لا تخفي عيناه كلّما تحسَّستا ظِلَّ صاعدٍ إليه ، ما يُضمرُهُ بسبب التناوُب عليه في تفَقّدِ أحواله بين الساعة والساعة ، في مواجهة تساؤل أصحابي عن اعتكافه الذي طال أكثر من عشر سنوات ،لا أجد أشبهَ بِعمِّي المعتزل في غرفة السطح ، غير أبي العلاء المعري رهين المحبسين ، أقتربُ من العتبة دون افتعال تلك الكحّة المتقطعة إيذاناً بوصولي، قال لي في المرة الثانية : صرتُ أعرفك من رائحة خطواتك .
ظلّتْ أمّي عنيدةً في مُصالحته لآخر لحظةٍ في حياتها، غير أنّها لم تذكُرْهُ أمامنا بسوءٍ يُكَرِّهنا فيه، سمعتُها تنتفضُ في وجه أبي مُتوسِّلاً إليها برحمة عزيز قوم ذُلّ : كيف يكون ذليلاً واسمُه على كل ألسنة المدينة إلى الأطراف ؟ لا أدري إن كانتْ تعيِّرهُ في خُلْوة الليل، بما صار يظهر عليه من تراجُع عن الحلم بالتغيير الذي عهدناه مُتعلّقا به.
دعاني ذلك المساء إلى جانبه ، بعدما كنت أتَّخِذ الركن تحت النافذة مُقْـتََعَداً لمُجالَسته ، سألتُه يوماً عن توجيهي إلى ذلك الموقع بالذات، رغم تسلّل المطر من بين شقوق الإطار، صمتَ كثيراً ثم قال : من خلال صوتك أتلمّس خيوط الضوء في العتمة، كثيرة هي عباراتُه التي لم أفهمْها إلا بعد رحيله .
- طال صمتُكَ يا عمّي ، متى تخرج للناس ؟
أطرقَ برأسهِ وهو يتلفّظ حروفاً لم أستبِنْها ، يفهم أنّي قصدتُ استفزازه للعودة إلى حكْي ظروف إخْلاءِ سبيله بعد الذي صار.
أسرّ لأبي أن أنه وقع على محضر بخط اليد ، يلتزم فيه بعدم التفكير في كتابة مذكراته ، ناهيك عن الانتقال إلى التعبير ، حلّفوهُ على المصحف و سجّلوا عليه تصريحاتٍ بالشّرف و نذوراً بتحريم أبنائه عليه ، إن هو تجرّأ على تدوين سيرته،
في حوار بينهما ، سمعتُ أبي يحكم ببطلان القسم و التصريح بالشرف والنذور، ما دامت عهوداً تحت الضغط والإكراه ، لكن عمّي ظلّ منسجماً مع ما وعد نفسه به، إلى حدود ذلك المساء .
سأحكي لك ، وأنت تتولّى صياغة الكتابة، ألستَ تقول بأنك مفلح في السرد ؟ اُكتبْ ، وكرّرها للمرة الرابعة حين عمّ سكون يعكس تردّدي ، بينما أخذتْ تتكوّم بجبيني قطرات أستبق مذاقها المالح كعادتها حين تنساب بين شفتيّ .
اُكتبْ ، فزمانه قد ولّـى.
ثم استدرك مُتوجساً ما يمكن أن أفكّر فيه:
- رغم أن الكفر ملة واحدة.
كان ضمير الغائب عائداً دوماً على الراحل إلى حيث نرحل في نهاية المطاف ، لم أجرُؤْ على مساءلة عمّي، كيف يرفض مثل أبي تصديق حكاية التحول فجأة من زمن الرصاص إلى زمن الممكن ؟
اعتذرت عن الكتابة اليوم ، بدعوى حاجتي للنوم باكراً ، جال مبتسما بعينيه المطفأتين في مساحة سقف الغرفة ، ثم استلقى على ظهره دون تعقيب ، قبّلْتُ يدَه اليُسرى قبل الانسحاب ، لم يُمانعْ مثل أبي الذي كان يدفع لي بيمينه خوفاً من الشيطان .