وردشان – قصة : د.حسين مرعى

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasseهداء إلى فارس القصة القصيرة د.يوسف ادريس فى الذكرى الثامنة عشر على رحيله"
كان وقت الغروب يخيم على أرجاء البلدة الصغيرة
جمع من الناس على رصيف القطار المتجه جنوبا ً
والأمتعة المتناثرة على الرصيف المتهدم تجعل السير مهمة صعبة
كانت هى تجلس فى مكان منعزل وكأنها ملكة ترعى شئون العامة من برجها العاجى
اقترب هو يحمل أمتعته التى لا تخلو مما أعدته أمه قبل كل رحلة سفر
توقف القطار للحظات فاندفعا للداخل مع جموع المسافرين
بصعوبة بالغة وصلا الى مقاعدهما والتى كانت متجاورة
جلست فى صمت وجلس هو يتأمل ما أفاض به الرب
كان الباعة الجائلون يخترقون ذلك الصمت
ينثرون الحلوى أو دبابيس الشعر وأشياء لا تخطرعلى بال
حاول أن يفتعل أى نقاش فكانت لا تعيره انتباها ً
اتعبته المحاولات فقرر ان يبادلها الصمت وان يقرأ بعضا ً من الشعر
رفع صوته بالقراءة  "أنا حوار الحالمين .. عزفت عن جسدى وعن نفسى لأكمل رحلتى الأولى إلى المعنى"
أعجبتها الكلمات فبدأت تتحرك قليلا ً وقد ظن قبلها أنها وديعة من شمع سيأتى من يستلمها يوما ًما
سألت من قائل هذه الكلمات .. فابتسم وهو يجيب عليها انه الراحل "محمود درويش"
طلبت أن يعيرها الديوان للحظات
بدأت تتصفح ودمعة رقيقة لمعت فى احداقها.. فألقى نظره الى صفحات الديوان فوقع بصره على "انا لست لى"
بدأ يحكى لهاعن تاريخ حياته وأيام الصبا وكأنه أحد رواة التاريخ المعاصرين
حكى عن عشقه للشعر وعن محاولاته الاولى للكتابة فى كراسة واجباته
كان يخفى خواطره بين كتبه المدرسية
وضحك حين أخبرها انه تصبب عرقا ً حينما استوقفته بنت الجيران يوما ً لتسأله عن شئ ما
وحينما أراد أن يعلن للملأ عن كتاباته أرسل خطابه الغرامى الأول لزميلته فى المدرسة
فوقع الخطاب فى يد مدير المدرسة والذى فصله لمدة ثلاثة ايام
 كانت هى تنظر اليه طالما تحدث وكأنه يروى اشياء تعرفها من قبل
كانت ترفض أن تبوح بأى شئ عن نفسها حتى حروف إسمها
اقترب هو من محطة نزوله فطلب منها أن يتبادلا أرقام الهواتف
وافقت فقط ان يعطيها رقمه .. دس في يدها قصاصة الورق من غير أن يشعر أحد وتاه فى الزحام
جلس ينتظر فى لهفة أن يسمع صوتها مجددا
مرت ثلاثة ايام ثقيلة كتلك التى تشبه عقاب المدير من قبل
رن جرس الهاتف.. جاء صوتها متقطعا كانها تختلس الكلام
تواعدا أن يلتقيا على ضفاف النيل فى تلك البلدة الجنوبية التى تحوطها الجبال
التقيا.. ساد الصمت مجدداً ولكنه صمت جميل مختلف عن المرة الأولى
انطلقت الأيدى تبحث عن قرينتها
انسحبت يداها لتعلن غربة الأيدى
اندمجا قليلا ً.. تشابكت الأيدى المرتعشة من رهبة أول لقاء
كانت تشعر أنه منها.. وهو يشعر أنها حلمه المنتظر
عبرا النهر المتدفق بكل خير.. كانت جزيرة الياسمين مكان اللقاء الأول
مرت الساعات كأنها برهة من الزمن.. لم تكن البلدة بلدتها ولم يكن كل شئ حدث فى مخيلتها يوما ً ما
هى: كأنك هو
هو: من هو؟
هى: حلم العمر الممزوج بلون البنفسج
هو: كأنك هو
هى : من هو؟
هو: فرح أيامى واستجابة دعائى المؤجلة
جاء الغروب لينهى اندماج الورد بالورد.. كان ميعاد قطارها العائد الى بلدتها قد اقترب
ألح عليها مرة أخرى أن تبوح باسمها.. القت نظرة خجلة على عينيه المتلهفة واعتراها الصمت
هو: خايفة منى؟
هى: عليك أخاف
هو: مم؟
هى: من مجهول يجمعنا سويا ً
هو: انى مستعد أن اخوض بحارا من نار
هى:فداك الروح قبل الجسد
هو: ماذا تخفى عنى؟
هى: آه يا قدرى الوردى.. يا وجعى
 هو: أنا الليل يرجو اندماجا ً بالنهار.. وهى النهار يخشى اجتياح الليل
أنا لا أريد جسدك الرخامى الأملس .. فلماذا تبكين؟
فامنحى رحيقك لمن شئتى أما انا ففى روحك موطنى ويقين
الهوى عندى روحان مندمجان كمزج ٍ من عطور الياسمين
أنا فى الهواء وفى اجنحة الفراشات .. انا فى كفك الأيسر منفردا ًوحزين
أنا فى قطرات الماء منهمراً من حيث لا تشعرين
هى: انت لا تفهم
انطلقت مسرعة لتلحق بقطارها
ذهب هو يودعها فأشارت اليه لا، لن أحتمل لحظة الوداع
أدارت ظهرها له وتمتمت .. وداعا ً يا فرحة الروح
ظل هو يراقبها من بعيد وهى تتوارى بين جموع المارة
كلما ابتعدت كلما ضاق صدره واستوحش المكان
كان المكان من لحظات روضة من باقات الزهر المتناثر فى ارجاء المكان
والان صار المكان مقفرا ً وخاويا ًعلى عروشه وكأنه كان حلم
احقا ً كانت هنا .. وهل حقا تواعدا والتقيا ام ان شمس الجنوب الحارقة لها تأثيرها السريع
دارت برأسه الافكار والقى نظرة متصلة على موجة هادئة تأتى من بعيد لتصطدم بالصخرة التى يجلس عليها
مد كفه يغترف بعض قطرات ليتيقن أن الماء ماء وان النجوم المبتسمة فى السماء ليست من عمل الشيطان
ظل طوال الليل هائما ً على وجهه .. يعد المنازل ومصابيح الشوارع
"لا تفارق حلمك.. دع صوتك يعلن عنك
لا تدع قلمك يهرب منك
اكتب عنها.. لا تدع الفرصة تفوتك
اكتب غزلا ً.. انثر حرفك.. يعلو شأنك
أتراك نسيت شفاها؟ أنسيت عبيرا ً كان يملأ يومك؟
أنسيت الورد الساكن جسدا ً غضا ً؟ أنسيت الفجر القادم من ثغر أذهب همك؟
اكتب عنها.. دع شعرك يعبر بحرا ً وبحرا .. احفر اسمك فى دائرة الضوء
ولا تدع غيرك يسرق فرحك"
رددها ودمعة متحجرة فى العين يخفيها عن أعين الناس
عاد الى بيته وحيدا ً ككل يوم.. لا صديق يواسى ولا حبيبة تتلهف لعودته
كان الوقت متأخرا ً من الليل حين رن جرس الهاتف
جاء صوت خافت  مختنق ممزوج بكل آهات الدنيا
كانت هي وقد نطقت ببضع كلمات .. الليلة فرحى واسمى وردشان ...
 
تمت               

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة