في ثقافتنا السَّائدة، يُنظر تقريباً إلى جميع أنواع "الاضطرابات النفسيّة" الفرديّة نظرةً شاذّة تستدعي العلاج الفوري، وتأتي جميع طُرق العلاج الكلاسيكيّة في الطّب أو الدّعم النفسيّ إمّا بوساطة عقاقير مُهدِّئة ومثبّطات أو في البحث عن آليات إعادة التّكييف والتّنميط والدّمج مع الواقع الاجتماعيّ..
فعلى سبيل المثال لو أُصيبَ أحدهم بمرض "الاكتئاب" اتُّهِمَ بتشويهه للواقع وعدم قدرته على الاندماج فيه، دون مُساءلة هذا "الواقع" نفسه فيما إذا كان مشوّهاً أساساً، وأنّ "المكتئبين" يستطيعون أن يروا الواقع أكثر وضوحاً من الآخرين وهذا هو سبب اكتئابِهم، وهنا يستطيع مفهوم (واقعيّة الاكتئاب) أن يقلب فهمنا للحالة المرضية رأساً على عقب، ويساعدنا في عملية استثمارها. كتب "ديستويفسكي" يوماً: "اللهم لا تحرمني معاناتي"!.في كتابها المعنون (ممسوس بالنَّارwith fire Touched) عالجت "كي جاميسون" علاقة الإبداع الأدبي والموسيقى والفنّ التّشكيليّ باضطراب المزاج ثنائي القطب، من خلال دراسة السّير الموثّقة للمبدعين أدبياً "همنغواي" أو تشكيلياً كما في حالة "فان غوخ". كما أنّ عالمة اللسانيات الأمريكيّة الطّبيبة النفسيّة "نانسي أندرياسين" قاربت الموضوع من زاوية دراسة تركيب وخرطنة الدّماغ تشريحيّاً ووظيفيّاً (Brain Mapping) لمجموعات تُعاني من اضطرابات المزاج مع مجموعات لا تعاني منها، وخلصت إلى أنّ نسبة المبدعين وتمثيل العباقرة في مجال الإبداع العلمي والأدبي والموسيقى والتّشكيلي من مضطّربي المزاج تفوق نسبتهم أولئك الذين يوصفون عادةً بالطّبيعيين. وكان قد عرّف "سُقراط" الجّنون بأنَّه (فنُّ الهَوس Mania) ولا يبتعد "أفلاطون" عن هذا الفهم. وكذلك يعتبر "أرسطو" أوّل من تفطّن للعلاقة بين العبقرية والجنون منذ خمسة وعشرين قرنًا. وفي ذروة عهد الرومانسية في القرن التاسع عشر دافع الطبيب النفساني الإيطالي "تشيزاري لومبروزو" عن وجهة النظر هذه بقوة، حتى إنه انتهى إلى صياغتها في شكل معادلة بسيطة: العبقرية = الجنون.
وفي أحد أهمّ الكتب التي ترصد العلاقة بين "الاضطرابات النّفسيّة" والزّعامة، وهو كتاب (جنون من طراز رفيع) لـ"ناصر قامئي"، والذي يتتبّع من خلاله متوازيات تلك العلاقة عند ثمانية نماذج من الزّعماء وهم (وليام شيرمان، تيد ترنر، ونستون تشرشل، أبراهام لينكون، المهاتما غاندي، مارتن لوثر كينغ الابن، فرانكلين روزفلت، وجون كينيدي) وينتهي محدّداً أربعة عناصر لبعض الأمراض العقليّة كالهوس والاكتئاب تساعد على تطوير القدرة في إدارة الأزمات وهي: الواقعيّة، والمرونة، والتّعاطف، والإبداع. يقول "قامئي": "إنّ الحزن المخيّم يعطيك واقعيّة حقيقيّة، ويجعلك تفهم الوجود كما هو، لا كما صاغَه الشّعراء، أو الحالمون، أو المتأمّلون، أو السذّج من الناس السّطحيين".
إذا ما عدنا إلى الصدمات الثلاث التي هزّت الكبرياء البشريّ كما يقول "فرويد"، حيث يقدّم نفسه بوصفه أحد الضّاربين لهذا الكبرياء باكتشافه "اللاوعيّ" وعدّه المركزيّة المتحكّمة الرئيسة بجميع تصرّفات وقرارات الإنسان، أمكن لنا وعلى ضوء رؤية فرويد مقاربة "الاضطرابات النفسيّة" من زاوية مختلفة، خارج مفردات البيئة الثقافيّة السّائدة التي تتعامل مع تلك "الاضطرابات النفسيّة" كوصمةِ مرض أو لوثةِ جنونٍ شاذّة، إذّ أنه وحتّى الآن لم تجرِ تبيئة معرفيّة حقيقيّة للصّدمة الفرويديّة على غرار الصّدمتين "الكوبرنيكيّة والدّارونيّة"، ولم يجرِ إيلاء اهتمام كافٍ في الجانب "اللاشعوري" الإنسانيّ وتأثير الاضطّرابات النّفسيّة التي تحدث بداخله والكشف عن ماهيّتها الحقيقيّة وغائيّتها على الصعيدين الفرديّ والتّاريخيّ، والتّعامل معها خارج مفردات القواميس الطّبيّة النّفسيّة _ كحالة مرضيّة_، ومحاولة مقاربتها وتأويلها معرفيّاً ووجوديّاً وحتّى علمياً. حيث يعمل تباعد العلوم وتفرّق مجالاتها والذي جاء تحت تأثير النّزعة الوضعيّة على عدم تقديم رؤية متكاملة لها بقدر ما يعمل على تشويه مقاصدها وغاياتها.
وكمثال على بعض هذه المقاربات.. إلى أيّ مدى يمكن لنا مقاربة مفهوم "اللّاوعي" في لغة فرويد، مع مفهوم "الفضاء الاحتمالي" اللّا متعيّن في لغة الفيزياء الكمومية المعاصرة؟ فتكون العلاقة بين الوعيّ واللّاوعيّ مماثلة لحالة الإلكترون في سلوكيه الموجيّ والجّسيميّ، حيث يعمل العقل الواعي كمراقب وأداة قياس للسّلوك فيؤدّي إلى انهيار الدّالة الموجيّة للعقل اللّاواعيّ الذي يعبّر بدوره عن الإرادة الحرّة المطلقة للفعل الإنسانيّ ضمن فضاء احتماليّ لا متناهٍ. وإلى أيّ مدى يمكن أن تفسّر لنا ظاهرة "التّشابك الكميّ" في الفيزياء الكموميّة حالة التدفّقات اللاواعيّة سيما في "الاضطّرابات النفسيّة" ودورها في العمليات الإبداعيّة!. وإلى أي مدى يمكن مقاربة العديد من المذاهب والحالات الصّوفيّة في تراثنا العربيّ والإسلاميّ من خلال تقصّي هذه "الاضطرابات النفسيّة" خارج دلالات الوصم المرضيّ في الطبّ النّفسيّ وحقل دلالاته!..
وختاماً، لا شكّ بأن هذه ليست دعوة للاحتفاء بالجّنون و"الاضطرابات النّفسيّة" والذهاب بها إلى أقصى تداعياتها "اللّاعقليّة" على غرار ما يحبّ أن يفعل مفكرو "ما بعد الحداثة" سيما "ميشيل فوكو" ومركزيّة الجّنون في تحليلاته وحفريّاته الأركيولوجيّة، بقدر ما هي دعوة لمقاربة مختلفة لتاريخيّة وواقعيّة وماهيّة وغائيّة هذه "الاضّطرابات النّفسيّة" ومحاولة لإعادة تبيئتها في بيئتنا الثّقافيّة، والنّظر إليها من زاوية مختلفة تتيح تخليق وابتكار آليات جديدة للتعامل معها على صعيد الصّحة النفسيّة والوعيّ بها، والخروج من تابوهات الوصم المرضيّ والتحرّر منها.
ونهايةً نؤكد على تحفّظ "ناصر قامئي" حيث يقول: "أنا لا أدّعي أن الاكتئاب يؤدي حتماً إلى الواقعيّة، ولا أن الاضطراب ثنائيّ القطب يطوّر القدرة على الإبداع دائماً، ولا أنّ الاكتئاب في كلّ مناسبة يزيد التّعاطف، ولا فرط المزاج حتماً يدعم المرونة. وإنما أعتقد بدلاً من ذلك بصفة عامة أنّ الأمراض العقليّة تعزّز أو تحفّز في كثير من الأحيان تلك السّمات أكثر ممّا هو عليه في غيابها".