فن اللامبالاة - لعيش حياة تخالف المألوف: التضحية والألم رهان إنساني- أسامة حمدوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

  "المــتعــة إلــه زائـــف"
مارك مانسون  
لماذا نعيش الحياة؟ وما مصادر قلقنا وبؤسنا البشري؟ وهل تدربت البشرية يوما على عيش حياة تخالف المألوف؟ وما هي معايير حكمنا على نجاح تجاربنا أو فشلها؟ وما مغزى القول بنسبية الفشل والنجاح؟ وهل السعادة قيمة ذاتية لأجل كينونتنا أم منظار أن يرانا (الغير) سعداء؟ وكيف يمكننا أن نكون إنسانيين حاملين لقيم عظيمة؟

  أليست غريبة هذه الحياة! أليست لعبة مسلية وشاقة في الآن معا! هذه إشكالات وتأملات ولدت من رحم "مارك مانسون" وهذا كتاب ينزاح عن المعيار بلغة "جون كوهن"، كتاب يمتلك سلطة فكرية يمارسها على القراء، تنغمس في رحاب فكرة وتقول في قرارة نفسك هذه حقيقة ثابتة لا فرضية داروينية، لكن مؤلف "فن اللامبالاة" يعمل على تحطيم أصنام كل اليقينيات بمطرقة فريديريك نيتشه تحطيما عنيفا، وكأنه يقول لنا لا وجود لحقائق يقينية في عالم الحياة، هذه الرواية العامرة بالأسرار والمغامرة الجريئة، وحياة العقل ليست قارة وتابثة، فهي متقلبة في كل الأطوار، أولم يقل الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن":" العقل الذي يبلغ النهاية في التقلب هو العقل الحي الكامل..."[1]. فالعقل هو نبي مقدس، هو سر وسحر الوجود، وبه صنع الأساطير تاريخ البشرية، وأثتوا مجدها الخالد على مر العصور.

في أهمية "فن اللامبالاة"

  تنطلق أهمية "فن اللامبالاة" للبروفسور"مارك مانسون" في كونه يقلب أفكار الإنسان البسيطة رأسا على عقب، فالمستقبل ليس كما نخطط له دائما يمكن أن يقع، بل هو المايقع لحظيا في الزمان والمكان اللامحددين قبلا، فما خططنا له نظريا ليس ماعشناه عمليا، لأن الواقع أقوى من النظرية بحكمه معيارا لصدقية النظرية أو كذبها.

  يستنجد "مارك مانسون" في مستهل كتابه بقولة "رايان هوليداي": "تأتي المرونة والسعادة والحرية من معرفة ما يجب الاهتمام به؛ والأهم من هذا أنها تأتي من معرفة ما ينبغي عدم الاهتمام به، إنه كتاب عملي فلسفي متقن يمنح القارئ الحكمة التي تمكنه من فعل ذلك"[2]. ومعنى هذا أن الحرية بمفهومها الواسع رهان إنساني لتحقيق سعادة باطنية روحية نابعة من فلسفة الاختيار كإرادة واعية حرة ومسؤولة، وهذا هو الماينبغي علينا الاهتمام به بدل ما أجبرنا عليه.

  تحتاج البشرية إلى دهشة فلسفية وفعل الصدمة للخروج من زمن الركود في الاعتقاد باليقين المطلق، إلى أزمنة الظن والشك في بعديه المذهبي والمنهجي، ولعل هذه الصدمة المنشودة هي رهان "فن اللامبلاة" وهي جوهر مقولة البروفسور "ستيف كامب": "يصدمك هذا الكتاب مثلما تصدمك صفعة تأتيك من أفضل صديق، وتلزمك تماما. كتاب مرح سوقي لكنه يحرك التفكير إلى حد هائل. لا تقرأ هذا الكتاب إلا إذا كنت على استعداد لتنحية الأعذار كلها جانبا، ولأن تقوم بدور فعال في عيش حياة أفضل بكثير"[3].

ماذا تعلمنا حياة بوكوفسكي؟

  تربينا حياة "بوكوفسكي"على قيمة جوهرية وهي الايمان بأفكارنا وطموحاتنا وهواياتنا مهما جوبهت بالرفض واللاجدوى، فهو رجل عصامي يمارس فعل الكتابة لا كوسيلة لأجل الربح المادي؛ بل كغاية في ذاتها ورهان لإثبات وجوده الإنساني، لذلك يفتتح "مارك مانسون" كتابه بقوله عن مغزى فلسفته: "كان تشارلز بوكوفسكي مدمنا على الكحول، وكان مقامرا، وزير نساء، وبخيلا، أخرق، ومتهربا من سداد ديونه، وكان في أسوأ أيامه شاعرا! لعله آخر شخص على وجه الأرض يمكن أن تلتفت إليه طالبا منه نصيحة من أجل حياتك، أو آخر شخص يمكن أن تصادفه في أي نوع من أنواع كتب المساعدة الذاتية تطوير الذات أو السلف هلب"[4].

قد تبدو حياة "بوكوفسكي" تافهة أو عديمة النفع، وقد يبدو لمن يقرأ شذرات من حياته بأنه شخصية ضعيفة، أو عبثيا هده الدهر وهشمته أنياب الزمان، لكنه يعيش بطموح شاعر يعترف بقدراته دون أن يعترف ببراعة قلمه القراء والنقاد، ولأن له طموح عنيد أن يصير كاتبا كبيرا كان يكتب لنفسه، لذلك: "أراد بوكوفسكي أن يكون كاتبا، لكن عمله ظل عقودا من السنين يواجه بالرفض من جانب كل مجلة وصحيفة ونشرة دولية وناشر يعرض ذلك الكتاب عليه. كانوا يقولون إنه عمل في غاية السوء، عمل فظ، ومقزز، وفقير. ومع تراكم رسائل الرفض عليه، كان ثقل الفشل المتزايد يدفعه أعمق فأعمق في هاوية اكتئاب يغديه الكحول. اكتئاب لم يفارقه معظم فترة حياته"[5]. ونظرا لإيمانه بفلسته ورهاناته وطموحه الكبير الذي لازمه طوال حياته فهو: "كان يشرب وحيدا في الليل، ويكتب بعض الشعر أحيانا على آلة كاتبة عتيقة كان يملكها. كثيرا ما يستيقظ فيجد نفسه نائما على الأرض حيث فقد وعيه في الليلة السابقة"[6].

  قضى بوكوفسكي ثلاثين سنة في القمار ومع العاهرات، وفي سن يناهز الخمسين سنة من فشل واحتقار للذات أخيرا أبدت دور نشر ضعيفة الصيت اهتماما بنشر كتاب لسكير فاشل وبئيس، قرر بوكوفسكي في حال فشله في آخر محاولة من حياته بأن يمثل دور الكاتب الفاشل وهو يتضور جوعا في الشوارع، أو البقاء في مكتب البريد حتى يجن، وأخيرا: "قيض لبوكوفسكي أن يصير روائيا ناجحا وشاعرا ناجحا. نشر ست روايات ومئات القصائد؛ وباع أكثر من مليوني نسخة من كتبه. خالفت الشعبية التي حققتها توقعات الجميع، بل خالفت توقعاته هو خاصة"[7].

  لا محالة أن حياة بوكوفسكي نموذج راق يعلم الأجيال المقبلة معنى اللااستسلام وتكرار المحاولات، كما أنه آمن بطموحه كثيرا، وآمن بفشله الذريع كفلسفة وقناعة جعلته مشهورا في الأخير، ورغم أنه نال شهرة واسعة لم تتغير حياته، ظل يستقبل في لقاءات قراءاته الشعرية شخصيات بئيسة سخط عليها الواقع، وبقي كسكير ينام مع النساء العاهرات وفيا للزهو في المراقص الليلية. وهكذا رسم ملامح فلسفة عميقة وحلم أمريكي لرجل يكافح ولا يستسلم أبدا لتحقيق أكبر أحلامه جنونا. مما جعل الناس تقول عنه :"أرأيت؟ إنه لا يستسلم أبدا. لا يكف عن المحاولة أبدا. إنه مؤمن بنفسه دائما. لقد واصل الاسرار في وجه العقبات كلها وتمكن من جعل نفسه شيئا مهما!"[8].

  التضحية كغاية في ذاتها "هيرو أونودا وسوزوكي".

  تمتاز حياة الملازم "هيرو أونودا" الضابط في الجيش الامبراطوري الياباني، بكونها التزام بمفهومه الوجودي بقضية الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله دون استسلام أو تراجع، إما الانتصار أو الموت في سبيل الوطن، ففي سنة 1944 ثم ارسال الملازم أونودا إلى جزيرة لوبانغ الصغيرة في الفيلبيين لمواجهة القوات الأمريكية إبان الحرب الكونية الثانية، حيث: "في شهر شباط 1945، وصلت القوات الأمريكية إلى جزيرة لوبانغ واستولت عليها بقوة كاسحة. فخلال أيام معدودة قتل واستسلم معظم الجنود اليابانيين، لكن أونودا وثلاثة من رجاله نجحوا في الاختفاء في الأدغال. ومن هناك راحوا يشنون حرب عصابات ضد القوات الأمريكية فيهاجمون خطوط الامداد ويطلقون النار على جنود فرادي ويهاجمون القوات الأمريكية بأية طريقة يستطيعونها"[9]. لكن هيرو أونودا ورفاقه رغم توقف الحرب واصلوا إطلاق النار والقتل والسفك، ورغم وجود مناشير تقول بنهاية الحرب إلا أن أونودا لم يصدق وواصل إسراره وإيمانه بقضيته فتجاهل كل هذه المنشورات ظنا منه أنها زائفة.

   تحول الملازم هيرو أونودا إلى صورة رومانسية وأسطورة خالدة تدرس للأجيال في مخيال اليابانيين، لأنه آخر جندي ياباني من الحرب العالمية الثانية، ولما سمع شاب ياباني يدعى "نوريو سوزوكي" خبر الملازم أنودا قرر البحث عنه تخليدا لمكانته بعدما عجزت فرق البحث وقوات الشرطة العثور عليه في الأدغال قرابة ثلاثين عاما، ف "سافر سوزوكي الأعزل من السلاح، الذي لم يتلق أي نوع من التدريب على أعمال الاستطلاع والتكتيكات القتالية، إلى جزيرة لوبانغ وبدأ التجول في الأدغال وحيدا. كانت خطته بسيطة: يصرخ باسم أونودا بصوت مرتفع حقا ويقول إن امبراطور اليابان قلق عليه. والعجيب أنه وجد أونودابعد أربعة أيام!"[10].قد يبدو هذا الحدث غرائبيا وعجائبيا، كيف لشاب هيبي أن يجد ملازما أسطوريا فضل حياة الأدغال الوعرة في ظرف أربعة أيام، إنه الصدق وتقاسم الطموح والايمان بالقضية، لعل سر بحث سوزوكي عن آخر جندي ياباني من بقايا الحرب الثانية بعدما سأله الملازم أنودا، يتمثل في قوله: "إنه ترك اليابان بحثا عن ثلاثة أشياء، الملازم أونودا، ودب الباندا، ورجل الثلج المخيف"[11].

أصعب مفارقة عاشها الملازم هيرو أونودا بعد عودته لليابان، تكريسه حياة كاملة من أجل قيم وأفكار لا تصلح لزمن مادي وحضارة تافهة، بحيث تغيرت اليابان قيما وفكرا بتحول التاريخ، أشخاصها فارغيين ونساءها متهتكات بملابسهن، فاليابان التي قاتل من أجلها صارت نسيا منسيا ورسما بال عفا عنه حاضرها التافه، وكصرخة احتجاج على أحوال الحاضر: "حزم الملازم أونودا حقائبه في سنة 1980 ورحل إلى البرازيل فأقام فيها حتى مات"[12]. إننا في نهاية المطاف ضحايا لأفكارنا التي تطاحنا مع غيرنا من أجلها، ثم مع تعاقب الزمن وجدناها عديمة النفع ووهم معرفي لازالت البرية ليومنا هذا تدفع ثمنها الباهظ.

    من إطلاق الرصاص إلى جائزة نوبل للسلام  "ملالا".

تشكل فلسفة الرفض وقول كلمة "لا" كما عبر "ألبيرتو كامو" فيلسوف العبثية واللامعقول  في كتابه "الإنسان المتمرد": "ما الإنسان المتمرد؟ إنه إنسان يقول : لا. ولئن رفض، فإنه لا يتخلى... إنه العبد الذي ألف تلقي الأوامر طيلة حياته يرى فجأة أن الأمر الجديد الصادر إليه غير مقبول. فما هو فحوى هذه ((اللا))؟ إنها تعني مثلا (( أن الأمور استمرت أكثر مما يجب)) و((أنها مقبولة حتى هذا الحد، ومرفوضة فيما بعده)) و((أنك غاليت في تصرفك))، ويعني أيضا أن ((هناك حدا يجب أن لا تتخطاه))"[13]. فكلمة ((اللا)) تعد مبدأ راسخا لدى "ملالا يوسفزاي" مما جعلها أكثر شراسة في الدفاع عن قضيتها الجوهرية، وهي الحق في التعليم، لعل إيمانها بعدالة قضيتها منحها شخصية قوية لا هزائمية تقف منافحة ضد الظلم والاضطهاد. فبأي حق تجرؤ حركة طالبان في باكستان على منع حق المرأة في التعليم، فحركة طالبان استولت على وادي سوات في سنة2008، طبقت أجندتها المتطرفة التي تقضي بتحريم حقوق إنسانية بسيطة تسعى التجهيل والأمية، حرمت مشاهدة التلفزيون والأفلام وخروج المرأة من بيتها إذا لم يرافقها محرم مع منع الفتيات من الذهاب إلى المدارس.

حركت جرأة وعنفوان "ملالابوسفزاي" جمود هذه الشرائع الجائرة، وفي ريعان شبابها: "في سنة2009، بدأت فتاة باكستانية في الحادية عشرة من عمرها اسمها ملالا بوسفزاي تتحدث على الملأ ضد منع البنات من الذهاب إلى المدرسة. وظلت مصرة على الذهاب إلى مدرستها مخاطرة بحياتها وحياة أبيها. وكانت أيضا تحضر اجتماعات تقام في المدن القريبة. كتبت ملالا على الإنترنت (كيف تجرؤ حركة طالبان على سلبي حقي في التعليم؟)[14].

  مرت ثلاث سنوات في سنة 2012 صعد مسلح من حركة طالبان إلى الباص وملالا في طريقها إلى المدرسة، فأطلق على رأسها النار أمام الركاب لكنها نجت من الموت ودخلت في غيبوبة، وهذا زادها إصرارا أكثر من ذي قبل، و: "لا تزال ملالا حية إلى اليوم. ولا تزال تتحدث علنا ضد العنف والقمع الواقعين على بعض النساء في بعض البلدان الإسلامية. ولكنها الآن من أكبر الكتب مبيعا. تلقت ملالا جائزة نوبل للسلام في سنة 2014. والظاهر على أن إطلاق النار على وجهها أدى إلى جعل صوتها مسموعا أكثر من ذي قبل"[15].

  عاشت البشرية وماتت الأساطير ويبقى سؤال الإنسان رهانا فلسفيا كبيرا، إن الإنسان حلم وطموح وقضية، وبلغة سارترية وجودية: (الإنسان مشروع وإبداع مفتوح على جميع الاحتمالات والتخمينات والفرضيات). ليس هناك إنسان فاشل في جميع المجالات، من هنا نتحدث عن مفهوم جديد للنسبية، ليس بمفهومها العلمي الدقيق كما بينت اجتهادات صاحب النسبيتين "ألبرت اينشتاين"، بل نسبية السعادة والفشل والنجاح، هكذا هي مغامرة الحياة الجريئة لا الجبانة، ولنكن صادقين كلنا نطمح لمغامرة جريئة بقيم سامية، وربما هذا هو رهان فن اللامبالاة.

 

 

 [1]- طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2017، ص: 8

 [2]- فن اللامبالاة لعيش حياة تخالف المألوف، ترجمة الحارث النبهان، مارك مانسون، الطبعة الأولى:2018، ص:5.

 [3]- نفس المرجع، ص: 5-6.

 [4]- فن اللامبالاة لعيش حياة تخالف المألوف، ترجمة الحارث النبهان، مارك مانسون، الطبعة الأولى:2018، ص:5

 [5]- نفس المرجع، ص: 5-6.

 [6]- نفس المرجع، ص: 5-6.

 [7]- نفس المرجع، ص: 5-6.

 [8]- فن اللامبالاة لعيش حياة تخالف المألوف، ترجمة الحارث النبهان، مارك مانسون، الطبعة الأولى:2018، ص:88

 [9]- نفس المرجع، ص: 89-90

 [10]- فن اللامبالاة لعيش حياة تخالف المألوف، ترجمة الحارث النبهان، مارك مانسون، الطبعة الأولى:2018، ص: 92

 [11]- نفس المرجع، ص: 93

 [12]- نفس المرجع، ص: 93

 [13]- ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ترجمة نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت باريس، الطبعة الثانية 1983، ص: 18

 [14]- فن اللامبالاة لعيش حياة تخالف المألوف، ترجمة الحارث النبهان، مارك مانسون، الطبعة الأولى:2018، ص:135

 [15]- نفس المرجع، ص: 136

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟