سؤال القيمة ورهان الفرجة في الكوميديا الأمازيغية :" لحسن أزايي" نموذجا ـ مصطفى أنكزدم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ظل الحديث عن معالم التمسرح والفرجوية داخل النسق الثقافي الأمازيغي بالأطلس المتوسط محتشما، أو شبه غائب، في مقابل (الاهتمام)  التي حظي به الشعر الامازيغي  وفروعه المتمايزة، فلا نكاد نجد من الأوراق العلمية من يسائل هذا المعطى الحاضرـ الغائب، علما أن استكشافا لهذا البعد  التفكيهي يعد فتحا مبينا ورافدا مهما يؤكد الغنى الفني الذي يحبل به الأدب  الأمازيغي بحاضرة فزاز، وهو المحكوم بقدر الشفهية الذي يجعله على حافة النسيان والتلاشي ما لم تستنطق معالمه وتقيد مفاتنه بقيد التدوين صيانة وتوثيقا.

ولغاية لا  تنأى عن مقصد الاستكشاف والمراودة ، جاءت هذه الورقة لتقتفي أثر الفرجة داخل أرشيف الذاكرة الصوتية الأمازيغية وتجس نبضها، لا بخبرة الأصيل العارف بأحوال العليل ..ولكن بفضول العاشق الشقي، وذلك من خلال مصاحبة ارتضينا أن تكون لعلم أعطى وما قدر، وأجزل وما بخل، وضمن الخلود رغم الرحيل، فكيف لفيافي الأطلس أن تتناسى اسم " لحسن أزايي" الفنان الفكاهي الساخر الذي ترعرع واشتد عوده بمدينة " امريرت"، قدم الوجود سنة " 1948"  حاول وأد الكآبة التي تعم الأرجاء بحسه الفكاهي الرائق وموهبته الغنائية الماتعة ...غير أن القدر لم يمهله الكثير ليرحل عنا بروحه الخفيفة سنة "1999" تاركا الوجوم يرخي بحضوره الثقيل.

ولعلنا اذ نتقصد معالم الفرجة في المقاطع الصوتية التي خلفها " لحسن أزايي" باعتباره رائدا للكوميديا الساخرة بالأطلس المتوسط ، حاولنا رصدها عبر المقطع الفكاهي الاتي مصحوبا بترجمة تقريبية للفحوى.

 ـ النـــــــــــــص الأصلـــــــــي

lmarḍi d lmsxut

)lmrḍi iƷic g utrrḥ, zik llan ixamn ilin imnayn,

lmrḍi isɣa "ayis" isɣ "buḥba" isɣ lblaɣt d uznnar, iinid ayis idud ɣr

lfijta, msasan isan ikcm almas nnsn, iwa tnhm tmtut nns xf tmawayt

tt nnas : « …ayimnayn gila uḥbibinu, ad aw nqnx issan, uma wiwrgaz urtḥmilx… ».

ar sruruyn tmɣarin, cwi han tamɣart nns tt ddad xf krad iḍar am

nnaqma, sin icfas tn rbbi id wiss krad tgat iw qru nns, day tmrurd ami tda tɣirdn ɣr sa axbu ku tt du tini: « … ya ya ya adgal inu ayamnay isn adini... ».

 ama sgƸ, lmsxut yusi amrwas s g lqrḍ lfilaḥi yaɣ yan wagmar, urs isd

nmrud aga mad jnun, layqzbt id sg tfr iqzbt sg dat, isɣ yut n tcdat day sutlt i yixf layfɣasd uqrru ziks ami tnid aftix, yasi yun uɣanim day Ƹdilas igit d am buḥba, yun uḍar layqnas lblɣt yun lmika.

ikcm amas isan day wxr zigs isan, nitni dan ɣr saxam nta icfl is yiwit ɣr sasif ar ig tinufan lay skit i yun uzqur(.

ترجمة النص الأصـــــــــــــلي

السعيد و الشقي

      ( السعيد عاش حياة سعادة و هناء ارتبطت بمتعة  "التبوردة" وحضور الخيام، كان له أن  قصد عرس "التبوردة " متزينا بما يلزمه من سلهام وبلغة وبندقية تنتصب بين يديه، تقدم في رزانة وتؤدة وفي أعماقه يتردد صدى تموايت بعد أن صدحت بها حنجرة زوجته قائلة: " "ايها الفرسان الذين يتوسطهم الحبيب، فلتتباطأ حوافر فرسانكم لينفلت فرس زوجي من بينكم ".

     تعالت الزغاريد من بين الخيام ، وفجأة ظهرت حماته  العجوز يمشي بها العكاز نحو الجمع طائعا، وهي تردد: " كل فخري  بك يا صهري الفارس المغوار".

     وفي الجهة المقابلة يطالعنا ذاك التعيس المدعي للفروسية، طلع ممتطيا فرسا نحيفا ممسوخ القوام بعد أن أخذ دينا لشرائه، عاصما عمامة مرقعة الجانب لا تكاد تثبت فوق رأسه الأصلع ، وفي يديه قصب يخيل له أنه يحمل بندقية، ومن صهوة فرسه الأهزل تتدلى رجلاه واضعا بلغة في احداهما دون الأخرى.

      تنافرت فرسان السربة بعد أن توسطها بما يشبه الفرس، انطلقت طائعة لقواعد التبوردة. في حين زاغ  صاحبنا عن الركب قاصدا حافة الوادي ليعثر عليه بعد ذلك معلقا على جذع شجرة) ـ انتهاء المقطع المترجم ـ

في هذا المقطع الفكاهي الموسوم ب " السعيد والتعيس"، يطالعنا من خلاله " لحسن أزايي" بعمل تخييلي تحيل تفاصيله الثاوية على الانسان السعيد الخير، واتزانه في أداء طقوسه الاجتماعية واحترامه لعرف الجماعة وما تمليه أعراف فن "التبوريدة"، خاصة الاهتمام بالهندام الذي يضفي فروسية على الفارس، فلا فروسية مكتملة من دون عمامة حسنة المنظر، وبلغة معتدلة المظهر، وفرس ممشوق القوام، وبندقية بين يدي فارس احترف " التبوردة " بروية لا بنزق العوام... الى غيرها من الصفات التي تبوئ الفارس ذا السعد الطالع  درجة الوقار والفخر بين الأقارب التي تزف اليه بشرى المحبة والتقدير عبر أهازيج غنائية ترمز الى الفرح الذي أينع في قلوبهم وأزهر.

    وعلى نقيض هذا الاحتفاء  يكشف المقطع الفكاهي أعلاه عن تعاسة  من يدعي الفروسية ومأساته حين يلقي بنفسه في عرض "التبوردة" دون الاحتكام الى طقوس الممارسة، فلا فروسية لفارس يتقدم ممتطيا النحيف من الفرسان، وهيئته من شواذ الغلمان، لا عمامة تكشف أصالته، ولا بلغة تنبئ عن شهامته، ولا بندقية ترود باحترافية بين أنامله ... لا موقع له بين فرسان السربة التي تنطلق بنظام وانتظام تاركة وراءها قعر الوادي مصيرا للمتطفلين من  أشباه الفرسان على هذا الطقس الاحتفالي.

فما آليات بناء هذا المقطع الفكاهي؟ وما أبعاده الفنية والفرجوية؟

     ان أول ما نلامسه حين الغوص في تضاعيف هذا المقطع الفكاهي  أن " لحسن أزايي " ارتكن في ذلك الى مقومات فنية مساعدة على بناء مقام الفرجة، اذ نسجل بشكل واضح حضور الحكي والسرد المتسلسل المتمثل من نقل المتلقي بين وضعيتين لفارسين تمايزت صورتهما وأحوالهما وحضورهما داخل " طقس التبوريدة " ، فالأول نموذج الفارس المنضبط لعرف الجماعة، والمحترم لطقسها الاحتفالي وهذا ما تأصل في المخيال الجمعي للمتلقي او الانسان بالأطلس المتوسط بشكل عام، فاستحضار هذا المعطى قد يكون بقصد من " لحسن أزايي" لاستمالة عاطفة المتلقي الذي يحن الى الماضي وتقاليده العريقة ، ومخاطبة لا شعوره  لشد انتباهه الى الحلقة واضفاء بلاغة الامتاع والمؤانسة ...، اما الثاني ( الفارس المنهزم) فحضوره في المقطع بغاية توكيد صورة الأول ( الفارس الأصيل)، بالإضافة الى استثمار انهزاميته لإضفاء طابع السخرية والهزل في المقطع ككل.

       من هنا نلمس مدى فطنة "بقشيش" ودهائه في استثمار الثنائيات الضدية ( السعادة :التعاسة ، التفوق: الانهزام ،الخيبة: الأمل، الطيش: الحلم...) قصد بناء مقطع فكاهي يزاوج بين الامتاع والسخرية والاقناع، يؤكد ذلك حضور بعض الشخصيات التي أضفت طابع الأنس والهزل على أحداث المقطع مثل: " الفارس السعيد" باعتباره شخصية اجتماعية تحظى بكامل التقدير والاحترام من قبل الجماعة، فهو مثال حي للقيم الايجابية، عكس شخصية "الفارس التعيس" النموذج الشاذ عن الجماعة الذي يكون موضع سخرية بسلوكاته وهيئته المخالفة للسائد في المجتمع(1)، بالإضافة الى شخصية "الحماة العجوز" المقتحمة لطقس ظل حكرا على الشباب لاتسامه بالحركية والقوة ... الأمر الذي يجعلنا أمام غرابة تموضع هذه الشخصية في مقام غير مقامها، وهذا ما زاد المقطع فرجة ومتعة وتشويقا.

     كما يفاجئنا " لحسن أزايي"، وهو يهندس عالمه الفكاهي، بشخصية الزوجة التي تتقدم بمقطع غنائي من فن " تماوايات":

« …ayimnayn gila uḥbibinu, ad aw nqnx issan, uma wiwrgaz urtḥmilx… ».

      والملاحظ أن مدلول هذا المقطع الغنائي يكشف عن مدى تعلق الزوجة بزوجها، وتمنيها النفس بأن تنفلت حوافر فرسه حتى يبرز فروسته داخل السربة، وقد كشف عن ذلك  أسلوب النداء الذي خرج عن معناه الحقيقي ليفيد دلالات استلزامية مجازية تدل على معنى السخرية، أي سخرية الزوجة من فروسية الفرسان والرفع من شأن الزوج بينهم.

       من هنا يتبين قوة حضور ما يمكنه أن نسميه ب "شعرية الفكاهة " عند لحسن أزايي، الذي مزج بين حسه الفكاهي الفرجوي وموهبته الغنائية، خاصة في القاء المواويل وفق مقامات غنائية متنوعة، فلا نكاد نجد عرضا فرجويا فكاهيا يرتبط باسم " لحسن أزايي"  تغيب فيه الة البندير وأصداء أغاني " لغازي بناصر " و" حمو أوليازيد "  و"يامنة عقا " ... وغير ذلك من معتقات الأغنية الأمازيغية، كل ذلك  يزيد مقاطعه الفكاهية تمسرحا تتفاعل فيه شخصيات متخيلة نابعة من  ذاكرته الخصبة، وما يستحضره مقام الالقاء من شخصيات تاريخية تجعل المتلقي في لحظة انتشاء فرجوي فريد.

     الى جانب السرد واليات تحريك الأحداث والانتقال بالمتلقي من مقطع سردي الى اخر، يحضر أسلوب الوصف بشكل قوي أيضا من خلال  ارتباطه بموصوفات أسهمت في اضفاء طابع الفرجة على المقطع المسرحي ككل، ومن الأمثلة الموضحة لذلك: " الفرس النحيف ـ العمامة المرقعة ـ الرأس الأصلع ـ الحماة العجوز ـ ...، والملاحظة أن اختيار صفات بعينها ( النحيف ـ المرقعة ـ الأصلع ـ العجوز ...) لم يكن اعتباطيا، فبالإضافة الى "تكسير رتابة السرد، وتقريب الشخصيات ومواقفها وانفعالاتها" (2)، استطاع " لحسن أزايي" أن يضفي عليها طابع النكتة والهزل، فأن ترتبط صفة النحافة بفرس يود الانضمام الى سربة " تبوريدة"، أو أن تبرز صلعة الفارس عبر العمامة المرقعة، او أن تقتحم عجوز فضاء التبوريدة بعكازها وصوتها الرخو ...تلك مشاهد في غاية السخرية والهزل، قصد " لحسن أزايي "توظيفها لغاية الامتاع والفرجة ، وفي الان نفسه رفض صريح للعبث الذي يمكن أن يشوب أصالة فن تبوريدة وقداسته داخل النسق الثقافي الامازيغي بالأطلس المتوسط.

       وبهذا يكون " لحسن أزايي " قد أصل للكوميديا السوداء داخل الكوميديا الأمازيغية بالأطلس المتوسط، من خلال انتصاره للقيم الأصيلة وانتقاده الساخر لما يشوب أصالة الذاكرة الجماعية وعاداتها وتقاليدها الراسخة.

       هذا، ولم تكن الموهبة  الغنائية ل" بقشيش امازيغن " وحدها من أكسبه شهرة عبر الامتداد التاريخي للفن الأمازيغي، بل توطد ذلك ، أيضا، بحسه الفرجوي الامتاعي من خلال ما جادت به قريحته حين كانت الحلقة تحتضن " هزلياته " الأزلية بمختلف الأصقاع برهافة فنان ملتزم، سخر فنه لخدمة الفن، ولخدمة المجتمع أيضا.

ولعل هذه التقاطبات القيمية والفرجوية تحضر، في مقاطعه الفكاهية، بشكل صريح تارة ،وبشكل مضمر تارة أخرى. فكيف حاول " لحسن أزايي أن يجمع بين الفرجوي والقيمي او التلقيني في  المقطع السابق؟

ان المقطع السابق المعنون ب " السعيد والتعيس" يصدح بقيم ثاوية، تتوزع بين أن تهندس قيمة المروءة والشهامة والرزانة التي ينبغي أن يتحلى بها المرء، وهذا ما يمكن أن يكسبه مكانة  محترمة داخل المجتمع، بعيدا عن اللامبالاة والطيش الذي يمكن أن يورث صاحبه الخيبة، ويجعله موضع سخرية من قبل الاخرين.

كما تكشف دوال المقطع أيضا عن تعزيز قيمة الانتماء الى الثقافة الأمازيغية، وصون موروثها وعاداتها، وذلك ما يتبين من خلال الاحتفاء الذي خصه" لحسن أزايي" للفارس السعيد المتمسك بطقوس تبوريدة، والنظرة الاحتقارية التي خص بها " المتمرد عن أعراف الجماعة وعاداتها، ولعل أصالة تبوريدة في الثقافة الأمازيغية تنكشف من خلال الاهتمام الذي حظيت به في مقامات شعرية متنوعة من قبيل ما أبدعه  أحد شعراء الأطلس المتوسط المشهور ب"بوطعام"(3):

Amnay adig amnay nit axrmadi, isori gi day cwr yifas tissa3 

" الفارس يلزمه حذق الفروسية، والا فالانسحاب أجدر به ".

الى جانب  تعزيز القيمة الثقافية السابقة، يراهن المقطع نفسه على قيمة اجتماعية أخرى تتجلى في  الاتقان الحسن لما يكفل  به الانسان من مهام داخل مجتمعه، وأخذ الامور مأخذ الجد، فصلة الانسان بجماعته وانصهاره فيها ينبع من تقدير الأمور الموكولة اليه، والتفاني في تنفيذها.

والملاحظ ان " لحسن أزايي" تجنب التصريح في عرض هذه القيم واكتفى بالتلميح، كما أن عرضه لم يكن مباشرا تقريريا  بل أفرغه في قالب كوميدي ساخر، الأمر الذي جعل مقاطعه تحقق بلاغة الامتاع والاقناع معا.

كما أن حضور الامتاع في هندسته للقيمي ارتبط أساسا بالقيم السالبة التي جعلها مادة جاهزة للفرجة والهزل، أما الاقناع فحاول أن يحققه عبر تثمين القيم الايجابية التي تمت الاشارة اليها.

بهذا يتبين أن " لحسن أزايي" كان فنانا قائم الذات رسخ أصول الكوميديا الأمازيغية وفق قيم اجتماعية وثقافية متنوعة، مستحضرا أيضا أبعادا فنية وجمالية تجسدت عبر توظيف الكوميديا الساخرة، واحداث تقاطعات جمالية بين الكوميديا وباقي الفنون خاصة " تموايت"، بالاضافة الى الاستعانة بالمقومات الحكائية ( السرد والوصف والحوار ..) مع تطويعها بما يخدم طابع الفرجة والهزل.

الهوامــــــــــــــــــــــــــــــــــش

ـ [1]  يقودنا هذا المقام الى استحضار بعض الشخصيات التي كانت محل سخرية وفرجة داخل البنية الثقافية بالاطلس المتوسط مثل: شخصية عمي بودا ـ والشخصية الأسطورية تركو وحديدوان ـ شخصية عابو ... وغيرها من الشخصيات التي ارتبطت بالسخرية والهزل داخل النسق الثقافي الامازيغي بالأطلس المتوسط, ويمكن أن نعود الى مساءلة الذاكرة الشفهية لتقريب معالم ذلك في ورقة أخرى.
ـ 2ـ وظيفة الوصف في الرواية:عبد اللطيف محفوظ.الدار العربية للعلوم.ص.15.بيروت.
ـ 3ـ بوطعام من أبرز شعراء ايت اعزيزة بمنطقة امريرت، عرف بفصاحة شعره وبروعة القائه، الى جانب :مصطفى السهلي وأولمكي.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة