كتاب من تأليف الفيلسوف المصري الراحل فؤاد زكريا، صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في العام 1987، قبل أن تعيد مؤسسة هنداوي نشر هذا العمل في طبعة عصرية مؤخرا. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية، تدور في مجملها حول رصد مَواطن القصور التي تعتور تعاطي نماذج من الفكر الإسلامي المعاصر مع قضايا مصيرية يتوقف عليها مصير الأمة، وذلك في سياق الصعود الكاسح لما سمي وقتئذ ب "الصحوة الإسلامية"، التي اكتسحت المشهد الفكري والمجال التداولي في أعقاب انحسار تأثير التيارات الأيديولوجية المنافسة (قومية، اشتراكية، ليبرالية).

أولا: في نقد مضمون الصحوة الإسلامية

إن تعبير "الصحوة" - الذي يُستخدم عادة لوصف حركات الإسلام السياسي وتيارات سلفية متعددة - لا يخلو من لبس وتضليل، فالصحوة على مستوى الكم واتساع قاعدة المنتمين إلى تلك التنظيمات لا تعني البتة صحوة على مستوى المضمون الفكري المتعلق بها، لأنه أقل عمقا وجرأة من السلفية الإصلاحية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إبان عصر اليقظة العربية.

وتأسيسا على ذلك، يضيء المؤلف على مظاهر ذلك العجز الفكري، وفي جملتها الإمعان في التركيز على الجوانب الشكلية من العقيدة (اللباس، الشعائر التعبدية...الخ)، والذي يقابله عدم امتلاك رؤية واضحة وعملية فيما يخص القضايا المصيرية التي تتوقف عليها نهضة المجتمعات (التنمية الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، العلاقات الدولية... الخ).

ثانيا: لماذا لا نمتلك رؤية واضحة للمستقبل؟

إن التفكير المستقبلي المبني على أسس علمية، والمرتكز على التخطيط والرؤية المتبصرة واستباق المشكلات قبل وقوعها، لم يجد طريقه بعد إلينا سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات ما خلا حالات محدودة، الشيء الذي يفضي إلى استفحال المشاكل البنيوية واستعصاء حلها (مديونية الدول، الانفجار السكاني، عدم تنويع الاقتصاد بالنسبة للدول الغنية بالموارد النفطية المعرضة للنضوب... إلخ).

وعليه، ينبه فؤاد زكريا إلى أهم الأسباب الكامنة وراء تلك الظاهرة المقلقة، ولعل من أبرزها الاعتقاد بأن المستقبل ليس من صنع البشر وإنما هو في علم الغيب ويدخل في نطاق المشيئة الربانية، وهو التصور الذي يُسقط من حساباته دعوة الدين إلى إعمال العقل والأخذ بالأسباب. ولما كان عصر النبوة والخلافة الراشدة هو المرجع الأساسي والأمثل للتقدم في إطار الرؤية الإسلامية السائدة، فلا يمكن أن يكون المستقبل المنشود إلا إحياء لذلك التاريخ بهذه الدرجة أو تلك، الأمر الذي يفسر سيادة النظرة التشاؤمية للتاريخ بدل النظرة التطورية والتصاعدية.

   أن تدرج السنة النبوية كنص مقدس، يضاهي في حجيته النص القرآني، وأن يمنحها فقهاء الإسلام الشرعية التشريعية، على الرغم من كل المؤاخدات الموضوعية التي ووجهت بها، إن قديما أو حديثا، فإن ذاك ما يتطلب تسليط الضوء على مناطق العتمة العديدة التي تعتري تراثنا الديني.

  يجمع فقهاء الإسلام أنفسهم، على أن السنة النبوية ليست إلا ظنية الثبوت، كما وأنها ليست كلها قطعية الدلالة.  يقول النووي: " وذكر الشيخ ( أبو عمرو بن الصلاح ) أن ما روياه أو أحدهما (البخاري ومسلم) فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر."(1) . وحيث إن الاختلاف هو السمة المميزة في كل القضايا التي خاض فيها رجال الدين المسلمون، فإننا نجدهم هنا وقد اختلفوا كذلك فيما إن كانت المرويات الحديثية قطعية الثبوت أم ظنية. إلا أن النووي يؤكد  في هذا النص، على حقيقة أن أكثرية " أهل العلم" ، تذهب إلى كونها ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة. وهذا ما أكده الفقيه الأزهري محمد شلتوت حين قال " وإذا كانت العقيدة لا تثبت إلا بنص قطعي في وروده ودلالته، كان لا بد من تبيين المبادئ التي تقوم عليها قطعية السنة أو ظنيتها. وأول ما يجب التنبه إليه في هذا المقام، أن الظنية تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة... ومتى لحقت الحديث على أي نحو ...فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعيا في وروده وفي دلالته " (2)  

  وإذا ما نحن علمنا؛ أن نسبة الأحاديث المتواترة لا تكاد ترى بالمقارنة مع أحاديث الآحاد، إذ لا تتجاوز في أحسن الأحوال خمسون حديثا من أصل آلاف الأحاديث المتضمنة بالمروية السنية المعتمدة؛ (مسند أحمد وحده يضم بين دفتيه ما يقارب 38 ألف حديث) خلصنا؛ إلى حقيقة أن المدونة الحديثية السنية ظنية الثبوت، ولا يصح بالتالي الأخد بها، وهذا بمعايير أهل السنة أنفسهم، وتطبيقا لقاعدتهم الفقهية القائلة بــ: "ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال". وهذا ما يحيلنا على حجم معضلة التشريع في الإسلام.

  ولعل أسئلة مشروعة تطرح نفسها هاهنا؛ إذ كيف يعقل أن نجعل من السنة النبوية "وحيا إلهيا ثانيا" كما أصل لذلك فقهاء الإسلام، وهي ظنية الثبوت؟ وكيف يمكن اعتبارها "وحيا إلهيا ثانيا" وهي تخالف الوحي الأول (القرآن) في العديد من مواضعها؟ وكيف يمكن منح الشرعية التشريعية لأصل من دون أن يكون قطعي الثبوت؟

   لقد ووجهت المدونة الحديثية السنية بالكثير من الانتقادلات إن قديما أو حديثا، تخص بالأساس ما تضمنه مثنها من غرائب وأساطير وأحكام، تخالف في العديد منها القرآن نفسه، وتخالف العقل والعلم والفطرة الإنسانية السليمة، وتشرعن للظلم، والقهر، والميز العنصري، والعنف، والكراهية... فكيف يمكن القبول مثلا؛ بمنظومة فقهية تشرعن قتل المرتد، بناء على حديث تشوبه عيوب كثيرة على مستوى السند كما المثن (من بدل دينه فاقتلوه)، في الوقت الذي يؤكد فيه نص قرآني صريح الدلالة،  على حرية العقيدة (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)؟ سورة يونس الآية 99.

لعل متقدمي الأصوليين لم يفردوا  قاعدة "لا اجتهاد مع نص" مبحثا أو بابا خاصا، وإنما اعتبروها داخلة في أبواب الاجتهاد ومتفرعة في بعض قواعده العامة، ولذلك يصعب على الباحث أن يصنف القاعدة هل تدخل في الحقل المعرفي الأصولي، أم في الحقل المعرفي الفقهي، مادام أن كلا من الأصوليين والفقهاء لم يهتموا بها حق الاهتمام، ولذلك لم يتم التكشيف عن مضمرات هذه القاعدة المهمة رغم ذكرها في المصنفات الأصولية خصوصا في باب التعارض والترجيح.

وعلى العموم فإن أكثر من تكلم عن هذه القاعدة قال بعدم تجاوز النص والاجتهاد مع وجوده، بل إن الاجتهاد يتطلب عدم وجود نص في المسألة، لكن السؤال المطروح هنا هو مالذي يقصده الأصوليون  بإطلاقهم لفظة النص؟

وهل كل نص يسمى في عرف الأصوليين نصا يمنع معه الاجتهاد؟ ثم ماهو الاجتهاد المقصود عند الأصوليين؟ وماهي مضمرات القاعدة؟

وهنا سوف أسوق بعض تعريفات الأصوليين للنص ليتبين لنا مقصودهم من إطلاق هذا اللفظ:

يعرف صاحب المنخول النص بأنه " اللفظ المفيد الذي لا يتطرق إليه احتمال، وقيل هو اللفظ الذي يستوي ظاهره وباطنه ولا يرد عليه الفحوى المفهوم على القطع"[1]

ويعرفه أيضا في موضع آخر بأنه " هو الذي لا يحتمل التأويل"[2]

ونجد القرافي يفصل في التعريف شيئا ما فيقول:" النص فيه ثلاث اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا كأسماء العدد، وقيل مادل على معنى قطعا وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعا وتحتمل الاستغراق، وقيل: مادل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء"[3]

ومن المتأخرين عرفه الأستاذ علي حسب الله بقوله: " هو اللفظ باعتبار دلالته على المعنى المقصود بالسوق أصالة، دلالة تحتمل التفسير والتأويل مع قبوله للنسخ في عهد الرسالة"[4]

مقدمة..

أنْ توظّف المصطلح التراثي القديم في الكتابات الحديثة، يُقلل من قيمتها وقوتها؟ أم أنَّ التّخلّي عن المصطلح القديم وهجرانه والتنكر له بدعوى أنه لا يؤدي أو لا يُوصِلُ إلى المراد والمبتغى من النص، يعطي النص قيمة أكبر وإبداعا؟ وهل أمام التغييرات الطّارئة والوافدة من الغرب، وتسارع النظريات النقدية، وفي إطار ما يُسمّى بالمثاقفة، أصبح من الضروري على الكاتب الانخراط في هذه الموجة بدعوى مسايرة ما جدَّ في عالم الكتابة والنقد لإثبات قدراته على المواكبة والتطور؟

بين الإحياء والاحتفاء..

بما أن الكتابة دعوة إلى اكتشاف الاستثنائي والمنسي في اللغة، ـ إذ، لا يكتب الكاتب إلاّ إذا كان لديه دافع قوي لموضوع جديد، لغة وتيمة ـ  والجميل والمدهش في السرد والحكي، وبما أن اللغة تُميّزُ نصّا عن نص، وتُعلي نصا وتخفض نصّا، بترويض مصطلحاتها واستخراج مكنوناتها الدلالية، وبما أن اللغة هي المُشَكّل الأساس لكل سرد، بل هي السرد ذاته، وبما أن اللغة كائنٌ حي، وانسجامٌ وتناغمٌ ونظامٌ، ونسجٌ يحتاج لقلم درب يشد القارئ دون أن يُشعره بتجوال النص وصراعه بين الحديث من المصطلحات وقديمها، بالحفاظ على المستوى الفني للنص، والخيط الجامع والنّاظم للسرد ليكون لبنة قوية ومتماسكة، وبناء معماريا مترابطا ومتراصّا بعضه ببعض، فإنّ حركية المصطلحات القديمة تحيى زمانها، ويتلاشى بريقها حين يقل استعمالها، وتتطور بتطور الحركات الحضارية أو الفكرية أو العلمية، وكل تحول في المسيرة الإنسانية عموما من تقدم فكري أو علمي يؤثر بالضرورة على المصطلح القديم، لكنه لا يموت، قد يركن إلى الظل، لكنه أبدا يظل في انتظار من يبعث فيه الحياة، ويسمح للمصطلح الجديد أن يحيى زمانه هو الآخر، مؤثّرا ومتأثرا بما يموج من حوله من تفاعلات نقدية وإبداعية وعلمية، مانحا لنفسه مكانة قوية راسخة تتجدد بتجدد اللغة.

إن توظيف المصطلح القديم في الكتابات الحديثة، لا بد أنه عمل شاق يحتاج إلى كاتب يفني أكثر وقته ـ حين كتابة نص ما ـ جُهدا وتمحيصا ومسْحا شاملا مضنيّا وذكيا للمعاجم العربية، لتدقيق المصطلح والمفهوم الدّال على المعنى المراد طرحه، كما يقتضي إلْماما كافيا وتفكيرا بلُغةٍ تمَّ نسيانها وإهمالها، والثقة فيها بأنها ما زالت قادرة على إيجاد صِيغٍ للتعبير وإيصال المعاني، مع استثمار ما تمنحه اللغة من أساليب الكتابة لإنتاج نص جميل بأثر قرائي جميل، وتأثير متميز يجعل القارئ يعود إلى منابع اللغة، والبحث في المعاجم، الشيء الذي افتقدناه حين قراءة أي نص أدبي غني بالمصطلحات.

إن أول ما ينبهنا عليه الكتاب، هو أنه يصعب علينا القول بالفصل بين علمي "الأصول"    و" الكلام"، " مادام أن هناك تداخلا وتواصلا بين العقدي والعملي في التجربة الإسلامية الأولى"[1] خصوصا وأن المصنفين في علم الأصول كان أغلبهم ذا مرجعية كلامية، إذ أن الجانب العقدي يمثل ذلك التوجيه النظري أو الإيديولوجي للممارسات العملية داخل المجتمع، وخصوصا الممارسة السياسية نظرا لأهميتها في تحقيق استقرار المجتمع والسهر على تنظيمه.

لقد كان الهدف من إثارة هذا الموضوع هو الوقوف على تلك العلاقة الجامعة بين العالم والسلطان، والتي كما يصفها الأستاذ الوضيفي " علاقة مهادنة ومنافسة تارة، وموالاة وصراع تارة أخرى"[2]، وما كان ذلك كله إلا لأجل الاستئثار بالنص الشرعي من طرف السلطان وتأويله حسب ما تقتضيه  مصلحته الخاصة ، ومن جهته  يسعى الفقيه أيضا لحفظ هذا النص من التلاعب به على يد السياسيين ولي عنقه. وهذا مادفع الشافعي لوضع قانون يضبط به بعض المصطلحات الأصولية التي أصبحت مشحونة بشحنات سياسية كمصطلح البيان الذي عرفه بأنه "اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع"[3]

وما كان ذلك منه إلا لأجل إعادة النظر من جديد في تلك المصطلحات والمفاهيم، في سعي منه لجعل تلك المصطلحات ذات معاني شرعية محضة لا تكاد تفهم إلا من طرف العالم المتخصص الذي يدرك أسرارها وحقيقتها الشرعية، وذلك حتى لا يتسنى لأحد أن يتجرأ على تفسير النص الشرعي أو تأويله حسب الهوى، " وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول اللهﷺ أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا وفي العدل وفي جزاء الصيد،  ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق"[4]ماخلق صراعا بين العالم أو الفقيه ورجل السياسة أو السلطان.

كتاب من تأليف الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، وهو بمثابة استكمال للجزء الأول من الدراسة التي أعدها الباحث والموسومة ب "النبوة والسياسة"، صدرت الطبعة الثانية المنقحة من الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2012، إذ يقع في قسمين رئيسيين وعشرة فصول، بحيث يتناول أبعاد وخلفيات الصراع المسلح على السلطة الذي نال من وحدة المسلمين خلال عهد الخلافة الراشدة، وتحديدا أثناء حكم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وسنضيء فيما يلي على أبرز محطات ذلك الصراع الدامي، فضلا عن الخلاصات التي يسعنا استنباطها حول المسببات الفعلية لتلك الأحداث. 

أولا: حروب الردة: تمرد سياسي من قبائل الأطراف على دولة المدينة

عرفت فترة حكم الخليفة أبي بكر الصديق وقائع صادمة اصطلح على تسميتها ب "حروب الردة" بعد وفاة الرسول (ص)، والتي هددت مصير الجماعة الإسلامية في وقت مبكر من اجتماعها السياسي بحيث طال التمرد أجزاء واسعة من الجزيرة العربية حينئذ (اليمن، البحرين، عمان... إلخ)، ويمكن إيجاز أهم أسبابها وخلفياتها كما يلي: 

* لقد كان إسلام القبائل المرتدة في معظمه بعد فتح مكة إسلاما صوريا أو مصلحيا أملاه الخشية من فشو وتوطد سلطان دولة المدينة بعد إسلام قريش، وليس إسلاما عن قناعة وتصديق، بل حتى إسلام قريش كان – عند الكاتب - إسلاما سياسيا بمعياري توقي الضرر واستجلاب المصلحة.

* آذن حدث وفاة النبي عند القبائل المتمردة بانهيار دولة المدينة وانفراط عقدها، وهو التقدير السياسي الذي أثبتت وقائع الصدام المروعة بأنه بُني على حسابات خاطئة، إذ تصدى أبو بكر الصديق بكل حزم وغلظة لتمرد القبائل، مما أفضى إلى سحقه ومن ثم الحفاظ على وحدة الجماعة الإسلامية في حدودها الدنيا.

قدم صاحب البرنامج المذكور أعلاه والمذاع عبر اليوتوب الدكتور حسن نجمي كضيف متميز، فريد من حيث بروفايله، باعتباره يجمع بين الحسنيين: بين النخبة ورقيها ونخبة النخبة وبين نخبة الأرض وشعبيتها ورائحتها ووجعها، بالإضافة إلى أنشطة أخرى ومسارات متقاربة ومتقاطعة. كل هذا اجتمع في شخصية مغربية ووطنية التي هي الأستاذ والشاعر والأديب وابن الشعب حسن نجمي.
بعد هذا التقديم، شكر حسن مضيفه على هذه الاستضافة الكريمة. فما كان من صاحب البرنامج إلا أن جدد ترحيبه بضيفه، مذكرا إياه بأنه قال في إحدى المرات: "اسق نبتة النعناع قليلا كي يخضر طعم الشاي".
وافق الضيف الكريم على ما قيل وأشار إلى أنه قاله في قصيدة "النافذة" ولا يزال يذكر ذلك.
من أجل مواصلة الحوار، طلب بنشيكر من ضيفه الحديث عن علاقته بالشاي. فقال إنه كان منذ الطفولة يعتبر الشاي مشروبا أثيرا جدا، وعشنا المستوى الاجتماعي الذي فيه "كب وكسر حتى يوفى العمر". كان الشاي مركزيا في حياتنا كأسرة وعائلة بالنسبة إلي شخصيا. كان الشاي هو زيت الأعراس، هو سبب اللمة والجمع بين العائلات والناس والأصدقاء، خصوصا في الفضاءات القروية.
واصل حسن نجمي جوابه بالقول إن الشاي لا غنى عنه. فمنذ أن جاءت هذه النبتة الطيبة الكريمة الجميلة إلى المغرب في بدايات القرن الثامن عشر، وبالضبط في نهاية حكم السلطان مولاي إسماعيل، أثير حولها نقاش بين الفقهاء الذين حاولوا منع شرب الشاي واعتبروه عن خطإ حراما، تماما كما وقع مع القهوة والتبغ عند دخولهما إلى بلادنا.
لكن، اليوم أصبح الشاي مرتبطا بالوجدان والمتخيل وحياتنا اليومية. نعتز فعلا بكون الشاي مشروبا مرتبطا بالهوية المغربية، مع أنه نبتة آتية من بعيد، من أقصى جنوب شرق آسيا، من الصين بالخصوص والبلدان المجاورة، لكنها أصبحت تقريبا نبتة مغربية من حيث الشراب والأحاديث، وأصبح الشاي حاضرا في المتخيل والكتابة والملحون والعيطة وعدد من الأشعار الشفوية.

لقد غلب على ظن كثير من الباحثين المعاصرين أن أصول الفقه علم تجريدي لا علاقة له بواقع الناس، محتجين على ذلك بأن ما يدرسونه ومايتدارسونه داخل المدارس ومدرجات الجامعات لايجدونه مطابقا للواقع ما يدفعهم للقول بمثل هذه التفسيرات  المغلوطة. هذا يطرحنا على سؤال لماذا أصول الفقه؟ وما الغاية منه؟

إن هذا السؤال يجعلنا نرجع للبحث في تاريخ نشأة هذا العلم، كيف نشأ الفكر الأصولي وكيف تطور، إلا أان هذا يستدعي أن يخصص له بحث مستقل ومفصل.

إذا كنا ندرك جميعا حقيقة أصول الفقه ونعتبره  كمنهج في البحث والبناء، أي البحث في الأدلة وبناء الأحكام، فإننا سنجزم بأن هذا أمر متعلق بمنهج تنظيمي، ولايمكن أن يكون التنظيم تجريديا، هذا من جهة. ثم من جهة أخرى إذا ما أردنا أن نقرأ الفكر الأصولي كي نفهم حقيقته، فلابد أن نقرأه قراءة موضوعية وواقعية، وليس قراءة تجريدية متعالية. ولعلي أقصد هنا بالواقعية، قراءة الفكر انطلاقا من واقعه، إذ أن هذا الأخير هو الذي يكشف لنا عن الصورة الحقيقية للعلم أو الفكر.

نحن لا ننكر أن هناك بعض القراءات التجريدية لهذا العلم جردته من علميته وواقعيته، لكن هذا ليس دافعا للقول بانتهائه والحكم بموته.

يجب أن نعلم جميعا أن أصول الفقه قبل أن يكون علما، فهو منهج تفكيري يبحث في أدلة الأحكام بدقة عالية، ولذلك أطلق عليه ((منطق المسلمين))، ذلك لأنه يشبه المنطق الأرسطي في وضع قوانين توجه العقل الفقهي في عملية التفكير وبناء الأحكام، وتحفظه من الوقوع في الأخطاء في تفسير النصوص الشرعية، فالأصول "هو قانون عاصم لذهن الفقيه من الخطأ في الاستدلال على الأحكام، كما أن المنطق عاصم لذهن الفيلسوف من الخطأ في التفكير"[1]