جدّي كنعان لا يقرأ، إلاّ الشعر الرصينْ
يلعبُ الشطرنجَ، أحياناً،
يلاعبُ أحفاده، يتشعلقونَ بفرسهِ البيضاءْ
أضِفْ، ﺇﻟﻰ ذلك ... جدّتي
وهي من أصل هكسوسي
لكنها، تزعم ﺃﻧﻬﺎ نبطيّة
ترعى بقر الوحش ﻓﻲ بادية الشام
تكتبُ على القرميد الأحمر، أشعاراً حزينة
تحصد شقائق النعمان، ﻓﻲ أول كل ربيع
ترقص ﻓﻲ ملاهي واق الواق:
1. رقصة الثرثرة.
2. رقصة الفخر.
3. رقصة الهزيمة.
عينا جدتي زرقاوان، كالبحر الأبيض
ﻟﻬﺎ ضفائر لولبية شقراء، كأفاعي الماء
وكفلٌ يتماوج خلفها، كفَقَمةٍ ﻓﻲ بحر الشمال.
ﻟﻬﺬﺍ تزعم أحياناً،
ﺃﻧﻬﺎ تتقن الهيروغليفية،
تتقنُ الكنعانيةَ الفلسطينية السينائيةْ
تتقنُ الأمازيغيةَ، والسُريانيةَ، والكُرديَّةْ
ولغاتٍ أُخرى، لا تُحصى، ولا تُعدّْ
رغم أنَّها، ﻟﻢ تدخلْ مدرسةَ محْوِ الأُميَّة.
جدّتي، تحوّلُ الحجارةَ ﺇﻟﻰ سجونْ
تذرذرُ الترابَ ﻓﻲ وجه من يديرون الشمسْ
تسرقُ أخطر الوثائقِ من خزينة السلطانْ.
جدّي كنعانْ
أبيض، مرقّط، مثل أُم بريصْ
يصطاد الحمام، ﻓﻲ أعالي جبال كنعانيا
قابلَتْهُ الكاهنةُ
ذاتُ الأنفِ الطويلِ،
الشعر المنسدل على الكتفين،
الساق الملساء، كالزبدة،
الوجه الأحمر،
الحاجب الكثّ،
ضحكتْ له، كاهنةُ البوادي
حتى استرختْ أعضاؤه،
شربَ نبيذ الدير الجبلي،
رمتْ جسدَها البضَّ عليه،
عندئذٍ ... قال ﻟﻬﺎ:
خُذي ... ما شئتِ ... من التراب!!!
تكبرني جدّتي بعامين
الشَعْرُ الأبيضُ ﻓﻲ رأسها، يغني ثلاث أغنيات:
أغنية للذكرى،
أغنية للحاضر،
أغنية للهزيمة المقبلة.
غنّيتُ لثوبها المطرّز من كل عقلي
عزفتُ نصوصاً من كتاب النبيذ
رَنْدَحَ صوتي غزلاً، لرمّان رأس العين
ﻓﻲ عيد ميلادها، ﻓﻲ حقل القمح
كانت الغزالات، يرقُبْنَ دموعي
سكرتُ من عصير السفرجل المُشمّس.
شربنا دنان الخمر، حتى قالت الذكرى:
ﻟﻢ أشرب ﻓﻲ حياتي، كهذه المرّة.
لعبتُ مع جدّتي، كرة السلة، وكرة الماء،
وألعاباً أخرى، يعرفها المحكّمون ﻓﻲ المباريات.
شبعتْ جدّتي، صرختْ ﺃﻧﻬﺎ متعبة،
رجعنا آخر النهار
وكانت تكبرني بثلاثة أعوام:
الندى كان طافحاً على حبّات العنب البلُّوريَّة
كريستال الصخور، يُشعشع دربَ الحبّ،
من بيت لحم ﺇﻟﻰ الخليل.
ﻓﻲ الطريق التي تؤدي ﺇﻟﻰ قلبي
رحتُ أقولُ ﻟﻬﺎ: توهّجي، توهّجي
ارقصي ﻟﻲ وحدي، رقصة الخَضْر،
حين طعن غريمه
قالت: هذه مدن، كلها ترقص، كالخنجر
ﺛﻢّ جرّتني من يدي، ﺇﻟﻰ أعالي (مادبا).
صَرخَتْ ﻓﻲ وجهي:
قُل ﻟﻲ: كيف وصلَ الكذّابُ ﺇﻟﻰ هنا
هذه ينابيع شعب مؤاب الكنعاني
قُلْ ﻟﻲ: كيف قطع الصحراء
ﻟﻢ يستطع يا ولدي، فانظُرْ غَرْباً
نظرتُ غرباً ... لكنني، ﻟﻢ ألمح الخليل.
عندئذٍ، خلعتْ قميصها، أركبتني على كتفها
طارتْ جدّتي، نحو فضاءٍ، لا ينتهي
قالتْ ﻟﻲ: اقرأ، اقرأ، اقرأْ،
قلتُ: ما أنا بقارئْ
صَفَعتْني بقبضتها: غداً ترون،
يا نسْلَ الأُميّين ... بكيتْ.
ﻓﻲ الطريق ﺇﻟﻰ صفصافة البيت،
كان الرعاة
حاملين شبّاباتهم، وأحزانهم،
كانت تحكي ﻟﻲ عن سرقات الوقواق
ذكرتْ ﻟﻲ - حرفياً – أسماء اللصوص
وعندما ذكرتْ ﻟﻲ، اسمه، انتفضتُ،
هتفتُ إذنْ، هو بعينه،
هو بعينه، مَنْ سرقَ مشابك الغسيل،
بخطّافه الذهبي،
ضحكتْ جدّتي، وقهقهتْ:
- ليس هو يا ولدي
إنه أحد تلامذته.
- لأمّي ضفائر سوداء، كليل الخليل
تنثرها على ظهرها، عندما يكون عارياً
كانت تضمّني ﺇﻟﻰ صدرها، ﻓﻲ ليالي الشتاء
أما هذه الأيام، فإنها تخاف منّي
ﻷﻧﻬﺎ قرأتْ مسرحيات سوفوكليس كلها.
عسلٌ شفتاها من نحل الكرم الغربي،
نهرٌ من لبن نعاج البريّة، ثدياها،
ﻟﻬﺎ عينان بحريتان، كأجنحة الحمام،
ﻓﻲ نشيد النصوص الكنعانية،
قبل أن يسرقه العابرونْ.
أمّي لا تحبُّ التشبيه، وتمقت الكناية
تكره الكرنتينا على جبل ﻓﻲ الخليل
حيث الدواءُ كلُّه أحمر.
إنني ابنُ أﺑﻲ،
واسألوا ليلة الزحف ﻓﻲ عريشة التين
أرسلتْ ﻟﻲ أمي مكتوباً، قالت فيه، حرفيَّاً:
ﺇﻧﻬﺎ تعشق ﻓﻲ هذه الأيام، ولداً يشبهني
تمنيتُ أنْ أعود ﺇﻟﻰ رحمها
بعد أن قطعتُ المسافة الأولى
من باب الأسباط ... ﺇﻟﻰ بولاق الدكرور
أمكنةٌ لا تعنيكم، إلاّ ﻓﻲ الأزمات.
ولدتْ أمي ﻓﻲ الكرمل العالي
ولد أﺑﻲ، قرب سدود الملح،
ﻓﻲ قاع العاﻟﻢ، أيْ، واللهْ
أما أنا، فسقطتُ فجأة، قرب عوسجة الماء
كانت أمي، عائدةً من غابة الحطّابين
ترجّيتُها كتلميذ، أن تلدني قرب عوسجة الماء
ﻓﻲ منتصف المسافة المترددة
حيث الذئبُ والدمُ وإخوتي
تمنيتُ أن أصل الكرمل المعشوشب
بحقول الملح، ﻓﻲ البقعة الواطئة
قالوا ﻟﻲ: نصفك الآخر، سيقف كالجدار
عندها هتفتُ، بأعلى يقيني:
إنني ابن أﺑﻲ.
- تفكّ أمي ضفائرها، مثل كل الكنعانيات
ﻓﻲ أول أبريل
تلبس ثوبها الرمادي
ﻓﻲ الثاني من تشرين الثاني، ومنتصف أيار، تماماً
تبحث هذه الأيام، عن لونٍ أشدّ حلكة
للشهر الذي يليه
تقرأ أمي الأشعار المحلية، والأجنبية،
الروايات التراجيدية، والهزلية،
لكنها تكره الروايات التاريخية
وهذا هو السرّ ﻓﻲ ﺃﻧﻬﺎ تشرب
ثلاثة كؤوس مُركَّزة ﻓﻲ ليلة واحدة.
وتزعم أن هذا، لا يُنْقِصُ من حكمتها.
- لأﺑﻲ شارب أسود، تعشقه النساء
لذا سقطت أمي، تحت قدميه من أوّلِ الأغنية
كنتُ أنظر إليهما ﻓﻲ ليلة العرس، من ثقب الباب
هل جرّبتُمْ ذلك، مثلي
حيث فقدتْ أمي، عفافها، لأول مرّة
لكنهم أسموه – فيما بعد – زواجاً.
رمتني أمي قرب غزالة الماء، فأرضعتني
تمنيتُ أن أنمو ﻓﻲ الفلك السابح ﻓﻲ بحر عكا
لكنني حين كبرت، وجدتُني مرمياً
بين النخيل، وكلاب البحر
وبدأت أصرخ، بأعلى شكوكي، والصقور تجرحني:
صحرا
ماء
صحرا
ماء
صحرا ماء!!!
وبطبيعة الحال: ﻟﻢ يسمعني أحدْ.!!!
ﻟﻢ يسمعني أحدٌ يا أﺑﻲ.
- جدّي كنعان ... بحّار بدويٌّ،
يوزّع الحروف الجديدة، واللغات غير الدارجة
قيل: جاء على فرسٍ من عسير!
وعلى مركب أبيض من كريتْ!
قيل: جاء على مُهرٌ من اليمن، ﻓﻲ سفينة أثينية!
ثمَّ اكتشفتُ السِّرَ المخبوء:
هنا كان أصلي وفصلي
لم أجئْ من أيّ مكان آخر.
قيل، ماذا يعني ذلك الآنْ!!
فسائلُ الحروفِ فرعنتْ ﻓﻲ العاﻟﻢ.
كان يخلط الحنين، بالزجاج والفخار
ﺛﻢ يسقيهِ، بدمع الأرجوان
يصلّي ﻓﻲ الجامع الأبيض ﻓﻲ (صور)
يقرأ الصحف الخضراء ﻓﻲ (حيفا)
يشرب الخمور الفاخرة، ﻓﻲ مطعم البحر
حيثُ الرذاذُ، يجيءُ له بالأخبار العتيقةْ
النورسُ الكلبُ، ﻟﻢ يقرأ العدد الصادر حديثاً.
يطلب الثأر، قدّام حجر مؤاب
يأتينا آخر الليل من غوطة الشام
عيناه حمراوان، بلون أصداف (صيدا)
شعره مشعث، كغابات الأمازون
وإذا ﻟﻢ تصدقوني – اسألوا سهل البقاع.
- تترك جدتي سجّادتها، عندما تراه قادماً
ﻷﻧﻬﺎ فرصتها الوحيدة – تغطيهِ، تحت إبطها
جدّي، يقرأ ﻟﻬﺎ قصيدته:
(كنعانيا، إذا شئتِ أنْ تتطهّري من الفسادِ ...).
ﺛﻢ يعرّج أمام مذهّبات العربْ
يقرأ ﻟﻬﺎ شيئاً من الحب الرمادي
شيئاً من الكذب،
حتى يغدو كل شيء، فاقعاً وملتهباً
تحمرُّ العروقُ ﻓﻲ وجنتيها،
عندئذ تطلب جدّتي، الثأر الحميم،
تسأله عن كاهنة البوادي،
وتحوم ﻓﻲ أرجاء الغرفة، كالمجنونة.
توقف جدّي عن الهذيان
واستعدّ للرقاد الشتوي والندم
وقال ﻟﻬﺎ يا سيّدة كنعانيا:
- سننام، حتى يأتي شهرُ حزيران،
عندئذٍ: ... نتذكر موتانا.