امرأة أمام البحر - قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

صار الوقوف أمام البحر دأبها منذ دهر، لا تفارقه إلا لتعود إليه، تفتح ذراعيها وتجري نحوه كالمتأهبة لاحتضان هذا المدى المائي الأزرق الرحب الرهيب، تتعطر بأنفاسه وتتطهر من أدران الحياة بمائه العذب وترتق جراح نفسها برائحته النقية الطاهرة وتطهر جراحات روحها بملوحته. هي تدرك أن أعماق البحر نقية عفيفة لا تقبل الغرباء، تلفظهم وتتخلص من بقاياهم، تحافظ على نقائها وطهرها. تعلمت أن البحر عفيف وعنيف، تتخلص أحشاؤه من كل غريب. يكشف أسراره ويبسطها أمام الجميع، لا يأبه لعيون العابرين المتطفلين والفضوليين.
تجوب الشاطئ جيئة وذهابا. تتوقف أحيانا لتملأ رئتيها بالهواء الرطب، ثم تنحني لتخط بعض الحروف والتواريخ على الرمال الندية. تتأمل تلك الحروف والأرقام مليا، تدور حولها، تتفرسها من كل الجهات، تحاول قراءتها مقلوبة، تقف بينها والماء لتحميها من الموج المندفع. لا تريد لتلك الحروف أن تُمحى. لكن الماء مخادع، يتسرب بمكر يلتهم تلك الحروف بلطف وقسوة، يبدأ بقضمها شيئا فشيئا، يغور في النتوءات، لا تراه العين، يترك آثاره على حبات الرمل فتتلاشى تلك الحروف. ثم يتوغل بين الحروف فيُفنيها. ثم يعود القهقرى ليتطهر من جريمته ويتلاشى بين أحضان والده.

تنتظر شروق الشمس لتواكب لحظة يتمخض فيها الأفق ليرسل على الكون نور هذا القرص الصغير الذي يستقبل نهاره يتمطى كسولا، ثم سرعان ما تتوقد جذوته وتسري في أوصاله الحركة والنشاط ويستعر جوفه فيرسل أشعة حادة جافة حارقة. تتمنى أن ترى خيال من تنتظره ينبثق من الأفق، تلفظه الشمس مسربلا بخيوط الصباح. تتمنى أن تراه يأتيها متهاديا فوق الموج تحفه عرائس البحر تعزف له سيمفونية العودة العذبة التي التقطتها أذناها مرات كثيرة عندما كان يرددها البحارة والربابنة عند أوبتهم محمّلين بما كان قد جاد به البحر عليهم. ترفع يدها فوق عينيها لتتقي أشعة الشمس. تدقق النظر، ثم تطبق جفنيها فتراه آتيا إليها معجزة يجري على صفحة الماء طيفا شفافا ويرتمي في حضنها فتحضنه وتنعم برائحته وعطره، تتذوق ملوحة الأعماق في طعم قبلاته، ترى أسماك الأعماق النادرة سابحة في حدقتيه. تسعدها تلك اللحظات التي تمر سريعا، لكنها عندما تفتح عينيها لا ترى غير أسراب النوارس الحائمة في الفضاء ترقص مستقبلة يوما جديدا. ساعتها ينكسر نظرها ويعود إلى حضنها فلا ترى سوى أوهامها وآلامها فتتدفق دموعها جمرا على خديها.
تعود بها الذكرى إلى ذلك اليوم البعيد حين عاد إليها مثقلا بهمومه وأوجاعه، ومآقيه ملأى بالدموع المتجمدة ويصفعها بذلك السؤال الذي ما ودت يوما أن تسمعه "أين أبي؟". غامت أمامها الدنيا وأحست بألم ممض يعصف برأسها، لكنها تماسكت وكفكفت دموعه وحاولت تسليته ببعض الأمور التي تدرك جيدا أنها لن تحجب عنه الحقيقة التي سيكتشفها يوما. لم يمهلها. كوّم كراساته وكتبه وآمالها وأفراحها وأضرم فيها النار. عود ثقاب واحد وقطرات من البنزين أحال كل شيء إلى رماد. جرت نحوه منتحبة تريد إخماد النار لكن ألسنة اللهب كانت عنيفة التهمت كل شيء. تحرقت كفاها وهي تطفئ اللهب المستعر. لكن أعمدة اللهب المتأججة في قلبها وأعماقها كانت أعنف وأشد. تركها تقاوم وحدها الحرائق التي أشعلها في صدرها ثم انسحب. عاد بعد يومين ليعلن رغبته في الرحيل. لم تقاومه ولم تحاول منعه، تعرف أنه عنيد كوالده يفعل إن قرر.
باعت أسورتها التي أهداها لها والده قبل أن يرحل مع سائحة أجنبية. وسحبت ما ادخرته من مال لتواجه به نكبات الدهر. وأراقت ماء وجهها أمام أخيها الذي حرمها من ميراث والدها وأخرجها من بيت تربت فيه وترعرعت، وهاهو يطعنها ثانية ويرمي بين يديها مبلغا ضئيلا لا يفي بحاجتها. خرجت من بيته متعثرة في ارتباكها وقهرها وصدى كلماته تخترق روحها وجسدها " ما نحبش نشوف خيالك مرة أخرى في ساحة داري". أعطته كل ما جمعت وترجته أن لا يتركها وحيدة. لكنه لم يرحم ضعفها ووحدتها وغربتها.
أفاقت صباحا فلم تجده في غرفته. جرت في الشارع الطويل بشعرها المنفوش وكتفها العارية، وسألت عنه العابرين لكنها لم تظفر بجواب.
عرفت أن أوروبا أغرته وأن البحر اشتاق لقربان جديد. هكذا كانت تحس وهي تحدق في جمال وجهه أنه منذور للموت. ظلت تتنكب الأخبار وتتابع نشرات الأنباء على شاشات التلفزيون. هاتفها الخلوي ظل جامدا صامتا. كل القسوة اتحدت ضدها. وهاهو فارسها الذي أعدته ليحميها من المكاره يجرد سيفه ويطعنها، غير أن طعنته لم تكن مميته، اخترقت الصدر لكنها أخطأت القلب، تركها موجوعة لا هي قادرة على الفعل ولا هي عاجزة تماما. أهملها بين حياة وموت ورحل.
أصابتها الرصاصة المميتة بعد ثلاث من رحيله حين صفعها البحر بمعطفه الذي لم يكن يملك سواه، معطفه الأسود ذي الياقة البيضاء. عندما لمحته ملقى على الشاطئ جرت نحوه التقطته تشممت رائحته ثم لوحت به في الفضاء. أدنته من صدرها احتضنته ثم راحت تستنشق رائحة لا تخطئها خياشيمها. ارتدت المعطف وظلت واجمة محدقة في الأفق البعيد تمني نفسها بأن تراه قادما إليها من بعيد فتضمه وتطفئ لظى الشوق. مساء ذلك اليوم أخبرها بعض البحارة أنهم عثروا على جثته على الضفة الأخرى. وأعلموها أنهم صلوا عليها وواروها الثرى. لم تذرف دمعا ولم تنفش شعرا ولم تلطم خدا ولم تكشف صدرا. فقدت القدرة على الكلام. وسرعان ما وخط الشيب شعر رأسها وغزت التجاعيد وجهها. ثم بدا إحساسها بالزمان يخبو تدريجيا حتى صارت بلا ذاكرة. وصارت منذ ذلك اليوم تتردد على هذا الشاطئ مثل شاة يقودها الحنين إلى المكان الذي وضعت فيه أول صغير لها تقودها إليه غريزة عمياء.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة