أعذُرِيني سيّدَتي،
فقد مَررْتُ على حيِّنا، بالقُربِ من دَارِي ودَارِكِ
ودخَلْتُ أطْلالَ قلْعَتِنا، واعْتَليْتُ أسْوارَ المَعَارِكِ
وتفَاصِيلُ الهوَاجِس في نفْسِي، مُعْتركٌ ومُفْترقُ
كأنّ ذِكراهُمْ وذِكراكِ فِي قَلبِي
تقَاطُعُ شَارِعيْنِ وشَاعِريْنِ تفَرّقَا وتجَمّعَا،
وَلَهاً بممْلكةِ القصِيدِ، ومنْ بهِ شَبَقٌ
يا سيّدةَ البحْر،
انثُرينِي موْجًا خلْف أسْوارِ قَلعَتِنا
ولا تنْتظِري حرْفًا زَادُهُ الهَمُّ والغَمُّ والأرَقُ
أعذُرينِي سيّدَتي، ولا تنْتظِرينِي
لِأنّ غفْوةً تحْت رغْوةِ البحْرِ،
جَالَتْ بخَاطِري، واجْتَاحَتْ أضْغَاثُهَا الحِيتانُ الزُّرقُ
وفي زحْمةِ النِّسْيانِ الْتهَمتْ سِرِّي وعيَانِي
ولأنَّ المجْدَلِيّةَ طالَ نُوَاحُها عندَ أقْدامِيَ الخُرق
ولأنّنَا مُنْسحِبانِ أنا وأنتِ من قَلعَتِنا ومُنْسجِمانِ
فدَعِيني أُعيدُ تَرتيبَ الفُصُولِ في ذَاكِرَتي
خَلفَ قِلاعِيَ القَدِيمَة
وأحْتمِي بقصَائدِي مِتْراسًا، وطلاسِم أُعلِّقُها تَمِيمَة
وسأخْتَفِي يَا حَبيبَتي،
حتىّ يَفرُغَ التّتَارُ منْ وَلِيمَتهِم
وأسْتَسْلِمَ للنُّعاسِ خِلْسَةً عنْ بَقَايَايْ
وأُلْقِي بِحرْفيَ الشّفَّاف علىَ هوَامِش بيْضَاء
كمَا يَرْمِي المُنْهَزِمُونَ سِلاحَهُم تحْتَ أَسِرّةِ حَمْرَاءَ
وكمَا انْسحَبَ الحُرّاسُ منْ قَلعَتِنا قَبلَ الهَزِيمَةِ
وانْسحبُوا،
قَضَوْا أوْطَارهُمْ وانسَحَبُوا،
منْ قصِيدَتي انْسحَبُوا ومنْ شَظَايَايْ
كمَا انسَحَبْنا أنا وأنتِ، منْ آلافِ القَصصِ الألِيمَة
لا تَنْتظِريني سَيِّدتِي،
فأنا لاَزِالتْ لمْ تَتَّضِحْ بَعدُ كلِمَاتِي علىَ صفَحاتِ الوَصِيّة
ولمْ أكنْ بجِوارِكِ حينَ أوْلمُوا لِلزُّوَّارِ كلَّ الأسْرار
أعْذُرينِي، فأنا لمْ يَعُدْ بِوُسْعِيَ الإِنتِظار
ولمْ أنْتبِهْ حينَ مرَرْتُ بالقُربِ مِنَ الدِّيَار
دِيَارِ قلْعَتِنا،
وتأَمَّلِيني سيِّدَتي علىَ مهَلٍ، وقُصِّي عَن جُنُبٍ
آثارَ خَطِيئَتي وخُطَاي
تَأمَّلِينِي ولاَ تَلُومِينِي لِكيْ لاَ تَتأَلَّمِي
يا سَيِّدةَ البحْر،
فأنَا لازِلتُ علىَ شاطِئِكِ الطّوِيلِ، قلْعةً وحَبَّاتِ رِمَال
بهَا أحْتَمِي وإِليْكِ سَيّدَتي لاَزِلتُ أنْتَمِي
فأمْوَاجُكِ تحْصُدُنِي في كلِّ مدٍّ صَرْخَةً ومِيلاَداً
وتَزْرعُنِي في كُلِّ جَزْرٍ صَخْرةً ومِدَاداً
يا سَيّدَتي،
كأنَّكِ تَنظُرينَ إليّ في وَحْشَةِ المَوْتِ، في رَعْشَةٍ
كأنّكِ تُسَائِلينَ كآبَةَ المَنْظرِ ورَتَابةَ الأَعْيادِ
في شتَاتِ الذّاكِرة، في تفَاهتِي في دَهْشَةٍ
وكأَنَّ شفَتاكِ تهْمِسُ في صَمْتٍ،
هلْ أنتَ هُوَ هوَ ؟
هلْ سَلِمْتَ كمَا سَئِمْتْ عُيُونِي منَ العَمَى ؟
هلْ سَنَكُونُ أنا وأنتَ عَسَلاً لِشهْدِنا العَالِي ؟
هلْ صَدّقتَ مِثْلي، ما تَشَدّقتْ بهِ جُملُ الأغَانِي ؟
هلْ كُنتَ تُغنِّي لِقصَائدِي، وتُحَرِّفُها مثْل الآخَرِينَ ؟
أسْماؤُك ؟
ألقابُك ؟
أطيَافُك ؟
وأشْعارُك ؟ ...
البَحْرُ في جَسَدِي يا سَيِّدِي،
يُغَطِّي مَواوِيلَ العَواصِفِ الثّكْلَى
وأمْواجٌ تكبُرُ حوْلنَا وتَنْكسِرُ تحْت مَوّالِ صَخْرةٍ
وتَنْقسِمُ انْقِسَامًا،
وسُفُنِي تُفَتِّشُ عنْ قَافيَةٍ هَادئَةٍ،
لِترْسُوَ قُربَ جدَائِلِهَا
وهذِه رَايَاتي تُلوِّحُ كإِشْعَاعِ مَنَارَةٍ عَاليَةٍ،
تُكَسِّرُ الأمْواجَ،
وتَلْتهِمُ الصُّخُورَ والظَّلامَا
أتَعُودُ إليَّ منْ جَدِيد ؟
فَارسًا، يلْعقُ ما بقِيَ في جسَدِي منْ عَسَلٍ ؟
فَاتِحاً، يَنْقَضُّ كَشَظَايَا عُنْقُودِيّةً لُغةً وسِهَاماً ؟َ
وشَاعِراً، لاَ يقْبَلُ غِيابَ المَعْنى حرْفاً أوْ كلاَماً ؟
هلْ تعُودُ إلىَّ منْ جَدِيد ؟
قلتُ لها :
بقِيتِ وحْدكِ سيِّدتِي،
ترَكتُ فيكِ جسَداً عَارِياً يَنِزُّ دَماً وإِيلاَماً
وقد كُنتِ وحدَكِ،
ووحِيدةً سيِّدتي، حِينَ أقَامُوا عُرسَكِ
ووَزّعُوا إرْثكِ بَينهُمْ خِطاباً وخِطاماً
وكنتِ وحيدةً حينَ باعُوكِ بأبْخسِ الأسْماءِ
خطِيئةً وسِلعةً ووِساماً
واسْتراحُوا،
سلّمُوكِ لآخِر التُّجّارِ واسْتراحُوا
ترَكُوكِ، وعادُوا كمَا يعُود المُشيِّعُونَ منْ جنَازتِهِم
أعْذُرينِي سيِّدتي،
لا أُريدُ أنْ تثُورَ الحُروفُ ضِدّ الكلِماتِ
أخافُ أنْ أفقِدَ المعْنى
ومَا تَبقّىَ منْ نشِيجِ الرُّوح،
ومن نَسِيج الهَوامِش الصّفْراء
والإحَالاتُ على النّزوَاتِ المُزكِمةِ للأُنُوف
أُرَاوِدُ القلبَ ونفْسِيَ العَصِيّةَ علىَ التّرْويضِ
ألاّ تُغادرَ القصِيدةَ وسَطوْةَ الحُرُوف ..
فقدْ قاومْتُ وحدِي كلَّ العُروشِ مِثلكِ
قاومتُ وحدِي كلّ النّيَاشِين والزُّوارِ حوْلكِ
ولكنّ سفِينَتي أُثْخِنتْ جُرُوحُها
وأشْرعَتي غَرقَتْ في أعمَاقِ الجُذُور
وذَاكرَتي ورِثتْ دمَاءَكِ قَطْرَةً قَطْرَةً
وأنا وأنتِ يا سيّدةَ البحْر،
كنّا نُحبُّ الحيَاة شَذْرَةً شَذْرَةً
وقَفْنا في ليْلةِ النّجُوم علىَ شُطآنِها
ورَسَمْنا أسْماءَنا نَقْشاً على الصُّخُور،
نَجْمةً نَجمَةً،
ونسِينا أنا وأنتِ هُناكَ أسمَاءنَا، ولمْ ننْتبِه
أنّها ضَاعتْ خلفَ أسْوارِ قلعَتِنا
ثَلْمَةً ثَلْمَةً،
وأنا الآنَ يا سيّدةَ البحْر
وحيدٌ مِثلكِ، بِلا طُرُقاتٍ هَائماً أَسِيرُ
لاَ لأَبْحَثَ عنكِ،
ولاَ لأَنظُرَ كيفَ أصْحُو منَ الهَذيَان
لكنَّنِي بينَ جُدرانِ الصَّمتِ خَائِفٌ،
بيْن أضْلُعي وقصَائدِي أسِيرُ
في غُربةِ الصّمتِ، وفي صَمتِ الغُربَاء
وصمتُ الغمَام فينا يَسحَبُني نحوَ الهيَجَان
موْجتَان وصَخرتَانِ تنْحَتُني قصَائدَ هوْجَاء
غريبَةٌ هي الأسمَاء
وغريبَةٌ هي العُزلةُ،
حينَ تغْدُو الحِكايةُ بلاَ سَمَاء
هلْ نلتقِي يوْما على شاطِئِنا المُكدَّسِ بالزُّوّار ؟
هلْ نُعيدُ لليَنابِيعِ الظّمْآى عَذبَ اللُّغةِ والرُّوِيّ ؟
سألتُ كلّ الأسمَاء التي تسْكُنُنِي ؟
عن بحْرها ؟
عنِ الأمْواجِ التي تعْلوا وتعلُوا فوقَ الغُيُوم
عنِ الشِّباكِ والحِيتَان ؟
عنِ صُوَر الأسمَاءِ وشكْلِها في الأعمَاق ؟
عنِ المَاضي والحاضِر والغِيَاب ؟
في وجَع المَرايا، في حَكايَا النِّسْيان ؟
فهلْ كُنتِ معَهُم ؟
أنتِ التي سَكَنَتْنِي وسَكَنْتُها ؟
هلْ تشْتَاقِينَ مِثلي،
لدَاليةِ العِنَب المُعلّقَةِ وسَط الفُصُول ؟
هلْ تتَذوّقِينَ الآنَ مِثلِي،
طعْمَ الغُربةِ والذُّبُول ؟
أعذُرينِي سيّدتي، واتْرُكِيني
أترُكينِي أُكمِلُ مسِيرتيَ الآنَ وحْدِي
في اتّجَاهِ رائِحَةِ البَحْر،
غَريباً مِثلَكِ،
وحِيداً قَبْلكِ
مهزومين في القصائد والأشعار
فاسْتَريحِي قَليلاً، إسْتريحِي
لكيْ أسْترَيحَ مِثلَكِ إلى الأبَد
لاَ لشَيْئٍ، فقَط ، لأنّنِي تَعِبتُ منَ التِّذكَار
من سُباتِي ومنْ سُهدِي، سَئِمتُ
منْ فُحْشِ الأُغنِياتِ، منْ أُغنِيّتي شَبِعتُ
لكنَّني يا سيّدَةَ البِحَار،
أشْتاقُ إليكِ،
أْيقِظِيني أوْقِدِي فِيَّ شُعْلةَ أيَّامِي
لمْلِمِي شَعَثِي بيْن إِقْدَامِي وإحْجَامِي
كعِطْرِ امْرَأةٍ تَسْبِقُها نَسَائِمُهُ،
وتَسْبِقُهُ سَرَاباً
كزِلْزالٍ يُعرِّي أسْرارَ القِلاع،
ويُحيلُ عُمرَانَهَا خَراباً
ويُغْرقُ الخَفَافِيشَ تَحْتَ أضْواءِ المَنَاراتِ
أيْقِظِيني سَيِّدَتي،
ولاَ تَترُكِيني قَصِيدةً لَقِيطةَ الأفْكارِ والإشارَات
مَاذا تَقصدُ ؟ قَالتْ.
قلتُ لهَا :
صَدِأتْ حُرُوفي مِن كَثْرةِ الرُّؤَى والرُّغَى
أريدُ الخُرُوجَ منْ هَوَسِ المَرايَا الزّرقَاءِ مِثلَكِ
أُحاوِلُ الهُروبَ منْ وهْمِ الخُيولِ المُسْرجَة في مُخَيِّلَتي
لاَ ذنْبَ لي، قَالتْ :
فأنَا مِثلُكَ، تقْصِفُني الهُمُومُ
وتَترُكُني فَحْماً أوْ تُراباً
لاَ جَديد إلاّكَ، فالغُيُومُ هيَ الغُيُومُ
لاَ رُويَّ في قَصَائدِنا إلاّ نَمَشُ الزُّوّارِ،
زَوَّرُوهُ انْتِسَاباً
يا سَيِّدةَ البَحرِ والأمْواجِ والأَشْرعَةِ والصَّوَارِي
أنا هُو هوَ، لاَ سِرَّ في مَجْدَلِيَّتي
لا سِرَّ في مَاضِيَّ،
لا سِرّ في الحِكايَةِ، ولا خلفَ أسْوارِ قلعَتِنا
فأنا لازِلْتُ في القصِيدَة حُبّاً يَافِعاً صَبّاباً
وأنا نَشِيدٌ هائِمٌ بِحُبِّكِ،
وغَابةٌ أنا،
تحْترِقُ كلَّ عامٍ منْ شَرَارَاتِ هُدْبِكِ
أعْذُرِيني فقَد تَركْتُ عُنْفُوَانَكِ شُعْلةً
وترَكْتُ الحُرّاسَ قد حَاصَرُوا فِيكِ الحُرُوفَ والكلِمَات
وهَجَرتُ اللُّغةَ والدّارَ والغَابَات،
وألقَيْتُ قصَائِدِي في بَحْرٍ ليْسَ لي
وأَسْكَنْتُ حُرِّيَّتِي في وطَنٍ لاَ لَونَ لهُ ولاَ شَامَات
وسَكَنْتُ قِصَصاً لا تَعْرِفُ مَا بكِ وَمَا بِي
ورَحَلْتُ عنْ ذاكِرَتي، لاَ أرْغَبُ في العَوْدةِ
سَلَّمْتُ نَفْسِي لِلْيَأْسِ، لِلمَوْت
وانْسَحَبْتُ مِثلَ حُرّاسِ البَلْدَة
سَيِّدَةَ البَحْر اعْذُرِيني،
لاَ أُريدُ أنْ أصْحُو
لِأَنَّني لاَ أُحِبُّ الإنتِظَار
ولاَ أُريدُ أنْ أنْتبِهْ إلى الأَبَد.