إشكالية التضليل الإعلامي: لمحة سوسيو-تاريخية عن وظيفة التضليل التلفزي - حمزة أيت الحسين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم عام
إن المادة السوسيو-تاريخية المتراكمة حول تاريخ الإنتاج الذهني المتعلق بعناصر علاقة السلطة/النخبة بباقي شرائح المجتمع على مر العصور التاريخية لتؤكد، بما لا يضع مجالا للشك، وجود نظرة مزدوجة اتجاه هذه العلاقة؛ أحد أوجه هذه النظرة يتمثل في ما يمكن تسميته بـ "المعرفة المرغوب فيها" والآخر في نقيضه؛ أو ما يمكن أن نطلق عليه اسم "المعرفة الغير مرغوب فيها"، وكلاهما خاضعان للنظرة العمودية للسلطة السياسية القاهرة، عبر بوابة التضليل بشتى وسائلها وأنواعها.
في هذه الورقة المختصرة نحاول الوقوف على أهم مناحي وظيفة التضليل التلفزي في علاقة مع التأثير على ذهنية الجيل الحالي، ضمن سياق استحضار علاقة السلطة السياسية بباقي شرائح المجتمع؛ خاصة منها المثقفة و"المزعجة" والسعي الدائم لاستمالتها وتخدير وعيها بشكل مكثف؛ وفي الآتي يرد معنا تحليل وضيفة التضليل، تبعا لنوعية القيم والأفكار والمعلومات المتدفقة التي يستهلكها المتلقي في علاقته بالإنتاج التلفزي:

إن أعظم انتصار أحرزه "التضليل الإعلاميmanipulation médiatique" هو الاستفادة من الظروف التاريخية للتطور الغربي، من خلال تكريس مفهوم محدد للحرية تمت صياغته في عبارات تتسم بالنزعة الفردية؛ وهو ما يمكِّن المفهوم من أداء وظيفة مزدوجة، من جهة حماية الملكية الفردية، ومن جهة ثانية الظهور بأسطورة الحرص على الرفاهية الفردية، وفي هذا المنحى يتم تشييد هيكل متكامل للتضليل الإعلامي. وكي يؤدي هذا التضليل الإعلامي دوره بفعالية  "لا بد من إخفاء شواهد وجوده"[1] أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يحس ويشعر المضللون على أن الأشياء من حولهم عادية وهي في طبيعتها العادية "أي الإنكار المستمر لوجوده أصلا"[2].

يعمل الإعلام على تحقيق هذا الهدف (التضليل) بما يقدمه للجماهير من مواقف زاخرة بالقيم les valeurs والمعايير les normes سواء أكان ذلك في صور واقعية réelle أو خيالية، أو في صور ممزوج فيها الواقع بالخيال؛ إن لذلك كله تأثيرا قويا في قيم الأفراد واتجاهاتهم وأفكارهم "فقد بات من المسلم به أن الأمة أية أمة لا تستطيع أن تعيش دون أن تعطي قضية الإعلام ووسائله ما تستحقه من اهتمام"[3]؛ وهذا الاهتمام في بعديه سواء التفكير في ما يحمله الإعلام من خطورة، أو في بعد ثان راجع إلى شغل الساعات اليومية بمتابعة البرامج.

إن التضليل  manipulation هو نوع من الإخضاع الممارس على الجماهير بشكل سلس؛ إنه عنف رمزي violence symbolique يمارس على الأفراد في العديد من المناسبات، فالقول بأن الترفيه مثلا لا يحمل أي سمة تضليلية يعد "من أكبر خدع التاريخ"[4]؛ فالترفيه في حد ذاته يحمل معالم التضليل، أو النزوح بالمتلقي إلى عوالم الخيال والهروب من الواقع رغم الأسطورة التي تقول أن الترفيه والتسلية مستقلان عن القيمة ويوجدان خارج العملية الاجتماعية؛ والحقيقة أن الجهاز الإعلامي يستفيد من استخدام جميع الأشكال المألوفة للثقافة الشعبية، الكتب الهزلية والرسوم المتحركة والأفلام والمسلسلات والأحداث الرياضية...؛ ليضع الساهرون على الحقل الإعلامي أنواعا من التسلية والترفيه المحملة بالقيم[5]، كصناعة ثـقافية تنكر طوال الوقت وجود تأثيرها وتدخلها في عملية هروب الأفراد من الواقع وحالة الارتخاء المنتشية. لا يسعنا في هذا الصدد إلا أن نوافق "أنتوني غدنز ANTHONY GIDDENS "  في قوله "إن وسائل الإعلام لا تزودنا بوسائل الترويح عن النفس، بل تساهم في تشكيل نوع المعلومات التي نتلقاها ونتصرف على أساسها في حياتنا"[6]؛ إنه قول صريح لمدى التأثيرinfluence، البالغ الذي تحدته المادة الإعلامية بتشعب أنواعها في نفوس الأفراد، وما تخلقه في ذواتهم من آليات التبعية والتوجيه، إذ تضافرت المكتشفات الجديدة في مجالات الثقافة الرقمية، والألياف البصرية وأنظمة الأقمار الصناعية لدمج المعلومات وتسهيل نقلها من خلال الوسائط المتعددة التي تجمع عدة أشكال اتصالية في وسط واحد هو الوسط التفاعلي الذي يلعب فيه الفرد مكانة بارزة؛ سواء في عملية امتصاصه واستبطانه لمحتويات المادة الاعلامية، أو استخراجها كنمط سلوكي يشمل طرق الأكل واللباس والكلام وغيرها، كمشاركة نشطة مع ما يراه ويسمعه إعلاميا على مدار الساعة.

لقد طرحت عدة نظريات حول وسائل الإعلام الجماهيرية، واختلفت في درجة التأثير وكيفيته، لكن بات من المسلم به أن التأثير وارد رغم الخلاف الحاصل بين "الساخطين والمهللين؛ ذلك الجدال الذي لخصه كتاب عالم السيميائية الإيطالي "أمبيرتو إيكوUMBERTO ECO " "الساخطون والمهللون". إنه ذلك الخلاف الذي يفصل بين مناوئي الثقافة الجماهيرية ومؤيديها، كل حسب رغبته وتوجهه ومصلحته، "فالساخطون" هم الذين يرون في هذه الظاهرة الجديدة أزمة للثقافة والديمقراطية، أما "المهللون" فلهم قول ورأي آخر فهم الذين فرحوا واستبشروا بديمقراطية الثقافة الترفيهية بحيث أصبحت في متناول الملايين[7]، ولعل كذلك الجدال والنقاش الحاد الحاصل حول التقنية ينصب في هذا الإطار؛ فالنقد الذي وجهه "هربرت ماركوز" لـ "ماكس فيبر" حول العقلانية يعزز مقولة التضليل والقهر:

"فربما كان مفهوم العقل التقني ذاته إديولوجيا idiologie وليس استخدام التقنية بدء، إنما التقنية ذاتها سيطرة على الطبيعة والإنسان"[8]، وباعتبار وسائل الاتصال الجماهيرية أدوات تقنية، بل عالية التقنية وصلت إلى أوجها مع الإنترنت ومختلف الأجهزة الذكية، الشيء الذي يوحي إلى هذه السيطرة التي تنتقل من مستوى المعلومات والتحكم فيها، حسب توجهات الجالسين خلف "الكامرات" و"المكروفونات" إلى سيطرة تمس الوعي والسلوك الفردي باعتباره –الفرد- هو المستهلك والمحتاج للمادة الإعلامية "إنها سيطرة منهجية، علمية، محسوبة وحاسبة"[9] تصل إلى تضليل يخفي شواهد وجوده، وينكر ذلك بأسطورتي الحياد والاختيارات الشخصية الحرة.

من بين النظريات المطروحة حول وسائل الإعلام الجماهيرية الرأي الذي ذهب إليه "داينيس" و"ماكلوهان" باعتبار وسائل الإعلام تؤثر في المجتمع من خلال "الكيفية" والأسلوب الذي تنقل به المادة الإعلامية لا بمضمون التواصل نفسه. وعلى حد قول "ماكلوهان" فإن الوسيلة هي الرسالة[10]، فالتلفاز على سبيل المثال يؤثر في أنماط سلوك الناس ومواقفهم لأنه مختلف في طبيعته عن الوسائل الأخرى مثل الصحف والكتب، لأن تزامن اشتغال حاستي السمع والبصر في آن واحد يجعل إدراك الرسالة أكثر سهولة ويتم التفاعل معها وجدانيا ببساطة ليتم توديع القديم نسبيا (الكتب الصحف)، ويتم الترحيب بالجديد الحاسوب والهاتف والشاشات الرقيقة الرقمية، التي تنقل الفرد إلى قلب الحدث؛ إنه الشيء الذي يحيلنا إلى أول اتصال هاتفي في تاريخ البشرية الذي أجراه "ألكسندر جراهام بلALEXANDER GRAHAM BELL " مع مساعده "واطسونWATSON ". لقد كان صوته محمولا عبر أسلاك نحاسية[11] فظل الصوت ينتقل إلى أن وصلنا إلى هواتف خلوية ودّعنا من خلالها الأسلاك النحاسية وانفتحنا على هواتف خلوية تنتقل مع أصحابها في كل الأمكنة والأزمنة، إلى تطورات أخرى بالغة الدقة والفعالية؛ إنه الشيء ذاته الحاصل في عالم التلفاز الذي كان محصورا لدى الطبقات الميسورة، بجودة لا يمكن مقارنتها مع ما وصل إليه الآن بأي شكل من الأشكال؛ لدرجة أصبح في حاضرنا لكل أسرة تقريبا أكثر من جهاز تلفاز. إن هذه الطفرة التقنية والتكنولوجية لا يمكن أن تخلو من آليات النفاذ إلى أعماق الأفراد من أجل جلب انتباههم، وتشويقهم ووضعهم في حالات نفسة متباينة حسب مضمون المادة الترفيهية. إنها القوى التي تسعى على الدوام للدفع بحياة الأفراد إلى عصر الإنفوميدياinfo média [12] (عصر توالي التقنية وتطور التكنولوجيا إلى درجة يكون فيها الفرد مغتربا في ذاته ومستلبا من واقعه).

عموما يمكننا أن نربط التضليل في هذا المقام بنوع من التأثير، باعتبار التأثير في المعنى الواسع للكلمة يمكن تعريفه مثل أي شكل للفعل من قبل عنصر (أ) الذي يمثل المؤثر يمارس على (ب) المتأثر.

التأثير ينتمي إلى فئة علاقات السلطة، وأن يكون لدى (أ) تأثير كما لو كانت لديه سلطة، لكن هذا التأثير يتميز عن السلطة بطبيعة المواد التي يستخدمها؛ فالتأثير على أحد الأشخاص لا يعني إكراهه عبر تقديم أو إظهار القوة التي يمكننا تجييشها ضده لكي يستسلم، وإنما يعني دفع المتأثر بلطف لكي يرى الأشياء بنفس منظار المؤثر، يمكننا إذن اعتبار التأثير بمثابة شكل خاص جدا من السلطة يكمن مصدرها الرئيسي في الإقناع[13].

 

[1]- هربرت أشللر؛ المتلاعبون بالعقول، كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والاعلان ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، العدد 106، ص 16.

[2]- المتلاعبون بالعقول، مرجع سابق، ص 16

[3] - محمد عبد العالي مرسى؛ الطفل المسلم بين منافع التلفزيون ومضاره، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى، 1997، ص 87.

[4] -  المتلاعبون بالعقول، مرجع سابق، ص 96.

[5] - المتلاعبون بالعقول،مرجع سابق،ص  96

[6] - أنتوني غدنز؛ علم الإجتماع، ترجمة فايز الصياع، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، أكتوبر 2005، ص  532.

[7] -  أرمان وميشال ماتلار؛ تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة نصر الدين العياض، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الثالثة، ص ص 95،96 .

[8] - يورغن هابرماس؛ العلم والتقنية كإديولوجية، ترجمة حسن سقر، منشورات الجمل، ط 1، 2003، ص 44 . 45.

[9] - نفس المرجع السابق،ص 45 .

[10]- علم الإجتماع مرجع سابق، ص 533

[11] -  فرانك كيلش؛ ثورة الإنفوميديا، الوسائط المعلوماتية وكيف تغيير عالمنا وحياتك، ترجمة حسام الدين زكرياء، مراجعة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، العدد253، يناير 2000، ص 205.

[12] -  نفس المرجع السابق، ص 512 .

[13] - بودون و ف بوريكو؛ المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حداد، الطبعة 1، 1986، ص116.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟