في طريق عودته من الحرب الشرسة على طروادة، كابد أوليس، بطل أوديسا هوميروس(1)، أهوالا جمة سلطتها عليه الآلهة انتقاما. ومن العوائق التي واجهها في المراحل الأخيرة من رحلة عودته أن غرقت سفينته الأخيرة، وغرق معها كل رفاقه، وقادته قوة إلهية إلى جزيرة أوجيجي Ogygié حيث تقيم الإلهة كاليبسو Calypso منعزلة عن أي كائن إلهي أو بشري . كانت كاليبسو آية في الجمال، وجزيرتها قطعة من الجنة. وقد تعلقت بأوليس ورغبت في بقائه معها زوجا. ولما رفض احتجزته سبع سنوات. كان يقضي الليل في فراشها دون رغبة، ويمضي نهاره جالسا على الشاطئ متطلعا إلى الأفق البعيد، حزينا باكيا، حالما بالعودة إلى جزيرته إيطاك، وإلى زوجته بينيلوب وابنه تيليماك. علمت أثينا بالأمر فتدخلت لدى والدها الإله الأكبر زوس كي يجبر كاليبسو على إخلاء سبيل أوليس. ( الأوديسا، ص 6) أرسل زوس الإله هرميس Hermès ليأمرها بأن تفك أسر سجينها. ويستغل هوميروس لحظة وصول هيرميس ليصف جمال الجزيرة التي تقيم بها كاليبسو، والتي لم يحل جمالها دون رحيل أوليس إلى وطنه. يقول هوميروس: " حين وصل هيرميس Hermès إلى هذه المنطقة النائية عن العالم، اقترب من الجزيرة، وخرج من البحر البنفسجي ماشيا، دخل إلى اليابسة وتوجه نحو المغارة التي اتخذت منها الغادة ذات الظفائر منزلا لها. وجدها هناك قرب مخدعها أمام نار مضيئة. كانت رائحة الأرز والصنوبر تنبعث من بعيد، وتعطر الجزيرة. كانت الغادة هناك تغني بصوت جميل، وتنسج على منسجها الذهبي. حول المغارة نبتت أشجار ضخمة في كامل عنفوانها: جار الماء وحور وسرو فواح حيث كمنت طيور كبيرة، بومات وصقور وغربان تنعق، طيور تعيش بالبحر وتقيم على اليابسة.
على أطراف قبة المغارة، كانت كرمة تنشر أغصانها، تزينها العناقيد. اصطفت أربع عيون تسكب أمواجها المتلألئة، فيسري ماؤها عبر المروج الطرية، حيث البقدنوس والبنفسج المخضوضر. هذا المكان يفتن حتما كل من يزوره من الكائنات الخالدة، فيسحر نظرها ويطرب روحها. توقف الإله (هرميس) متأملا هذا المشهد الآسر". ( الأوديسا، ص 67-68 )
لم تستطع كاليبسو أن تعصي أمر الإله الأكبر، فخيرت أوليس بين الرحيل والبقاء. وحاولت إغراءه بأن عرضت عليه شبابا دائما وحياة خالدة إن هو قبل البقاء معها واتخاذها زوجة. لكنه رفض، وفضل مواجهة أهوال البحر التي أنذرته بها، راغبا في العودة إلى جزيرته ومملكته وزوجته وابنه. وقد جرى بينهما الحوار التالي:
" قالت كاليبسو :
- هكذا إذن يا أوليس العظيم، تريد العودة إلى بيتك، وإلى أرضك ووطنك. عليك سلامي إذن. لو علمت ما ينتظرك من أهوال قبل العودة إلى وطنك، لبقيت معي هنا. سأمنحك الخلود، مع أنك ترغب في رؤية زوجتك التي تتحسر على فراقها كل يوم. أنا فخورة بأنها لا تفوقني جمالا ولا ذكاء، لأن البشر ذوي الحياة الفانية لا يمكنهم أن ينافسوا الكائنات الخالدة في جمالها.
أجاب أوليس اللطيف:
- أيتها الإلهة المبجلة، لا تغضبي مني. أنا أعرف أن بينيلوب أقل منك جمالا ومهابة. إنها فانية، بينما لن تعرف الشيخوخة طريقها إليك، ومع ذلك فإن ما أرغب فيه كل يوم هو لحظة العودة والرجوع إلى بيتي. وإذا سلط علي أحد الآلهة شرورا على متن البحر الداكن، فإنني سأتحمل ذلك بقلب ثابت. لقد تألمت كثيرا بساحة الحرب. وإذا كان ضروريا أن أتعرض لمزيد من الآلام، فليكن". (الأوديسا، ص 71-72 ).
هكذا إذن رفض أوليس الخلود والشباب الدائم، ورفض عالما إلهيا مطلقا وثابتا، كما رفض وهم الصفات إلهية. وفي المقابل، رضي أوليس بحياته النسبية وبقدر الموت، وواجهه بشجاعة. لقد عبر عن وعيه بأن عالمه النسبي والمحدود أغنى بتجدده من عالم الآلهة الثابت والمطلق. وكذلك رفض أوليس موطنا هو قطعة من الجنة، كما رفض جمال كاليبسو الدائم، وفضل جزيرته الصخرية وزوجته الفانية. وبذلك جسد عظمة الإنسان في أبهى صورها حين بين أن الهدف من الحياة البشرية ليس هو الخلود أو الشباب الدائم، ولكنه الصراع حتى الموت من أجل رسم هدف والعمل على تحقيقه.
في رواية "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية"(2) لعبد الرحيم لحبيبي، عاش العبدي، بطل الرواية وساردها، تجربة مماثلة من هذه الناحية لتجربة أوليس.
غادر العبدي مدينة آسفي إلى فاس للدراسة بالقرويين، وبعدها قصد المشرق "حيث الينابيع الأولى" للفقه والعلم (ص 35). سافر صحبة القوافل عن طريق الصحراء. وفي مرحلة من سفره، وجد نفسه مضطرا لمواصلة السير وحيدا وسط الصحراء. يقول السارد:
"توكلت لآخذ طريقي وحيدا حتى وجدتها أمامي تفتح لي ذراعيها بحرارة وشوق ولهفة كأنني كنت قد ضعت منها.. ولم تهدأ حتى وأنا أخلع ملابسي وأتعرى عندما أصبحت ثقيلة ومتعبة. ولو خيرت لفسخت جلدي أيضا، ومع ذلك لم ترحمني. تسربت إلى عظامي ودمي وعروقي حتى تحولت إلى جمرة حمراء من اللظى، أشم رائحة الشواء المنبعثة من لحمي... مرت بي لحظات وساعات، وربما أيام بنهاراتها ولياليها... عشتها بين الغيبوبة واليقظة، بين الحياة والموت... "،(ص 180-181).
ومثلما حدث لأوليس حين نجا من أهوال البحر ومن الموت، ووصل إلى جنان كاليبسو، وجد العبدي نفسه فجأة في مكان يشبه الجنة، بعد أهوال قاسية قاربت الموت بالصحراء. يقول البطل السارد: "وجدت نفسي أستفيق بعد غيبة طويلة عن عالم الشهادة، علي من الثياب ما لم أر من قبل، سندس خضر وإستبرق وأساور من فضة ، وشراب طهور بجانبي، متكئا على أرائك وثيرة منفوشة ... تتدلى فوق رأسي أشجار مثمرة يانعة... كذبت عيني فقلت إنني أحلم، فتحتهما على ســعتــهـما، فـقـلت : هو الحق والعلم اليقين... (ص 181 -182).
وإذا كان هذا العالم نقيضا للجحيم الذي كان فيه العبدي، فإن له وجهه الآخر الذي لا يشبع حاجات الإنسان للحياة. سيتبين أنه عالم يفتقر لمقومات الحياة البشرية الحقيقية، لأنه لا يحتاج إلى فعل، يكفي أن يجول الشيء بخاطر المرء فيتحقق على الفور. يقول الرجل النوراني مقدما هذا العالم للعبدي: "تأتي أفعالك تبعا لما في خاطرك، ولن يتعبك فعل هنا. فالمشي أو الجري أو الأكل وغيرها لم تعد – هنا – أفعالا تتطلب جهدا... إنس أفعال الدنيا، فلن تجدها..." (ص 183). هذا الوضع يجرد وجود الإنسان من لذته، لأن الحياة الحقة مشروع يعمل الإنسان على تحقيقه، يفشل تارة وينجح تارة أخرى، وكل قيمة الحياة في هذا الصراع الذي تتبلور داخله شخصية الإنسان ووعيه. وحين يصبح كل شيء في المتناول دون فعل، وحين تتحقق كل رغبة بمجرد حضورها في الذهن، تتحول الحياة إلى عبء على صاحبها. يقول السارد: "كل ما أحببته وخطر ببالي يحصل. تحضر المرأة في ذهني، فتحضر فورا بمجرد التفكير فيها، وهي تقرأ أفكاري فلا أستطيع الاحتفاظ بأي سر... تقرأ أفكاري... فتتشكل في صورة المرأة التي في خاطري..." ( ص 185).
وعالم الملكوت هذا مجرد من بعدي الزمن والمكان. والحال أن لا تجربة إنسانية يمكن أن تحدث خارج الزمن والمكان. لذلك لم يعد العبدي يشعر بوجود حقيقي. يقول: "لم أكن أعرف النهار من الليل، فهنا لا تشرق الشمس ولا تغرب، ولا ينير القمر ظلمة الليل... لم أعرف كم قضيت من الأيام، لا صباح ولا مساء، ولا استيقاظ ولا نوم" ( ص 185). ويقول أيضا: " وطال الأمد بي أو ظننته هكذا ، فلم يعد للزمن معنى، ولا للمكان صفة أو اسم. فأنا موجود وغير موجود، معلوم ومجهول... صعب علي القرار، ودب في نفسي الملل" ( ص 187).
وهذا الفردوس لا يحتاج أيضا إلى استخدام اللغة. فالكائنات التي تسكنه تتواصل بالخواطر. يعرف كل كائن ما يجول بخاطر صاحبه دون كلام. هذا الوضع يحرم الإنسان من اللغة كنشاط أساسي يميزه عن غيره من الكائنات. فباللغة ينظم عالمه، ويعطي معنى للأشياء؛ وبها يصوغ المفاهيم للسيطرة ذهنيا على واقعه؛ وبدونها يصبح غريبا عن عالمه، فاقدا لفاعليته وإنسانيته. يقول: "عندما خامرني السؤال عن اللغة التي بها يتكلمون... جاءني الجواب توا: أهل الملكوت لا يتكلمون لغة الكلمات طالما يفهمون لغة الخواطر... كل اتصال يتم بالتأمل الداخلي... إن خطر لك شيء كالطعام مثلا وكنت جائعا، فقبل أن تجاهر أو تفتح فمك، تجد أمامك طابورا من الحسان... وهن يحملن أصنافا من الطعام الذي اشتهيت وتمنيت فجال بخاطرك..." ( ص 184 ؟)
ولعل قمة الضيق تجسدت لحظة سؤال العبدي عن المفكرين والشعراء وعن الكتابة وما تثيره من جدل فكري ونقاش مثمر. يقول: " قلت له بدون استهلال: هل معكم في هذا الملكوت شعراء وأدباء، كما حكى أبو العلاء المعري؟... تكلم قائلا: ألم أقل لك من قبل: انس الدنيا وما فيها. لن يتكرر في الملكوت ما وقع في الدنيا...المعري صاحبك هذا تخيل في الآخرة ما لم يره في الدنيا، بل سمع عنه وروي له. لقد أراد أن يكتب عن الجنة والنار فوجد نفسه يكتب عن الدنيا ومتاعبها.. قلت برجاء: هل تسمح لي أن أسأل.. قاطعني بقوله: أعرف ما يجول بخاطرك، كيف يمكن للإنسان أن يعيش في الملكوت بلا شعر أو أدب أو تاريخ ، أنت تريد نعيما تلقى فيه الشعراء والمؤرخين والتراجمة والفلاسفة والمناطقة وأهل الأدب واللغة وعلماء الدين، يتحاورون ويتجادلون ويفند بعضهم البعض الآخر وينتقده، ولكن خاطرك توقف عند هذا، لم تقل: هل سيكتبون وينشرون؟ ومن سيقرأ لهم؟ أين جمهور القراء والرواة والحفاظ... لكن لا تكون الآخرة آخرة إلا إذا انمحت فيها كل صور الحياة الدنيا... الإنسانية تنتهي مع الحياة الفانية" ...( 186- 187)
هكذا يصبح المكان مجردا من النشاط المعرفي، فلا فكر ولا شعر ولا نقاش... وهكذا تصبح الحياة سطحية رتيبة ومملة، ويتجرد الإنسان من ملكته الأساسية، ملكة العقل، ويلغى أي تفاعل إيجابي بينه وبين محيطه، فتفقد الحياة معناها.
هذا الوضع قاد إلى النتيجة الحتمية. لقد اتخذ العبدي قراره البطولي الشبيه بقرار أوليس، بمغادرة هذا الفردوس الذي أضحى سجنا، ليعود إلى الحياة الدنيا الرحبة بمسراتها ومتاعبها. يقول:
"قلت لصاحبي النوراني: تتنازعني يا صاحبي قوتان. أنا معكم هنا أحس وأشعر بما أنتم فيه من نعيم... وفي مرات أخرى يجتاحني بحر هائج من ذكريات وأحلام ماضية فأبدو كمن تتقاذفه أمواج المد والجزر... (ص 187) ...أمهلني بعض الوقت، أتدبر أمري، وأعرف فصلي من أصلي، إن كنت مقيما خالدا أبدا أو راحلا ظاعنا غدا، وما أراني إلا كذلك، وليفعل الله أمرا كان مكتوبا. قال: وهو كذلك". ( ص 188).
وفي الصباح وجدت نفسي في العراء وسط واحة نخيل، علي ملابس مما كان عندي، ولكنها جديدة... هل قرأ رفيقي النوراني خاطري؟ آه ، نسيت. إنهم يقرأون الخاطرات...لقد عرف سريرتي فأسرع بالحكم الفصل، وها أنا ذا مرة أخرى في بيداء مقفرة... ( ص 188)
ويبدو أن العبدي، بعد هذه العودة إلى حياته الطبيعية قد حسم أمر الحقيقة والوهم في ما حدث له. يقول: "قضيت أياما كئيبا شارد الذهن مبلبل الخاطر، أفكر وأعيد النظر فيما جرى مصدقا مرة، ومكذبا أخرى... أما عقلي الثاني فيعود إلى الملكوت ليقول له إن كل ما رأيته وسمعته ولمسته إن هو إلا ظلال الأشياء وخيالها وطيفها، صورتها في المرآة، أشباهها الخفية، باطنها وسرها، الماء في الكأس، ظل الماء فقط، تشربه فيرويك ويطفئ ظمأك، لكنه لا ينزل إلى جوفك ولا يملأ معدتك ولا يصيبك بغصة". (ص189).
لقد تخلى العبدي عن عالم الدعة والسكون والملذات الجسدية، عن عالم ضيق محدود مفتقر للحرية،عن عالم خال من اللغة والنشاط الفكري، خال من الجهد والعمل ورسم الأهداف، لا يعرف حركة ولا تجددا ولا صراعا.. وفضل عليه عالم الواقع بنسبيته ونقائصه. بذلك انتصر للواقع، وأدرك محدودية عالم الوهم وعرف أنه مجرد ظل للأشياء ولا يخلق إشباعا حقيقيا.
سلكت رواية جنوب الروح(3) لمحمد الأشعري طريقا مختلفا لتصل إلى نفس النتيجة، ألا وهي إدانة عالم الوهم. فبخلاف أوليس والعبدي، استسلم الفرسيوي لإغراء هذا العالم، وسار فيه إلى أن وصل إلى طريق مسدود حين استجاب لدعوة الجنية واستسلم لإغوائها. يقول الحكواتي محمد الفرسيوي عارضا حكاية الفرسيوي (الأب؟) أمام جمهوره بالحلقة:
"... فتح (الفرسيوي) عينيه فوجد نفسه في واد أخضر تجري فيه الغدران، وتغرد الطيور على الأفنان، ومعه امرأة لها سوالف تغطي جسدها كله إلا وجهها المشرق كالشمس الساطعة. قال الفرسيوي: آش تكوني، جن ولا إنس؟ قالت سوالف: أنا الجن الذي يصبح إنسا والإنسان الذي يصبح جنا. شهد الفرسيوي وقرأ آية الكرسي، لكن سوالف كانت تقرأها معه بصوت رخيم تبكي له الأحجار وترتعش الأشجار حتى فرغا منها. فقامت إليه وقالت: عليك الأمان. أنا مؤمنة وأريدك على سنة الله ورسوله، تتزوجني فأكون لك كل النساء اللواتي تشتهي آخذ هيأتهن وأجيئك في الحلة التي تريدها منهن وفي السن والطبع وما تشتهيه منهن حلالا طيبا. لكن هناك شيئا تفعله فتشتعل النار في جسدي وروحي، فترجع إلى حياتك السابقة أو تأكلك النار معي. قال الفرسيوي: وما هو هذا الشيء؟ قالت: لا يعلمه إلا الله.
وذهبت سوالف بالفرسيوي إلى عين ماء مثلجة فغسلته وسقته ونقت جسده من الندوب والجروح القديمة .. وجنت له فواكه غريبة ما أن أكلها حتى استعاد قوته، ثم قالت له : أغمض عينيك، وقالت: افتحهما. فإذا هو في قصر بهيج تحيط به سواري الرخام، وأسرة من حرير وتترقرق فيه نوافير من ماء ملون وغير ملون...( ص76 -77)
صار الفرسيوي منذ ظهور سوالف... مثل حصان جامح لا يقدر عليه إنس ولا جان. وصارت الجنية تأخذ له هيأة المرأة التي يشتهيها... فلم يترك امرأة في الريف ولا بومندرة ، ولم يترك امرآة يعرفها، ولا امرأة رآها في الطريق فاستهوته إلا أحضرتها سوالف على صورتها وطبعها وكلامها وحركاتها وسكناتها.
ووسوس الشيطان للفرسيوي فصار يطلب من سوالف العجب العجاب، وهي تقول له: أنا بالله والشرع معك، ستسقط ذات يوم في المحظور...حتى كان ذات يوم، يا حضار يا كرام، فطلب من سوالف أن تأخذ هيأته هو نفسه ولكن بجسد أنثى. ضحكت سوالف وقالت : كيف أدخل الشيطان هذه الفكرة في مخك؟ لكن الفرسيوي لم يتراجع عن طلبه... وكذلك كان ... وما أن لمس لحمها لحمه حتى اشتعلت نار عظيمة وهبت ريح عاتية..." (ص 78).
تجربة الفرسيوي تمثل إضاءة للوجه الآخر للتجربتين السابقتين، وتشير إلى نهايتهما المحتملة. لقد استسلم الفرسيوي لإغواء اللذة اليسيرة والجاهزة، والتي تبدو في ظاهرها لا محدودة بينما هي تقود إلى طريق مسدود. لقد تمادى الفرسيوي في بحر اللذة وأصبح يأتي أفعالا تتجاوز كل الحدود. وحين استنفذها جميعا سقط في المحظور، وأتى ما لا يخطر على بال. ولم يدرك أنه ينغمس في بئر لا قرار له، وأن الجري وراء استنزاف رغباته وهم يقود إلى الهلاك. لقد اختزل حياته في تحقيق ملذاته الجسدية، ولم يجعل منها مشروعا يتسامى بإنسانيته. ولعل ذلك هو ما تجنبه كل من أوليس والعبدي باختيارهما الحكيم.
تصرف بطل الأوديسا وبطل رواية "تغريبة العبدي.." على ضوء منظومة من القيم يمكن اختزالها في ما يلي:
- الحرية: رفض أوليس أن تملى عليه طريقة عيشه وأن يحددها غيره سلفا، وقرر أن يصنع حياته بنفسه. لقد قررت كاليبسو نيابة عنه أن يحتفظ بشباب دائم وأن يعيش أبدا، بينما يعيش أوليس حياته حرا، لا يحتكم إلا لإرادته وطموحاته الخاصة دون اعتبار للمخاطر. وقد أدرك أن الحياة التي تقترحها عليه كاليبسو ستحرمه من هذه الحرية، لأنه سيصبح أسير وضع ثابت، مدينا لكاليبسو بخلوده وشبابه.
ووجد العبدي نفسه في عالم تحكمه قواعد مسبقة لا يد له فيها: لا يتكلم الناس اللغة العادية، يتواصلون بالخواطر؛ كل مشاعرهم مكشوفة لبعضهم، فلا خصوصية ولا حرية فردية.
- الفاعلية: رفض كل من أوليس والعبدي حياة التواكل والقعود، والحصول على ملذات دون جهد. إن حياة أوليس بالجزيرة كانت حياة عطالة وفراغ، يحصل ليلا على جسد كاليبسو، ويقضي النهار قاعدا محزونا متشوقا لوطنه. وكذلك اتسم عالم العبدي بالسلبية وانعدام الفاعلية. يقول الرجل النوراني مخاطبا العبدي: " تأتي أفعالك تبعا لما في خاطرك، ولن يتعبك فعل . فالمشي أو الجري أو الأكل وغيرها لم تعد – هنا – أفعالا تتطلب جهدا". يقترح هذا العالم على الإنسان عدم القيام بأي جهد لتحقيق غاية معينة، وينسى أنه بذلك يحرمه من متعة النشاط ولذة النجاح حين يتغلب عن الصعاب بمفرده، ويحقق غاياته التي اختارها لنفسه.
- المعنى: أراد أوليس والعبدي أن يعطيا لحياتهما معنى من خلال صياغة مشروع والعمل على تحقيقه، ورفضا أن يعيشا حياة القعود دون غاية. لقد كان أوليس يضع نصب عينيه هدفا هو العودة إلى وطنه. وكل أنشطته محكومة بهذا الهدف. وهو على استعداد للتعرض لكل المخاطر في سبيله. وكذلك كان هدف العبدي هو إنجاز رحلته نحو الشرق لغاية معرفية. وقد تخلى في سبيلها عن وطنه وأهله، وعرض نفسه لخطر الموت بالصحراء. لذلك لم تحل الملذات الجسدية دون سعيه إلى تحقيق لذة معرفية سامية يحقق بها إنسانيته.
- البحث عن الأصالة: امتنع أوليس عن الاستجابة لدعوة كاليبسو، حين تحدث عن زوجته الفانية وعن جمالها الأقل شأنا من جمال الإلهة. وبهذا يؤكد وعيه بمحدودية ونسبية عالمه الدنيوي، ومع ذلك يصر على التعلق به، معبرا عن اقتناعه بأن هذا العالم هو موطنه الأصيل والحقيقي، وأنه راض بوجوده. ونفس الموقف عبر عنه العبدي بطل رواية "تغريبة العبدي..." حين أدرك بأن وجوده بهذا العالم الفردوسي يفتقد للأصالة والصدق. قال وهو في غمرة حيرته وتردده بين البقاء بهذا العالم الفردوسي وبين مغادرته: " لست من أهل الملكوت إذ أنني لم أمت بعد، ولست من أهل الحياة الدنيا ما دمت غير عائش بينهم...".( ص 187).
- الماضي والمستقبل: كان الهاجس الأساسي لكثير من الجزر التي مر بها أوليس، ومنها جزيرة أوجيجي، هو محاربة ذاكرة أوليس، والدفع به إلى النسيان، نسيان ماضيه ونسيان مشروعه المستقبلي. ولكن أوليس صارع كل هذه المحاولات، وظل متشبثا بذكرياته حول وطنه، وبحلمه بالعودة إلى أهله. وكذلك الشأن بالنسبة للعبدي الذي ظل متشبثا بذاكرته وأحلامه. يقول مخاطبا الرجل النوراني ويصف حالة حيرته وهو بهذا الفردوس: "تتنازعني يا صاحبي قوتان. أنا معكم هنا أحس وأشعر بما أنتم فيه من نعيم... وفي مرات أخرى يجتاحني بحر هائج من ذكريات وأحلام ماضية فأبدو كمن تتقاذفه أمواج المد والجزر... ". الذكريات والأحلام هي السلاح الذي يمنع العبدي من الانغماس في عالم الوهم، ويقوي صلته بحياته وبواقعه، ويحافظ على حالة التوتر والصراع التي ستقوده نحو العودة إلى الواقع. هذا الأمر لم يتحقق للفرسيوي الذي لم ترد أبدا إشارة إلى ذكرى من ذكرياته أو حلم من أحلامه. لقد انغمس في بحر اللذة معتقدا أنها كل شيء، فصرفه الوهم عن تاريخه كما صرفه عن مستقبله. وحين جرد منهما سار في طريق الهلاك.
- التطور: تمرد كل من أوليس والعبدي على عالم الخلود لأنه عالم ثابت يتعارض مع الحياة كمشروع، أي كصيرورة وتحول. فالعالم الذي عرض عليهما عالم رتيب ثابت لا يعرف التجدد، كل أيامه – إن كانت أياما - نسخة متكررة من بعضها، تلتقي في ثباتها مع عالم الموت. أما الحياة البشرية فجوهرها التجدد والتغير.
- الغنى: الحياة المقترحة على شخصيات هذه النصوص فقيرة جدا، تقتصر على تلبية رغبات غريزية بدائية تحد من تسامي الإنسان (الأكل والجنس). بينما يتطلع كل من أوليس والعبدي إلى المغامرة ومواجهة المواقف غير المتوقعة. لقد أبدى أوليس استعداده لمواجهة كل المخاطر الممكنة والمجهولة في سبيل الوصول إلى وطنه. وكذلك تمثل تجربة العبدي هذا الموقف بشكل واضح. فرحلته نحو الشرق ذات غاية معرفية؛ ومن الأسباب التي دعته إلى النفور من هذه الجنة التي وجد نفسه فيها أنها تفتقر للنشاط الفكري، حيث لا شعراء ولا مفكرين ولا فلاسفة ولا قراء ولا نقاش ... وتلك هي العناصر التي تضفي على الحياة البشرية متعة راقية، وتحولها من حياة محدودة زمنيا ومكانيا إلى حياة لا محدودة معنويا وفكريا.
- رفض العزلة والانغلاق: القاسم المشترك بين هذه النصوص الثلاثة أن عوالم الوهم فيها عوالم معزولة بعيدة عن عالم الواقع. فجزيرة أوجيجي معزولة نائية وسط البحر، لا يقيم بها أحد غير كاليبسو. وهذه العزلة تمثل نقصا كبيرا في حياة هذه الإلهة مما جعلها تتشبث بأوليس وتعمل على استبقائه. والفردوس الذي انتقل إليه العبدي في رواية "تغريبة العبدي.." يبدو بدوره معزولا، حيث انتقل إليه هذا الأخير بشكل مفاجئ، وحين خرج منه بحث عن طريق يقود إليه فلم يجد له أثرا. وكذلك انتقل الفرسيوي إلى عالم الجنية انتقالا مفاجئا ولا توجد أي صلة تربطه بعالم الإنسان، ويكفي إغماض العينين وفتحهما ليتحقق الانتقال من مكان إلى آخر. ولعل هذه العزلة والبعد عن المجتمع البشري هما ما قاد أوليس والعبدي إلى التمرد عن عالم الوهم. أما الفرسيوي فقد انغمس فيه انغماسا تاما معتقدا أنه خالد لا حدود له.
لقد بينت هذه التجارب الثلاثة أن الانغماس في الوهم موت، وأن الحياة الحقة تسام وفعل في الواقع من أجل تغييره. وقدمت من جهة أخرى العوالم الفردوسية الخالدة كعوالم ناقصة فقيرة وثابتة، قريبة من الوهم حيث لا يسكنها شيء سوى الرغبة الجسدية. وفي المقابل قدمت عالم الواقع كعالم غني بتغيره وتجدده، يستمد قيمته وسحره من نسبيته، بل من الموت الذي يشكل مصيرا ملازما له.
وهكذا مثلت هذه النصوص، ككل أدب رفيع وجاد خلخلة للتصورات السائدة وإعادة تشكيل لوعي الإنسان بما يؤهله للتعامل الإيجابي مع الواقع والفعل فيه، ويحرره من الحلم بالفردوس المفقود.
هوامش:
(1) هوميروس، الأوديسا، ترجمة Charles-René-Marie Leconte de L’Isle
http://www.crdp-strasbourg.fr
(2) عبد الرحيم لحبيبي، تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية، إفريقيا الشرق، 2013 .
(3) محمد الأشعري، جنوب الروح، منشورات الرابطة، 1996.