القاهرة مدينة سكسوية في شيشاوة (القهرا) - رشيدة الشانك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تعتبر كل من مدن فاس الجديد، تاقهريت"القهرا"، المنصورة قرب تلمسان  من أهم المدن التي ينسب تأسسيها للمرينيين، فقد اتخذوا فاس الجديد (المدينة البيضاء) [1] التي أسسها يعقوب بن عبد الحق، أول ملوك بني مرين سنة 674ه/1275م عاصمة لهم، وقد حرص على تصميم المدينة لتكون مركزا للحكم. ويبدو أن اتخاذ المرينيين لفاس كعاصمة لهم لم يمنع من احتفاظ مراكش برمزيتها السلطوية ،كما برزت تلمسان هي الأخرى كقاعدة مهمة في مسار الأحداث السياسية خلال الفترة المرينية حيث احتضنت أبرز قوة معارضة للمرينين ممثلة في سلطة بني عبد الواد. أثناء محاصرة مدينة تلمسان، والذي امتد لنحو مائة شهر تم بناء مدينة المنصورة، والتي حملت اسم تلمسان الجديدة وكانت من "أعظم أمصار المغرب، فقد اختط يوسف المريني "بمكان بسط قصرا لسكناه ثم أمر الناس بالبناء حول ذلك فبنوا الدور والمنازل الرحيبة"[2] وظلت المدينة قائمة إلى أن خربها آل يغمراسن عند مهلك السلطان يوسف وارتحال جيوشه عنها [3]وفي إشارة للعمري في مسالكه لظاهرة التمدين المرينية :"قواعد الملك بهذه المملكة ثلاثة: وهي فاس، وهي قاعدة الملك تم مراكش، وهي قاعدة الملك الثانية، ثم تلمسان، وهي قاعدة الملك الثالثة... وأما المدن الكبار بهده المملكة فهي اثنان وأربعون مدينة"[4]، لا شك أن هذا العدد الذي قيده العمري لعدد مدن المغرب في  عهد المرينيين يجعلنا أمام مشهد حضري هام، ينم عن تطور عكس ما  كان عليه الحال من قبل .

آ -القاهرة  مدينة سكسوية في شيشاوة (القهرا)[5]

دواعي التشييد

في اطار الصراع حول الحكم بين الإخوة داخل الأسرة المرينية نشب صراع بين أبي عنان والأمير أبي الفضل، وقد لجأ هذا الأخير إلى منطقة سكساوة الممتنعة عن السلطة المرينية للاحتماء بها ضد أخيه -أبي عنان -، يقول ابن خلدون: "لحق [أبو الفضل] بعبد الله  السكسيوي فآواه هذا الأخير وظاهره على أمره، فجرد أبو عنان العزائم إلى السكسيويين وعقد لوزيره فارس بن ميمون بن وادرار على حربهم".[6]

فقد ضاق السلطان أبو عنان درعا بتوالي ثورات السكسويين على السلطة المرينيية منذ فترات حكم أسلافه وتماديهم في عصيانهم بإيوائهم لمنافسيه في الحكم كأبي الفضل بن أبي الحسن، فعزم على اقتحام حصنهم الجبلي بأعداد هائلة من المقاتلين، وعين لأجل ذلك وزيره الذي أناح بساحة جبال سكساوة سنة 754هـ/1353م، ف"اختط بسفح جبله مدينة لحصاره سماها القاهرة، عام 755هـ/1354م".[7] ويستفاد من النص أن وزيرالسلطان قد عزم على أن يناوشهم في مجالاتهم القريبة منهم من خلال تشييده للقاهرة هذه المدينة الوسيطية الشيشاوية[8]

فبناء القاهرة إذن جاء في إطار استراتيجية حربية، لإطالة الحصار حول موطن السكسويين. وقد تم وضع المدينة - حسب جاك بيرك- على مهماز منحدر بطبقات عمودية –حيث شيدت على منحدر ممتنع فوق هضبة وعرة بالقرب من استدارة الوادي- تطل منه على جريان الوادي الحامل لإسمها "القهرا،" وهي وضعية محصنة تركت في أذهان سكان المنطقة إحساسا مريرا، من جراء الضربات التي ألحقهم بها تشييدها[9].

فقد جاء تشييد مدينة القاهرة إذن لضمان السيطرة على القبائل السكساوية، ومحاصرة عبد الله السكسيوي، كما أشار ابن خلدون  بالقول "أخذت بمخنقه، وزاحمت بمناكبها أركان معقله ،حتى لاذت للسلم"(...) وإرغامهم على دفع الضرائب[10]، وأشار الناصري" واختط فارس بن ميمون مدينة لمعسكره وتجمير كتائبه بسفح ذلك الجبل سماها "القاهرة"[11] وقد عمرت هذه المدينة إذ بني فيها مسجد جمع بين ممارسة الشعائر الإسلامية وممارسة القضاء، فقد أشار لسان الدين بن الخطيب في معرض حديثه عن الشيوخ الأفاضل الذين لقيهم أو سمع عنهم خلال مقامه في المغرب بالقاضي "الشيخ الفقيه الحاج البادي  و أبي بكر عثمان بن صالح المسراتي المراكشي النشأة... حج سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وولى القضاء بقصر كتامة وحصن القاهرة وأزمور وأنفا".[12]

نهاية مدينة القاهرة

لا تسمح لنا النصوص المصدرية المتوفرة بالوقوف على سبب اندثار مدينة القاهرة، ولكن سوف نعمل خلال هذه النقطة على تسجيل مجموعة من الملاحظات بخصوص الموضوع. توقفنا سابقا عند شروط اختيار موضع المدينة ، من الواضح أن المدن التي لم يراع فيها أحد تلك الشروط التي ذكرت عند ابن خلدون وابن أبي الزرع ،تكون عرضة للزوال.إذن علاقة المدينة بالموضع علاقة وطيدة  فإذا لم يراع   في تخطيطها الشروط الطبيعية، من سهولة الاتصال، المجاري المائية والغابة للأخشاب ...غالبا ما تنهار وتضمحل. يمكن اعتبارها مدينة ظرفية ،بناؤها وتخطيطها جاء وليد الظروف العصيبة التي كانت تمر بها الدولة المرينية ، فلم يراع في تخطيطها سوى عامل واحد التحصن فتم تشييدها في جبل شامخ حيث يصعب عملية الوصول إليها، ومثل هذه المدن في العصر الوسيط لا يمكن أن تعرف الاستمرارية إلا في حالات نادرة، وذلك لصعوبة الاتصال بالخارج وصعوبة تزويدها بالحاجيات فلا يمكن أن تقوم بباقي الوظائف التي تنشأ من أجلها المدن بطريقة مستمرة كالتجارة والفلاحة والصناعة[13]، ومدينة القاهرة المرينية لم تكن تعاني فقط من هذه النقطة السلبية بل أنها كذلك وضعت في مجال قبلي رافض لوجودها ولا يرى فيها غير أداة لإذلالهم.

رشيدة الشانك

مراكش المغرب

 

[1]- حسن الوزان، وصف افريقيا، ج1، ص 218.

[2] الناصري، الاستقصا، ج4، ص89.

[3]  الناصري،الإستقصا ،ج4،ص79

[4]- العمري ابن فضل الله ، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق كامل سليمان الجبوري ، دار الكتب العلمية،ط1، 2010ص 120.

[5]  للإشارة فقد تعدى صيت القاهرة مجالات شيشاوة ولاكتها الألسنة كلما بلغَ التوتر بأصحابها مبلغهُ.إذ ألف الرجل أن يقول لمن أثار عضبه "سير كاع أنت للقهرا"وإذا ظن البعض بأن القاهرة يراد بها قاهرة المعز في مصر،فذلك خطأ لأنه إنما يراد بها  قاهرة  سكساوة الشيشاوية ،التي شبهت من لدن سكان المنطقة بالجحيم،لما سببته من مضايقات وحصارات للسكسويين._عبد العزيز بنصالح،شيشاوة منذ ماقبل التاريخ إلى الآن ،ص92

[6]- ابن خلدون، العبر، مصدر سابق، ج6، ص355.

[7]- لسان الدين بن الخطيب، نفاضة الجراب في علالة الاغتراب ، ص74- الناصري، الإستقصا، ج3، ص190.

[8]  عبد العزيز بن صالح،شيشاوة منذ ماقبل التاريخ إلى الآن، ،المطبعة والوراقة الوطنية الطبعة  الاولى2012،ص90

[9]    JACQUE _BERQUE , Antiquites seksawa Hesperis_tamuda T.xL , 3éme , 4 éme tr. 1953. Pp.359_417

[10]- ابن خلدون ،العبر،ج6.ص355

[11]  الناصري،الإستقصا،ج3،ص190

[12]- لسان الدين بن الخطيب، نفاضة الجراب في علالة الإغتراب، مصدر سابق، ص79.

[13]- Jacque Berque «Antiquité Seksawa», Hésperis, T.xL , 3eme , 4 eme tr. 1953. P 394

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟