لم يكُن لمحنةِ ابن رشد الأندلسي عنوانٌ واحدٌ، فهُو الفقيه والطبيب والفيلسوف والوزير الذي اجتمع الفقهاءُ في مسجد قرطبة ذات يومٍ لتكفيرهِ والنيلِ منهُ، تعددت أسبابُ الفتوى لكن القصد واحدٌ، هو منعُ شخصيةٍ متنورةٍ من التفكير ومحاكمةُ الرأي والاجتهاد، لقد كان ابن رشد ضحيةً لمواقفه السياسية في عهد دولة الموحدين واجتهاداته الفقهية التي لم تكن تروقُ لفريقٍ من فُقهَاءِ الجمُودِ والتقليدِ، ولم تكن صُكُوكُ الاتهام بعيدةٌ عن رقابةِ هؤلاء، أغلبها موجودٌ في كتبه كرأيٍ واجتهادٍ من أجل مُقارعةِ الفكرةِ بالفكرةِ وردُهَا أو قبولها، لكن عقليةَ الجُمُودِ والاستبداد تُفضِلُ محاسبة الضمير والتفكير وممارسة الوصايةِ، وتوزيع تهم التكْفِيرِ وما يتبعها من أشكال العنف والترهيب، ومن بين الآراءِ التي شكلت عنوانا لمحنة ابن رشد موقفهُ من الجنة والنار، وما سمي بمشكلة الحشر والمعاد الأخروي.

تلوح علاقة متينة بين العمل الإبداعي للشّاعر الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321م) في "الكوميديا الإلهية" والتراث الإسلامي لا تخفى عن عين الدارس الموضوعي، ولا سيما في التشرّب لفلسفة التصوّر الإسلامي من حيث بناء الكوسمولوجيا الدانتية. فلا شكّ أنّ ثمّة هاجسًا في الفلسفة الغربية بمحاولة "التّناسي" للبُعد الإسلامي من الجذور التكوينية للفكر الغربي الحديث، كما يسمّيه المفكر الإيطالي المعاصر ماسيمو كامبانيني. وهو نكرانٌ لطالما مُورس وحاولت العديد من الأطراف الدينية والسياسية ترسيخه، منذ انطلاق الحملات الصليبية وتأثيرها القوي في انبناء جدار نفسي بين الحضارتين. عمل العديد من الكتّاب على تعميق هوّة الفصل بين كلّ ما يمتّ للحضارة العربية الإسلامية بما له صلة بالحضارة الغربية. ويبرز التمايز جليّا بين الشرق والغرب مع ذلك الموقف الجائر لِفرانشيسكو بيتراركا في قولته الشهيرة: "أمقت ذلك النّسب إلى العرب" في "الرسالة الثانية إلى دوندي" التي ظهرت خلال القرن السادس عشر في كِتاب الرسائل "سينيلي"، وهو محاولةٌ للتملّص من الروابط التاريخية بين الحضارتين، أكان ذلك مع التجربة الأندلسية أو مع التجربة الصقلّية.

تمهيد

في خضم التداعيات الكارثية للأزمات الاقتصادية المتتالية على مدى عقود من الزمن، و التي بلغت ذروتها مع الأزمة المالية العالمية الأخيرة، و ما أعقب ذلك من تصاعد النداءات للبحث عن بدائل للنظام الرأسمالي، الذي صار ينعت بنظام الأزمات المالية و الكوارث الاقتصادية و الاجتماعية ، و تخليق الاقتصاد و أنسنته، و عقلنة النظام المالي و ترشيده، و الدفع في اتجاه الاستثمار بدافع من المسؤولية الأخلاقية و الاجتماعية. برز النظام المالي الإسلامي المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية و مقاصدها، و فرض نفسه على الساحة الدولية، إثر النجاح الملفت للمؤسسات المالية الإسلامية، في تخطي الأزمة المالية العالمية المذكورة ومواجهة تداعياتها. لتتنامى الدعوات لإدماجه في النظام المالي للسوق العالمية، و اعتماده بديلا مناسبا

ما فتئ البحث عن المخطوطات العربية في إيطاليا، سعيًا لفهْرَستِها ودراستِها، في مستهلّ انطلاقته، رغم الجهود المبذولة منذ ما يزيد عن نصف قرن. ويعود ذلك إلى عوامل رئيسة منها: أنّ رحلةَ المخطوط العربي طويلة الأمد، من القرن العاشر للميلاد إلى القرن العشرين، وهي رحلة فريدة ليس لها نظير في الحضارات القديمة؛ فضلا عن قلّة المشتغِلين في المجال، سواء من العرب أو الإيطاليين؛ وكذلك إلى عامل تشتّت المخطوطات العربية وتوزّعها على مواضع كثيرة، بين مكتبات، ومؤسّسات جامعية، وأمْلاك أُسَر عريقة بحوزتها ثروات فنيّة وعلمية تعود للتراث العربي الإسلامي.

إذا كان معجمُ لالاند andre lalade يعرفُ التسامح la tolérance بأنهُ: "إستعداد عقلي. أو قاعدة مسلكية قوامها ترك حرية التعبير عن الرأي لكل فرد. حتى وإن كُنا لا نشاطره رأيهُ". فإنَ التعصُب هُو عدمُ الإستعداد لقبُول حُرية التعبير عن الرأي لكُل فرد نختلفُ معهُ.
ومن أنواع التعصُب- إن كان للتعصب أنواعٌ – ما نسميه بالتعصب الديني. الذي تتميزُ به الكثيرُ من الجماعات الدينيةُ في مختلف الديانات. ومن بينها الجماعات الدينية في مجتمعاتنا الإسلامية. وقبل الحديث عن بعض خصائص التعصب الديني عند الجماعات الإسلامية. يجبُ أن نُميز بين مفهومين: هما الدينُ والتدينُ. فالإسلامُ دينٌ يُعبرُ عن فكرةٍ مُطلقةٍ تقوم على نصٍ مؤسِسٍ أول هُو القرانُ الكريمُ كأصلٍ إلهي تابتٍ. أما التدينُ فهو تجربةٌ إنسانية مُتغيرة تتنوع بحسب الزمان والمكان. الدينُ فكرة أصْليةٌ والتديُنُ هو طريقة تمثُل المُتدين وفهمهُ لهذا الأصل الثابت. وهذا ما يُميزُ الإسلامَ كدينٍ والمُسلمينَ الذين تَنوعَت تجاربهُم الدينيةُ في فهم هذا الأصل الثابت.

نحن نعيش اليوم فترة حجر صحي لا نعلم مداها، حدّت من حرّيتنا الشخصية وقيّدت حرّيتنا في التنقّل حتّى داخل الوطن الواحد، لا بل أحيانا حتى داخل المدينة الواحدة، بما حرّك لدى الكثيرين نوازع السخط والنقمة وحتّى التمرّد على السلطة، رغم انّه لا خيار لها غير هذا الحجر، لانّه الخيار العلمي الأوحد الذي اثبت نجاعته، رغم كلفته الاقتصادية الباهضة.
غير بعيد عن هذا السياق، رجعت بي الذاكرة إلى شواهد التاريخ الإسلامي الكثيرة، وما يؤثر من قول في علاقة بالوباء والموت والحجر بمجالاته المختلفة، فاستذكرت فيما استذكرت قول الله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]. وقوله جلّ وعلا: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، كما الحديث النبوي الشريف في الغرض الذي سنتبيّنه من خلال قصّة عمر بن الخطّاب، لمّا توجه إلى الشام لحرب الروم. وتفيد القصة بايجاز شديد، أنّه لمّا وصل إلى أطراف الشام، وكان جيشه بقيادة أبي عبيدة بن الجراح قد سبقه إليها، بلغه أن الطاعون قد وقع في الشام فتوقف واستشار الناس في ذلك، هل يعود أم لا؟

إذا كان من فضل للكندي 185ه/256ه على الثقافة العربية والإسلامية فهو أنه أول من إشتغل بالفلسفة وعلومها، أسبقية جعلته يلقب بفيلسوف العرب، لأن جميع من إشتغلوا بالعلم كانوا من العجم حسب ابن خلدون 732ه/808ه، هذا الإستثناء العربي سيكون له أثر كبير على تشكل الحضارت الإسلامية، لكن كيف إشتغل الكندي على الفلسفة؟ وهل وجد الطريق سالكة لهذا الإشتغال؟ ألم يكن العرب والمسلمون في بداياتهم ينفرون من العلوم والنظر العقلي؟ ألم تكن أولى المشكلات التي واجهت المسلمين هي إشكالية العقل والنقل؟

على مدى العقود الأربعة الأخيرة طغى على دراسات الإسلام في الغرب طابع اجتماعيّ سياسيّ، كانت بُغية الطلب فيه تفسير التحولات التي تشهدها المجتمعات العربية والإسلامية واستشراف مصائرها. وقد صاغت دراسات الإسلام تفسيراتها للظاهرة الإسلامية وتطوراتها من خلال إرث المدرسة الاستشراقية الذي هيمنت عليه رؤية فقهية تشريعية كلامية مشفوعة ببحث مرفولوجي في منشأ الإسلام وما تخللته من أطروحات متنوعة. والملاحظ في مسار محاولات استيعاب أصول الإسلام المبكرة والتأسيسية داخل الاستشراق، بقاء الحقل الروحي أقلّ الحقول متابعةً، بموجب غلبة الرؤية المؤسساتية الصارمة على النظر للإسلام وطغيان المنظور التشريعي المنهجي في قراءة الظاهرة الإسلامية عموما.حتى إن مجالا مهمّا من مجالات التراث الإسلامي، ونقصد التصوف، لم يشهد اهتماما مركّزا سوى في مرحلة لاحقة، ولم يوله الاستشراق المبكّر واللاحق سوى عناية متناثرة وعابرة.