أمل د نقل: - شعرية الحزن السوداوي العميق – د.امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

شاعر نحت معجمه الشعري من عصارة ذات محترقة، وجسم نحيل داهمه مرض عضال لم ينفع معه علاج، فما زاده إلا إمعانا في تنديده بغرور السلطة، ونقده للأوضاع التي أدت إلى استشراء الخنوع والمذلة في أوصال هذا العالم العربي الذي انصاع لواقع الخزي والعار. شاعر ذو حساسية مفرطة، شديد الملاحظة، لاذع اللهجة، صريح العبارة، لا يتورع في الغوص إلى القعر ليسبر حال هذه الأمة التي لم تعد تبدو في أفقها المنظور أية بارقة أمل.
إنه شاعر الصدق الذي سدت في وجهه أبواب الأمل وهو الموسوم ب: "أمل" لقبه الذي لم يغنم منه إلا باليأس القاتل، فانبرى ينحت من أعصابه عكازة يسند عليها ما تبقى من هيكله المنخور ليعيد القراءة من جديد، فإذا به يكتشف "موت القمر" لتتردد على مسامعه "بكائيات زرقاء اليمامة"،وهو ما دفعه إلى أن يمتهن "تعليقاته على ما حدث" ويتطلع إلى "عهد آت" لكنه لا يسمع فيه إلا "أقوالا جديدة عن حرب البسوس" لينتهي به المطاف إلى قفص الغرفة الاستشفائية التي استودعها "أوراقه الأخيرة" التي حاور فيها الموت – صديقه الحميم – الذي استسلم له عن طواعية واختيار بعد أن فقد كل أمل.

إنه شاعر رسم ملامحه الذاتية، كما رسم قسماته الفيزيولوجية وخصائصه النفسية ورؤاه الذهنية، في كل ما كتب من شعر، فاكشف "انطفاء النار بجوف المدفأة " وضياع عمر "الشباب في الدروب المخطئة " و"سيادة ذكريات الأسى المهترئة"، شاعر عرف المدن الدخانية مقهى مقهى، وشارعا شارعا، وبيتا بيتا، و مصنعا فمصنعا، فما رأى غير "عمال يعتصبون بالمناديل الترابية، يدندنون بالمواويل الحزينة، "وشباب بلا أمل يقطنون كهوف الشجن العميق، وبحارة شباكهم فارغة في بحار الوهم "لا يصطادون سوى أسماك سليمان الخرافية"، ومزارعين في حقول تحاصرها النيران وتأكلها حرائق السماسرة والوسطاء، وسكان المدن لا يقوون إلا على عض لجام الانتظار ومضغ اللقمة المخزية.
هذه بعض من صور الفواجع التي استوقفت الشاعر أمل دنقل – طيلة مسيرته الشعرية وهو يتفرس في الشوارع والحارات، أو ينتقل بين القرى والمدن في هذا الفضاء الجغرافي الممتد من النهر إلى البحر، وهو ما وسم رؤاه الشعرية بنوع من الحزن السوداوي العميق، واليأس السحيق نتيجة شساعة مساحة القفر واليباب، وحجم الفاقة والمهانة الذي لم يعد يطاق، ومن ثم آلى على نفسه إلا أن يعري هذا الواقع، ويحاسب المسؤولين الحقيقيين عليه.
وهو إذ يستقرئ أسباب هذه الأزمة العارمة، يتوغل في خبايا ذاته المتعبة من فرط حساسيتها الزائدة ليقدم للقارئ بورتريها هذه تفاصيله.
الذات المتعبة من فرط سخطها على الواقع المدان:
يقول أمل دنقل في ديوانه "مقتل القمر:
"كان يا ما كان ..
انه كان فتى
لم يكن يملك إلى .. مبدأه
أ ترى تدرين من كان الفتى؟
فهو يدري الآن
يدري خطأه"
فأي خطإ هذا الذي اقترفه الفتى في صباه؟ ! يجيب الشاعر في المقطع الشعري الموالي:
"أنا مثلك كنت صغيرا
أرفع عيني نحو الشمس كثيرا
لكني منذ هجرت بلادي
والأسواق
تمضغني، وعرفت الأطراف
مثلك منذ هجرت بلادك
وأنا أشتاق
أن أرجع يوما للشمس
أن يورق في جدبي فيضان الأمس"
فمتى كان الرنو إلى ضوء الشمس جرما والتطلع إلى مستقبل واعد ينعم فيه الإنسان بحقوق مواطنته جريمة؟ !
إن الشاعر وهو يحدثك عن ذاته يبدو وكأنه اكتشف ما يؤثت الفضاء الجغرافي لهذا الوطن العربي العاقر، فالسيوف انكسرت والخيول كبت، والسواعد بترت والرايات نكست :
"منكسر السيف مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
.. عن ساعدي المقطوع ... وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
.. عن وقفتني العزلاء بين السيف .. والجدار!
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار؟
كيف حملت العار..
ثم مشيت؟ دون أن أقتل نفسي؟ ! دون أن أنهار؟!
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة؟ !"3
لقد ماتت قيم المروءة والشهامة والشرف- المتحققة في الماضي – ليحل محلها الجبن والمذلة والمسكنة، وأضحت المرأة – رمز الشرف – مسبية مستباحة لأن رجل هذا العصر ما عاد غير عنيف لا يقوى إلا على غض الطرف والاستكانة للضيم والعار، فأين سيخفي عيوبه، وأين سيداري خجله ؟ وأين سيدفن وجهه المتهم المدان؟
"لا الليل يخفي عورتي .. ولا الجدران
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدها ...
ولا احتمائي في سحائب الدخان!
... فأين أخفي وجهي المتهم المدان؟..
لم يبق إلا الموت.. والحطام... والدمار..."
إنها صرخات إدانة لما وشم الذاكرة العربية من خزي وعار وجبن ومسكنة في مطلع العصر الحديث، وصكوك اتهام بالعجز الذي يكبل إرادة الساهرين على أوضاع هذا الوطن العربي الموبوء. لقد انقلبت كل الموازين والأقيسة، وتبدلت كل قيم المجد والشرف والنخوة إلى صور الانصياع والذل والاستكانة، وبذلك انهارت كل القيم الإيجابية المتحققة في الماضي إلى قيم سلبية تخنق أنفاس الشاعر في الحاضر. غير أن حبه لهذا الوطن هو ما يدفعه إلى حمل نعشه على كاهله الصغير رغم اهتراء جسده النحيل، إنه أمله الوحيد يضحي به من أجل هؤلاء الذين يولدون ميتين وهم يناغون وجه الشمس في الحقول :
"لكنني .. أحمل نعش الحب فوق كاهلي الصغير
أمشي به .. لعل هذا الجسد الهامد يوما يسير!
باسم الذين يولدون ميتين
ومن يضاحكون وجه الشمس في الحقول
ومن يقاتلون دون سيف
ومن يضاجعون هذا الخوف،
ينجبون منه كل صيف!"
ومن ثم يعلنها صراحة ويبوح بها لأعز ما لديه، طرفه الثاني، وحبيبة عمره، لقد ضاع كل شيء فجأة، وصلت الخسارة، فالوعود استحالت سرابا، والخطى ضلت في دروب مخطئة، ومجد الماضي ما عاد سوى ذكريات من الأسى مهترئة، إنه زمن الليل البهيم الذي ساد في كل الأرجاء:
"لا تفري من يدي مختبئه
.. خبت النار بجوف المدفأة!
.. لولا زمان فجأه
كان في كفي ما ضيعته
في وعود الكلمات المرجأه
"إنما عمرك عمر ضائع من شبابي
في الدروب المخطئه
... ثم لم نحمل من الماضي
سوى ذكريات في الأسى مهترئه
نتعرى بالدجى
إن الدجى للذي ضل مناه
تكئه ! !"
ومن ثم يخلص الشاعر إلى إعلان عجزه التام لأنه ما عاد قادرا على الالتزام بوعوده العنترية، لقد بانت عورة الأشياء، ولم يبق إلا الاستكانة للضيم، ولذلك يدعو رمز نخوته الماضية بأن تستريح وتتقبل واقع الحال، لقد انتهت كل فصول المسرحية: "استريحي
ليس للدور بقية
انتهت كل فصول المسرحية
... كنت يوما فتنة قدستها
كنت يوما
ظمأ القلب .. وريه
... كان ماضيك جدارا فاصلا. بيننا
كان ظلالا شبحية
فاستريحي
ليس للدور بقية
.. فاستريحي الآن
لم يبق سوى حيرة السير على المفترق ".
تبخر الحلم القومي وشيوع الإحساس بالعقم :
يبدو الشاعر وهو يحدثك عن الهم القومي متعبا وحزينا وكئيبا لما آلت إليه أوضاع هذا العالم العربي بعد هزيمة حزيران الفظيعة، وهو حزن ينساب كالسيل بين ثنايا قصائده. ومسحة الحزن هذه طاغية بشكل لافت للانتباه، وهو ليس حزنا شفيفا وإنما حزن سوداوي عميق نظرا لحساسيته المفرطة تجاه واقع الحال- من جهة ونظرا لطبيعته الذاتية وانكساراته النفسية تجاه المرض الذي استبد به- من جهة أخرى - يقول في قصيدة: " كلمات سبارتكوس الأخيرة:"
"يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد ..
فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد
... يا إخوتي : قرطاجة العذراء تحترق
فقبلوا زوجاتكم،
إني تركت زوجتي بلا وداع
وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها .. بلا ذراع
فعلموه الانحناء..
علموه الانحناء ..
علموه الانحناء .."
يبدو الشاعر في هذا الديوان شاهد عصر الهزيمة النكراء التي هزت اليقينيات الزائفة وعرت ما كان مستورا، وهذا ما يؤلب عليه مسحة الحزن السوداني التي لم يستطيع لها ردا، وكيف له أن يفعل بعد افتضاح عجز السلطة، وانهيار الأحلام القومية لم وشيوع الإحساس بالعقم لدى الشعب الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل بناء هذا الصرح.
ومن ثم انبرى الشاعر في أول ديوان صدر له سنة 1969 وهو: " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " ليمزج فيه بين واقع هزيمة حزيران 1967 والأسطورة، وينسج من هذا المزج وعيا حادا ورؤى مستقبلية لما ستؤول إليه أوضاع العالم العربي نتيجة هذه الهزيمة النكراء، وهو ما أدى إلى تمزق وثاق هذه الأمة التي دخلت في أنفاق مظلمة سادتها الانكسارات والخيبات المتلاحقة لعدة عقود من الزمن.
وقد استطاع الشاعر بصفاء مشاعره القومية أن يرتد إلى التراث العربي المرتبط بالعصر الجاهلي، لينحت منه حوارات ويسقطها بمهارة على واقع الحال للتعبير عن تجربة شخصية بتقنية فنية عالية، كما فعل مع استدعائه لزرقاء اليمامة – باعتبارها عرافة مقدسة – فيقيم معها حوارا شعريا لافتا للانتباه:
"أيتها العرافة المقدسة..
جئت إليك .. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
.. أيتها النبيلة المقدسة..
لا تسكتي .. فقد سكت سنة فسنة..
               لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي "اخرس"
فخرست .. وعميت .. وائتممت بالخصيان!
ظللت في عيد (عبس) أحرس القطعان،
أجتز صوفها..
أرد نوقها
أنام في حظائر النسيان
طعامي الكسرة .. والماء.. وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة .. والرماة .. والفرسان ..."
بهذه الطريقة – غير المسبوقة – راح أمل دنقل في ديوانه المتميز هذا يقيم هذا الحوار الشيق مع التراث العربي الخالص، يستدعي فيه رموزها الوضاحة ليستقرئ بها الواقع العربي المدمر والممزق.
وفي ديوانه اللاحق الذي أصدره سنة 1976 وهو: "أقوال جديدة عن حرب البسوس " وجد الشاعر ضالته في رموز هذه الحرب التي شابتها خوارق عدة وأسالت الكثير من المداد، حيث قدم إضاءة حول هذا العمل الشعري بقوله:
"حاولت أن أقدم في هذه المجموعة الشعرية حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة عن طريق رؤيا معاصرة. وقد حاولت أن أجعل من كليب رمز للمجد العربي القتيل أو للأرض العربية السليبة التي تريد أن تعود إلى الحياة مرة أخرى ولا ترى سبيلا لعودتها أو بالأحرى لإعادتها إلى بالدم .. وبالدم وحده، لقد استحضرت الملك كليب نفسه في ساعته الأخيرة وكذا اليمامة التي كانت ترفض الصلح بشهادتها، وكذلك فعل المهلهل الذي قاد الحرب انتقاما له، وقدمت شهادة جساس مع تبريراته لجريمته، ثم شهادة جليلة بنت مرة الممزقة بين البطلين (زوجها وأخيها) ثم أتيت بشهادة لبعض الشخصيات التي تلعب دورا معلقا على الأحداث ."
وهو في مجمل عمله هذا، إنما يريد أن يصف حال الردة التي عاشتها الأمة العربية غداة مذلتها وانكسارها أمام آلات الحرب الإسرائيلي المصفحة بالمستحيل، ويعري واقع الخزي والعار الذي ساد بعد افتضاح عجز السلطة العربية عن استرداد قوتها ومناعتها، ووصف دقيق للذل والمسكنة اللذين يؤثثان كل هذا الفضاء الجغرافي الممتد من النهر إلى البحر والذي فقد كل ميراثه الذي أصبح في يد الغرباء:
"صار ميراثنا في يد الغرباء:
وصارت سيوف العدو: سقوف منازلنا
نحن عباد شمس يشير بأوراقه نحو أروقة الظل
إن التتويج الذي يتطاول:
              يخرق هامة السقف،
              يخرط قامته السيف،
             إن التتويج الذي يتطاول
يسقط في دمه المنسكب .. "
أما ديوانه الثاني في الصدور: " تعليق على ما حدث" والذي صدر سنة 1971 " فهو تأمل رصين فيما بصم عصر الإحباطات القومية والفواجع الوطنية، والتزام بمحنة الإنسان العربي في أوطان غارقة في اجترار الأحزان والهموم الدفينة نتيجة ما آلت إليه الأوضاع بعد أن طال أمد دخول هذه الأمة في نفقها المظلم، ويتقمص الشاعر في هذا الديوان دور مواطن عادي بلا عنوان، دائم البحث عن مدينته التي شوهت واستبيحت وفقدت كل ملامحها المشكلة عبر التاريخ بعرق الرجال ومهارة بنائيه وصناعه، كما يتقمص لهذه المدينة رمز "إرم ذات العماد" حيث يتم الارتداد – مرة أخرى- إلى ما زخر به تاريخ العمارة في العصور الغابرة.
ففي قصيدة: "الهجرة إلى الداخل "إبحار في الذاكرة الجماعية بحثا عن بصيص أمل لعل الشاعر يعثر على مدينة حرة ترفل في رغد العيش، إنه ديوان في حب الإنسان العربي المقهور، وفي حب الوطن الذي أصبح مستباحا، وفي انتقاد استعراضات السلطة المتوهمة بأن هزيمتها انتصار حين تقيم احتفالاتها الزائفة تخليدا لعيد الجلاء:
"قلت لكم مرارا
إن الطوابير التي تمر..
في استعراض عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)
لا تصنع انتصارا.
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحاري
لا تطلق النيران .. إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التي ندفع فيها .. ثمن الكسرة والدواء:
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا .. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا.
البعد الاجتماعي، والالتزام بقضايا الإنسان المقهور
ينطلق الشاعر أمل دنقل فيما يكتب عن عقيدة راسخة بأن الفن ليس تعبيرا عن حزن أو فرح شخصي، وان الشعر بما يمتاز به من رحابة واسعة جدير بان يهتم بقضايا الإنسان سواء في بعده الفردي أو الاجتماعي؛ لأن وظيفته تكمن في تعبئة روح الإنسان تعبئة ثورية حادة . إنه الحلم بتغيير الواقع، حيث يقول: "... وطالما هناك حلم بتغيير هذا الواقع، فلابد أن يوجد الشعر، لأن الشعر يريد أن يجعل من الواقع حلما ومن الحلم واقعا، فطالما وجد الحلم الإنساني والطموح الإنساني، فإن الشعر سيوجد، وفي هذا يختلف الشاعر عن السياسي، لأن السياسة هي فن الممكن، بينما الشعر هو فن المستحيل"
ومن بين أنبل وظائف الشعر أن يتزعم الشاعر قومه ويقودهم نحو تحقيق النصر والظفر بالخلاص :
"أيها الواقفون على حانة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان .. وجمجمة
وشعاري " الصباح ! "
كما أن من بين وظائفه التعبير باسمهم عما يعانونه من قهر وخسف ومذلة، وما يئنون تحته من ظلم وفقر وفاقة، فلنتأمل كيف يتقمص الشاعر شخصية إنسان عادي ليرسم لنا ملامح الزمن الرتيب الذي يحياه في رحلته اليومية منذ يقظته الصباحية إلى حلول الهزيع الأخير من الليل، وما يغلف يومه هذا من استشعار روح المهانة والذل والمسكنة :
"كل صباح..
افتح الصنوبر في إرهاق
مغتسلا من مائه الرقراق
فيسقط الماء على يدي .. دما!
...    ....    ....
وعندما ..
أجلس للطعام .. مرغما:
أبصر في دوائر الأطباق
جماجا..
جما جما..
مفغورة الأفواه والأحداق! !
أحفظ رأسي في الخزائن الحديدية
وعندما أبدأ رحلتي النهارية
أحمل في مكانها .. مذياعا!
(أنشر حولي البيانات الحماسية .. والصداعا)
وبعد أن أعود في ختام جولتي المسائية
أحمل في مكان رأسي الحقيقة:
.. قنينة الخمر الزجاجية!
أعود مخمورا إلى بيتي ..
في الليل الأخير
يوقفني الشرطي في الشارع.. للشبهة
يوقفني برهة!
وبعد أن أرشوه .. أواصل المسير!"
هذه هي أدق التفاصيل التي أصبحت تحاصر المواطنين عامة في أيامهم ولياليهم، إن اليأس جو غامر يتسلل إلى كل النفوس التي مات فيها إحساس المواطنين بالكرامة والشهامة والمروءة في وطن غارق في الذل والمسكنة .
لقد أسلم الوطن الروح، والمدينة ما عادت سوى أشباح عمارات شاهقة استحالت سفنا غارقة حطمها قراصنة الموت، ولم يعد ما ينبض بالروح في مدن الإسفلت الصامتة:
"أشعر الآن أني وحدي
وأن المدينة في الليل..
(أشباحها وبناياتها الشاهقة)
سفن غارقة
نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها إلى القاع منذ سنين.
... ليس ما ينبض الآن بالروح في ذلك العالم المستكين
غير ما ينشر الموج من علم .. كان في هبة الريح
والآن يفرك كفيه في هذه الرقعة الضيقة
سيظل على الساريات الكسيرة يخفق..
حتى يذوب .. رويدا.. رويدا.."14:

4- استشعار دنو ساعة الرحيل ومحاورة الموت المخلص
يحس القارئ وهو يتصفح ديوان " العهد الآتي" ثم ديوان: " أوراق الغرفة" بأن الشاعر بدأ يستشعر أن تعب الذات أصبح مزمنا، وأن الأمل في الشفاء مما اعترى جسده النحيل من سقم لم يعد ممكنا، ولهذا لم يبق أمامه إلا أن يسجل عصارة ما تئن تحته هذه الذات وما تستشعره من دنو ساعة الرحيل، وقد خص هذا الديوان بقصيدة ذاتية تحت عنوان: " سفر ألف دال" وهي قصيدة تحبل بالهواجس التي تنتاب أمل دنقل وهو ينتظر ساعة الخلاص، يقول في الاصحاح الأول من هذا السفر :
"زهرة فوق قبر صغير
تنحني؛ وأنا أتحاشى التطلع نحوك..
في لحظات الوداع الأخير
تتعرى؛ وتلتفت بالدمع في كل ليل إذا الصمت جاء
لم يعد غيرها من زهور المساء
منه الزهرة – اللؤلؤة!
إنه زمن الموت الذي لا ينتهي، ولذلك يتوسل إلى شريكة عمره أن تعانقه وتقبله ويوصيها بألا تذرف الدموع على رحيله:
"قبليني – لأنقل سري إلى شفتيك،
لانقل شوقي الوحيد
لك، للسنبلة
للزهور التي تتبرعم في السنة المقبلة
قبليني.. ولا تدمعي!
سحب الدمع تحجبني عن عيونك..
في هذه اللحظة المثقلة
كثرت بيننا الستر الفاصلة
لا تضيفي إليها ستارا جديد."15
ففي هذه القصيدة بوح شعري بالغ الدلالة على ما أصبح يحاصر الشاعر من دنو ساعة الرحيل، ويكفي القارئ أن يتأمل في "الاصحاح الثامن " من هذه القصيدة المحبوكة فنيا بإتقان لتتضح له الصورة، حيث يبدو الشاعر وكأنه أصيب بالهذيان نتيجة استشعار قرب نهايته التي سيحمل خبرها ساعي البريد ناعيا موته إلى رفيقه دربه الودود وحاملة أسراره المقفلة عبلة الرويني التي ستتحول إلى أرملة  حيث يقول:
"آم .. سيدتي المسبلة
آه .. سيدة الصمت واللفتات الودود
لم يكن داخل الشقة المقفلة
غير قط وحيد
حين عادت من السوق تحمل سلتها المثقلة
عرفت أن ساعي البريد
مر..
(في فتحة الباب كان الخطاب
طريحا..
ككاب الشهيد!)
قفز القط في الولوله
قفزت من شبابيك جيرانها الأسئلة
...   ....  ....  .... ....
آه سيدة الصمت والكلمات الشرود
آه أيتها الأرملة ! "
يبدو الشاعر وكأنه ينشد الخلاص بحلول موعد الموت، إنها مرحلة سيادة لون البياض الذي يرمز إلى هذه النهاية الحتمية، لقد بدا هذا اللون والذي هيمن على قصائد ديوانه الأخيرة: " أوراق الغرفة 8" يتراءى له في كل شيء؛ في غرف العمليات وفي نقاب الأطباء ولون معاطفهم، وفي تاج الحكيمات، وفي الملاءات ولون الأسرة، بل وحتى في قرص المنوم وأنبوبة المصل. وكل هذا اللون الناصع المتعدد الأوجه؛ يذكره بلون الكفن:
"في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض،
تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات
الملاءات،
لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن،
قرص المنوم، أنبوبة المصل،
كوب اللبن،
كل هذا يشيع بقلبي الوهن،
كل هذا البياض يذكرني بالكفن!
فلماذا إذا مت..
يأتي المعزون متشحين..
بشارات لون الحداد؟
هل لان السواد ..
هو لون النجاة من الموت ؟!17
والشاعر في هذه المرحلة أصبح شديد الحساسية تجاه تيمة "الموت" التي بدأت تتراءى له كلما عاده صديق بغرفته الاستشفائية وهو طريح سريره الأبيض الناصع المرادف للقبر:
"بين لونين أستقبل الأصدقاء..
الذين يرون سريري قبرا
وحياتي .. دهرا
وأرى في العيون العميقة
      لون الحقيقة
     لون تراب الوطن! "
وفي قصيدة: "زهور" يسقط الشاعر إحساسه الفاجع بالموت الذي أصبح يحاصره داخل غرفته، فيحقق حوارا فنيا بين حالته وحالة باقات الزهور التي يضعها زواره على جانب سريره وكل سلة تحمل اسم قاتلها:
"وسلال من الورد،
ألمحها بين إغفاءة وإفاقة
وعلى كل باقة
اسم حاملها في بطاقة
...   ....   ....    ....
تتحدث لي الزهرات الجميلة
أن أعينها اتسعت – دهشة –
     لحظة القطف
لحظة إعدامها في الخميلة!
... تتحدث لي
كيف جاءت إلي..
(وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر)
كي تتمنى لي العمر!
وهي تجود بأنفاسها الآخرة !!
بين إغماءة وإفاقة
تتنفس مثلي – بالكاد – ثانية .. ثانية
على صدرها حملت راضية..
اسم قاتلها في بطاقة ! "
إن استشراف لحظة الخلاص أصبح هو الشعور الطاغي على ذات الشاعر المنهكة، وروحه المتعبة بفحل استشراء المرض العضال الذي بدأ يدب في كل عضو وجارحة من جوارحه، ولذلك فهو لا يرى بين إغفاءه وأخرى إلا ما يذكره بقرب نهايته.
وفي قصيدة "السرير" من نفس مجموعته الشعرية : "أوراق الغرفة8 "
يقول الشاعر :
"أوهموني بأن السرير سريري!
أن قارب "رع"
سوف يحملني عبر نهر الأفاعي
     لأولد في الصبح ثانية .. إن سطع
...أوهموني فصدقت
(هذا السرير
ظنني – مثله- فاقد الروح
فالتصقت بي أضلاعه
والجماد يضم الجماد ليحميه من مواجهة الناس !)
     صرت أنا والسرير
جسدا واحدا في انتظار المصير !
إنها زفرات روح فقدت كل أمل في الحياة؛ فالجسد منهوك القوى استحال مجرد عروق تتصبب من زغب، وقلب نخرته الجراح تتصيد وجيبه الذي بدأ يخفق من تعب.
بهذه الملامح المجسدة لوطأة الألم المستبد بالذات الشاعرة تتبدى لك تجربة أمل دنقل الشعرية التي تندرج ضمن حركة شعراء الستينيات التي انبثقت في مرحلة تاريخية دقيقة، عرفت مجموعة من الهزائم والخيبات؛ وهذا ما وسمها بانشطارها إلى حركتين  ممزقين بين:
حركة رومانسية ذابلة، وصفها د. محسن أطيمش بأنها: "اختلطت فيها فوضى المدينة وبشاعة حياتها الصاخبة التي تبتلع ساكنيها بالتوق إلى الريف ودفئه وحنانه وهدوئه وصفائه وألفة ساكنيه "
وحركة قادها الوعي السياسي الذي رافق حركات التحرر العربي بعد نكبة 1948 وما تلاها من عنف جماهيري ثوري غاضب كان من نتيجة ثورة يوليوز 1952 .
ومن هنا أصبح الشاعر والمثقف العربي عموما يدرك أن طريق الخلاص ليس طريقا فرديا، ولا هروبا رومانسيا، وأن الفن ليس تعبيرا عن هموم أو أفراح فردية، وأن الشعر جدير بأن يعنى بواقع الإنسان واستشراف مستقبله.
ويبقى أمل دنقل أحد الأصوات البارزة لهذا الجيل الذي انخرط في انغماسه الفعلي بما كانت تشغل المنظمات الحزبية ذات النزعة الثورية في واقع لم يعد في الإمكان السكوت عنه. إنه شعر يستهدف القارئ المشارك في الفعل التطهيري الذي وجب العمل على أن يسري في جميع مرافق الحياة العامة داخل الوطن العربي. إنه شعر صارم النبرة تكمن وظيفته في تعبئة الروح لدى الإنسان المقهور تعبئة ثورية حادة، إنه شعر يستمد نسغه من نتاج القوميين لهذا الجيل الذين ألفوا ما بين واقعية مشوبة برومانسية هادئة، وواقعية أكثر عنفا؛ وهذا ما أكسبه صفاءا روحيا حزينا، وطموحا تواقا لخلق عالم شعري متميز على مستوى التجربة الشخصية استفاد فيها الشاعر- وبوعي أصيل – من ينابيع ثراتية عربية خالصة، ومن واقع عربي صميم مدمر وممزق، فوجد ضالته في حرب البسوس، وفي رموز حضارية عربية بائدة ك: " ارم ذات العماد" وقصص. "زرقاء اليمامة" ... الخ وهذا ما وسم تجربته الشعرية بمسحة داكنة من الحزن السوداوي العميق ./.
د. امحمد برغوت Berghout 54 @ yahoo. Fr


الهوامش
أمل دنقل: من ديوان : " مقتل القمر "
  "    "  : نفسه     
 "   "  : من ديوان : "البكاء بين زرقاء اليمامة"
"   "   : نفسه
"   "   : نفسه
"   "   : مقتل القمر " من قصيدة : " طفلتها"
"   "   : نفسه من قصيدة : " استريحي"
 "   "  : من ديوان: " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"
  "  "  : نفسه
"  " : من ديوان "أقوال جديدة عن حرب البسوس" من قصيدة: " مراثي اليمامة"
"  " :من ديوان : "تعليق على ما حدث " من قصيدة : " تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات"
"  "  : العهد الآتي " من الاصحاح الأول : سفر الخروج : أغنية الكعكة الحجرية"
"  "  :  تعليق على ما حدث " من قصيدة : " فقرات من كتاب الموت"
"  "  : "العهد الآتي"  الاصحاح السابع
"  " : نفسه من قصيدة" سفر ألف دال"  
"  " : نفسه
"  " : "أوراق الغرفة 8" من قصيدة: "ضد من"
"  ":  نفسه من قصيدة "زهور"
"  ": نفسه
" " : نفسه من قصيدة "السرير"
"  ": دال محسن أطميس : "مداخل تأملية لرؤية النص الشعري" مجلة: "فصول" مجلد 15 العدد 2 صيف 1996.      

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة