مبروك :القصّة القصيرة عند زكريا تامر، ص 176
22 P 241 Emile Benveniste: Problèmes de linguistique générale, Gallimard, Paris, 1966,
23 خليل قويعة: فنّ الكاريكاتير: فنّ مشاكس أو لا يكون، مجلّة الفكريّة، تونس، العدد 22 جويلية، السّنة الرّابعة، أوت
2015، ص 2
24 الرواية ص ص 132- 133
25 المصدر نفسه، ص 123
26 م . ن ، ص 142
27 م . ن ، ص 143
28 ميخائيل باختين: الملحمة والرّواية، ترجمة: جمال شحيد، معهد الإنماء القومي العربي، بيروت، 1982، ص 66
29 قيس الهمّامي: التّجريب وإشكاليّة الجنس الرّوائيّ، مجمع الأطرش للكتاب المختصّ، تونس، 2009، ص 130
30 المرجع نفسه، ص 114
31 م . ن ، ص 47
32 أحمد محمد عطية: أصوات جديدة في الرّواية العربيّة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1987، ص 41
المصادر والمراجع:
المصدر:
- الرياحي (كمال): المشرط (من سيرة خديجة وأحزانها)، دار الجنوب للنّشر، سلسلة عيون المعاصرة، تونس، 2006
المراجع:
- إبراهيم (نبيلة): فنّ القصّ في النّظرية والتّطبيق، مكتبة غريب، القاهرة، د.ت
- باختين (ميخائيل): الملحمة والرّواية، ترجمة: جمال شحيد، معهد الإنماء القومي العربي، بيروت، 1982
- ثابت (محمد رشيد): التّجريب وفنّ القصّ في الأدب العربيّ الحديث في السّبعينات والثّمانينات، دار ابن زيدون للنّشر،
كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، سوسة - تونس، 2004
- درّاج (فيصل): نظريّة الرّواية والرّواية العربيّة، المركز الثّقافي العربيّ، ط 2، الدّار البيضاء، 2002
- عطية (أحمد محمد): أصوات جديدة في الرّواية العربيّة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1987
- قاسم (سيزا): المفارقة في القصّ العربي المعاصر، مجلة فصول، العدد 68، مصر، شتاء- ربيع 2006
- قويعة (خليل): فنّ الكاريكاتير: فنّ مشاكس أو لا يكون، مجلّة الفكريّة، تونس، العدد 22 جويلية، السّنة الرّابعة، أوت 2015
- بن مبروك (الأمين): القصّة القصيرة عند زكريا تامر، مكتبة علاء، الدّين، صفاقس - تونس، 2008
- الهمّامي (قيس): التّجريب وإشكاليّة الجنس الرّوائيّ، مجمع الأطرش للكتاب المختصّ، تونس، 2009
Bataille (Georges), la littérature et le mal, Gallimard, Paris, 1990-
Benveniste (Emile): Problèmes de linguistique générale, Gallimard, Paris, 1966 - Lefebvre (Henri): la vie quotidienne dans le monde moderne, Gallimard, Paris, 1968 -