التأمّـل والمحسوس في نصوص الشاعر العراقي خزعل الماجدي - علاء حمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

الشعر أفيون الذات ( ومفردة أفيون تعني التخدير ) لذلك مانلاحظه بأن حالة من السكر تصيب المتلقي من خلال ذاتية الباث التي اعتمدت قصدية المعاني، والبحث عن المحسوس التأملي؛ وهذا يعني لنا تحرير المحسوس وانطلاقة تجلياته بين الأشياء وبين ماتطلقه الذات في مرحلة تنقيبها عن عالم لتستقرّ به، فالذات تعوم على بحر من العوالم التي تدور حولها؛ والمحسوس بتأملاته يشكل الباث الأوّل من خلال البحث عن تلك العوالم واختراق معانيه والتعامل معه من خلال إيجاد علاقات في الحقول الخيالية والتصويرية وكذلك التصورية، خارج الحدود التي ينتمي إليها المحسوس، بل هو في حالة من حالات التحرر الإستطيقي من جهة، والتحرر مع المختلف؛ فالاختلاف يؤدي إلى مساحة من اللغة التعيينية والتي لها علاقة مع الرمزية؛ وطالما نحن مع الاختلاف النوعي والاختلاف اللفظي فإننا في منطقة الخيال والتخييل، فالمتخيل يتحرك مع المحسوس لتأسيس منظوره الشاعري في التأمل الحسي، ولا نستطيع التخلي عن المحسوس مهما كانت غرفة الخيال مسيطرة وحجم مساحتها وتأثيرها على الذات أو الذهنية، فالمحسوس يتحرك بشكله التأملي ليجد منطقته الحسية أيضا وتصويب ونقل الأشياء المحسوسة من الخارج والداخل، ونقول الداخل، وذلك لوجود خزائن المعرفة الحسية وكذلك المعرفة المنظورة من خلال المحسوس واتجاهاته نحو الإمساك بالجمالية طالما أنّها من عوامل تحرره واتجاهاته نحو الإستطيقا.. فالصورة الحسية تصاحب المحسوس، وتعمل رسالة؛ رسالة إلى المرسَل إليه؛ ليتكون لدينا محسوس آخر، له استقباله كمرسَل إليه، ليصبح أحد أدوات النصّ عن التأسيس والتشييد، ويشارك في التفاعلات والانفعالات النصية والتي يدخلها المحسوس ولو بشكل جزئي..

كيف يكبر المحسوس في الاختلاف، وكيف يصغر المحسوس في حالة الاختلاف أيضا؛ ومن هنا عندما يتسع المحسوس في التأمل، فنحن في حالة تفكرية، لذلك يميل الباث إلى توظيف الأفكار الفلسفية من خلال التساؤلات والتي لاتمتلك الأجوبة، فالنصّ الشعري لاينشط من خلال جواب لسؤال، بل ينشط من خلال سؤال لسؤال.
وحقيقة الأمر تعيين المحسوس بشكله الانفرادي يؤدي إلى الحيرة وخصوصا في حالة نشاطه التأملي، فهو غير مستقر في زاوية معينة، وما نلاحظه في بعض الأحيان يتوسع بمساحته الداخلية، وفي بعض الأحيان يصغر في نفس المساحة، وكلما كبر المحسوس تكبر المساحة التأملية معه، وكلما صغر المحسوس تصغر تلك المساحة، وحتى هي قابلة للاختفاء، وتبقى لدينا بعض جزئيات المحسوس أو أثره المتروك في تلك المساحة الصغيرة؛ لذلك فالمحسوس ضمن الوضع الممكن، الوضع الذي تختاره الذات برقة المحسوس وإيجاد العناصر التي تتعامل معها، ومنها العناصر الحسية، كثقافة العين مثلا، وثقاقة السمع، والرؤية المنظورة عن قرب، باعتبارها الأهم والأقرب للذات للتعامل معها..
ماينتجه مضمون المحسوس، له الخبرة في هذه الحالة حول الممكنات التي يحملها، فالمحسوس الذي يمتلك التجربة والخبرة، لاتعيقه المسميات التي تصادفه، أو تلك القصدية بخبرتها لن تقف أمام تجربة المحسوس، فهي تتواجد من خلال تجربته في الذات، ومدى تعامله مع الداخل الذاتي والخارج الذاتي؛ لذلك له ثقافته الخاصة بمساحة واسعة، كلما اتسعت تجربة المحسوس؛ وكلما قلت تجربته فالمضمون القصدي لايثبت، فالفعل القصدي لايظهر بشكل عفوي، بل هناك أدوات لتحريكه والاعتناء به ضمن تجربة طبعا، تجربة حياتية وتجربة شعرية، وكذلك تجربة حسية نحو تمرير العواطف والانفعالات والتأثر بالفعل الذاتي..
 30
كلما مالت كلماتك إلى السواد
طفحت روحي بالوهج
تحدث.. تحدث بتلك اللغة السوداء
              عن الحبّ والطهر والجمال
تحدث عن الشمس بلغة سوداء
تحدث عن روحي بلغة سوداء
تحدث بكلّ هذا السواد
لكي تزداد بياضا
31
يوم رحلتَ
 كنت أرعى سندياناتكَ وأغمر نباتاتها بالدموع
كانت هي تنمو وعيوني تذبل
وها قد مرّ زمن طويل اليوم
وعدتَ..
نباتاتك أثمرت حقولا
ولم تعد لي عيون
ولا أعرف فيما إذا كنتَ تنظر بحزنٍ لعيوني
                  أم بفرح لحقولك..!!

مجموعة نصوص بعنوان: ربّما.. من يدري!؟ - ص 24 – الأعمال الشعرية السادسة
كيف نميل إلى المقابل الدلالي من خلال دلالة الجملة المتواصلة، طالما الجملة الشعرية غير مقطوعة، فالتقابل الدلالي يظهر من خلال مقطع آخر، الاسلوب الذي اعتمده الشاعر العراقي خزعل الماجدي، هو أسلوب التقطيع الشعري، ولم يتوقف هذا الأسلوب بنقطة، حيث نعتبره من النصوص المفتوحة والتي تستمر تحت مسميات معينة، ومنها العنونة في رأس الهرم، وتحت هذه الخيمة نستطيع الدخول إلى النصوص الشعرية المرقمة، والتي لبست النصوص لفظا ومعنى، مما يدلّ على نوعية النصّ المعتمد وامكانية الباث في كيفية التغلغل باللغة الشعرية وأنواعيتها..
30 = كلما مالت كلماتك إلى السواد + طفحت روحي بالوهج +  تحدث.. تحدث بتلك اللغة السوداء +  عن الحبّ والطهر والجمال + تحدث عن الشمس بلغة سوداء + تحدث عن روحي بلغة سوداء + تحدث بكلّ هذا السواد + لكي تزداد بياضا
القوالب اللفظية والتي أوجدها الشاعر من خلال رسوماته للشطور الشعرية احتوت على حركة من الجمالية والمعاني، مما شكلت لنا ظاهرة لغوية أسلوبية مميزة من خلال النصّ المفتوح والذي لايرغب بالانتهاء طالما لغة الترقيم متواجدة، وقيمة الحركة الدلالية ظاهرة من خلال السياق الحركي في النصّ الشعري؛ فقوة الإقناع وقوة الألفاظ الحاملة للمعاني هما اللتان توالفتا وامتدتا وظهور حركة الأفعال الانتقالية في بعض المقاطع.. فالأفعال التي اعتمدها الشاعر بعضها تموضعية وبعضها انتقالية حدثية أي تمثل الحدث الشعري الذي اعتمده الباث: مالت، طفحت وتحدث.. كلها أفعال انتقالية ولكن الفعل الأخير والذي دلّ على الكلام، فقد كان من الأفعال الانتقالية الدال على الحديث، والشاعر يوجهه على صيغة فعل أمر، كأنه يخاطب الطرف الآخر بصيغة أمرية وذلك لكي يختلف مع مافي الحديث ويطالبه بالإقناع بما يوججه ضمن القول، والقول الشعري..
31 = يوم رحلتَ + كنت أرعى سندياناتكَ وأغمر نباتاتها بالدموع + كانت هي تنمو وعيوني تذبل +  وها قد مرّ زمن طويل اليوم + وعدتَ.. + نباتاتك أثمرت حقولا + ولم تعد لي عيون + ولا أعرف فيما إذا كنتَ تنظر بحزنٍ لعيوني +  أم بفرح لحقولك..!!
من خلال الحدث الكلامي والرؤية الكلامية نلاحظ بأن الشاعر يتجه باتجاهين، الاتجاه الكلامي الذي يؤدي إلى المعنى والقول الشعري، والرؤية الكلامية والتي تفسّر لنا المنظور البصري من خلال القول الرؤيوي، فالأشياء المنظورة المتحركة، تكون عادة دالة بحركتها، وهي متابعة من خلال العين وتفسيرها، مثلا إذا سقط قلم الكتابة من يد الكاتب وهو خلف منضدته، فسوف تسبق اليد العين لتشخيص مكان القلم بشكل خاطف، وذلك لاحتياج العين لذلك القلم وهي تحدق في الورقة وتتابع قلم الكتابة، بينما إذا سقط فنجان قهوة فارغ، فسوف تنظر إليه العين ولكن بشكل بطيء، وربما لاتلتقطه الأصابع إلا بعد حين، وذلك لعدم حاجة العين لذلك الفنجان الفارغ.. وكذلك تلاحق العين الحدث الكتابي من خلال الرؤية الكلامية والتي تؤدي إلى تفسير الحدث.. نلاحظ أن الشاعر خزعل الماجدي يلاحق الخبرة الكلامية من خلال تجسيد الكلام على صيغة صور شعرية، وهي مخالفة تماما لكلام القول، لكنها تؤدي إلى مسلك القول الشعري.. إن الفاصل الذي اعتمده الشاعر في ديمومة الجمل الشعرية هي مفردة الدموع، والتي أدت وظيفتها من خلال مضمون المعنى، وكذلك موضوع التشبيه الذي زرعه الباث لنا، ( كانت هي تنمو وعيوني تذبل )، من خلال هذه الجملة الامتدادية كتب رسالته الشاعر لتكون للمرسَل إليه على صيغة جملة توسطت الحدث الكتابي والرؤية الكلامية، وهي تصورات الذات وما رسمه الشاعر من صور شعرية أدت إلى الدهشة.
 في حالة فعل الشيء، فنحن ندرك عادة أن هناك تغييرا ما، في حالة الجسد؛ فالحركة لاتتوقف، وحتى لو نميل إلى حركة الذات، فسوف نلاحظ أنها لاتتوقف بل تنتقل من حركة إلى أخرى، ومن مرحلة إلى مرحلة جديدة، والتجدد من متطلبات الشعرية الحديثة، والتي تجذب معها بعض الحواس، وتتدخل في شؤون حركتها المنظورة منها والاستذكارية والتفكرية، وكذلك الحركات غير المقصودة والتي تكون حالة ديناميكية ومنها حركة العين والأيدي والأرجل، وحتى حركة اللسان، نلاحظ هناك من يكلم نفسه عندما يفكر أو يسأل، فالجواب يكون لجواب السؤال، والسؤال للسؤال، بينما في الغرفة لا أحد هناك سوى الشخص المفكر وحده.
37
أين أنتَ
ملأ النحاس صدري
وثقلت أنفاسي
نباتات غريبة ظهرت في روحي
ورملٌ كثير تدافع فوق أقدامي
أصبح الطريق إليكَ بلا نهايات
بينما نهايتي تقترب
38
بغيابك انطفأت شجرة النور في صدري
وزاغت عيوني
واختفى
ذلك الطير الذي
كان يهمس في أذني.
39
حين أحنّ إلى ساحلكَ
تتحوّل أقدامي إلى مجاذيف
ويداي تضيق بالأزهار.

مجموعة نصوص بعنوان: ربّما.. من يدري!؟ - ص 38 – الأعمال الشعرية السادسة
بالاكتفاء الذاتي وثقافة الذات التي تميل إلى عالم مخصخص من المعاني والإثارة الداخلية والتأثيرات الخارجية، تحتفظ الذات بالتصورات والأدوات والأصوات، وتكون علاقة مع العالم الخارجي، وبينما التفكر الذهني له القابلية على إعادة صور العالم الخارجي، مما يتكون لدينا الصور الذهنية والتي تتدخل الذات بها أيضا لتكوين حركة صوتية خاصة بها.. كلّ هذه المزايا التي نطرق أبوابها وبينما تكون قوّة المحسوس الخارجي ترتسم في صفاته أدوات الحس والمرتسمات في الحس.. فأدوات الحسّ الغائبة مثلا، يُحضرها المحسوس من الخارج وإلى الداخل، وهي أدوات فعالة ولها قيمتها الفعلية والخبرية.. بينما المرتسمات في الحسّ، هي تلك المسالك التي تؤدي المعنى، ولكنها تتراجع عن المعاني المباشرة، باعتبارها متواجدة وتعيش مع الآخر بشكل يومي، حيث تنقلب موازين المعنى الحسي المباشر، من المباشرة إلى التجريد، ومن المألوف إلى اللامألوف..
37 = أين أنتَ + ملأ النحاس صدري+  وثقلت أنفاسي + نباتات غريبة ظهرت في روحي + ورملٌ كثير تدافع فوق أقدامي + أصبح الطريق إليكَ بلا نهايات + بينما نهايتي تقترب
يتحرك المحسوس بآمال تملأ مساحته الحركية، لذلك ومن خلال تحركه الفعلي؛ نلاحظ أنّه يرفع من قوّة الفعل الذاتي، فلا شيء أمامه سوى تحرير الذات، والاعتناء بالمعنى ليكوّن علاقاته الجديدة بمساحة استدلالية تؤدي إلى دلالة الآثار المكتوبة مع الألفاظ والتي لها فعل القراءة بالنسبة للنصّ المكتوب؛ ومن خلال ذلك والمشهد الشعري الذي رسمه الشاعر خزعل الماجدي، فقد انتمى إلى خصوصية التحرر والخروج من التكبيل النحاسي؛ فتارة يشير إلى ذلك وتارة يدلّ عليها، فقد أشار بجملة ( ملأ النحاس صدري ) وفيما بعد فسر ذلك من خلال فعل الدلالة ( وثقلت أنفاسي ) وهي نتيجة من نتائج الإشارة إلى معدن النحاس الثقيل.. فالمعاني التي وظفها الشاعر أرادها أن تكون فعل القول في المقطع الشعري..
38 = بغيابك انطفأت شجرة النور في صدري + وزاغت عيوني + واختفى +  ذلك الطير الذي + كان يهمس في أذني.
أسقط الشاعر تنفسات الحياة عندما فكر بانطفاء النور، وقد لازم درجة الانطفاء البدائية ذلك الطير الذي اختفى أيضا من حياته، وهنا الرؤية الكلامية هي التي فقدت الأمل كتصور ذهني تفكري؛ وكأننا أمام أسطورة وراح الشاعر يفسر محتواها، وجعل منها بطلا جماليا متنافسا مع جمالية الحياة..
39 = حين أحنّ إلى ساحلكَ + تتحوّل أقدامي إلى مجاذيف + ويداي تضيق بالأزهار.
من مقطع إلى آخر تتحول المعاني، وتأخذ امتدادها بواسطة الجمل الشعرية التي حوتها تلك المقاطع، وهي عبارة عن صور شعرية متجانسة مع بعضها، والنصّ بشكل عام لايحوي على منظور تصويري كلي إلا من خلال العنونة، وكل صورة ( جزئية ) كانت مكملة لتلك العنونة من جهة، ومكملة للمقاطع والصور الشعرية المتواصلة من جهة أخرى.. لذلك جسدت هذه المطاردات المقطعية، الحضور الذاتي للمعنى، مما أدخلتنا بتأمل ذاتي، وتأملات المحسوس الذي لاينفك عن الحراك في التفعيل الداخلي الشعوري والعاطفي والتذكري، وفي التفعيل الذهني، مع الأوليات والعلاقات والتصوير والتصورات التي تنحاز الذهنية إليها؛ ومع الحراك الخارجي والمنظور الرؤيوي وحركة البصرية الرؤيوية والكتابية والتي أدت نتائج مبهرة من خلال نقل التصاوير بعوامل دهشوية، فالتفكر الذي غطى هذا الجانب هو الميول إلى الأساطير التي تم نقل القصدية التفاعلية من ناحية المضامين والوقوف حول المعاني، وذلك بأن الشاعر، باحث في أصول الأساطير ويستطيع أن يوظف بعض المعاني العالقة في الذهنية، وصهر تلك المعاني مع المعاني الحديثة لنحصل على ديمومة معكوسة في القصدية المصاحبة للباث وتوجهاته وغوره في المعاني ومرحلة كتابة النصّ الشعري.. فالحنين الذاتي الذي يطلقه ليس بالمجال العاطفي المباشر، بل هناك دواخل للشاعر وكما عملت بعض العلاقات، مثلا علاقات قلبية، وينتج عنها العاطفة الانسيابية، وعلاقات ذاتية، وينتج عنها بعض تراسلات الحواس مابين الذات وتلك الحواس، وعلاقات ذهنية؛ وينتج عنها علاقة الصورة بالذهن، والتفكر الآني وكذلك المتعة الجمالية لحركة التصورات غير الهادئة، وعلاقة الذات علاقة ديمومة وتحولات من ماضي إلى حاضر..
...............
إشارات :
جزء من بحث مطول تحت عنوان: المحسوس ولغة الذات – الفصل الثاني
ضمن مشروعنا وكتاب المحسوس مع تسعة شعراء من العراق..
علاء حمد : عراقي مقيم في الدنمارك

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة