توطئة:
إنّ التلازم الطبيعي بين الأدب والثقافة أوجد أديب الحداثة العربية أمام انفجار معرفي هائل الكثرة والتعدد والتعقيد، فاختلط بتجربته الخاصة وانعكس هذا المزيج الفريد والغني على النص الشعري، فأصابه بالعمق والبعد المضموني، كما أصاب تقنياته الإبداعية بالتعقيد، وهذا لا يعني أنّ الأديب يتحرك في أفق مُزدحم بهذه الثقافات فحسب، وإنّما يعني ازدحاما دلاليا فيه من الضبابية والتعدد ما يُصيب المتلقي بالحيرة والذهول أمام النص الشعري.
ومن ثم وجد الشعراء في المنحى الصوفي منفذا إلى عالم المُثل في محاولة للهروب من عوالم محيطة بهم أملا في الخلاص وبحثا عن المعادل الوجداني لكياناتهم المفعمة بالسُّمو والامتلاء« فالصوفية استنباط مُنظّم لتجربة روحية، ومحاولة للكشف عن الحقيقة والتجاوز عن الوجود الفعلي للأشياء.» (1)
وبهذا فالشاعر يحاول أن يلج الأعمق ويرتقي إلى الأسمى والأنبل، واعتلاء العوالم الأبدية المتعاقبة وحقائق الروح المُثلى بكل معانيها وتجلياتها، ذلك « أنّ الإنسان في الفكر الصوفي لا يعيش حالة من اللاوعي أو السلبية، بل إنّ الإنسان هو الحقيقة الأكثر حياة في هذا الوجود.» (2)
لقد أراد الخطاب الصوفي أن يتوغل بالوعي الإنساني نحو أعمق معاني السُمو على تفاهة الحياة وماديتها ويتخلص من سجنه ويخرج من هشاشة الواقع ويُحلق به في سموات المُطلق اللامتناهي وارتقاء أعلى درجات السمو نحو المتعالي، هذا ما يُعبّر عن قمة الحس الصوفي المثالي، يقول أدونيس:
« وحّد بي الكون فأجفانه
تلبس أجفاني
وحّد بي الكون، بحريتي
فأين يبتكر الثاني.» (3)
1- الرمز الصوفي في الشعر العربي المعاصر:
يمثل المنحى الصوفي في الشعر العربي المعاصر أهم وأبرز مداخله، وكان ظهور الرمز الصوفي« مع بداية تلاوة القرآن الكريم بسلوك خاص يُقلب الأصوات والكلمات رموزا تُثير في التصوف نزعة فناء الذات داخل العالم، و هو ما أُصطلح عليه بالذكر، وهي حركة منظمة من حيث مخارج الحروف ومنازلها والترتيب الصوتي عند النطق، حركة تستحضر ما أروع من معاني الألوهية خلف كل قرآني وكوني، إنّه للرمز الصوفي رنة موسيقية خاصة.» (4)
إذن فالتصوف: «جوهرا فكريا يُمثل مرحلة من مراحل تطور الفكر الديني، حيث تتدخل القوى العقلية في إثبات قدرتها على الإدراك إلى جانب النص الديني، إنّها حركة إيقاظ للقدرة التأويلية للتفكير الإنساني في مواجهة الكون وخفايا الإنسان وحقيقة الخالق وسبيل الوصول إليه.» (5)
فما أنتجه الفكر الصوفي من حيث الأصالة« هو اجتراح طريق جديدة للمعرفة والإدراك، طريق يتجاوز حدود العقل ومقاييسه المنطقية، وكذلك الحس ومعاييره المادية، فكان أن اجترحوا رؤية القلب أو الحدس أو الذوق، والحقيقة أنّ هذه المُسميات ما هي إلاّ تعبير عن ذلك الصراع الذي واجه الصوفي ثقله ومتاعبه، وهو متمثل بحقيقة مفادها أنّ الحقائق ظاهرة أمكن أن يتم الوصول إليها عن طريق الحّس فتدرك طبيعتها المادية، فتُناسب المدرك بوسيلته المُتبعة أو أن يتم إدراكها عن طريق الاستدلال والمنطق المحسوب، وذلك عن طريق العقل، فالحس إذن والعقل وسيلتا المعرفة الإدراكية للحقائق الظاهرة، أما الحقائق الباطنية فهي سبيل مختلفة، فلابد وأن يتم انتخاب وسيلة تتناسب مع نوع هذه الحقائق حتى توقف الحس والعقل عن الفعالية في الإدراك، فكانت الرؤية القلبية والحدس والذوق، أي مزيج من استعداد فطري ومؤهلات اكتسابية بعد رياضة وإجهاد وسياسة للنفس.»(6)
يعرف ابن عربي الرمز الصوفي: بأنّه الكلام الذي يُعطي ظاهره ما لم يقصد قائله، وكذلك منزل العالم ما أوجده الله لعينه، وإنّما أوجده الله لنفسه وعليه فالدلالة الرمزية تسير في اتجاه معاكس تماما للدلالة القُصدية، وتتسم الدلالة الرمزية بالتراكم الدلالي، أي طبقات متراكمة من المعاني أو ما يُسميه ابن عربي بدوائر الباطن، والدلالة الرمزية تختلق لنفسها معاني فورية أو دلالية من درجة ثانية، وهو الانتقال من مستوى الشكل الموضوعي للأشياء. أما أدونيس يعرف الرمز الصوفي على أنّه « طريقة الكشف عن المعرفة، والبحث عن المعنى ووسيلة لبناء الهوية، كما هو دعوة لتحرير الكيان البشري إلى جانب كونه دعوة إلى تحرير الفكرة.» (7)
ومن ثمة يمكن اعتبار النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر هي بحث مستمر عن الرمز الإنساني في أسمى معانيه و محاولة وصل الذات في نشدانها المتعالي عبر جدلها الدائم مع الواقع، هي التأمل والاستبصار والانفلات من عالم الخصوصيات والاحتفاء بعالم المُثل، الأمر الذي أفضى بالنفس إلى البحث عن ملاذ روحي تُعوض به إحباطها وانهزاماتها وفشلها في وصل عالمها الأرضي، وهو القول الذي استطاع ابن عربي من خلاله رؤية الأشياء « أرواحا لطيفة غريبة فيها استجابة مُودعة لما يُراد منها، هي سر حياتها، وتلك الأرواح أمانة عند تلك الأشياء محبوسة في تلك الصور تؤديها إلى هذا الطرح الإنساني الذي قدرت له.» (8)
فالشاعر الصوفي لا يروي وإنّما يدرك بإحساسه المفعم بارتقائه إلى المبادئ العليا ويحدُسُ الوقائع بما يمتلك من حس لا يشترك مع غيره الذي ينظر إلى الأمور بطريق المعرفة الاستدلالية في ظاهرها، وهو لا يُبصرُ وإنّما يتبصر باطن الشيء الذي تتحد به. (9)
2- الشاعر المعاصر متصوف أم باحث عن اللامرئي؟
ليس غريب أن ترتبط تجربة الشاعر المعاصر في أحد أزمانه وعند بعض مُبدعيه بالتجربة الصوفية، لأنّ الشاعر لحظات إبداعه إنّما هو في حالة فناء في ما هو فيه، فقد ينسحب من عالمه إلى عالم آخر لا يكاد يحس فيه إلاّ بذاته، ولقد كانت ولا تزال رغبة الشاعر الصوفي البحث عن المجهول واللاّمرئي أو كما يقول صابر عبد الدايم:« والبحث عن ما وراء المحسوس من أخصّ خصائص التصوف، ثم انتقلت هذه الخاصية إلى الأدب الصوفي، فصار البحث عن الحقيقة والنفاذ إلى صميم الأشياء وكشف ما وراء الطبيعة إحدى سمات الأدب الصوفي.» (10) أو كما يقول سعد عيسى:« إنّها حالة روحية يتصل فيها العبد بربه اتصال المتناهي باللاّمرئي، وهي تجربة لا تخضع لمنطق العقل الواعي، وإنّما هي حالة من حالات الوجود الباطن، لها رموزها الخاصة ومن ثم فهي غربة روحية واعتزال العالم البشري.» (11) ويمكن القول أيضا:« أنّ الصوفية تحاول وضع زمام الجسد في يد الروح بحيث يحقق الإنسان وجوده الروحي ويستشعر من المتعة الروحية والنشوة الوجدانية، ما يمكن أن يشكل تجربة بسيكولوجية تتسرب في عقله الباطن.» (12)
إنّ نزوع الشعار الصوفي إلى عوالم اللاّمرئي ولا محسوس مثَل علامة فارقة في إبداعات الشاعر المعاصر من خلال إزاحة مألوف اللغة عن واقع التعبير وإيجاد لغة جديدة من أحد مقوماتها الرمز والإيحاء والذي مكّن الشاعر المتصوف أن يتعامل بها مع غيره لأنّ التعبير بالرمز والإيحاء استطاع أن يقابل الحالة الصوفية التي لا تحدها الكلمة والذي يمكن بالتالي أن يخلق المعادل التخييلي لهذه الحالة، إنّه تعبير لا يخاطب العقل بل القلب « فكما أنّ الحالة الصوفية لا يحكمها مقياس الحس والعقل، ليس في مقدور لغة الاصطلاح والوضع أن تُعبر عما يتناقض مع الاصطلاح والوضع.» (13) هذا الفكر الصوفي الذي عرفه أدونيس وغيره إلى درجة الفهم والاستيعاب وجعله يُعيد النظر لا في مضامينه الشرعية فحسب، وإنّما في أدواته الشعرية كذلك، منها اللغة التي صار تغير العلاقات بين كلماتها والأشياء إحدى غاياتها.
ومن الأشياء التي عزّزت اتجاه التصوف في شعر الحداثة العربية استلهامهم للتراث الصوفي العربي والذي يؤكد أدونيس أنّه ليس مجرد رافدا لهذا الشعر وإنما هو المنبع الرئيس، وقد مثل ذلك الشاعر بشر فارس في استخدامه لبعض إيماءات التراث الصوفي في الإشارة إلى ما وراء الحّس من معان لطيفة مُبهمة، ويتجلّى ذلك واضحا في قصيدته " إلى فتاة"
« بصّيريني يا وضوح ثروة القطب الخطير
أنـا في وهج الفـتوح يقظ لكــن حسيـر
خـفَّ بـي كشف طموح وكـبا فهـم كسيـر
فسـرت فوحـات روح في غايابات الخمير.» (14)
لقد وظف الشاعر رموزا تمثلت في لفظة: قطب، الفتوح، كشف، وهي ألفاظ ذات إشعاعات صوفية توحي بجو يشبه ما يعانيه المتصوف من شوق إلى الوصول « فالمصطلحات الصوفية المذكورة لا تعني مدلولها الصوفي فحسب، بل تُشير إلى مجاهدة الشاعر بحثا عن المثال أو الحقيقة المطلقة التي ترتد إليها ظواهر الوجود.» (15)
ويربط أدونيس بين الشعر والتصوف من خلال كونية كل منهما، فالشاعر عنده يترجم ما يشغله ترجمة صادقة عميقة، يحسُّ أنّه يترجم في الوقت نفسه ما يشغل الآخر، وكلامه يكون باسم الآخر وباسم ما بينهما من علامات، أي أنّ اندماج الذات لتشمل الآخر في كل من التجربتين الشعرية والصوفية هو ما ينتج العلاقة بينهما أو كما يقول جُبرا إبراهيم جُبرا عن أدونيس: « يأتينا بالشعر والتصوف معا ويُغرينا بالسماع والتأمل، بل إنّه يكاد يُقنعنا بأنّ لنا نحن أيضا كقراء أن نشارك في نشوة الصوفية والحلم الخارج والإسراء.» (16)
إنّ توظيف التراث الصوفي ارتقى بالعمل الإبداعي وهو في ذلك تعبير صادق عن هموم ومعاناة الشاعر المعاصر فأقبل عليه بنهم وسخاء أثرى به تجربته الشعرية، ويؤكد عثمان حشلاف هذا قائلا: « ولم يكن اهتمام الشعراء المحدثين بالتراث الصوفي لذاته أو لأنّه شيء عظيم فحسب، بل لأنّه الوسيلة الأساسية التي تُمكن الشاعر من الاستمرار في الإبداع والكتابة، إذ بواسطته يُتاح له نقل أحاسيسه الوجدانية وتجربته الشعرية.» (17)
وفي ظل انحسار اللغة الصوفية في دائرة اللاّمرئي أمكن العبور عبر منافذ قليلة إلى بعض الومضات من تلك اللغة، فإذا سلمنا أنّ استعمال الأسلوب الرمزي كان عمدا لأهل الطريق لتقريب المعنى وإخفاء أسرارهم عمن ليسوا بأهلها، أمكننا وضع جانب كبير من الإشكالات المعيقة لفهم الظاهرة أو على الأقل التماس المبررات التي دعت لذلك وفي هذا الصدد يقول إدوارد الخراط في مداخلة له: « أنّ الشعر الصوفي هو نوع من التوّحد المعقد ما بين الشعر والشاعر.» (18)
ويعطي أدونيس في بعض مفاهيمه للبعد الصوفي في الشعر العربي أهمية كبيرة على المستوى اللاّمرئي إلى حدّ ذهابه للقول : أنّ الكثير من القيم الحضارية العربية مستمر في الشعر الجديد لا تأتيه من النصوص الشعرية القديمة بقدر ما تنبع من نصوص التصّوف، و ذلك عن طريق تخطي المحسوس والانعطاف اتجاه حياتنا الباطنية أو قل إنها جناحان لعملية واحدة لأنّ تخطي المحسوس يتم في الآونة التي تنطوي فيها الذات باحثة في زوايا النفس عن ذلك العالم الحقيقي، ولأنّ هذه الحالات الذاتية مبهمة بقدر ما هي سريعة الانطفاء، فإنّ على الشاعر محاولة امتلاكها بواسطة اللغة الشعرية الموحية وليس بالبسط والتوضيح، ذلك أنّ الإبهام ذاته لذّة الاكتشاف الذي لا يُعطيك محصوله دفعة واحدة.
3- الشعر الصوفي يأس أم طموح و أمل؟
ربما يكون اليأس الذي غلب على كثير من الشعراء المعاصرين و خيبات الأمل التي أصابتهم في طموحاتهم تسببت في تسرُّب الإحباط والكآبة إلى نفوسهم مثلما يشير أدونيس في حقول الكآبة قائلا:
« في العشب أرسم أيامي الحجرية
كاسرا صفحة المرايا
بين شمس الظهيرة، والماء في البركة الآدمية.» (19)
ربما يكون هذا وما نحوه ما غذّى الاتجاه الصوفي في شعر الحداثة وربما يكون العالم بعجزه وجفافه وإخفائه في الإجابة عن بعض أسئلة العصر هو الذي أصاب روحانية الشعراء بشيء من الجفاف والجفاء فكان الاتجاه الصوفي أو اعتناق النزعة الصوفية محاولة « للتعويض عن العلاقات الروحية والصلات الحميمية التي فقدها الشاعر.» (20) وقد ساهم أيضا خليل حاوي في إثراء تجربة الشعر الصوفي من خلال محاولة الدخول إلى الضمير العربي عبر قصيدته "البحار والدراويش" حيث يتوحد البحار ويوليس في بحثه عن الحياة واختراق المجهول، ومع فاوست في عشقه للمعرفة، ليتجه إلى التصوف علّه ينفُذ من خلال تجلياته إلى أعماق الحياة ولكن دون ما جدوى، لأنّ الموت ظل يُكبل الحركة. (21) يقول الحاوي:
« خلّني للبحر، للريح، للموت
ينثُر الأكفان زورقا للغريق
مبحرٌ ماتت بعينه منارات الطريق
مات ذلك الضوء في عينيه، مات
لا البطولات تُنجيه، ولا ذّل الصلاة.» (22)
ويمكننا تأطير التجربة الصوفية في الشعر العربي المعاصر في أرقى ما وصلت إليه من نضج إلى محورين:
المحور الأول: تمثل في الارتحال الدائم في سبيل الكشف ويكون الولاء فيها للشعر حيث تبدأ بعد التأهب الساكن لزورة الشعر والتي لا تجيء فيخرج إليها الشاعر طالبا عطاء بعد أن ينزع عن نفسه كل شارات الحياة مُبحرا كتجرد الحاج إلى قدس الأقداس. (23) وهذه الرحلة الارتحالية لها مصدران: مصدر صوفي وبصدده يقر صلا ح عبد الصبور:« أنّ الصوفية هم أول من أشار إلى أن التجربة الروحية شبيهة بالرحلة الاستكشافية، وهم الذين جعلوا من سعيهم من وراء الحقيقة سفرا مضنيا مليئا بالمفاجآت والمخاوف في طريق موحش طويل قد ينتهي سالكه إلى النهاية السعيدة إن وفق الله وأراد، ومصدر ديني يربط فيه بين معاناة الشاعر والنبي في تلقي رسالته وتوصيلها على الرغم من اختلاف مصدرها عندهما، كما يربط بين رحلة الإنسان إلى بيت الله الحرام ورحلة الشاعر إلى الشعر في أغنية ولاء.» (24) ويقول صلاح عبد الصبور حيال هذا:
« خرجت إليك
علّي أوافي محمليك
ومثلما ولدت، غير شملة الإحرام، فقد خرجت لك
أُسائل الرواد
عن أرضك الغريبة الرهيبة الأسرار.» (25)
المحور الثاني: في الاتحاد بكل مظاهر الوجود والاتحاد بمظاهر الكون عند الشاعر وسيلة لتخطي الكائن إلى عوالم ثانية خارج الحياة « في مناخ الأحلام والأفراح والحسرات والمشاعر والرؤى الغارقة في قرارة الروح حيث انبثاق كوني و طوفان يغسل الواقع ويُشيعُ الحياة والحلم والمادة، فتصرخ الأشياء وتتآخر.» (26) فالشاعر رجل « تشع رؤياه إلى ما وراء أفق الإنسان العادي فتذهله ضخامة الكون وجماله.» (27) وعندها فقط تغدو الكتابة الصوفية لونا خاصا تخترق المُمانعة والتفلُت لترسوا في الأخير على هيمنة التأويل، لأنّها تنشد آفاق المعارف الكونية الكبرى بظاهر الوجود وباطنه ومعرفة مكونات الفعل اللغوي وأدواته الإجرائية التي مست النص الصوفي، يقول أدونيس:
« وحّد بي الكون، فأجفانه تلبسُ أجفاني
وحّد بي الكون، بحريتي فأين يُبتكر الثاني
وجهي وأعماقي في الإله.» (28)
ولئن أمكننا مبدئيا فهم بعض تركيبات هذه النصوص في مستواها الدلالي الظاهر، فإنّها في مستواها الباطني أشد حاجة إلى معرفة الكيفيات التي جعلت منها نصوصا تستجيب إلى كثير من المُنحيات و الانعطافات قوامها رؤية صوفية بكل تداعياتها، ويتحتم علينا حل بعض إشكالاتها على مستوى العنصر اللغوي لمُسايرة خصوصيات هذه النصوص على مستوى الشكل والمعنى، وذلك من خلال اكتساب آليات اقتحام عوالم الخفاء والغيب وما وراء الواقع، عوالم خارجة عن سلطة الزمان ومحدودية المكان، فتجليات الشاعر الصوفي عبارة عن رحلة معراجية خيالية متأثرة بالمعراج الروحي.
إنّ لحظات الاستدعاء والغياب في ملكوت الكون والغياب الجسدي من خلال الأفكار والخواطر لدى الشاعر المتصوف كان سببه الظروف السياسية والاجتماعية القاهرة التي وأدت كل حريات الفرد، هذه الصعاب والمحن استدعت هذا الغياب والخروج من دائرة الواقع هذا ما نقرأه في قصيدة أمل دنقل "رسوم في بهو عربي" يقول:
« اللوحة الأولى على الجدار
ليلى الدمشقية
من شرفة الحمراء ترنوا لغروب الشمس
وكرمة أندلسية وفستقية
وطبقات الصمت والغبار
نقشٌ
مولاي لا غالب إلا الله.» (29)
فالمرأة التي تطل من الشرفة الحمراء آخر قصور غرناطة التي بقيت شاهدة على قصور حضارة آفلة، هي سلسلة عبد الرحمان الداخل الأموي، ومن ثم فاسمها ليلى الدمشقية وهناك كرمة لم تندثر وفستقية لم تتوقف عن المثول أمام النقش المائل في ذيل اللوحة، فهو نفسه الشاهد التاريخي المحفور على حوائط الحمراء حتى الآن من شعر دولة بين الأحمر آخر ملوك الأندلس. (30)
ونخلص في الأخير إلى أنّ تجربة الذات في محاولة تجاوز غريزتها والتطلع إلى مُداعبة أسرارها الباطنية في صراعها مع مقتضيات الحياة الاجتماعية مهما تغيرت أشكال الطرح الصوفي في النصوص الأدبية، فهي في جوهرها واحدة، أي أنّها ترنوا إلى حياة أفضل وغد أجمل وفكر أوسع أفقا وإنسان أكثر حرية « لأنّ هذا الميدان خير ميدان تتفتح فيه ذاتية الشاعر وفرديته، فهو ينفصل عن المجتمع ظاهرا ليعيش آلامه التي هي نفسها آلام المجتمع، ثم إنّ هذا التصوف محاولة للتعويض عن العلاقات الروحية والصلات الحسية التي فقدها الشاعر وتلطيفا من حد المادية الصلب الخشن.» (31)
لقد حاولت النزعة الصوفية رفض حدود الواقع وتخطي الممكن المرئي إلى المجهول اللاّمرئي وتجاوز الملموس الحسي إلى المجهول الغيبي في إطار المزج ما بين المثالية التي ترفض حدود الواقع والرضوخ له والرومانسية التي تكرم الإنسان، والرمزية التي تجد كل ما في الأرض رمزا ومعنى، والسريالية التي تخترق حصار العالم المادي وتنطلق إلى أفاق الشعور والفكر والخيال، والتجريدية التي تجرّد الإنسان من كل الاضطرابات والتفاهات المشتتة له وتركزّ بصره على معنى الوجود وهدف حياته، والميتافيزقية التي تؤكد الكيان الروحي للإنسان بجانب كيانه المادي. (32)
- الهوامش:
1- مصطفى محمد هدارة: النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر، مجلة فصول، عدد4، 1982م.
2- المرجع السابق، عدد4.
3- أدونيس: الآثار الكاملة (قصائد أولى، قصائد لا تنتهي، وحدة)، ص:46.
4- جعفر يايوش: الأدب الجزائري الجديد (التجربة والمآل)، ص: 126.
5- ناهضة ستار: بنية السرد في القصص الصوفي ( المكونات، والوظائف، التقنيات)، دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص: 2.
6- المرجع السابق، ص: 217.
7- يوسف اليوسف:ما الشعر العظيم، ص: 146.
8- - عبد القادر فيدوح، التأويل والرؤيا، ص: 52.
9- يراجع : عبد الرحمان القعود: الإبهام في شعر الحداثة، ص:37.
10- المرجع السابق، ص:37.
11- نبيل راغب: موسوعة النظريات الأدبية، مكتبة لبنان، ص: 404.
12- أحمد فتوح: الرمز والرمزية، ص: 40.
13- المرجع السابق، ص: 320.
14- نفسه، ص: 320.
15- المرجع السابق، ص: 39.
16- عثمان حشلاف: التراث والتجديد في شعر السيّاب، ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون الجزائر، ص: 15.
17- يراجع: عبد الرحمان القعود، الإبهام في شعر الحداثة، ص: 24.
18- المرجع السابق، ص 40.
19- إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، عالم المعرفة، ص:208.
20- صلاح فخري: دراسات نقدية في أعمال السيّاب، حاوي، دنقل، جبرا، ص: 68.
21- خليل حاوي: الديوان، البحار والدراويش، ص:65.
22- يراجع: مصطفى السعدي، البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث، دار المعارف، الإسكندرية، ص: 101.
23- صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر، دار العودة، بيروت ط1، 1977م، ص:15.
24- المرجع السابق، ص:10.
25- أدونيس: خواطر حول تجربتي الشعرية، مجلة آداب، مارس 1977م، ص: 196.
26- مصطفى السعدي: البيات الأسلوبية، ص:104.
27- أدونيس: أغاني مهيار الدمشقي، دار العودة، بيروت، ص: 131.
28- أمل دنقل: الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت ومكتبة مدبولي، ط2، القاهرة، 1985م، ص:274.
29- يراجع: فخري صالح، دراسات في أعمال السياب، حاوي، جبرا، ص:105.
30- إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص:28.
31- يراجع: عثمان حشلاف، التراث والتجديد، ص:15.