هلوسات ما بعد اللفافة الثالثة ـ قصة : محمد الشاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseلأن الطقس حار لا يطاق ولأن الملل والفراغ يعتريان كل الأشياء من حولي فقد استلقيت على شاطئ رماله عبق أيام أعيشها كما هي دون خيال ولا تفكير في أمور غير متوقعة الحدوث لكنها في كل الأحوال تثلج الصدر وتملأ الفراغ.نصيبي إلى الآن عقدان ونصف والقادم حتما سيأتي  فلم التفكير فيه ما دام العمر ينبض حياة..؟؟
نصيبي كما قلت عقدين ونصف كما هو مدون في تأشيرة الحياة، وكرسي وكوب أسود . أمامي تتدلى عناقيد أحزان أقطف مرارتها، أحضنها، فالحياة بلا أحزان كذب وبهتان، قلت: لو لم نختلف لأنجبنا قبيلة. قالت: هي ذي لعبة الحياة وهي الأقوى..ثم اختفت كما تختفي الأساطير وظللت وحدي أنفث خيبتي في جمر اللفافات في المقهى الصاخبة حتى شعرت أنني لم أعد متعلقا بالكون وكل توافهه. رفعت رأسي وكان الشارع غاصا بالبشر. بالذات تأكدت : لم يخطئني ولم أخطئه فهو يشبهني أو يشبه أبي ، جلس قبالتي . في البداية لم أعره اهتماما . ظننته خيالا حمله طنين الصمت الذي يشد رأسي بعد اللفافة الثالثة . تحملت صمته مثلما تحمل هو صمتي . ثم انفجرت كل أسئلة الغيب فتداعيت لها بلا مقاومة :


- ما الذي تغير فيك ؟
قالت ملامحه :
- ألا ترى ؟ شعرك ابيض ، وهذه ليست أسنانك الأصلية ، والوجنتان اختفتا ، آه ما أقسى الزمن..
قاطعته ، فلم أكن على استعداد لسماع مزيد من الحكم :
- حبل الحياة قصير، أعلم ذلك، لكن أرجوك أخبرني، هل تزوجت برحاب؟
أحنى من سأكونه رأسه وأخذ يداعب إبهامه بشفتيه ـ تماما كما أفعل أنا في لحظات الفراغ، ثم شرع يتكلم:
- لا تتعلق بشيء .لا بشخص ولا حتى بالحياة نفسها . أو لا ترى الموت مجسدا في كل جزئيات الحياة ؟؟، في النار ، في الماء ، في الهواء ، في العقول ، في القلوب..
لقد صار أكثر حكمة أو أنه يتظاهر بذلك، لكن لا بأس، سأسأله مجددا، سأتداعى عليه:
- إسمع جيدا ، لم يكن بإمكاني أن أرفض ما لم أستطع رفضه ، لكن قل لي ، باستثناء ما أراه من فقدانك لأسنانك الأصلية وما يظهره سعالك من أن رئتايك أصبحتا مهترئتين وشعرك الأبيض المنتوف ، أتراك فقدت أنفتك ، أحباءك ، كبرياءك..
أحنى رأسه مجددا ،حينها لاحظت كيف أصبحت نظارتاه أكثر سمكا ، ولم يتكلم هذه المرة  فلربما صعقته هذه الأسئلة ، ولم أرد أن أقسو عليه أكثر مما ظهر لي من قسوة الزمن عليه ، استبد بي السؤال عنها ، قلت :
-أتراك أب لأبناء رحاب ؟
قاطعني هذه المرة:
- أووووف ، حاولت مرارا قلب دفة الحديث ، لكنك ملحاح ، لذلك خذ : رحاب تزوجت شخصا آخر ولازالت تمقتك لأنك فضلت الكتمان كتعبير عن كبرياء مريضة..
قاطعته :
-فلتعلم أنت ، وهي أيضا ، أن تلك لم تكن قط غلطتي..
- لكني أؤدي ضريبتها .فلا أسوأ من الشيخوخة والوحدة..
-إذن..فقد ذابت في الملكوت الدنيوي..
-أجاب بحزم :
-إسمع ، أنا على استعداد لجوابك عن أي سؤال تطرحه ، لكن  في النهاية تبقى مسألة حياة أو لا حياة  ، بمعنى أن تعيش كل لحظة وأنت مثقل بوطأة السؤال : أن تكون أو لا تكون..حتى في الحب
صعقتني كلماته أنا الغارق في عبث الشباب لا أدري لما سيأتي حيلة ، شعرت بالحرج وبالأسئلة تتداخل في ذهني .هو يخبرني بالنتائج وأنا لم أنضج بعد لتجنب الأسباب .لطالما توقعت مآل فكرة ما أو نتيجة سلوك ما . لكني لا أستطيع تجنب أسباب وقوعه . وحتى إن طرحت عليه هذا الموضوع فلن يفيدني بشيء .كان بإمكاني مثلا أن أساله : بعد هذا العمر الطويل بما تنصحني : كي نصير معا ، كي ننجب قبيلة..لكني لم أفعل ذلك ، لم اسأله ، فقد لامني لأني فضلت الكتمان ، وأنا ألومها لأنها بتفكير غريب تتعايش مع الحياة.وها أندا مع أنايا الهرم الذي سأصيره ، مع هذا الوعاء المتختر من التجارب ، نظرت إلى عينيه ، فيهما عتاب للزمن ولي أيضا ، ربما يجلدني لإضاعتي العديد من الفرص ،أو أنه لم يتفهم أن الأمل هواية لا يجيدها الجميع ، قلت :
- ذلك يشبه تماما من يتمنى أن يكون له أنف جميل أو أن يكون لاعب كرة قدم ماهر..
أعقب، بعد لحظة تفكير صوب خلالها عينيه نحو المطلق:
- الحياة لها دائما وجه واحد،مسار واحد ، نهاية واحدة، لكنها لم تكن قط عبثا، يبقى لشيء ما دائما معنى يعطيها كل الأهمية..
إنه الآن بعد هذا العمر الطويل وصل إلى ذروة الحقيقة بمعنى الحياة ، فسرت الأمر في البداية بعجز الجسم عن مواصلة مغامرة العيش بذات الحماس ، فكرت في الهواجس الأخرى ، لو أن الإنسان يغادرها حيثما يشاء ذلك دون ألم و أن يمحى من الأذهان بالمرة كأنه لم يكن بالمطلق حتى لا يتذكره أحد ، إنها أفكار تأتي ثم تمضي ولا مجال لمحاولة التشبث بها لأنها حتما إلى زوال..تماما كهذا الذي أمامي ، هذا الذي شغلني مرارا التساؤل عما سيكون وكيف سيكون ، هو الآن أمامي لكن ليست تلك حتما حقيقته ، أضغاث أوهام استفقت منها بعدما أخذ مفعول اللفافات ينمحي ، رويدا رويدا بدأت أعود إلى واقعي ، إلى الصراخ والأعين المثبتة تكاد تفترس من أخذته نوبات السهو ، سبحان من لا يسهو ولا ينام ، كانت كفا غليظة تربت على كتفي ، كانت كف النادل، العريض المنكبين..
-السي فلان سبحان من لا يسهو ولا ينام..
فهمت أنه موعد الإغلاق ، نظرت حولي فوجدت أن كل الزبناء غادروا المقهى والشارع شبه  خالي ، اتمم النادل :
-هاه ، كان رائعة المسرحية ،الآن  هيا ، فلم يبقى في المقهى-الحياة- سواك...

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة