سؤال الموسيقى - يوسف أبو علفه

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

هل يمكن لنا أن نكتب عن الموسيقى، كما لو كنا نعرفها؟ هل للنص الفلسفي أن يفسر علاقتنا بالموسيقى؟ ثم أين تذهب الموسيقى، بعد أن ننتهي من سماعها؟  في كتابه – مولد التراجيديا-يقول نتشه تلك العبارة المشهورة إلى حد مبتذل: لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة. لكنه الغلط المقصود لن يشير أبدًا إلى تلك الأحكام المنطقية الجافة بين الخطأ-الصواب ولا إلى ذلك التمييز القيمي (الإكسيولوجي) بين ما تقبله ثقافة أو ترفضه أخرى، بل هو غلط الحياة، في الحين الذي نتخيلها دون موسيقى. بحيث تغيب عنا، تلك الحقائق المتأتية من خلال الأذن، هذه الحاسة الزمانية، المثقلة بالقصص والحكايات والأساطير، والملهمة لتجارب الأنبياء والفلاسفة. إن الأذن أقرب إلى أن تكون حاسة للخيال، حينما تبدع العمل الموسيقي، وحين تتلقاه.

" ذاك أن –الصوت-الذي يشكل مادة العمل الموسيقي وتستخدمه الموسيقى، لتبني عليه تركيباته المعقدة، وأعني بها الأصوات الموسيقية المفردة والأنغام، لا تستمد من الطبيعية مباشرة، وإنما هي مادة لا بد لها من وسائل مصنوعة، هي الآلات الموسيقية التي تصقل الأصوات وتنظم ذباباتها أو الغناء المدرب الذي يختلف كل الاختلاف، عن أصوات الكلام أو الصياح المعتاد"1 حيث وعينا من خلال الإصغاء، الفرق بين ما هو صوت للأشياء، وآخر مختلف يمتاز بالتناغم، وهو صوت العمل الموسيقي و احتواء هذا العمل ، على التناغم، اللحن، الإيقاع، اللون الصوتي...إلخ من عناصر، تجعل الوجدان أمام تجربة فنية مغايرة، هي تجربة العمل الموسيقي، الذي يمتاز بالفرادة. إن الموسيقى، هي ذلك النوع من الفن المختلف عن أشكال الفنون الأخرى. فالموسيقى بطبيعتها أكثر الفنون استقلالا: فهي ليست فنًا تصويريًا أو تشكليًا لموضوعات يمكن الإشارة إليها، ولا فنًا تستمد عناصره من الواقع الخارجي مباشرة، كما أنها لا يمكن أن تفهم عن طريق ترجمتها إلى وسيلة أخرى من وسائل التعبير، بل هي في الحال تجربة فنية تتقاطع فيها تلك المفاهيم المتناقضة، حيث قيامها على المزج بين الحس والخيال، الضرورة والحرية، الداخل والخارج... إلخ من مفاهيم تتوحد في العمل الموسيقي، دون أن تظهره. أو تجعلنا نتكشف سر هذا الفن. فالحال أن الموسيقى هي تلك التجربة الفنية، التي تعادل معنى السر، سواء إن كان على مستوى تأليفها أو على مستوى التلقي. بدا فإننا لا نستطيع أن نفسرها بواسطة الفهم (كعملية ذهنية) ولا المفهوم (الخير، المنفعة) كما كان يفترض أفلاطون في موقفه من الفن على العموم، ومن فن الموسيقى على وجه الخصوص. لذا فإن الموسيقى غالبًا ما تبقى غير قابلة للتأطير المعرفي والتحديد المفاهيمي، ذاك أنها مفتوحة على الوجدان الإنساني، أكثر منه مسألة تعلقها بالذهن البشري. لكن ماذا عن آلية عمل الموسيقى، تقنية صناعتها؟ هل يمكننا الفهم التقني لآلية عمل الموسيقى، من فهم الموسيقى؟ هل بإمكان مفهوم التناغم واللحن واللون الصوتي، أن يكشف لنا، هذا السر الذي تنطوي عليه الموسيقى، أو هل تمكننا المعرفة النظرية و المراس العلمي من أن نبدع في فن الموسيقى، أن تجعل أحد الأشخاص ممن يجيدون التأليف والعزف أن يصبح (بتهوفن-موزارات- شوبان- ديبوسي- ) ...إلخ من أسماء الأعلام الكبار. الواقع أنه مهما بلغت درجة معرفتنا –النظرية والعملية- بفن الموسيقى، فإنها لا تجعلنا نقف امام عزف فريد ومختلف، ما لم ينطو أداء العازف على شيء من الموهبة الطبيعية.  فالواقع " أنه وفيما يتعلق بإبداع العمل الموسيقي. فإن هناك فرقا بين القطعة الموسيقية وعزفها. قراءة المدونة الموسيقية تعني سماعها ذهنيا. أما عزفها فيعني، إلى جانب ذلك. أداءها؛ وهذا يتطلب مقدرة عالية قد لا يتمتع بها جميع الموسيقيين. واتقانها قد يضعف حماس الاخرين ممن لا يحسنون العزف"2 إن أهم شيء لفهم قطعة موسيقية هو المخيلة السمعية المتطورة عن وعي، وهذه يمكن أن يتمتع بها أي إنسان يملك حسا موسيقيًا (أو لنقل مولعًا بالموسيقى)، آخذين في الاعتبار أن اتقانها ليس سهلاً. ولا يتم عن طريق قراءة الكتب. فالقدرة على قراءة قطعة موسيقية تأتي من الممارسة الطويلة والتجربة الموسيقية الفعلية. كذلك فإن قراءة النوتة (الموسيقية) ليست مثل قراءة الرواية أو القصة. حيث أن أكثر من نصف " اللغز" المتعلق بقراءة القطعة الموسيقية، يكمن ببساطة في التمتع بمخيلة سمعية متطورة وذاكرة موسيقية، مع تذكر مختلف المركبات الصوتية وما إلى ذلك. والاستماع إليها ذهنيًا "3 حيث تخيل الصوت أو بتعبير أخر تصور الصوت ورؤيته قبل سماعه. إن شخصًا يجيد تأليف نوتة موسيقية، لا بد وأن يتخيل بناء الصوت وتركيباته المعقدة، كي يبدع عمل موسيقي، وفي الأداء، نلمس تلك المهارة، أي مهارة العزف، حيث يد العازف ترسم ملامح الخيال الموسيقي، وتجسده عبر الصوت أو بتعبير أخر: إن الموسيقي غالبًا ما تجعلنا، نرى تلك الوحدة بين الحس – اليد-والخيال، نلمس الخيال كعمل يدوي، مادته تلك الثنائية المتعلقة بلعبة الصوت -الصمت. اما الصورة التي يظهرها العمل الموسيقي، وإن كانت في أغلب الأحيان لا تحاكي أي من الموجودات الطبيعية، فإنها غالبًا ما تتمم نقصًا ما في حياتنا. نقص في أصوات الطبيعية، أو معرفتنا ووجداننا. إن الإنسان يكمل ما تركته الطبيعية ناقصًا، يقول " أرسطو " كذلك هو الحال مع الموسيقي، التي وكلما استمعنا لها، نراها تستحضر، ذاك الغائب والمجهول. تتمم نقصًا ما في داخلنا أو نقصًا ما في الخارج والوجود.                                                                                                          
المراجع:
1-فؤاد زكريا، التعبير الموسيقي، (القاهرة، مكتبة مصر،2002) ص:13
2-علي الشوك، اسرار الموسيقى، (دمشق، دار المدي،2000) ص:15
3-المرجع نفسه، ص:

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة