إذا كان التحليل التوزيعي لهاريس قد حظي بقصب السبق في تمطيط مجال البحث اللساني ليشمل ضمن موضوعاته الخطاب. فإن إميل بنفنست يقدم طرحا منهجيا ستستوحي من منجزه تصورات لاحقة سيكون لها بالغ الأثر في الدراسات الأدبية، التي تنهض على المرتكزات اللسانية.
ينطلق اللساني الفرنسي من منظور مغاير يصرح من خلاله بأن " الجملة فئة لوحدات تمييزية، تكون عناصر مفترضة لوحدات كبرى، كما هو الحال بالنسبة للفونيمات أو المورفيمات. فهي تختلف تماما عن باقي الكيانات اللسانية. وأساس الاختلاف هو أن الجملة تتضمن دلائل (جمع دليل)، لكنها ليست في حد ذاتها دليلا"1. من هنا، نستطيع أن نتصور أن الجملة تختلف اختلافا كليا عن باقي الوحدات اللسانية التي تخضع لعمليات الاستبدال أو التركيب : "فمع الجملة نترك مجال اللسان بوصفه نظاما للعلامات، وندخل في عالم آخر؛ هو اللسان بوصفه أداة للتواصل، حيث التعبير هو الخطاب"2. إن هذه الخصائص تجعلنا نكتشف عالمين مختلفين، بالرغم من معانقتهما لنفس الحقيقة. إذ يحيلان على لسانيتين مختلفتين بالرغم من أن سبلهما تتقاطع في كل لحظة. "فهناك من جهة اللسان، باعتباره مجموعة من العلامات المستخرجة بواسطة إجراءات صارمة، مدرجة من فئات، ومركبة إلى بنيات أو أنظمة. ومن جهة أخرى، هناك تجلي اللسان في عملية التواصل. فالجملة تنتمي إلى الخطاب. من هنا بالذات يمكن تعريفها: الجملة هي وحدة الخطاب"3. فمن خلال الخطاب المحين عن طريق الجمل يتكون ويتشكل اللسان، لذلك نجد بنفنست يرى الجملة أصغر وحدة في الخطاب.
وبخلاف هاريس الذي يقف عند حدود بنية الملفوظ، نجد بنفنست في الفصل التاسع عشر من المجلد الأول* لدروسه، يقيم تعارضا بين كل من التلفظ والملفوظ. فالأول هو "الفعل الذاتي في استعمال اللغة: إنه فعل حيوي في إنتاج نص ما، مقابل الملفوظ (énoncé) باعتباره الموضوع اللغوي المنجز والمغلق والمستقل عن الذات التي أنجزته. وهكذا يتيح التلفظ دراسة الكلام من مركز نظرية التواصل ووظائف اللغة. ويرى بنفنست أن التلفظ هو موضوع الدراسة وليس الملفوظ"4. ففعل التلفظ، عنصر من عناصر اللغة التي تشكل ماهية الخطاب. لذا نجد بنفسنت يقدم تعريفا لهذا الأخير باعتباره: "كل تلفظ يفترض باثا ومتلقيا، وفي نية الأول التأثير في الآخر بطريقة ما"5. انطلاقا من هذا التعريف، يميز بنفنست بين مستويين مختلفين للتلفظ هما: الخطاب (discours) والحكي (récit)، ويشدد على هذا التمييز حين قوله: "إن التمييز بين الحكي والخطاب لا يصادف عادة ذلك الذي بين اللسان المكتوب واللسان الشفوي. فالتلفظ التاريخي يحتفظ به الآن للسان المكتوب. لكن الخطاب يوظف مكتوبا أو شفويا، ففي الممارسة نمر من الواحد إلى الآخر فوريا"6.
بذلك يكون بنفنست قد وسع مفهوم اللسانيات ليصبح أكثر رحابة، خصوصا بعد مناقشة التلفظ وصلته بالخطاب. وإن كان هذا الأخير لا يبارح الحدود التي أطرها الصرح اللساني.
بالحديث العلمي والمفصل لبنفنست عن عملية التلفظ وعلاقتها بالخطاب، يعود في المجلد الثاني من دروسه ليعلق على مقاربة سوسير للجملة "وليؤسس داخل اللسان تقسيما أساسيا يختلف كليا عن ذلك الذي حاول سوسير أن يضعه بين اللسان والكلام"7. فإذا كانت المسألة اللسانية عند سوسير هي قبل كل شيء مسألة سيميولوجية وكل بحث في تقدم اللسانيات وتطورها يأخذ مغزاه من السيميولوجيا ما دامت اللغة نظام من العلامات. فإن العلامة لا تصلح لأن تكون الهيكل العام المنظم للأداء اللغوي أي الكلام. لذلك نجد بنفسنت يقدم طرحا منهجيا يحل به الإشكالية التي وقف عندها سوسير، بالتمييز بين كل من السيميوطيقا وعلم الدلالة (Sémantique). "فالسيميوطيقا تشير إلى صيغة من التدليل (signifiance) الخاصة بالدليل اللساني والذي تؤسسه بوصفه وحدة... مع علم الدلالة ندخل في صيغة خاصة للتدليل المؤطرة بواسطة الخطاب... فنسق علم الدلالة يتحدد بعالمي التلفظ والخطاب"8.
داخل هذا الإطار يرى جان ميشال آدم (J.M. Adam) أن بنفنست يميز بين اللسانيات باعتبارها نظاما للسان أو السيميوطيقا، حيث تكون الوظيفة استبدالية، وحيث الدليل اللساني وحدتها. وبين لسانيات الخطاب أو علم الدلالة، حيث تكون الوظيفة تواصلية، وحيث الجملة هي وحدتها. فبنفنست يتجاوز المفهوم السوسيري للدليل كمبدأ وحيد ترتبط به كل بنية ووظيفة للسان. ويتحدد هذا التجاوز بفتح مسارين:
"في التحليل الداخل – لساني (intralinguistique)، عبر فتح جديد للتدليل، هو الخطاب، الذي نسميه علم الدلالة، والمختلف عن ذاك المرتبط بالدليل، والذي سيكون سيميوطيقا (sémiotique).
في التحليل عبر- لساني (translinguistique) للنصوص، الأعمال (Les œuvres)، بواسطة إعداد ما وراء – علم الدلالة (Méta sémantique) التي ستبنى بواسطة علم دلالة التلفظ"9. ...... لقراءة تتمة المقال يرجى التحميل من الرابط أسفله
تحميل كامل المقال من هنا
1 - Emile Benveniste. Problèmes de linguistique générale, Editions cérés, tunis 1995, tome I (page 130).
2 - نفسه (الصفحة 131).
3 - نفسه (الصفحة 131).
* - عنوان الفصل هو: علاقات الزمن في الفعل الفرنسي.
4 - إميل بنفنست، سوسيولوجيا اللغة، ت: سيزا قاسم، ضمن كتاب مدخل إلى السوسيوطيقا، دار إلياس العصرية، القاهرة، د ت، د. ط، صفحة 189.
5 - Emile Benveniste. Problèmes de linguistique générale, tome I page 241.
6 - نفسه (الصفحة 241).
7 - J.M ADAM : La linguistique textuelle, édition Armand colin, paris 2006 (page 18).
8 - نفسه (الصفحة 63).
9 - الرسم مترجم من كتاب J.M ADAM (la linguistique textuelle) (الصفحة 15).