يعرض المجتمع العديد من النوازل والقضايا التي تحتاج جوابا في كل وقت وحين، مما يجعل الأمر قد يلتبس على بعض العامة الذين يظنون أن الأحكام الشرعية كلها أحكام ثابتة لا تتغير، وهذا مما يخلق لهم تضاربا في الأفكار، بل وربما يوهم بعضهم بأن العلماء يتلاعبون بالدين، أو لا يستطيعون إصدار فتاوى لكل مايعرض لهم.

دعونا أولا نقف عند مفهوم الواقع وأثره على بناء الحكم الفقهي أو بالأحرى أثره فالاجتهاد وصناعة الفتوى، هذا الذي يجعلنا نتساءل، هل من حق الفقيه أن يجتهد ويصدر الفتوى خارج الواقع كما يظن البعض، أم أنه لابد أن يجعل نفسه جزءا من هذا الواقع الذي هو بصدد دراسة عينية لقضاياه وإشكالاته؟

إن الواقع هو تلك الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أبدا، بل يجب الاعتراف بها وتكييف الأحكام حسب ماتعرضه هذه الحقيقة من ظواهر اجتماعية مختلفة، وعليه فإنه من الوهلة الأولى يتبين لنا أنه لايمكن للفقيه أن يجتهد خارج حيزه الزماني والمكاني والحالي، وإلا فإن اجتهاده سيؤول به إلى ماهو مخالف لواقع الناس، وبالتالي مخالف لمقصد الشارع.

في الإصحاح الرابع من إنجيـل يوحنـا نجد حواراً مشهوراً بين السيد المسيح وامرأة سامرية، ويستمرّ هذا الحوار لـ 42 آيةً تحكي عن أنّ يسـوع، وهو يجتاز السامرة، أتـى على مدينةٍ تُدعـى "سُـوخـار" بقرب الضيعة التي وهبها النبيّ يعقـوب لابنـه يـوسف، فجلس ليستريح من تعب السّفر بجانب بئرٍ هي بئـرُ يعقـوب. وسرعان ما جاءت امرأة سامريةٌ لتستقي ماءً فالتقت بيسوع، الذّي كان مجهولاً بالنسبة لها، ودار بينهما حديثٌ، ليس بالطّويل ولا بالقصير، انتهى إلى معرفة السامرية بالسيد المسيح وأنّه هو المُخلّص فآمنت به وآمن كثيرون من مدينتها بسببها. 

لكن هذا الحديث ليس كأيّ حديثٍ ـــــــ ربما ينطبق هذا على كلّ أحاديث السيد المسيح ـــــــ بل هو ’’ مليءٌ بالأسرار، إنّه طعامٌ للجائع وراحةُ للنّفس المًتعبة‘‘ على حدّ قول القديس أوغسطين الذّي كتب كُتيّباً عن هذا الحديث عنونه بـ "حديث الربّ مع السامرية"[1] حيث قام بتأويلٍ روحيٍّ لهذا الحديث مكتشفاً فيه الأسرار المُحتجبة عن العقول التي لا تفهم سوى لغة الحرف.

استقر إل النّور (أبويعزى) بجبل إيروكان، بعدما اختار خلوته وسط الغابة، فابتنى لنفسه بيتا وبستانا وبجوارهما المسجد والجامع، ثم بيوت المريدين الذين حفروا الآبار وشرعوا في استصلاح قطع أرضية هنا وهناك لزراعتها إعلانا ببداية جديدة للحياة هناك. لم يتأخر فتزوج من ميمونة، أولا، وهي يتيمة الأبوين تعيش مع أختها لدى خالتها، ترعيان قطيع الماعز.
أصبحت الشهور الثلاثة لفصل الربيع، من كل سنة، موعدا مفتوحا لقدوم المتصوفة والفقهاء والعلماء من سلا وفاس وسبتة وأزمور، كما باتت نهاية مارس محطة ركب الوافدين من الفقراء والبسطاء من تامسنا ودكالة وركراكة وأغمات ومراكش... جميعهم يجلسون أياما وأسابيع في ضيافة الشيخ الذي أطلق على أول أبنائه اسم يعزى، فصار أبا يعزى عند علماء وصلحاء سبتة والأندلس ثم فاس، والذين شاع بينهم في تقليد اجتماعي وثقافي جديد، أن يتم نعث الشخص بكنية جديدة تُنسبه إلى ابنه البكر، بينما بقي المغاربة من الفئات العامة ينادونه بسيدي الشيخ قبل أن يصبح " مولاي بوعزة" ، وهو ما بقي شائعا حتى الآن.

سيرة الشيخ
وسط هذا العالم المتحول والمتصارع، أصبح المتصوفة، إلى جانب رجالات الفكر والأدب، نخبة لها مكانتها وأخبارها و"أساطيرها" ومصنفاتها، سيبرز اسم شخص يخرق القاعدة الذهبية لصورة الصوفي الممتلئ ثقافة ومقدرة على تربية تلامذته ومريديه، رجل من هامش المجتمع هو أل يلنور أبو يعزى(1047م-1177م) المسمى لدى عامة المغاربة مولاي بوعزّة، عاش نصف حياته، والتي امتدت إلى قرن وثلاثة عقود، سائحا مجهولا بأسماء مختلفة، قبل أن يستقر في نصفها الثاني، معلوما باسم أبي يعزى وقد تزوج وأصبح أبا وشيخا تحج إلى الخاصة والعامة من جغرافيات شتى، حتى وإن كان محسوبا على بلاد الشاوية وأزمور.
شخص اختار، في كل هذا المسار، ألا يتحدث سوى لغته الأمازيغية وتسمية أبنائه بأسماء أمازيغية وعدم الخضوع للكثير من المواضعات والنفاق الاجتماعي، كما قرر أن يبقى متوازنا نفسيا فلم يكذب، ادعاءً،حفظه للقرآن أو قدرته على الحديث والإمامة.

يحظى التصوّف الإسلامي بتقدير لافت في مجال الدراسات الغربية المعاصرة، وهو تقدير نابعٌ بالأساس من فرادة تعاليمه وممّا يطفح به نهجه من محبّة ورأفة واحتضان للخَلق أجمعين. وبوجه عام تترافق موجة الانجذاب للتقاليد الروحيّة الإسلاميّة مع هدوء نسبي في دراسات الإسلام الحديث، بعد أن خفتت موجة النظرة المتوتّرة والعُصابية، التي غالبا ما تحكّمت بمقاربة الدارس الغربي لقضايا الإسلام السياسية والتاريخية. في غمرة هذه الأجواء المتداخلة يحضر التصوّف مدخلا تصحيحيا لتلك العلاقة المأزومة جراء القلاقل السياسية. والمتابع لمسار اكتشاف العمق الروحي الإسلامي في الغرب يرصد مرور مقارَبة التصوف بعمليات تصحيح، حتى بلغ إلى ما هو عليه. نشير إلى أنّ جملة من الدراسات الغربية المبكّرة، التي انشغلت بالتصوّف الإسلامي، قد اعتبرتْ المبحثَ دخيلا عن المكوَّن الحضاري الإسلامي ولا يمتّ له بصلة؛ ولكن مع تطوّر الأبحاث، تراجعت تلك الأطروحة المنكِرة والجاحدة لتفسح المجال لرؤية أكثر اتّزانا.

ليس الكتاب الذي نتولى عرضه قاموسا جغرافيا للجزر بالمعنى المتعارَف عليه للقواميس، بل هو مؤلَّف جامع تتداخل فيه عديد أصناف التآليف التاريخية والجغرافية والفيلولوجية والأدبية حول موضوع الجزر، وهو أقرب إلى الأنطولوجيا والمختارات، وإن آثر صاحبه عنونته بالقاموس. يتضمّن الكتاب مجموعة من النصوص تدور حول موضوع الجُزُر، مستخلَصة من كتابات عربية تعود إلى الحقبة الوسيطة، تم انتقاؤها بعناية من قِبل المؤلف الإيطالي أنجيلو أرْيولي وترجمتها والتعليق عليها. وعلى العموم يحوي المؤلَّف في متنه حديثا حول الجزر تقع وفق الحكي في بحر الصين والمحيط الهندي وفي أطراف جنوب القارة الإفريقية ثم باتجاه الغرب نحو بحر الظلمات، وهي أحيانا خيالية وأخرى واقعية. فالكتاب هو استعادة لتلك الروايات بشأن طبيعة الحياة وجغرافية المكان، كما تناقلها التجار والرحالة، وما دوّنته أقلام الأدباء، وما أوردته كتب الإخباريين والجغرافيين.

ماهي الفلسفة/ او ماهو الفكر الاسلامي الأصيل؟. إن سؤال الذات هذا يستحضر الى ذهننا الموقف القائل إن أصالة هذا الفكر كان مُعبر عنها في مدارس الكلام، هذا التحديد للذات وبهذه الكيفية نفكر من خلاله في اسلام البداية/البدايات.
ليس ثمة أهمية تفرض نفسها حصرا، ذلك ان ما يسترعي التفكير في البداية [مرحلة الاختيارات المفتوحة] هو الطريقة التي يمكن بها تحديد الذات في الحال/الراهن، لسنا نحاول اتخاذ التاريخ مدرسة بل نجعل منه مصباحا للبحث فقط عن مجموع الشروط التي تظافرت لتحقيق ممكن ما، وقد نوفق او يحدث العكس، ماهي الاختيارات التي كانت ممكنة، قد يكون من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا السؤال، والذي يمكن الوصول إليه هو تحديد العلامات/علامات الطريق التي لم يتم اتباعها او تلك الاختيارات التي لم يسر فيها العقل، ذلك ان النتيجة المعكوسة في مقدورها ان تقدم تفسيرا، ولنعط مثالا بالرؤية الجمالية الاسلامية ،حيث يقدم الاستاذ موهوب مثالا في غاية الدقة مستحضرا النص الذي يبني هذه الذهنية/الرؤية الإسلامية، وليس تفكير الاستاذ في المسألة محاولة إسقاط آليات منهجية تقتضي رؤى معينة على حقبة معينة ما، وإنما فكر الاستشراف الذي ينخرط فيه الاستاذ ومساءلته الممكن حيث يرفض « ما ذهبت اليه الاتجاهات التاريخية التي تعتقد ان كل فترة تاريخية سابقة إلا وهي ضرورةً فقيرة من جهة الغني التاريخي، من جهة المعنى، بالمقارنة مع الفترة اللاحقة عليها»[1]

« قيل لها ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال انه ممرد من قوارير.» (قرآن كريم)
يفكر الأستاذ في القسم الثالث من الكتاب « علامات على الطريق» في الممكن الذي كان ويطرح السؤال؛ ماذا يمكن ان يكون لو طرق هذا الممكن بالذات دون ذاك؟ التفكير في البدايات هو تفكير في مرحلة الاختيارات المفتوحة[1]. ويفكر الاستاذ في التجربة الفنية الإسلامية في مقالة «جماليات الاسلام» ويمكن أن نبدأ من الملاحظة المهمة التي يبديها في الموضوع «وفرة فن العمارة في العالم الاسلامي وفقر التنظير له»[2]
هذه الملاحظة توجب التفكير حول مفهوم الحداثة الفنية في المقالة، و ينبهنا الاستاذ الى ان هذه المقاربة للتجربة الجمالية الاسلامية ليست إسقاطا للثمتلات المعاصرة على حقبة معينة من التاريخ، ذلك ان الرؤية التي تحكم هذه المعالجة تنفلت/ تهرب من اي نظرة خطية للتاريخ، كل شيء يكون مكررا ومختلفا في نفس الآن، ويعيش السابق في اللاحق بشكل شديد التداخل، وليس غريبا ان نجد الاستاذ يحمل على الرؤية التاريخية التي تؤمن بخطيته، فحسب رؤية الاستاذ يولد التاريخ من عملية كسر الخطية.