في مبنى "تشيلسي ماركت" الشهير بمنطقة "مانهاتن"، وعلى خلفية ضوضاء القادمين للبحث عن مطعمهم المفضَّل في أحد المعاقل التاريخية لسوق الغذاء بمدينة نيويورك، وصَل قبل عامين موظفو شركة جديدة باسم "جيغسو"، لا يتجاوز عددهم المئة؛ ليشغلوا مكتبا تجاريا فوق محلٍّ إيطالي فاخر للمثلَّجات. لم يكن الأمر غريبا في منطقة لطالما زاحمت فيها المؤسسات البيروقراطية والإعلامية وشركات التكنولوجيا الصاعدة محال الأطعمة صاحبة التاريخ الأطول هُنا. تستمر عجلة ابتكار الأطعمة في حركتها المعتادة كما يتضح من دبيب الطهاة في أروقة سوق تشيلسي، بيد أن ابتكارات أعقد وأبعد أثرا تُطهى في الأدوار العُليا بصُحبة الأصوات الأهدأ لنقر المبرمجين والمهندسين على حواسيبهم داخل مكاتب مبنى 8510 والسوق نفسه على السواء، إذ آل المربُّع التجاري كاملا لشركة "غوغل" عام 2018 في صفقة فاقت ملياري دولار.[1]
ما إن انتقل فريق جيغسو الصغير إلى مقرِّهم حتى قلبوه رأسا على عقب من مكتب رتيب إلى ساحة إبداع تكاد تبدو للناظر وكأنها ورشة أعمال فنية لولا الحواسيب والمكاتب المصطفة في البهو الرئيسي. لكن نظرة أخرى إلى جدران المقرِّ قد تُربِك زوُّار "جيغسو"، وتدفعهم للظن أنهم في مكتب للدعايات السياسية لحزب أو نظام ما. فعلى أحد الجدران تتداخل ملصقات دعائية من القرن العشرين للأنظمة الشيوعية في كوبا وكوريا الشمالية، ورسومات مأخوذة عن دعايات النظام الإسلامي في إيران، وكأن الحائط غلاف لكتاب عن الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، أو بالأحرى تلك التي تعتقد "جيغسو" بأنها "شمولية" دونا عن غيرها. وبالتجوُّل في مقرِّ الشركة يجد الزائر أماكن للنوم، كما هي العادة في مقرات غوغل، لكنها في جيغسو تحمل أسماء مُتخيَّلة لدول شمولية (مثل قومار)، ويجد الزائر أيضا غُرفا للاجتماعات باسم أنظمة شمولية حقيقية هذه المرة (مثل كوبا)، ويجد في الأخير حائطا تكسوه من السقف إلى الأرض صور المحتجات المتَّشِحات بالأخضر في إيران عام 2009.[2]
ليست جيغسو سوى فرع واحد من أفرع عملاق الإنترنت الأكبر، لكنه فرع أحدث نسبيا وأكثر إثارة للجدل من غيره. فقد تأسّست الشركة عام 2010 باسم "غوغل أيدياز" بقيادة "جارِد كوهين"، موظَّف سابق بوزارة الخارجية الأميركية، واصفة نفسها بأنها مركز بحثي للنظر في "تقاطع التكنولوجيا والجغرافيا السياسية"[3]، والكشف عن المخاطر التي تواجه "المجتمعات المفتوحة"، وبالطبع تلك المخاطر تتمثّل أولا في الأنظمة الشمولية التي أفردت جيغسو جدران مقرها لدعاياتها الهزلية، في محاولة وصم كاريكاتورية أو ربما تذكير لموظفيها بما يُمكن أن يكون عليه العالم دون تدخُّلهم.
يعكف فريق جيغسو الصغير بدأب على خلق ما يسمونه بـ "عالم آمن" خالٍ من التطرف والمعلومات الزائفة والأفكار السامة في فضاء الإنترنت الآخذ في التمدُّد والتعقُّد[4]، وإن بدا ذلك مُلهما وجميلا للوهلة الأولى؛ فإن نظرة مطوَّلة على المشاريع التي نفَّذتها جيغسو منذ انطلاقها لـ "تمشيط" الإنترنت كافية لكشف مشكلات عديدة في المفاهيم والممارسات التي تستند إليها الشركة، مفاهيم تُطبِّقها دون أي حوار مع الأطراف المَعنية، وهي الأوسع في عالم الإنترنت.
يجلس كريستوفر هاسُّون، الملازم بقوات خفر السواحل الأميركية، على حاسوبه الخاص باحثا عبر غوغل عن إجابات لأسئلة شائكة تدور في رأسه، معتقدا أنه يمتلك فضاءه الإنترنتي الخاص بعيدا عن الرقابة المعتادة في مؤسسته. يفتح هاسون محرك البحث الشهير ويكتب -وإن لم يتفوَّه بها قبلا بذلك الوضوح- "كيف يُمكن للشعوب البيضاء أن تنتفض بوجه اليهود؟".
سُرعان ما أنذر التطبيق المُستخدَم في مقر خفر السواحل بالعاصمة الأميركية واشنطن المسؤولين إلى توجُّهات هاسون، فأُلقي القبض عليه لتجد السلطات في حوزته قائمة اغتيال لصحافيين وسياسيين ديمقراطيين وقضاة بالمحكمة العُليا، علاوة على مجموعة متنوِّعة من الأسلحة، ليحصل في الأخير على حُكم بالسجن 13 عاما بتُهمة التخطيط لشن هجمات إرهابية "قومية بيضاء"[5]. لا نعرف بالضبط إن كان هاسون قد خطط لذلك من البداية، أم أن المحتوى الذي بحث عنه بدأب ساهم في تطرُّفه واتجاهه نحو التخطيط لتنفيذ الاغتيالات، غير أن الحظ حالف ضحاياه المحتملين بعمله في مؤسسة كغوغل تراقب وتفحص حواسيب موظفيها باستمرار، على عكس الآلاف ممن يتجوّلون في أركان الإنترنت المظلمة ويُدخلون الأسئلة نفسها إلى محرِّك غوغل دون رقيب، باستثناء غوغل طبعا.
لا يجيب غوغل عن تلك الأسئلة المعقَّدة والمليئة بالتحيُّزات والتطرف كما يجيب مثلا عن أسئلتك العادية بوصفك مستخدما، كنقطة غليان الماء أو أفضل محلات البيتزا في نابولي أو عدد أنواع الطيور في غابات الأمازون، لكنه يفتح طُرقا عديدة أمام أي أحد ليكتشف آلافا آخرين ممن سألوا السؤال نفسه في مدينته وبلده بل وعالمه كلِّه، ما يُشعِر سائلي تلك الأسئلة العادية بالانتماء لدائرة أوسع لم يعرفوها قبلا. وعند هذا النمط من الأسئلة السياسية، فإن غوغل يتيح، بقصد أو دونه، تعبئة هؤلاء الباحثين عن الموضوع ذاته، باعتبارهم جماعة سياسية، وذلك لمَن أراد هذا الشيء ابتداء.
وفق هذا المُعطى، يصبح غوغل أشبه بالميدان الأضخم في العالم الافتراضي الذي يتوافد إليه الملايين حين يضلّ اتجاههم، لكنه أحيانا ما يكون نُقطة يتجمَّع عندها أصحاب الاتجاهات السياسية المتشابهة، عشوائيا في البداية، ثم بشكل منتظم. وبالتوازي مع صعود اليمين الأبيض استنادا إلى تلك الشبكات، كما تُنبئنا شركة جيغسو في العدد الثاني من مجلتها "ذَه كارَنْت" (The Current)، المخصصة لتغطية تنظيمات اليمين المتطرِّف المُشكَّلة عبر الإنترنت[6]، بالتوازي مع ذلك دأب فصيل آخر على اصطياد الباحثين عن المحتوى الديني المتطرف ليجذبهم إلى مداره على بُعد مئات الأميال في ساحات القتال الفعلية بالشرق الأوسط، فصيل يُدعى "تنظيم الدولة الإسلامية" أو (داعش).
يتحدث الباحثان "ريان غرير" و"فيذيا رامالينغام" في مقال[7] لهما عن أهمية محرِّكات البحث التي تتربَّع غوغل على عرشها منذ فترة؛ كمحرِّك غوغل الرئيسي أو المحركات الفرعية على مواقع شديدة الضخامة كيوتيوب وغيرها، فعلى نقيض مساحات مثل فيسبوك وتويتر، يعي المشاركون فيها أنهم يخاطبون جمهورا، ويكتبون منشوراتهم بعناية للحفاظ على ذلك الجمهور، تكشف عمليات البحث التي يقوم بها شخص ما عن أفكاره بشكل أعمق، وتتيح الكشف عن "مسارات" المحتوى المتطرِّف على الإنترنت، الأبيض أو الإسلامي أو غيرهما، وأي أهداف سياسية يعكف عليها صُنَّاعه إن وُجدَت. غير أن غوغل لم تتوقَّف هُنا، بل استلهمت من تجربة "داعش" والعائدين منها، تطبيقا صمَّمته قبل ستة أعوام عبر شركة جيغسو الوليدة آنذاك ليصبح واحدا من أول مشاريع الشركة، تطبيق يُدعى "منهجية إعادة التوجيه" (The Redirect Method).
طوَّرت جيغسو برنامجا مفتوح المصدر باسم "منهجية إعادة التوجيه" يقوم بالتقاط المحتوى الذي يبحث عنه في العادة "المتطرفون" على الإنترنت، ويضع عن عمد على الصفحات المتصلة به وبنتائجه على محرِّكات البحث محتوى مضادا له. وفي إحدى تجاربها كما يصف موقعها الرسمي، وضعت جيغسو محتوى ضد التطرُّف بالعربية والإنجليزية طوَّرته شركتان لبنانية وبريطانية على الترتيب، وهو مُكوَّن من 116 فيديو موزَّعة على صفحات قادت إليها عمليات بحث اعتاد "تنظيم الدولة" اجتذاب مقاتلين عبرها، ونجحت حزمة الفيديوهات تلك بالفعل خلال ثمانية أسابيع أن تلفت انتباه أكثر من ثلاثمئة ألف شخص إلى محتواها، بإجمالي وقت مشاهدة بلغ نصف مليون دقيقة[8].
لتوضيح الفكرة أكثر، نستعرض هذا المثال: إذا ما جلس أحدهم على محرِّك غوغل باحثا عن "فتوى الجهاد في سوريا" أو أسماء رجال دين أيّدوا "تنظيم الدولة" علنا ودعوا الناس للانضمام إليه، فستظهر إلى جانب نتائج بحثه إعلانات مصنوعة خصيصا تقوده لتسجيلات فيديو تناقش شرعية التنظيم وجدوى الانضمام إليه، تسجيلات مرئية سجَّلها بالطبع مسلمون مناهضون للتنظيم. وبينما أثبتت "منهجية إعادة التوجيه" كفاءتها، على الأقل في جذب انتباه المستخدمين، حسبما تقول "ياسمين جرين" مديرة البحث والتطوير في جيغسو[9]، فقد بات هدفُها الحالي بعد أفول "تنظيم الدولة" في السنوات الأخيرة هو التطرُّف الأبيض داخل الولايات المتحدة نفسها.
ليس التطرُّف الأبيض بتحدٍّ يُهدِّد الولايات المتحدة من خارجها فحسب بصلاته الروسية المعروفة الآن، بل يُشكِّل التحدي الاجتماعي الأبرز في عُقر دارها خلال هذا العقد وما يليه كما يبدو، لا سيما أن هذا التيار أوصَلَ رجلا مثل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. أما وقد أصبحت المسألة البيضاء في الداخل هي الشغل الشاغل للنُّخبة الأميركية، عوضا عن مطاردة معاقل "الإرهاب" في الشرق الأوسط التي شغلتها في العقد المنصرم، في خضم ذلك تظهر جيغسو بوصفها عنصرا رئيسا في حرب المؤسسة الأميركية وارتباطاتها بوادي السيليكون على "سموم" القومية البيضاء.
فقد دشَّنت جيغسو قبل بضعة أعوام "پِرسپِكتيڤ" (Perspective) ،[10] وهو واجهة برمجية (API) "مُضادة للإساءة" تُتيح كشفا تلقائيا لأي تعليقات تحوي سبا أو إهانة أو مضمونا عنصريا، ومن ثمَّ تقوم بحصرها سريعا وآليا، ثم يُترك قرار حذفها من عدمه للجهة التي تستخدم تلك الواجهة. وبالمقارنة، يعكف موظفون كُثُر في كبرى مؤسسات الإعلام والتواصل الاجتماعي على ترشيح التعليقات بأنفسهم "يدويا" حتى اليوم، وفي خضم السيل الجارف من التعليقات المنشورة يوميا على تلك المواقع والمنصات دون رقابة، يصبح إتمام المهمَّة كاملة شبه مستحيل.
طوَّرت جيغسو تلك الواجهة عبر تدريب نموذجها الآلي عن طريق إدخال نماذج لتعليقات "سامة" إليه، حتى تبلورت قدرته على التفرقة بدرجة لا بأس بها بين التعليق العادي والتعليق "السام"، بل وتصنيف سُمِّيَّة التعليقات بنسبة مئوية. وكما يُشير موقع "وايرد" فإذا ما تلقّت تلك الواجهة البرمجية جُملة "أنت لست لطيفا"، فستكون النتيجة هي أن تلك الجملة "سامة بنسبة 8%"، أما إذا تلقّت الواجهة جملة "أنت امرأة قذرة" مثلا، فستقفز نسبة السُّمية إلى 92%. ومع تزايد استخدام واجهة جيغسو من أطراف عديدة مثل موقع ويكيبيديا وصحيفة نيويورك تايمز (أول مستخدميه والمشاركين في تطويره)[11]، ستتيح الواجهة إدخال التعديلات على تصنيفاتها تلك طبقا للتقييم الذي تحصل عليه. ليس ذلك فحسب، بل وأُتيح لجيغسو أن تطَّلع على الأرشيف الهائل لتعليقات نيويورك تايمز بالكامل لاستخدامه أيضا في تدريب الواجهة.
بالطبع، لا يمكن أن نَعُدَّ حظر التعليقات المسيئة باعتباره هدفا قبيحا، وهذا أمر بديهيّ، لكنه يجلب معه أسئلة مُعقَّدة تقنية وأخلاقية، أولها عمَّن يُقرِّر "سُمِّيَّة التعليقات" في المقام الأول، وكذلك عن طبيعة تفاعل الآلة مع استخدامنا للغة، وما إن كان الحَصْر الآلي وإمكانية الحذف الكُلِّي للإساءة والتطرُّف يُساهمان في حل المشكلة بشكل فعلي، أم في مفاقمتها عبر تعزيز إحساس أولئك المسيئين بأنهم مستهدفون من مراكز القوى السياسية والتكنولوجية.
فيما يخص الذكاء الاصطناعي، ستواجه جيغسو مُعضلة استخدام الألفاظ المُسيئة في سياقات ساخرة وفكاهية بين الشباب مثلا، وقابلية تصنيفها وحذفها آليا، على عكس الترشيح اليدوي للتعليقات الذي يُدرك خلاله شخص ما الاستخدام المُعقَّد للغة. ومن ناحية أخرى، وكما تُظهِر ورقة بحثية منشورة على موقع "أركايف"، فإنه يُمكن بسهولة خداع الواجهة البرمجية بتعديلات بسيطة، وتمرير تعليقات شديدة الإساءة والعنصرية، وأبسط تلك الخدع هو كتابة كلمات معيَّنة بشكل خاطئ عبر زيادة حرف أو علامة ترقيم، لكنها تظل مقروءة ومفهومة للعين والعقل البشريين بطبيعة الحال.[12]
لا تقف مشاريع جيغسو عند "پِرسپِكتيڤ" أو منهجية إعادة التوجيه فقط، بل تشمل "أسِمبلر"، الذي يساعد في الكشف عن الصور المُزيَّفة بتقنية "deepfake" [13]، و"بروجيكت شيلد" لحماية المواقع المُعارِضة من هجمات حجب الخدمة المعروفة اختصارا بـ "DDoS[14″]، و"يو" الذي يُتيح للصحافيين والنشطاء في أي بلد تجاوز حجب الإنترنت وتخطي قدرة الحكومات على مراقبة حواسيبهم، وأشارت ياسمين جرين صراحة إلى إيران بوصفها نموذجا يستهدفه "يو پروكسي" لتعزيز الاتصال بين معارضي النظام هناك[15].
ومثلهما مثل جدران مقرهما في نيويورك، لا يتوانى كوهين أو جرين عن توضيح اتجاهاتهما، وهي كما يقولون "الانحياز للمحرومين من حرية التعبير"، و"الحفاظ على الإنترنت مكانا آمنا بعيدا عن قبضة الحكومات الاستبدادية وإساءات المتطرفين معا"، لكنها انحيازات تتجاهل تعقيدات العالم الحقيقي الذي تنبعث منه تلك الظواهر كافة، وهي انحيازات تُخفي توجّهات مبطنة تجعل حق تمشيط الإنترنت الذي منحته غوغل لنفسها استئثارا يحتاج إلى إعادة نظر وحوار مع أطراف أخرى شريكة في عالم الإنترنت، وفي العالم الحقيقي الذي تُعَدُّ غوغل نفسها عملاقا من عمالقته المدفوعين بالربح والمصلحة في نهاية المطاف، وهو أمر لا يدفعنا نحو الاعتقاد بمؤامرة، ولكن بضرورة إخضاع غوغل وجيغسو لنظرة نقدية شديدة الدقة.
في مقال متزن بموقع "كوارتز" المعروف، كتبت "لوسي وارك" عن جيغسو والإشكاليات المحيطة بها، وبدلا من الوقوع في غرام مشاريعها أو مقتها بالجُملة، ابتعدت لوسي بنظرها لتضع شركة جيغسو في سياق حالة متفشية أعمَّ في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا، حالة تسميها لوسي بـ "تأثير كاليفورنيا". وبالإحالة إلى الأستاذين بجامعة وِستمينستر البريطانية، "أندي كاميرون" و"ريتشار باربروك"، اللذين كتبا في منتصف التسعينيات عن "أيديولوجيا كاليفورنيا"، وثقافة "الهيپي" في الساحل الغربي المتداخلة مع صناعة التكنولوجيا الثقيلة هناك، وهي ثقافة وأيديولوجيا "تخلقان إيمانا دفينا بقدرة تكنولوجيا المعلومات على تحرير البشر"، وهو إيمان يحل أحجيات تقنية لكنه لا يحل مشكلات العالم الملموس.
في ذلك الوادي الساحلي، ينغمس التنفيذيون، ليس في التبشير بتلك الليبرالية التكنولوجية فحسب؛ بل وفي الاعتقاد بأن فضاء الإنترنت يُعَدُّ عالما جديدا من صُنعهم، ومن ثمَّ يصاحب اعتقادهم ذلك شعور بالاستحقاق يسوِّغ لهم التصرُّف بوصفهم أباطرة هذا الفضاء، أو ما يعتقد بعض النقاد بأنه ضرب من ضروب الاستعمار كما تُشير لوسي[16]. وفي غوغل تحديدا، دون غيرها، تجسيد لذلك التأثير بالنظر لما حازته من مركزية في عالم الإنترنت على مدار العقدين الماضيين، إذ باتت خدماتها كافة بمنزلة "منازلنا الرقمية" الرئيسية التي نتحرَّك منها وإليها.
يتسع الإنترنت إذن كأنه حضارة في طورها الأول، أو قارة اكتُشِفَت للتو، فنجد ملوكا ورعايا دون عقد يُذكر ينظم العلاقة بين الطرفين، وبحقوق فعلية حصرية للمكتشفين الأوائل على حساب المستخدمين العاديين، ومن هُنا تأتي الانتقادات لممارسات غوغل وجيغسو بوصفها "استعمارا إلكترونيا"، وفي ذلك العالم الاستعماري يمنح تنفيذيو غوغل أنفسهم الحق في فرض حواجز ومتاريس تُقيِّد من حريات مستخدمي محرك البحث الأول إن وجدوا في ذلك خطرا على غيرهم، وفق رؤية ليبرالية كلاسيكية كما تُشير لوسي، ما يجعلهم "وسيطا لوغاريتميا محايدا بين المستخدمين والعقل الجمعي للإنترنت" على حد وصف المفكِّر "إيڤغني موروزوف"، أو آلهة محايدة لفضاء الإنترنت، وهُم بذلك لا يتساوون بأي حال مع السواد الأعظم من مستخدميه.
مَكمن هذا الاعتقاد، أي بحياديتهم، أنهم يرون أنفسهم بعيدين عن السياسة المباشرة، وأنّهم يتربَّعون على عرش شركة سخَّرت نفسها لتقديم أفضل ما لديها للعالم بعيدا عن الحكومات المقيَّدة بمسؤولياتها وتحيزاتها في آنٍ واحد، وهي نظرة تتعامى عن حقيقة سياسية بديهية كامنة فيما تمتلكه تلك الشركات من قوة ومصلحة تضعها في قلب السياسة، ولا تجعل منها كما تدَّعي إله الإنترنت الخيِّر الذي لا يريد سوى "إنترنت حر للجميع"، على الرغم مما يمنحونه من اتصالية غير مسبوقة أتاحت للملايين معارف لا حدود لها، وقدرة على الحشد الفكري والسياسي لم يرها التاريخ من قبل.
بيد أن المرء يقف في حيرة من أمره حيال المآلات السياسية لتلك الاتصالية، وما إن كانت غوغل على استعداد لاستخدام سلطانها الإلكتروني للتأثير بما يناهض بعض تلك التحرُّكات إذا لم تعجبها، استنادا إلى ملكيتها لذلك الفضاء بوصفه مُنتَجا في نهاية المطاف. لا تقوم جيغسو حتى اللحظة إلا بعرقلة الأجندات المتطرِّفة، لكنها في الأخير تُطوِّر باستمرار آليات تسمح باستخدامها على نطاق أوسع بضغطة زر من جانبها أو من جانب شركائها، كما أن الخط الفاصل بين اليميني والمحافظ من جهة والمتطرِّف من جهة يظل رُماديا ومُثيرا للجدل بالنظر للانحيازات المعروفة لتنفيذيي غوغل ووادي السيليكون -وهي من أسباب تحفُّظ الجمهوريين في الولايات المتحدة على سلوك غوغل وأخواتها في العموم-، والاحتفاء بقفزات التكنولوجيا وقدرتها على وضع عقبات على الطريق إلى العنف ثمَّ التحفُّظ على صلاحيات أرباب تلك التكنولوجيا في آنٍ واحد والمطالبة بضبطها قانونا ليسا موقفين متناقضين، كما يؤكِّد موروزوف، إذ "يحفل التاريخ بنماذج لمُثُل إنسانية وحميدة أفضت إلى نتائج خبيثة حين استندت إلى سُلطان بلا قيود وخطاب مشيحاني".[17]
في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2010، كتب مدير غوغل للأفكار "جارِد كوهين" والمدير التنفيذي لغوغل "إريك شميت" مقالا في مجلة "فورين أفيرز" المرموقة بعنوان "الاضطراب الرقمي؛ الاتصاليِّة وتفشي القوة". يفتتح قُطبا غوغل مقالَهما بالحديث عن عصر الإنترنت، والمفاجآت التي يحملها للحكومات حول العالم، والانتفاضات الصغيرة التي أصبح بإمكان عدد من المواطنين القيام بها باستخدام هواتفهم المحمولة فحسب. ويُحيل الكاتبان إلى الاحتجاجات الإيرانية التي جرت قبل عام من نشر المقال ولعب فيها تويتر دورا محوريا، وإلى الانتفاضة في مولدوفا ضد تزوير الانتخابات عام 2009، وكذلك انتفاضة النشطاء الإيغور في الصين في العام نفسه. في المقال أيضا استعراض لتاريخ الطفرات التقنية بدءا من الصحافة المطبوعة ودورها في تشكيل الحركات السياسية مطلعَ القرن العشرين، مرورا بشرائط الكاسيت ودورها في الثورة الإيرانية، وصولا إلى تقنية تصوير الورق والفاكس التي لعبت دورا في إسقاط الأنظمة الشمولية في شرق أوروبا قبل ثلاثة عقود.
كان المقال انتقائيا على مستويات عدة، أولها قائمة الآثار الإيجابية للتكنولوجيا في كسر قيود الأنظمة الشمولية على مدار القرن العشرين، التي انتقت نقاطا دون غيرها في مسيرة التكنولوجيا، فقد أتاحت تلك المسيرة للدول والأنظمة الشمولية تأسيس قبضة أصلب من ذي قبل في الخمسينيات والستينيات مثلا، أثناء ذروة عصر التلفاز الذي لم يسع السواد الأعظم من الناس المشاركة في صناعته، فهيمنت عليه الدول ثم الشركات الكبرى.
وكان المقال انتقائيا أيضا في استعراضه الدرامي لما أحدثه الإنترنت من تغيير في المعادلة لصالح الشعوب، دون نظر كافٍ لما منحه للأنظمة من أدوات قمع جديدة تواكب تمكينه للأفراد في كل مكان وتحوم فوقه، وهي انتقائية استدركها الكاتبان لاحقا حين نشرا كتابهما الأكثر اتزانا عن "العصر الرقمي الجديد" بعد بضعة أعوام، ثم تبعاه بمقال في "وول ستريت جورنال" عن "الجانب المظلم للثورة الرقمية" يستعرض ما تمنحه التكنولوجيا من إمكانيات للأنظمة الشمولية في الرقابة والسيطرة[18].
ستُعزِّز التكنولوجيا أيضا من قدرة الشركات على فعل الشيء نفسه، وعلى رأسهم غوغل، لكن التساؤلات بخصوص الشركات وقوتها المتنامية لا تُطرَح بالنظرة النقدية نفسها أبدا. لكن نُقَّاد الشركة يطرحونها، ويتساءلون عمَّا يُمثِّله عالم الإنترنت لمفهوم القانون، والآليات التي يُمكن بها إخضاع عمالقة الإنترنت في إطار قانوني لترويض سلطاتهم؛ مقترحات لم يضعها مفكر ماركسي، بل كتبها فرانسيس فوكوياما بنفسه في مجلة "فورين أفيرز" أيضا، إذ يرى فوكوياما خطرا على الديمقراطية من سلطان التكنولوجيا اللا محدود مناقضا رومانسية صُنَّاعه.[19]
يلفت النظر أيضا انتقاء مقال شميت وكوهين في حديثه عن دور التكنولوجيا في الاحتجاج لبلدان تُعادي الولايات المتحدة والعالم "الحر والمُتقدِّم" من وجهة نظر كاتبي المقال، ووادي السيليكون عموما، بلدان مثل الصين وكوبا وإيران والأنظمة الشيوعية. وللمفارقة، حين أتى المقال على ذكر دول غير ديمقراطية أيضا لكنها حليفة للولايات المتحدة، كانت لهجته تتحدَّث بالأساس عن التغيُّرات الاجتماعية (غير السياسية) التي جلبها الإنترنت. ففي مصر يكسر استخدام الإنترنت "الحواجز التقليدية للسن والجنس والطبقة الاجتماعية"، وفي باكستان هنالك ثناء على تزايد عدد مستخدمي الهاتف المحمول إلى مئة مليون، وفي كينيا هنالك تطبيقات مميزة لتحويل الأموال عبر المحمول، وكذلك في أفغانستان، التي لا يعيب الإنترنت فيها -في رأي كوهين وشميت في مقالهما- سوى قدرة أعضاء حركة طالبان على استخدامه لتنفيذ "جرائمهم" حد تعبيرهما[20].
بعد أسابيع قليلة من نشر مقالهما التاريخي، المصاحب لتأسيس شركة "غوغل أيدياز" (جيغسو فيما بعد)، اندلعت الثورة التونسية، وأطلقت شرارة تلقّفتها مصر في يناير/كانون الثاني 2011، ثم ليبيا في فبراير/شباط من العام نفسه، وسوريا واليمن والبحرين من بعدهم. لم تكن الثورتان التونسية والمصرية مفاجأة لحكوماتيهما فحسب، بل ولصُنَّاع القرار في الغرب، وأرباب الطفرات التكنولوجية في غوغل نفسها، الذين لم يروا أيًّا من البلدين بوصفه "ديكتاتورية"، فاقتصر الاشتباك مع مجتمعات المجتمع المدني فيها على الاهتمام بملفات حقوق الإنسان وحرية الصحافة، على عكس الديكتاتوريات الصريحة (في نظرهم) التي مُنِحَت معارضتها الجذرية أدوات مخصصة. فحين اشتعلت الثورة السورية في وجه نظام مُعادٍ للولايات المتحدة (وديكتاتوري بالطبع)، عكفت "غوغل أيدياز" للخروج بتطبيق يساعد على رسم خارطة للمُنشقين عن النظام لتيسير تواصل المناضلين هناك.[21]
حين اندلعت الثورة المصرية، لم تظهر اهتمامات سياسية مماثلة بإسقاط النظام من عدمه. جُلّ ما هنالك أن أحد مؤسسي غوغل تساءل مغتاظا عن سبب تسميتها بثورة "فيسبوك"، وما إن كانت لتكون "ثورة غوغل" لو أن غوغل عكفت على إنتاج المنتج الصحيح في الوقت المناسب. ذلك فحسب هو كل ما في الأمر. فغوغل -عكس ما ترى نفسها- محض شركة عادية تشكَّلت في ظروف استثنائية (نهاية الحرب الباردة وصعود النيوليبرالية) وخلقت سوقا استثنائيا للمعلومات والاتصالية المتزايدة، كما يقول المؤرِّخ وأستاذ الدراسات الإعلامية بجامعة فرجينيا، "سيوا وادياناتان"، وهي شركة تسعى لتظل في القلب من عالم المعلومات والاتصالية ذاك، اللذين تعتبرهما "منتجات" في المقام الأول قبل أن تنظر في مآلاتهما الاجتماعية أو السياسية، وشركة لديها منافسون الآن كذلك، وقد تنتهج خيارات غير أخلاقية لإبعادهم عن منافستها (وهُم كثُر بعد ظهور فيسبوك وتويتر، ويمنحون رواتب أعلى أحيانا كما يُشير موروزوف ساخرا). وأخيرا، هي شركة أميركية يشارك فيها دبلوماسيون أميركيون سابقون، وتظل انحيازاتهم السياسية معهم، وعلى جدران مكاتبهم أيضا.[22]
المصادر
1. Google Parent to Buy Manhattan’s Chelsea Market Building in $2 Billion Deal
2. Inside the offices of Jigsaw, an elite think tank created by Google where employees sample food from around the world and strive to solve complicated geopolitical issues
3. Inside Alphabet’s Jigsaw, the powerful tech incubator that could reshape geopolitics
4. A safer internet means a safer world
5. Former Coast Guard Lt. gets 13+ years for terror plot
6. TheViolent White Supremacy Issue
7. The Search for Extremism: Deploying the Redirect Method
8. The pilot experiment that started it all.
9. Google’s Clever Plan to Stop Aspiring ISIS Recruits
10. Now Anyone Can Deploy Google’s Troll-Fighting AI
11. Google Cousin Develops Technology to Flag Toxic Online Comments
12. Deceiving Google’s Perspective API Built for Detecting Toxic Comments
13. Alphabet’s Jigsaw unveils a tool to help journalists spot deepfakes and manipulated images
14. Google launches new anti-DDoS service called ‘Project Shield’
15. Google Unveils Tools to Access Web From Repressive Countries
16. Inside Alphabet’s Jigsaw, the powerful tech incubator that could reshape geopolitics
17. Don’t Be Evil
18. The Dark Side of the Digital Revolution
19. How to Save Democracy From Technology
20. The Digital Disruption Connectivity and the Diffusion of Power
21. GOOGLE PLANNED TO HELP SYRIAN REBELS BRING DOWN ASSAD REGIME, LEAKED HILLARY CLINTON EMAILS CLAIM
22. Can Alphabet’s Jigsaw Solve Google’s Most Vexing Problems?