إن من يواكب عن كثب، ما دأبت عليه القصة القصيرة جدا من كتابات، يعاين تحولا نوعيا في صيرورة القص العربي، ذلك أنها سنت شرعة متخيل، يستجيب لروح العصر ذي الوتيرة السريعة، ويطاوع المراد للذات القاصة والناقدة والقارئة، بما فيه من الاقتصاد اللفظي، والإيجاز التعبيري، والتكثيف الدلالي، والإيحاء البلاغي، والاحتمال التأويلي، وبالتالي بما فيه من الاستثمار الأمثل للزمن.
فهي كتابة تعتمد في ملفوظها وتلفظها، استراتيجية محكمة، تتمثل في تدبير حد أدنى من الألفاظ النسقية، في تسريد البنى السردية، وتشغيل الدلالة، وتفضية بياضاتها، وتحبيكها وفق صياغة قصصية تؤسلب الواقع، وتفضي إلى الإدهاش من اللامتوقع فيه، ومفارقة المعنى إلى نقيضه، والنهاية المفاجئة لأفق التوقعات.
وتولي هاته الاستراتيجية لعتبة العنوان أهمية قصوى، إذ تعتبره نصا موازيا، أو دالا لغويا كباقي الدوال التي ترتهن بها الدلالة، مما يجعله متكاملا مع المقول القصصي، أو متفاعلا معه، ومغريا بقراءته وفك شفراته.
لذا لا غرو إن أمكن لهاته الكتابة، أن تحقق في ظرف وجيز من الزمن تراكما كميا، وأن تحقق في الآن ذاته قوة تداولية كبرى، في العالم الافتراضي والواقعي.
وفي سياق تأليف مؤلفاتها القصصية في مجاميع، التفت الخطاب النقدي والنظري، إلى جماليتها في فضاء استراتيجي أرحب، حيث أمكنها أن تنشرع على متعاليات نصية، وأن تحقق تفاعلات(1) عدة، تمثلت في التفاعلات التناصية، التي ترتسمها لنفسها مع نصوص قصصية متجانسة معا، أومع أجناس أدبية أخرى، وفنون جميلة، حتى أنها كثيرا ما تنزاح عن مبدإ المحايثة الجنسية، أي عن توسيماتها الشكلية والدلالية والبلاغية، التي تدل على جنسها. كما تمثلت في التفاعلات التخييلية الوصفية، التي تزاولها أثناء كتابتها مع متخيلها النصي أو مع متخيل آخر، نازعة منزع وصف الاشتغال السردي أونقده، ولعل التفاعلات التي استأثرت باهتمام النقاد والقاصين، هي تفاعلات التوازي النصي، التي تقيمها مع عتباتها الموازية، أو بالأحرى مع العلامات اللغوية، أو الأيقونية، أوالتشكيلية، التي تشكل بموازاتها نسقا دلاليا مميزا لها ودالا عليها، وكافلا تداولها، سواء أكانت علامات مقترنة بكتابها، كالعنوان الرئيس والعناوين المتضمنة وصورة الغلاف وألوانه، أوعلامات غير مقترنة به كالاستجوابات والمراسلات.
بهذا وذاك تراحب الفضاء الاستراتيجي، الذي تعتمل فيه القصة القصيرة جدا، فأمست جماليتها تلتمس:
أولا، عبر تركيبتها اللغوية المنفتحة، التي ينتظم كيانها السردي وفق بنى حكائية، وألفاظ متناسقة التأليفات، ومتكاثفة الإيحاءات الدلالية، ومتكاثرة الاحتمالات التأويلية.
ثانيا، عبر علاقاتها التفاعلية مع نصوص تشكل متعالياتها النصية، وما توقعه في كينونتها من تفاعلات عضوية، وتجانسات مع أجناس مغايرة، وانزياحات عن حدها، أوعن نمذجتها القصصية المتواضع عليها.
ثالثا،عبر تلقياتها التي توقفها على حلف التخييل، وترهن جدليتها بما تستتيحه للمتلقي من بياضات دلالية، دالة على مسافات جمالية بينها وبينه.
بهاته التدرجات، تكون جمالية القصة القصيرة جدا مراتب تصاعدية، مترتبة عن تفاعلها مع ذاتها، ومع متعالياتها النصية، ومع المتلقي، وهي بهذا ترتاد آفاقا حداثية، وتضعنا إزاء كتابة لا تتحدث عن الأدب، وإنما تتحدث معه وتحاوره، منشرعة في حركيتها الزمنية على حرية الاحتمالات، التي تكسبها هوية دائمة التخلق.
بهذا التصور، نلم شموليا بالاستراتيجية التي ارتسمتها القصة القصيرة جدا لجماليتها، فهي استراتيجية تختزل في الحركية، والتفاعل، والانفتاح.
وما دام الموضوع الذي ارتآه هذا الملتقى محورا له هو: جماليات خطاب العتبات في القصة القصيرة جدا*، فإننا سنقتصر إجرائيا، على استجلاء تجل من تجليات اشتغال تلك الاستراتيجية، وهو تجلي تفاعل التوازي النصي، الذي سييسر لنا استكناه جماليات العتبات النصية.
وإذا كان المقام هنا، لا يسمح بالإلمام شموليا بهاته العتبات لكثرتها، فإننا سنبئر المناولة النقدية على عتبتين، هما عتبا العنوان الرئيس، والصورة التشكيلية، التي تزدان بها الصفحة الأمامية للغلاف.
ولا ريب أننا سنجد ما يطاوعنا، في المجامع القصصية التي تشكل متن مداخلتنا، وهي على التوالي:
نص "حائك العتمات" للقاص علي بنساعود(2).
نص "حين يتكلم الغبار" للقاصة رحيمة بلقاس(3).
نص "سيمفونية الببغاء" للقاص حسن برطال(4).
نص "أصيص الأحلام" للقاص البشير الأزمي(5).
ولنا هنا قبل الولوج إلى صميم موضوعنا من خلال هاته المجاميع، أن نشير باختزال إلى ما يراد بالعتبات التي تعد جمالياتها مناط مناولتنا النقدية، إنها علامات لغوية وغير لغوية، تشكل شبكات تواصلية، ترتهن بها تداولية الكتاب، وتميزه عن باقي الكتب، وهي تتمثل من جهة في نصوص مقترنة بالمجاميع القصصية، كالعناوين الأساسية، والعناوين المتضمنة للقصص القصيرة جدا، والتعيينات الجنسية، والعبارات التوجيهية، والإهداءات، والمقدمات، والصور المثبتة على الغلاف، والصفحة الرابعة للغلاف وما احتوته، وخطاب الناشر، واسم المؤلف وما يستثيره لدى المتلقي من ارتسامات، والاختيارات الطباعية الدالة في تأليفها، والبياضات الدلالية التي تلابس المقول النصي... كما تتمثل تلك النصوص الموازية من جهة أخرى، في نصوص فوقية، كالمقابلات والاستجوابات والمراسلات، والتعليقات المواكبة، والكتابات الناقدة... إن العتبات بتعبير "جيرار جنيت" نصوص موازية تحيط بالنص لتمثيله، وجعله ماثلا، وضمان مثوله، وتلقيه، واستهلاكه(6).
إن تعالق النص مع النصوص الموازية له، يمكن أن نرسمه بيانيا بمحورين متقاطعين:
أولهما عمودي يتمثل في السياق المحايث أو سياق التركيب، الذي تدل عليه حيثيات الأنسجة اللغوية، التي تنتظم وفقها نصوص القصة القصيرة جدا، منتجة دلالتها، وفراغاتها الدلالية.
ثانيهما، أفقي يتمثل في السياق المفارق، الذي تدل عليه حيثيات تنظيم العتبات النصية على حدود النص الأدبي، قصد تداوله باعتباره كتابا، واستقطاب قرائه إلى التفاعل مع عوالمه التخييلية.
والواقع أن محوري السياقين المتقاطعين، يرمز أولهما العمودي إلى الوقوف على نقطة زمنية معينة أو حيز محدود، بينما يرمز ثانيهما إلى الصيرورة الزمنية مادامت العتبات لا يراد بها النفاذ إلى مكنون النصوص فحسب، وإنما يراد بها كذلك، تنشيط تداول الكتاب الذي يحتويها، والتحاور معه في كتابات، وبالتالي مده بنبضات حية في سياق الاسترسال الزمني.
فكأن هذا السياق يود أن يقول لنا في تفاعله مع السياق الآخر: "إن النص القصصي لا يعد آني الوجود، بل هو صيرورة زمنية".
ونحن بصدد استجلاء هذا التفاعل العضوي، عبر المجاميع القصصية السابقة، نشير إلى أنه مزدوج في تجليه النصي، إلى علاقة تقيمها النصوص مع أنساق علامات لغوية من جهة، وإلى علاقة تقيمها مع أنساق علامات أيقونية وتشكيلية من جهة أخرى، فالتفضية النصية تستثير الانتباه باللغة والصور، التي تزدان بها واجهة أغلفة المجاميع القصصية وخلفياتها، لذا فنحن سنلتمس هاته العلاقة، بغية الدلالة من خلالها على جمالية العنوان الأساس وصورة الغلاف، اعتمادا على مستويين:
أولهما المستوى اللغوي:
إن الناظر عن كثب، إلى العناوين التي عنوت بها المجاميع القصصية، يجدها تصدر عن تفكير استعاري، وتساق مساق التعبير المجازي الإيحائي المكثف، لذا لا غرو إن أتت صورا شعرية، صيغت وفق استعارات مكنية، حذف منها المشبه به، أو بالأحرى المستعار منه.
إن هاته العناوين لها من التخييل النصيب الوافر، فهي كما يتبين ليست ذات شفافية ومباشرية، كما هو شأن العناوين الواقعية، وإنما هي ذات كثافة شعرية قوية، تتطلب من القارئ كفاية تفكيكية وتأويلية خاصة(7).
ولعلها بهذا تبعثتنا على افتراض أن النصوص القصصية ستعقد مع الشعر علاقة تجانس، وستتراكب مع جنسه في صميمها، وستتحاور معه في منظومتها التأليفية، وهي بالتالي قد تعدل عن الإلتزام بالتوسيمات الجنسية للقصة القصيرة جدا.
والواقع أنها إذ يلابس لغتها الشعري، توحي بانزياح النصوص القصصية المتضمنة عن اللغة التصريحية المباشرة التي تقصر ذاتها على المعنى المحايث، إلى اللغة الإيحائية غير المباشرة. كما توحي بكتابة ستراهن في اشتغالها التدليلي والترميزي، على اشتراع أفق سردي متراحب الاحتمالات التأويلية.
بهذا يمكن أن نتوقع منها أن تشرك القارئ في العملية الإبداعية، وأن تبدع الواقعي، بدل أن تحاكيه على غرار الكتابات الواقعية التي تستوحيه، وتترجمته حرفيا، حتى توقع القارئ في شرك الوهم المرجعي.
لهذا فإن كينونة هذا المتخيل القصصي، ستكون لها طواعية توليد جدلية في صلبها، واستثارة حركية الكتابة والقراءة في الآن ذاته، وهي حركية الانتقال من نطاق تطابقها مع ذاتها النصية إلى نطاق تخالفها معها، أي من نطاق الهوية الثابتة في المكان، إلى نطاق الكينونة الحركية في الزمن.
وهذا سيحدو بالكتابة من جهة، إلى استبدال مفهوم السياق الحتمي المسبق، المطابق للواقع الموضوعي، بسياق افتراضي مؤجل يتحقق بعد كل قراءة، وفق جدلية تأويلية تقوم على منطق السؤال والجواب. كما سيحدو بها من جهة أخرى، إلى تحريك النص على مستويات مختلفة من الواقع: واقع الحياة، واقع النص، واقع المتلقي، والواقع المترتب عن التفاعل بين المتلقي والنص، وبالتالي التأكيد على أن الواقع ليس واحدا، إنه متعدد وملتصق بجدلية الصيرورة المجتمعية التصاقا يحتم تغيير أفق الكتابة.
فما يمكن أن نفترضه إجمالا هنا من تفاعلات جمالية مع العناوين، هو انزياح الكتابات القصصية المتضمنة ضمن المجاميع القصصية أصيص الأحلام، وحين يتكلم الغبار، وسيمفونية الببغاء، وحائك العتمات عن خمسة مبادئ للكتابة القصصية، مبدأ المحايثة الدلالية، ومبدأ أحادية البعد الدلالي، ومبدأ المحاكاة، ومبدأ الإطلاقية، ومبدأ المحايثة الجنسية، فإلى أي مدى تصدق هاته الافتراضات؟
أول ما نشير إليه في هذا السياق، هو كون عناوين المجاميع القصصية، تختلف من حيث درجة التوهج الدلالي، لذا فهي مزدوجة.
فهناك أولا، عنوانان شاسعا الإشعاع الدلالي، وهما "حائك العتمات" للقاص علي بنساعود، و"حين يتكلم الغبار" للقاصة رحيمة بلقاس، وذلك بحكم أنهما يشعان دلاليا على جميع نصوص مجموعتيهما، دون أن يناظرا عنوان أي قصة من القصص القصيرة جدا المتضمنة.
ومن أدق ما نجلوه في هذا المساق، كون عنوان حائك العتمات، اعتمد في تركيبته اللغوية الاستعارية طاقة إيحائية تحمل الذهن على التفاعل معها، وذلك حتى يجعل من صورته الشعرية صورا في مرايا تأويلية مختلفة، ويكون بالتالي عنوانا يعطي في سياق تفاعلاته النصية أكثر من نفسه، ويرى ذاته النصية في مرايا المغاير اللامتناهي.
إنه بتجليه الاستعاري هذا وما يترتب عنه، يسن سننا قرائيا خاصا، يتمثل في وضعه بين المتلقي المحتمل وكتابته مسافة جمالية، تجعله يعقد مع المقول حلفا قائما على التخييل والتباعد، لا على التصديق والتماهي(8).
ولعل الكتابة بهذا المنحى الاستعاري لا تتحدد بما تعبر عنه، وإنما تتحدد بما توحي به، فشأنها شأن العنوان الذي لا يدل على مقوله، وإنما يوحي بما لم يقله، مما يجعله يحيل إلى حياكتين:
أولاهما الحياكة الفنية، التي تحاك وفقها قصصه القصيرة جدا من حيث تلفظاتها، فتستوي وفق بنى حكائية نسقية محكمة التحبيك.
وثانيتهما الحياكة الدلالية، التي تحاك وفقها هاته النصوص القصصية من حيث ملفوظاتها، فتنتظم وفق مبدإ تنظيمي يتمثل في موضوعة العتمة، التي أتت بإيحاءاتها سلكا رابطا بين كل أنسجة النصوص وبناها.
والحياكة في الإحالتين، لا تشتغل على لغة التعقيل بتعبير أدونيس التي تسرد الأفكار، وتوضح، وتقص، وتعرض، وتظل بالتالي قيد المعنى الذي لا يتجاوز اللفظ، وإنما تشتغل على لغة التخييل التي تضع القارئ في مجال الممكن والمحتمل، وتجعل المعنى يطفح بالمعاني ويتجاوز الألفاظ في حركية تأويلية دائبة(9)، ولعل النص التالي يوقفنا على هذا القول:
موديل
مرة عاد متأخرا من السهر، أعانته على نزع ملابسه... حين التفت، وجدها، بالأبيض والأسود، جالسة مستقيمة الظهر، متربعة الساقين، بدون رأس،
بين نهديها، ضوء دائري يشع...
في الصباح، استفاق في مرسمه ثملا، يرطم رأسه على الحائط، وهي تحكي... ص: 101.
فما أن نمعن النظر قراءة في هذا النص، حتى نستشف ما يومئ إليه العنوان، وندرك طبيعة اللغة التي يحاك بأليافها النص وباقي النصوص القصصية، إنها لغة تخييلية، تنتهك بداءة الميثاق السردي القائم على منطقية الأحداث، وتخرج عن النسق اللغوي المألوف، وهي تحوك من المعنى معنى المعنى، معتمدة على تجانس السرد والشعر، والتفاعل مع فن الرسم، واستيحاء العجائبي، وتساميه عن المنطق العقلي، فبهاته الحياكة تبدو اللغة وكأنها إبداع داخل إبداع، كما تبدو ذات طواعية قصوى لحمل أكثر الدلالات كثافة، وإثارة لجدلية التلقي وتفاعلاتها التأويلية.
بهذا وذاك يكون شأن العنوان، كشأن السلك الناقل للشحنات الكهربائية، فهو يوحي بحيثيات الكتابة السردية التي تجانس الشعر، وما ينبغي للقراءة من حيثيات إزاءها.
وإذا ما انتقلنا من هذا المساق إلى مساق عنوان "حين يتكلم الغبار"، سنجده لأول وهلة، وكأنه غير مستوحى من أي نص من نصوص القصص القصيرة جدا المتضمنة في مجموعته، كما سنجد كلماته وكأنها لا تمت بصلة إلى أي حقل من حقولها الدلالية، ولا تشع عليها بأي إشعاع دلالي، بل لا تستثير الذهن في توليد المضمر من صريح ألفاظها، وأمام تعذر إيجاد صلة دلالية بين العنوان والنص القصصي، لا نجد بدا من طرح سؤال الحمولة الرمزية المتداولة للفظة غبار، عسى أن تسعفنا دلالة ما باستكناه كنهه، وبالتالي استجلاء تفاعلاته النصية.
إن الغبار باعتباره ما دق من التراب أو الرماد، له إحالات رمزية عديدة مما يجعله كيانا بالغ التعقيد، فهو يرمز- حسب ما استقيناه من معجم المعاني- إلى الغموض، إذا قلنا عن فكرة ما: "لا غبار عليها"، ويرمز إلى من لا مثيل له أو من له إرادة غلابة، إذا قلنا عن شخص ما:"لا يشق له غبار"، ويرمز به كذلك إلى عيب ما، إذا قلنا عن منجز ما: "لا غبار عليه"، كما يرمز إلى ما لم يدرك بعد جهد، إذا قلنا: "طلبه فما شق غباره"، فهاته الرموز وإن تعددت لا تجد تبريرا دلاليا لها في النص، فهي تنأى عن أي قصد دلالي مبرر بما يبيحها.
ولعل الرمز الذي يمكن أن نجد له تبريرا في النص، هو الرمز الأدبي الذي شاع في الثقافة الغربية، أي رمز هشاشة الحياة الإنسانية، الذي يستنبط من القول: "إن الانسان مجرد غبار"، أو من القول الوارد في الإنجيل:"تذكر أنك غبار، وسترتد غبارا"، فهذا الرمز، سييسر لنا استكشاف تفاعل عنوان "حين يتكلم الغبار" مع نص قصصي، ترجمته صورة الغلاف واستدلت عليه بواسطة نسق تمثيلي أيقوني، وهذا النص هو:
مجرد جرة قلم رصاص
رسمها أجمل صورة بقلم رصاص، رصّعها بسمات من زمرد باه، وإشراقة عينيها من لؤلؤ زاه، حمل ريشته البديعة، أضاف ألوانه فأضفى عليها حلة قشيبة. من حيث لا تدري سلط عليها ريحا صرصرا عاتية، وممحاة جاحدة، عمت الفوضى، انطمست الألوان واختلط الرصاص بالقتامة. ص:21.
فما يؤكد الصلة العضوية بين العنوان وهذا النص ما آل إليه الرسم، فهو أصبح ذا لون رمادي، كما أن الرصاص فيه اختلط بالقتامة التي توحي بالغبار، بل تدل عليه لغويا.
إن ما يوحي به النص في شموليته، ويفصح عنه الغبار مجازيا، هو أن الإنسان رغم خلقه الإبداعي في أحسن تقويم، أتت حياته هشة، فهو مهما بلغ من الكمال، لا يلبث أن يصبح مجرد غبار.
إن هشاشة الحياة الإنسانية، استدلت عليها القاصة من خلال علاقات تفاعلية مع نصوص قصصية عدة، زاوجت في لغتها بين السردي والشعري الترميزي، مزاوجة شفت عن تلك الهشاشة تصريحا وإيحاء بدلالات الموت الذي يطال الأطفال، وشعور الذات برغبة في الانتحار والتخلص من الواقعي، وفي الجنون واتخاذ قطيعة مع العالم، وفي المفارقات الواقعية المعيشية غير المنطقية، التي تحط من شأن فئة وتعلي شأن أخرى، والشعور بالغربة في الوطن وعيش ويلات الحروب، والجوع والبؤس والقمع والإعدام وبث الرعب... بهذا أمكن للقاصة تكثيف الإشعاع الدلالي للعنوان، وجعله يشع على كل النصوص، حتى يشرعها على الإيحاءات والتأويلات التي تكفل له مسافات جمالية إثر كل تلق.
وهناك ثانيا، عنوانان محدودا الإشعاع الدلالي، وهما "سيمفونية الببغاء" للقاص حسن برطال، و"أصيص الأحلام" للقاص البشير الأزمي، بحكم أنهما لا يشعان دلاليا إلا على النصين القصصيين اللذين اقترنا بهما في مجموعتيهما.
إزاء عنوان سيمفونية الببغاء، ننطلق من منطلق افتراض أنه يوحي بكتابة تصدر عن فكر استعاري، وأنها ستشع به دلاليا على قصصها القصيرة جدا، وإن كانت تقصره على نص قصصي واحد، فإلى أي مدى تصدق هاته الفرضية؟
إن عنوان سيمفونية الببغاء لا يتعمق الشعري كما يوحي لنا، بشكل يحرك المعنى المتعدد وثراء احتمالاته، كما لا يرتسم لكتابته غاية الانزياح عن الدلالة المحايثة للكلمات، وبالتالي التجانس مع الشعر، فهو حسب ما يبدو لا يحتفي بالإيحائي إلا ليدل بوضوح على التصريحي، وحتى نكون على بينة منه نورد نصه:
سيمفونية الببغاء
قال لها: صباحك (فل).
نزلت الكلمة في حلقها عسلا فطلبت المزيد قائلة:
لماذا قلتها مرة واحدة... ؟؟ أعدها مرتين..
قال صباحك (فُلفل). ص:33.
فالنثري يبدو مهيمنا على النص، حتى أنه يكاد يحجب الشعري، الذي يتمثل في استعارة العنوان، وفي تشبيهين، وفي تشكيلات إيقاعية عبارة عن ترجيعات صوتية، ويتقلص هنا جدا مجال التعدد الدلالي، إلى درجة الوقوف على دلالة مباشرة، لا تحملنا بتاتا عناء استنباطها، وهي الدلالة التي تحيلنا على تلك القولة المأثورة: الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده.
إلا أنه رغم بساطة تعمق الشعري، تمتد ظلاله إلى باقي نصوص المجموعة القصصية، فيأتي عبارة عن تعابير مجازية، أو تشبيهات، أوتشكيلات إيقاعية، وهي ظلال تظلل تلقائيا المتخيل القصصي، فيكون شأنها كشأن تلك الظلال الشعرية، التي تظلل في حياتنا اليومية، النسق الاعتيادي العرفي لاشتغال الفكر واللغة ومفهمة الواقعي، بهذا تبقى الكتابة في مجموعة سيمفونية الببغاء، غير مكتنزة في دلالة ألفاظها، ولعل هذا يجد تبريره لدى القاص في كون هاجسه الأساس، هو أن يؤُولَ بلغة تصريحية، تشف بيسر عن معانيها إلى "المفارقة" المثيرة، التي تعتبر عمدة جنسه الأدبي، الذي قلما ينزاح عن طقسيته النمذجية، لذا فالفرضية التي افترضناها من منطلق العنوان الجامع، لا تتأكد مصداقيتها في سياق القراءة، فما يود القاص التشديد عليه، من خلال عنوان سيمفونية الببغاء، هو جمالية المفارقة المدهشة في قصه، وانتظامه وفق تشكيلات إيقاعية تبديه سلسا في القراءة .
غير أن عنوان أصيص الأحلام، يتفاعل جدا مع النص المقترن به، إذ يتراكب فيه الشعري مع السردي بشكل لافت، وينبني انبناء تخييليا، فتتراكب الصور الشعرية في بنيته السردية، التي تعتمد على أفعال تنحبك وفق علاقات إسنادية متنافرة أو متجانسة، وهي تنساب انسياب أسطر القصائد التفعيلية، المتفاوتة من حيث الطول والقصر، كما يتبين من خلال النص:
أصيص الأحلام
تعاطيت أحلاما..
أدمنتها..
غرستها في أصيص..
رويتها..
فتحت عيني على خدر جميل..
وجدتني أقطف أفاعي رقطاء..
طوقتني.. لدغتني..
تسممت أحلامي.. ص:7.
ما يطالعنا بصدد قراءة هاته القصة القصيرة جدا، التي تصهر في بوثقتها الشعري، هو انتظام نسقها اللغوي وفق أسلوب استعاري، يستتيح لها أن تلبس علاماتها اللغوية بياضات دلالية، تبعث الذوات المتلقية على التفاعل معها، وتمثل احتمالاتها التأويلية، لذا فهي كتابة تنزاح عن منحى وحدوية البعد الدلالي، إلى منحى تعددية الأبعاد الدلالية، إلا أن انزياحها هذا يبقى محدودا من حيث ظلال معاني، فلو شئنا أن نؤولها تأويلا مكثفا لقلنا: إن الذات المتحدث عنها في المقول القصصي، تصهر مع المحيط الواقعة في سياجه، فإذا هما ذات واحدة تعيش إحباطا نفسيا حادا، يتمثل في الحيلولة دون ترجمة الأحلام واقعيا.
وإذا كان العنوان يشع شعرا على النص الذي اقترن به، فإنه في الآن ذاته يشعه على نصوص أخرى، دون أن يبلغ إشعاعه كافة نصوص مجموعته، ذلك أن الكتابة بـأسلوب تصريحي مباشر تقوم على إسنادات متجانسة، تستميل القاص بين الآونة والأخرى.
ولعل ما يود هذا القاص أن يقوله لنا من خلال عنوانه، هو كون نصه، كما هو شأن نصوص عدة، ينفتح على تعدد دلالي، لذا ينبغي أن يتفاعل معه المتلقي، ليدرك مقاصده، وبالتالي أبعاده التأويلية.
بعد هذا وذاك تتأكد لنا نسبيا، الافتراضات التي افترضناها إزاء العناوين، فهي ارتهنت بتفاعلها مع نصوص مجاميعها، وإيحائها بملفوظاتها وحيثيات تلفظها، أي بانتظام كتاباتها تبعا لمبدإ دلالي تنظيمي، وانزياحها عن مبادئ المحايثة الدلالية، والمحايثة الجنسية، والمحاكاة، والإطلاقية، وأحادية البعد الدلالي.
إن هذا التفاعل، ارتهن بهيمنة الوظيفة الجمالية بشكل لافت على العناوين، ولعل هاته الهيمنة تبينت جدواها، في صياغة اللغة على شاكلة صور شعرية، تنزاح عن الإسنادات المتجانسة للغة السردية، إلى إسنادات شعرية غير متجانسة، تبديها ذات بياضات دلالية بالغة الغنى، واحتمالات تأويلية بالغة التعدد.
ثانيهما المستوى الأيقوني والتشكيلي:
ما دامت جمالية هذا المستوى، لا تدل عليها الصورة المرسومة أو التشكيلية مستقلة بذاتها عن اللغة التي وردت في سياقها، فإننا سننظر إليها باعتبارها محط تجاذب فنين:
أولهما، الفن التشكيلي المكاني، ذو النسق البصري القائم على علامات أيقونية وتشكيلية، لها طواعية ترجمة اللغوي.
ثانيهما، الفن اللفظي الزمني، ذو النسق اللغوي، القائم على علامات لغوية، لها طواعية التفاعل مع العلامات السابقة الموازية لها.
فهاته المزاوجة القائمة بين نسقين تواصليين متباينين، تستتيح للفنين أن يتنزل الواحد منهما منزلة العلامة الانعكاسية للآخر، وأن يتمرأى الواحد منهما في مرآة مغايره.
ولا ريب أن المجاميع القصصية: "حائك العتمات"، و"حين يتكلم الغبار"، و"سيمفونية الببغاء"، و"أصيص الأحلام"، إذ ترتسم لها مرام الاحتفاء بالمنجز العيني التصويري، والتماهى معه، والاتحاد به في كينونة جمالية واحدة، تقيم في كيانها علاقة تفاعلية بين بعدها الزمني وبعدها المكاني، أي بين بعدين يرادفان رمزيا بعدي الوجود الموضوعي.
لذا من المهم جدا هنا، أن نبين جمالية التشكيلي في علاقته باللغوي، من خلال مستويين إجرائيين دالين:
أولهما عرض انزياح التشكيلي عن اللغوي، حيث يتم الاقتصار على المدلول المباشر للصورة في استقراء علاماتها الأيقونية والتشكيلية.
وثانيهما، نفي الانزياح، حيث يتم الانتقال من هذا المدلول إلى المدلول الإيحائي غير المباشر، وما ينشأ بينه وبين اللغوي من أنسجة دلالية متنوعة.
فلنبين تلك الجمالية أولا من خلال الصورة، التي اقترنت بغلاف المجموعة القصصية: "حائك العتمات"، وهي صورة أتت مؤطرة بثلاث إطارات، تداخلت متفاوتة الأحجام، حتى أبدتها مقعرة في وسطها، وهي تعكس أطيافا بشرية غفلا من قسمات الوجوه، ذات أطراف علوية وسفلية دقيقة، تبدو وكأنها خيوط تتحرك بها على الماء، بينما هي تجتاز بنايات متعالية لا تنكشف طبيعة هندستها أو زخرفتها، في حين على الواجهة الأمامية للصورة كلب تغوص قوائمه الدقيقة هو الآخر في الماء، بينما يرقب المارة دون إزعاج.
فهاته الصورة تعتبر تكثيفا للعالم الحكائي، فهي لا تشف عن العنوان الذي يحاذيها جدا فحسب، بل تشف في الآن ذاته بنسقها التمثيلي عن الناظم الدلالي، الذي تنتظم وفقه النصوص.
إن هذا الناظم يمكن أن نستدل عليه من خلال لفظة العتمة، التي تضمنها العنوان، ورمزياتها التي توحي بها كل نصوص المجموعة القصصية بدون استتثناء، فهي تحتل ركنا كيانيا في ملفوظاتها، إنها عتمة الموت الصريح أو الموحى به، الذي نكاد نشتم رائحته ونحن بصدد القراءة، كما أنها عتمة الوحدة الوجودية واتخاذ قطيعة مع العالم، وعتمة المجهول، وعتمة الكينونة ووحدتها، وعتمة المصير السيء، وعتمة غموض المعيش، وعتمة الوهم، وعتمة الغربة حتى في الوسط العائلي، وعتمة الإحساس بالقنط، وعتمة المكان الذي لا يُحتمل العيش فيه.
إن هاته العتمة بتجلياتها الرمزية تشكل الملمح الدلالي، الذي تلمح إليه كل قصة قصيرة جدا على حدة، لذا فالصورة تأتي لتستدرجنا إليها، وتضاعف إحساسنا بها.
وحتى نقف على ما نقول سنتعقب الأبعاد الرمزية لهاته الصورة وما توحي به من إيحاءات، وما تقصده من مقاصد دلالية.
إننا إذا ما ولجنا صميمها، من خلال بوابة الإطارات الثلاثة التي أطرتها وقعرتها، ألفيناها توحي بكهف يدخل بنا حياة معيشية معتمة، حيث تتعايش أطياف بشرية متناسخة، لربما العتمة تحجب قسماتها عنا وما يغايرها، فهذا الكهف معادل رمزي لكهف الرقيم، ولعل وجود كلب ببوابته يزيد في تعميق هاته المعادلة، فهو يرمز إلى الكلب قطمير، الذي رافق أهل الكهف في الحكي الموروث.
إن هاته الصورة تكتمن إيحاءات عدة، فهي توحي بالمعيش الذي تخلف عن زمنه، وفقد معناه، إذ أفرغ الإنسان فيه من إنسانيته،، إلى درجة أنه أمسى مجرد طيف، إلا أن وجود الماء في الصورة يستأثر بالانتباه، ولعله يدل على أن هذا المعيش الذي استجلته نصوص قصصية بجلاء يحتمل إمكانية تغييره.
إن هاته الصورة الموحية كما تبين، تضاعف السردي في مرآتها، وتهبه أبعادا شعرية، ذلك أنها تلغي التطابق التوثيقي بينها وبين موضوعه المرجعي، وتطوع بياضاتها الدلالية لتفي بصياغة احتمالات تأويلية تستنير بها.
وإذا ما انتقلنا إلى المجموعة القصصية "حين يتكلم الغبار"، فإن الصورة التي ستطالعنا على الغلاف، هي صورة امرأة بهية زمردية العينين حادتهما، ومستوية الحاجبين، وقصيرة الأهداب، تعلو وجهها مسحة حزن، وهي تبكي شاردة الذهن، وممعنة النظر في شيء ما، بينما تعصف بها عاصفة غبار، التبس بلون خصلات شعرها التي أرسلتها على كتفيها، وببشرتها القمحية التي أفقدها جمالها.
إن هاته الصورة تعتبر ترجمة أيقونية وتشكيلية، لما ورد في مرحلة وسطى من مراحل قص القصة القصيرة جدا، المعنونة ب: "مجرد جرة قلم رصاص" التي استحضرناها ضمن المستوى اللغوي، إنها صورة رغم بساطتها التركيبية، وبنائها المرجعي تدل على منزلة توحي بمنزلتين دلاليتين:
أولاهما، منزلة ما كانت عليه المرأة من جمال، بينما بدأت العاصفة تعصف بها.
وثانيتهما، منزلة ما ستؤول إليه هاته المرأة، وهي قد أثير الغبار على شعرها، وعلى وجهها.
ذلك أنها صورة، تعكس رسما بالكلمات، في اللحظة التي حلت فيها العاصفة بالمرأة البهية، لتذهب بما كان عليه وجهها من جمال، ولتطمس بعدئذ ألوانه ، وتُحل محلها القتامة الغبارية.
لذا فهي تعكس بنسقها التمثيلي، القائم على علاقة طبيعية بين دواله ومداليله، نسقا لغويا قائما على علاقة اعتباطية، وهي إذ تعكس نسقا بآخر تضاعف دلالته، وتلفت النظر إلى إحالة لفظية بإحالة أيقونية وتشكيلية، أو بهوية بصرية مرئية ستطالها الهشاشة الحياتية، التي تعتبر الناظم الدلالي الذي تنتظم وفقه كافة القصص القصيرة جدا، المتضمنة في المجموعة القصصية.
إن استراتيجية التأليف الفني بين الأيقوني والسردي، تؤول هنا بفنين إلى مضاعفة الواحد منهما ذاته في مرآة الآخر، كما تؤول في الآن ذاته بهما سوية إلى مضاعفة ذاتيهما في مرايا تأويلية.
أما الصورة التي تصدرت غلاف مجموعة "سيمفونية الببغاء"، فهي عبارة عن لوحة تشكيلية اختطت بخطوط متوازية ومتقاطعة ومتشابكة، تتخللها أقفال عبارة عن دوائر ومثلثات، وأنصاف دوائر وأشكال غير محددة، وقد اصطبغت الفراغات بلونين رئيسين وهما الأزرق والأحمر، وباللون الأسود الذي أشرقهما إذ أتى بموازاته الأبيض. إن هاته اللوحة تستوقف الذهن بهندستها الملونة ، التي لا تنصاع بتاتا إلى مبدإ الانعكاس أو المحاكاة، ولا ريب أن القاص اعتمد علاماتها التشكيلية على غلاف كتابه، ليوحي بعلاقة تقاطع بين قراءتها وقراءة العلامات اللغوية، التي صيغت وفقها القصص القصيرة جدا المتضمنة.
إن ما يود الإيحاء به، هو أن شأن القراءة في المجموعة القصصية "سيمفونية الببغاء"، كشأن القراءة في لوحة تشكيلية، فهي قراءة ينبغي أن لا تكون منفعلة بالمقروء ومباشرة، تقصر ذاتها على فهم أجوبته، دون التفاعل معه بالأسئلة، وإنما ينبغي أن تكون قراءة فاعلة غير مباشرة، تعتبر الفهم عملية بناء المعنى واستثارة معنى المعنى.
إلا أن من يمعن القراءة في القصص القصيرة جدا، التي تضمنتها مجموعة سيمفونية البغاء، يجدها نصوصا ذات شفافية ومباشرية، فهي لا تحمل القارئ عناء فك مغالقها الدلالية، واستكناه أبعادها التأويلية، ذلك أن هاجسها الأساس هو المعنى النواة، الذي تترتب عنه المفارقة الخارقة المدهشة، ويفعل فعله الإيهامي في القارئ، لذا فالقاص لا ينشغل كتابة بالمعنى الظل المعبر عنه بظلال المعاني.(10)
ويسلك التشكيلي مدارجه الجمالية في الصورة التي اقترنت بغلاف المجموعة القصصية: "أصيص الأحلام"، فهي صورة مركبة من صورتين:
أولاهما على الواجهة الأمامية، تعكس مكانا مهجورا موحشا بمؤثثاته وألوانه، يتوسطه أصيص افتقد زخرفته وجماليته، وهو تنمو فيه أفاع متنوعة الأحجام وهي تنفث سمها، يخترق هذا الأصيص سورا، انكشف آجرُّه غير المتراص بانتظام.
وثانيتها الخلفية، التي رغم أن سابقتها حجبت الجزء الكبير منها، جاءت بينة المقصود، فهي تعكس سماء ذات سحاب خزامي اللون، ينتشر في أماكن منها دون أن يشملها بأكملها.
ومما يطبع هاته الصورة المركبة، الصبغة السوريالية التي اصطبغت بها، إذ جعلت الأفاعي تنمو في الأصيص بدل الورود، كما جعلت السماء ذات لون مغاير لألوانها الأصلية، فهي بغرابتها هاته انتهكت حجب الواقعي، ووضعت المتخيل داخل فضاء، يتسامى عن المنطق العقلي المتداول ونطاقه الزمني والمكاني.
إن هاته الصورة المركبة، تقيم علاقة انعكاس جدلي مع عنوان المجموعة القصصية: أصيص الأحلام، وتكشف حقيقة تظل مغيبة فيه، فهو بينما يوحي من خلال قراءته الأولية بأحلام جميلة، يتطلع إليها كل إنسان حتى يستشرف بها آفاقا مستقبلية منشرعة، تأتي الصورة لتخيب أفق التوقعات، إذ تعكس الأحلام كوابيس مليئة بالأفاعي، التي لا تني تنمو في الأصيص نافثة سمومها.
إلا أن الناظر عن كثب إلى علاقة هاته الصورة بالقصة القصيرة جدا، التي عنوت بأصيص الأحلام، سيجدها علاقة محاكاة، فهي تبدو وكأنها ترجمة لعلامات لغوية بعلامات أيقونية، بغية سد بنسقها التمثيلي البصري الخصاص التعبيري الذي قد تتركه لدى قارئها.
فما تود الصورة هنا أن توحي به، في تفاعلها مع اللغوي، هو أن زمن الحلم يحبطه زمن الواقع، ويحيله كوابيس مفزعة تقض مضجع الحالم، فهاته الدلالة الإيحائية، ناتجة عن تفاعل الصورة مع نص "أصيص الأحلام"، الذي ذكرناه سابقا باعتبارها تترجمه، كما أنها ناتجة عن تفاعلها مع نصوص أخرى قليلة، إلا أن النص الذي تتفاعل معه بكثافة إيحائية هو نص:
أحلام
في الليلة الأولى، رأيتُني أحلق فوق السحاب...
في الثانية، أرسم حماما أبيض يهدل.. نشوان..
في الثالثة استيقظت مذعورا..
تحسست عيني..
ثقبان يسيلان دما..
وبقايا ريش ذابلة فوق وسادتي..
حيث الحالم يحبط في زمنه الواقعي، قبل إخراجه من نطاق الكمون إلى نطاق التحقق الفعلي.
بهذا نخلص إلى أن جمالية الصورة على غلاف "أصيص الأحلام"، ليست وليدة تركيب أيقوني، يستمد شرعيته من بنيته وصياغته، وإنما هي وليدة تركيبة من العلامات الأيقونية واللغوية المتفاعلة إيحاء.
وقد تبين لنا من خلال هذا الكشف، أن الصور التشكيلية التي ازدانت بها أغلفة المجاميع القصصية، ليست صورا ناسخة تلتقط موضوعها كما هو في الواقع، وتعكسه في مجمله صورة محاكية في طبيعتها لحقيقته المرئية الواقعية، وإنما هي صور مبدعة تنطلق من علامات لغوية موجودة، فتحيلها علامات أيقونية وتشكيلية تضفي جمالية على الموضوع، لذا فهي صور لا ينجزها منطق الهوية، وإنما ينجزها منطق الاختلاف.
إن الجمالية هنا ناتجة، عن تأليف إبداعي مرآوي، يعبر من جهة عن رغبة في رؤية الإبداع اللغوي في مرآة الإبداع الأيقوني التصويري، كما يعبر من جهة أخرى عن رغبة في مضاعفة الإبداع في مرآة المتغاير معه، وبالتالي إتاحة التجلي للتعدد والاختلاف.
ولعل الخلاصة التي نخلص إليها بعد هذا وذاك أن جمالية تفاعل العنوان والصورة مع القصة القصيرة جدا، لا تتجلى كليا وفقا لما يريد لها القاص أن تكون، ذلك أنها تجل يتوقف على عملية جدلية، تنشط قراءة وتأويلا في علاقة بالنص، الذي تستمد منه كل العتبات علة وجودها.
ولنا هنا أن نشير إلى أن أهم رؤية، يمكن أن ننظر من خلاها إلى عتبتي العنوان الأساس والصورة التشكيلية، هي الرؤية التي تعتبرهما علامات لغوية أو أيقونية، ذات دوال لها مداليل مباشرة تفصح عنها، ومداليل غير مباشرة توحي بها في علاقتها بالكتابة النصية من جهة، والقراءة التأويلية من جهة أخرى.
فلا قيمة جمالية لهاتين العتبتين، ما لم نحتكم إلى أخص خصائص الإبداع، وهو بعده الدلالي الإيحائي.
هوامش
* هاته الدراسة عبارة عن مداخلة، ألقيت في سياق فعاليات ملتقى فاس للقصة القصيرة جدا، الذي نظم أيام 28، و29، و30 من شهر أكتوبر، بمركب الحرية، سنة 2018.
(1). هاته التفاعلات مستوحاة بتصرف شديد من تنظيرات "جيرار جنيت"(Gérard Genette) ، لمفاهيم "عبر النصية" أو "المتعاليات النصية"، كما وردت في كتبه:
- Introduction à l’architexte, Coll Poétique, Ed Seuil, Paris, 1978.
- Palimpsestes (La Littérature au second degré), Coll Poétique, Ed Seuil Paris, 1998.
Seuils , Ed Seuil, Ed Seuil, Paris, 1987. -
.(2) علي بنساعود، حائك العتمات، مطبعة وراقة بلال، فاس، 2018.
.(3) رحيمة بلقاس، حين يتكلم الغبار، مطبعة طوب بريس، الرباط، 2014.
.(4) حسن برطال، سيمفونية الببغاء، مطبعة دار الوطن، الرباط، 2012.
(5). البشير الأزمي، أصيص الأحلام، مطبعة الخليج العربي، 2017.
Gérard Genette, Palimpsestes (La Littérature au second degré), Coll Poétique, . (6) Ed Seuil, Paris, 1998 , p :9-10 .
(7) . رشيد بنحدو، جمالية البين - بين في الرواية العربية، منشورات نادي الكتاب بالمغرب، مطبعة الكتاب، فاس، 2011، ص: 53.
.(8) رشيد بنحدو، باسم فرع اتحاد كتب المغرب بفاس، الرواية تطرح أسئلة على النقد وعلى نفسها، جريدة أنوال الصادرة يوم السبت 30 دجنبر 1989.
(9) . أدونيس، الحوارات الكاملة ما بين 1960- 1980، الجزء الأول، الطبعة الثانية: 2010، منشورات بدايات للنشر والتوزيع، سوريا، ص: 92، 93.
(10) . المعنى النواة، والمعنى الظل مفهومان، اقتبستهما من كتاب: الأدب والخطاب النقدي، لعبد السلام المسدي، الطبعة الأولى:2004، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ليبيا، ص: 91