المقدمة:
في زمن الرواية تستمر الأقصوصة حضورا وفعلا، وفي زمن الجنس الإمبريالي، يستمر أحفاد الدوعاجي والأخوين تيمور وعبد الرحمان مجيد الربيعي...في الكتابة الأقصوصية منوّعين معدّلين لكنهم ظلوا أوفياء للأقصوصة عمارة فنية والانتساب، غالبا، إلى الكتابة الواقعية بما تعنيه الواقعية من متن حكائي وطريقة في الكتابة. ولقد تميزت الأقصوصة التّونسية منذ جماعة تحت السّور بالمحافظة على هذه المنازع الواقعية في الكتابة مع بعض الاستثناءات القليلة والعناية بالصّياغة السّردية. وهي منازع يلتقي فيها الجمالي بالدّلالي والوجودي بالإيديولوجي وتلك ماهية النص ووظيفته. وفي هذا السّياق تتنزل مجموعة "فتنة البدايات" للتونسي عبد الرزاق السومري التي حككها صاحبها جماليا وجعلها شاهدا على ما تكون به الأقصوصة سردا وموقفا. ورأينا التركيز على الشّخصية مدخلا إلى سرديات هذه الأقاصيص.الشّخصية والتأصيل السّردي:
الأقصوصة جنس أدبي سردي وجيز عمدته الحدث ومداره الزّمان "جنس سردي وجيز يتميز بتقلص عدد الشخصيات والأحداث وضمور سعة المكان وامتداد الزمان"(2) ونرى في هذا التعريف بصمات أرسطو وهو يحدد مفهوم الحبكة وعلاقة التراجيديا بها. يركز أرسطو على الحدث والزمن ليصوغ منهما الحبكة وما يسميه محاكاة فعل كامل "لقد عرفنا التراجيديا بأنها محاكاة لفعل تام في ذاته وكامل...والكامل هو ما لديه بداية ووسط ونهاية"(3). ويمكن أن نشير إلى أنّ مجهودات بول ريكور لدراسة العلاقة بالزمن(4) تشكل قطيعة جمالية ووجودية مع غالبية الإرث الأرسطي...وبحكم هذا التّعريف للأقصوصة نستخلص أنّها تنتمي إلى الأشكال الوجيزة. وهو ما يفرض عليها التقيّد بالتّكثيف والاختصار خاصة في مستوى الشّخصيات والمكان. ويدرك النّاظر أنّ نصوص هذه المجموعة قد صيغت جماليا وفق الضّوابط والمعايير الأجناسية وهو ما يعني التزام المؤلف بميثاق قرائي. ولكنّ هذا الالتزام كان خدعة وحيلة من الكاتب لأنّه تقيّد بقلة الشّخصيات وبالطّابع الواقعي لكنّه حوّل مركزية الفعل السّردي من الحدث إلى الشّخصية. وبهذا الفعل لا يخالف الكاتب التّعريفات المختصة، بل يتمرد كذلك على النزعة التي سادت في سبعينات القرن العشرين نزعة عملت على تهميش الشّخصية وجعلها وظيفة لسانية أو سردية تأثرا بالصّنافة التي ذهب إليها فلاديمير بروب عن نظرية الفواعل. يجعل السّومري الشّخصية الموسومة بالواقعية في غالبية النّصوص، والدة سردية ويوظف كل العناصر السّردية الأخرى الزمان، المكان، الحدث لخدمة الشخصية. وهو منزع في الكتابة نطالعه منذ الأقصوصة الفاتحة " سكاروف". تستعيد الشّخصية مكانتها ودورها وتتمدّد لتكون ظاهر النص (العنوان) وباطنه (البطل). تنشأ حركة السّرد في الأقصوصة الأولى على شخصية واحدة هي شخصية الطّبيب "سكاروف" شخصية نراها مهيمنة على المكان الذي يحضر باعتباره مدًى للشخصية وامتدادا لها. مدى يتوسع حسب حركة الشّخصية ويضيق وفق نفسية البطل. نطالع البلدة والعيادة والخمارات والشوارع لكنها تتجلى أمامنا سمة من سمات الشخصية ورسما من رسوم البورتريه. فالبلدة النائمة بين الجبال هي مجال ممارسة الشّخصية مهنتها "كل من في البلدة يعرف الطّبيب الرّوماني سكاروف" (ص5) ومن يعرف الطّبيب سكاروف سيعرف بالضرورة رومانيا تلك البلاد المنتمية إلى أوربا الشرقية والمعروفة بتخريج الأطباء. ويفقد البيت خصائصه الهندسية والمادية ليغدو سجلا بعادات الشخصية وطبائعها" في كل ليلة سبت لا يخرج سكاروف وككل نهاية أسبوع يقضي الوقت في البيت " (ص6).
وإذا كان مدار السّرد في الأقصوصة الأولى على شخصية الطبيب الروماني الذي ربما اتخذه الكاتب قناعا لشخصية مرجعية في مدينة عين دراهم رغم يقيننا أنّ السّرد يبني عوالم تخييلية ممكنةPossible Worlds قد يماثل عالمنا الواقعي Actual worldوقد يخالفه أو يناقضه على ما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الأمريكي" دافيد لويس"(5)، فإنّ البطل في الأقصوصة الثّانية "وليد المسخري" هو الأخر شخصية فرد تؤدي في النص السردي وظيفتين: وظيفة مشاركة الشخصيات الحدث والفعل ووظيفة ثانية هي سرد ما حدث في الآن ذاته" أمّا الاعتبار الثاني فيعود إلى المؤلف نفسه وهي أنا وليد المسخري الذي يحكي لكم حكايته وعليه أن يعتصر الذاكرة ليشارف ما وراء نقطة الضوء الأولى" (ص9) وهو ما تعرّفه بالراوي الداخلي المشارك Intradiegetic ويتم التركيز على هذه الشخصية المولودة في قرية "السماريس" تلك القرية النائمة في الزمن الرّعوي وفي أراضي الرعاة قبل أن تهجم عليها أزمنة التجارة والاستهلاك والتلفزيون والولاعة والسجائر الغربية وكذلك المكان في هذه الأقصوصة المحدد "بقرية السماريس". يستمد الزمكان مشروعيته من الشخصية البطلة" وليد المسخري" الذي كان رائيا راويا ويستمد مشروعبته الزمكان بدرجة أقل من شخصيتين أخريين هما" محمد عبد الهادي" صاحب التلفزيون الوحيد في القرية و"محمد بريكية" الوافد على القرية فجأة مع ثقافة غربية ويرحل عن القرية فجأة ذات صباح بعد وفاة زوجته" أفقنا ذات صباح على اختفاء محمد بريكية. كان القدر يطلبه مرة أخرى إلى الرّحيل"(ص24). تولد القرية وأفرادها مع لحظة ولادة "وليد المسخري" ويتولّد النص من ملفوظات الرّاوي ونكتشف شخصية محمد بريكية وشخصية محمد عبد الهادي من خلال ملفوظات السّارد "وليد السخري" وتنتهي حياة القرية سرديا مع رحيل الشّخصية الثالثة محمد بريكية" أفقنا ذات صباح على اختفاء محمد بريكية...لعنة الله على الفرج الذي خرأك يا محمد بريكية لقد خرمت عقولنا"(ص24). إذن هو نص دائري ينفتح بالشخصية وينغلق بها مع تغاير الهوية.
ولا يختلف الأمر مع الأقصوصة الخامسة "الوصية" التي تنفتح بملفوظ استفهامي صادر عن الشّخصية البطلة "ألمْ أقل لكم إني قملةٌ تافهة "(34) لتنتهي الأقصوصة بذات الملفوظ(ص43). وبموازاة هذه الدائرة التلفظية تنشأ دائرة الشّخصية فالأقصوصة تنفتح بالشّخصية البطلة وتنتهي به وهو ما يؤكد مكانة الشّخصية في بناء العالم السّردي في هذه المجموعة. يتأسس الفعل السّردي على شخصية "مخلوف بن العبيدي" وتتشكل العمارة السّردية على العين الرّاصدة للأحداث في المكان، على متابعة حياة "مخلوف العبيدي" في قرية أمّ العقيق بالشّمال الغربي وفي مراكز الشّرطة ومقرات أمن الدّولة. ولكنها تظل أماكن غفلا من دلالات أو سمات خاصة ولا تستمد مكانتها أو مشروعية حضورها إلا من خلال صلتها بالشّخصية وهو ما يؤكد نزعة العدول في هذه المجموعة بالنسبة إلى وضعية الشّخصية في النص السردي من حال التهميش إلى حال المركزي. ويغدو المكان امتدادا للشخصية من الناحية المهنية للبطل أو الصحية (المستشفيات) بعد أن أصيبت بطلق ناري "أنا عبدكم البسيط العادي مخلوف من قرية أمّ العقيق بالشمال الغربي....نعم أنا هو مخلوف، لا دين لا ملة، ذئب اللّيالي الذي تعرفه كل مراكز الشرطة بالشمال الغربي ومقرات سلامة أمن الدولة" (ص35 ــ36 ) بل إنّ الزمان على أهميته في بناء القصة كما جاء في معجم السّرديات يتراجع ليغدو مجرد لاحقة من اللّواحق بالبطل. في هذه الأقصوصة يتركز السّرد على حدث تاريخي مجتمعي هو الثورة التونسية. 13 و14 جانفي من سنة 2011 هي يوميات الثّورة التونسية في عالم المرجع، ولكنها تغدو في السّرد يوميات البطل. هذه الأيام إمّا أن يكون مخلوف العُبيدي قاتلا أو مقتولا" " يوم الثالث عشر من يناير كنتُ أوجه الميليشيات بنفسي. لا أدري لعلني جد واثق من عودة النظام والاستقرار...هذا يومك يا مخلوف إمّا قاتلا أو مقتولا هذه الحقيقة التي اخترقت ذهني"(ص38 ــ9) وربما جرّدت عبارة القاتل والمقتول الثورة من نسغها الثوري النبيل وحولتها جريمة خاضعة لقوانين المجلة الجزائية.
وتنتهي المجموعة بنص سردي "هذا الرقم غير مبرمج بالشبكة" تحكمه الشّخصية التي تفتح السّرد في بداية النص "ما كان يجدر بي أن آتي"(ص100) وتغلقه في السطر الأخير تصويرا لمغادرة عبد المجيد الرابحي لمقر الوزارة "كان عبد المجيد ينزل دُرُج الوزارة مغادرا المكان وقد لفه صمتٌ غريبٌ "(ص109). وتماما كما رأينا في الأقاصيص السّابقة يتحدد المكان والأحداث حضورا ووظيفة من خلال الشّخصية التي تقدّم المكان من خلال البصر والذّاكرة" "وما لفت انتباهي حجم البيت الذي اتسع على غير العادة وصارت الواجهة تفتح على الشّارع الرئيسي بعد أن كان يتجه قبلة...اللّعنة على الذّاكرة المشروخة"(ص100). ويوظف السّارد الذّاكرة ليشوش على المكان الجديد فالنوافذ الجديدة والفوانيس المنبثقة تذكر السّارد بتلك النافذة التي كان يسده المنصف/النائب بالورق المقوى ويستحضر السّارد أيام الجوع والبرد والفقر وهو يتابع ما يقدم من مشروبات ومأكولات للحضور بسبب وفاة الحاجة زهرة" آلمني خبر وفاة الحاجة زهرة...لقد آوتني في بيتها سنوات الملاحقة والتشرّد"(ص101).
ومن خلال طرائق تشكيل الشّخصية وأدوارها في النص الأقصوصي نتبيّن قدرة المؤلف على التلاعب بالنص والقارئ. فهو يعلن التزامه بمعايير الجنس الأقصوصي في تقليص الشّخصيات ولكنه لا يركز على الحدث كما تنص على ذلك السّرديات، بل يسلّط الضّوء على الشخصية جاعلا منها البؤرة والمنطلق وهو بذلك يخالف ما نظّر له الكثير من علماء السّرديات الغربيين الذين حرصوا على تهميش وضعية الشّخصيات وعدّها كائنات ورقية في أحسن الأحوال (رولان بارط/أمبرتو إيكو/...). وقد ذهبوا هذا المذهب متأثرين بالمسرح الملحمي الذي عمل على فسح الركح أمام المجموعات لا الأفراد من ناحية وتأثّروا بالفكر الماركسي القائم على تهميش الفرد في الأقصوصة تجسيدا لقاعدة تهميش الأفراد في المجتمعات الشّيوعية البروليتارية. ولكنّ عبد الرزاق السومري ينقلب على هذه النزعة ويصر على إعادة المكانة والأضواء للشّخصيات وهوما يكشف حرية المؤلف أمام النظريات ويكشف مفهوم الإبداع الحقيقي الذي يمثل دوما تجاوزا للحدود والسّبل المألوفة.
الخاتمة:
لقد مثلت "فتنة البدايات" مجموعة أقصوصية متميزة تشكل إضافة نوعية للمكتبة التّونسية السّردية. وقد تمكن المؤلف فيها من توظيف الشّخصية لبناء عوالم السّرد التّخييلية رغم نسبها إلى الواقع والواقعية. وتمكّن المؤلف من التلاعب بالقارئ والنص ومعايير الكتابة ومخضعها لظاهر يلتزم فيه بالشّروط الفنية النّظرية لكنه في الباطن يتنكر للالتزام ويختار العدول. فكانت الأقاصيص نوسانا بين التّقييد والتجريب بين الالتزام والعدول وهو منح هذه النصوص نكهة خاصة وأعاد إليها الروح.
رضا بن صالح: عضو هيئة نادي القصة. كاتب، وباحث جامعي.
(1) السّومري عبد الرزاق: فتنة البدايات. النادي الثّقافي أبو القاسم الشابي. تونس. 2023.
(2) معجم السّرديات. تأليف مشترك. ط.1. نشر مشترك. 2010. ص 33
(3) أرسطو: فن الشعر. ترجمة: إبراهيم حمادة ص 128. مركز الشّارقة للإبداع الفكري. د.ت. د.ط.
(4)Ricoeur Paul: Temps et Récit. I.II .III. Seuil 1984 .