خلف الاستعمار الفرنسي للمغرب منظومة تعليمية تعاني من مجموعة من التناقضات والاختلالات. وقد حاول هذا الأخير، غداة الاستقلال، تجاوز الواقع المأزوم لمنظومته من خلال تشكيل "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" التي أقرت المبادئ الأربعة: التعميم والتوحيد والتعريب والمغربة. غير ان هذه اللجنة لم تستطع تقديم حلول جذرية للمشاكل الأساسية للمنظومة، كما انها لم تضع آليات دقيقة ومخططا واضح المعالم لتنزيل هذه المبادئ، مما جعل تطبيقها (أي المبادئ الأربعة) خاضعا للصدفة ومرهونا بتقلبات الأحوال؛ الشيء الذي يبدو جليا من خلال ما خرجت به المناظرات التي عقدت حول التعليم بالمغرب. فإذا كانت مناظرة المعمورة (سنة 1964) قد وضعت مخططا عشريا للتعريب يبتدئ في نفس السنة، فإن مناظرة إفران الأولى (1970)، وإن لم تنته إلى قرارات مهمة بسبب الخلافات بين الفرقاء حول التعميم والتعريب، استطاعت الخروج بمجموعة من التوصيات، نذكر منها تعريب الاجتماعيات والفلسفة وتدريس مادة التكنولوجيا ضمن مواد التعليم العام بالسلك الإعدادي لتلاميذ السنتين الثالثة والرابعة إعدادي بمعدل ساعتين متتاليتين أسبوعيا لكل فوج لا يتعدى عدد أفراده عشرين تلميذا.
قرار اعتماد مادة التكنولوجيا جاء في إطار تنفيذ المخطط الخماسي 1968-1973 الذي وضع من بين أهدافه "تحسين نوعية التعليم وملاءمته مع الحاجيات الاقتصادية والاجتماعية والرفع من مستوى الأطر التعليمية". وقد بدأ تنفيذ هذا القرار مع بداية الموسم الدراسي 1970-1971 من خلال إحداث مؤسسات تجريبية بكل من الرباط والمحمدية، مع تنظيم ندوات ولقاءات تربوية اطرها أساتذة مغاربة ومفتشون فرنسيون، ليتم سنة 1974 فتح المركز التربوي الجهوي (الذي أحدث مؤقتا بثانوية جابر بن حيان بالدار البيضاء) أمام أول فوج من الطلبة الأساتذة الذين استفادوا من تكوين استغرق سنتين.
تبنت التكنولوجيا عند اعتمادها كمادة دراسية سنة 1970 نفس البرامج الدراسية والأهداف والمعتمدة في المادة بفرنسا، لكنها استطاعت أن تبلور على امتداد التغييرات التي عرفتها برامجها (1973، 1977، 1981، 1985، 1991، 2000، ،2006، 2009) اختيارات تربط بين مميزات المحيط التقني المغربي و ما يعرفه العالم من تطورات تكنولوجية مع أخذ امتدادات المادة بالسلك الموالي بعين الاعتبار.
استهدفت مادة التكنولوجيا منذ نشأتها تمكينَ المتعلم من فهم العالم التقني الذي يعيش فيه، وفتحَ الآفاق أمامه لتعلم المعارف والمهارات التي يشكل هذا العالم حصيلة لها. فتم التركيز في كل برامجها على مقاربة المحيط التقني من خلال دراسة الأشياء التقنية التي تكَوِّنه، والأنشطة التقنية والتنظيم الاجتماعي لهذه الأنشطة. كما تميزت المادة باعتماد مقاربات بيداغوجية قائمة على الفعل الذي يستهدف التأثير على المحيط التقني لتجاوز الطابع المجرد والنزوع التأملي للتعليم الإعدادي؛ إذ تم التركيز في كل برامج المادة على دراسة الأشياء التقنية الناجمة عن نشاط إنساني مع إعطاء الأولوية لملاحظة هذه الأشياء ودراستها وتفكيكها وتركيبها وتصورها وإنجازها وإصلاحها وتمثيلها بواسطة الرسم التقني باعتباره لغة عالمية تستعمل في عملية التصور، وتمكن من تبليغ الافكار في كل عملية تواصل تقني.
لقد استقت المادة مضامينها ومهامها وأشياءها من مجموعة من المجالات التقنية (الإلكترونيك، الميكانيك، الكهرباء، التلقائيات، الطاقات المتجددة، الروبوتيات، المعلوميات) والممارسات المرجعية التي تحيل على مجموع الأنشطة التقنية المزاولة في المحيط التقني للمتعلم. هذا الدمج بين معارف عالمة (مستقاة من مجالات تقنية) وممارسات مرجعية جعل المادة، على امتداد عقود من تواجدها، الوحيدة القادرة على إتاحة الفرصة للمتعلم المغربي بالسلك الإعدادي لمقاربة المحيط التقني و التعرف على المهن التقنية بشكل يزاوج بين النظرية و التطبيق، مما يساعده على البلورة العقلانية لاختيارات دراسية مهنية مستقبلية مرتبطة بالمجال التقني.
كما تجدر الإشارة، في ذات السياق، إلى ان التكنولوجيا كانت ولازالت المادة الوحيدة التي تتيح للمتعلم بالسلك الإعدادي فرصة الاطلاع على بعض المفاهيم الأساسية للاقتصاد، دون أن ننسى أنها كانت السباقة إلى إدخال الحاسوب والمعلوميات إلى المدرسة المغربية في بداية تسعينيات القرن العشرين؛ حيث مكنت المتعلم بالسلك الإعدادي آنذاك من التعرف على الحاسوب و توظيفه في تعلم أساسيات البرمجة، كما أتاحت له بشكل مبكر فرصة التعرف على البرانم المكتبية واستعمالِها.
ولكن، ورغم مرور نصف قرن على اعتماد التكنولوجيا الصناعية بالسلك الإعدادي فإنها لازالت تصنف ضمن المواد غير المعممة؛ أي غير المتاحة لكل المتعلمين المغاربة بهذا السلك. فإذا كان تدريس المادة قد اقتصر في بداياتها على تلاميذ السنتين الثالثة والرابعة إعدادي ببعض المؤسسات التعليمية، فإن سنة 1991 عرفت طفرة نوعية من خلال إقرار تدريسها بالسنوات السابعة والثامنة والتاسعة من التعليم الأساسي مع اعتماد كتب مدرسية خاصة بها للمرة الأولى. وقد تزامنت هذه الطفرة مع الارتفاع الملحوظ لأعداد الأساتذة خريجي المدرسة العليا لأساتذة التعليم التقني بالمحمدية ومع خلق مركز تربوي جهوي جديد خاص بالمادة بسطات؛ وهو المركز الذي لعب دورا كبير في توفير الأطر التربوية بأعداد متفاوتة للمادة منذ 1998 إلى غاية تحويله إلى مركز جهوي لمهن التربية والتكوين، يكون في كل التخصصات ماعدا مادة التكنولوجيا التي أوجد أصلا من أجلها في إطار مشروع طموح لتعميم المادة، لم يكتب له أن يكتمل بسبب مجموعة من القرارات التي اتخذت لاحقا.
وقد شكلت سنة 2006 محطة مفصلية في الوضعية الذي وصلت إليها مادة التكنولوجيا الصناعية اليوم؛ إذ صدرت المذكرة 43 في شان تنظيم الدراسة بالتعليم الثانوي، حيث نصت في فقرة المواد "غير المعممة" بالتعليم الإعدادي على إعطاء الأسبقية في تدريس هذه المواد "لأحد مستويات السلك الإعدادي واتخاذ كافة التدابير لتعميمها في المستوى المحدد إلى حين توفر الظروف والإمكانات المناسبة لتدريسها في المستويات الأخرى."، وهكذا أعطيت الأسبقية في تدريس مادة التكنولوجيا "بساعتين في الأسبوع للسنة الثالثة إعدادي، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لتعميمها في هذا المستوى؛ على أن يكلف الأساتذة الزائدون عن الحاجة بتدريس المادة في السنة الثانية إعدادي" . لقد أثارت هذه المذكرة إبان صدورها مخاوف لدى بعض أطر التكنولوجيا الصناعية من اختفائها التدريجي كمادة دراسية، في حين أن البعض الآخر رأى فيها فرصة لتعميم المادة على السنة الثالثة إعدادي في جميع المؤسسات التعليمية كمرحلة أولى في أفق التعميم على السنة الثانية إعدادي كما ورد في المذكرة. غير أنه وبعد مرور 14 سنة على صدور المذكرة 43 يتبين أن الفريق الأول كان محقا في تخوفه وتوجسه، إذ عمدت مجموعة من المديريات الإقليمية إلى تبني تفسير خاص لهذه المذكرة ولمقرر تنظيم السنة الدراسية 2008/2009 في شقه المتعلق بما اعتبر مواد متآخية، لتقوم بتكليف أساتذة المادة بتدريس مواد أخرى كالرياضيات والفيزياء. وهكذا اختفت التكنولوجيا الصناعية من مجموعة من المؤسسات التعليمية بسبب هذه التكليفات ونتيجة لتقاعد عدد كبير من أساتذتها الذين لم يتم تعويضهم بحكم إقصاء المادة من مباريات توظيف الأساتذة أطر الأكاديميات رغم العدد الكبير لخريجي الشعب التكنولوجية من مختلف الجامعات المغربية المؤهلين بعد استفادتهم من التكوين لتدريس المادة.
إضافة إلى ما وصلت إليه التكنولوجيا الصناعية بسبب القرارات التي تمت مناقشتها أعلاه، هناك من يرى الآن أن المادة فقدت كل مبررات الوجود لكون المواد العلمية (الفيزياء مثلا) قادرة على مقاربة المحيط التقني للمتعلم؛ على أساس أن كل الأشياء التقنية الموجودة في هذا المحيط عبارة عن تطبيقات متنوعة لقواعد ومبادئ علمية وأن التكنولوجيا لا تعدو أن تكون تطبيقا للعلوم.
إن أصحاب هذا الاقتراح لا يأتون بشيء جديد بقدر ما يعيدون تدوير أطروحة "العلوم والتكنولوجيا والمجتمع" التي ظهرت في نهاية ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته غداة ارتفاع حدة الانتقادات المجتمعية للعلوم؛ وهي أطروحة تعتبر التكنولوجيا حلقة الوصل بين العلوم والمجتمع؛ أي أنها تعتبر العلوم محايدة ولا يمكن أن تؤثر بالسلب او بالإيجاب على المجتمع إلا من خلال تطبيقاتها التكنولوجية. انتشار هذه الأطروحة ساهم في اعتماد عدد من الدول المتقدمة لبعض المواد الدراسية الجديدة التي ركزت على التربية العلمية والتكنولوجية مع استحضار البعدين الاجتماعي والأخلاقي للعلوم والتكنولوجيا. غير أن هذه المواد أولت أهمية كبرى للعلوم على حساب التكنولوجيا، كما ركزت خلال تصور وإنجاز الأشياء التقنية على تمكين المتعلم من إدراك بعض المفاهيم والقوانين العلمية مع إغفال كل الجوانب الأخرى (الحاجة التي يلبيها الشيء التقني، انتظارات مستعمل هذا الشيء، الإكراهات التي يفرضها محيط استعمال هذا الشيء، تعدد الحلول الممكنة، معايير اعتماد حل معين دون سواه...الخ).
يرى المدافعون عن أطروحة "العلوم والتكنولوجيا والمجتمع" أن التكنولوجيا اكتسبت أهمية أكبر في المنظومات التعليمية من خلال ربطها بالعلوم التي تحظى بمنزلة أكبر، غير أن منتقدي هذه الأطروحة يعيبون عليها تغييب طبيعة التكنولوجيا رغم إقرارهم بتقاطعات هذه الأخيرة مع العلوم في بعض الجوانب واختلافاتها عنها في جوانب عديدة. فمن أوجه الاختلاف، أن المشتغل بالعلوم يبحث عن وضوح الظواهر من خلال التفكير بمنطق "السبب والنتيجة"، في حين أن التكنولوجي يهتم وينشغل أساسا بالفعل المحول للعالم من خلال التفكير بمنطق " الوسيلة والغاية "؛ وهما منطقان مختلفان يؤسسان لتمايز أساسي أول بين العلوم والتكنولوجيا، ينضاف إليه تمايز آخر لا يقل أهمية؛ يتجلى في قيام المشتغل بالعلوم ببلورة أدوات مفاهيمية ونماذج نظرية تكون في كثير من الأحيان تبسيطا لمعطيات الواقع من خلال التركيز عما هو أساسي، في الوقت الذي لا يتعامل فيه التكنولوجي مع هذه النماذج النظرية الاختزالية، بل يكون ملزما بأخذ كل تعقيدات الواقع بعين الاعتبار حتى يتمكن من تصور وإنجاز شيء تقني قادر على تلبية حاجة المستعمل في سياق واقعي لا يمكن إغفال أي من عناصره؛ لأن أي إغفال قد يفضي إلى فشل هذا الشيء التقني في أداء وظيفته التي من أجلها صمم وطور.
إضافة إلى ما سبق، فإن التكنولوجيا مدينة للعلوم بالمعرفة التي تضمن لها الفعالية، في حين العلوم مدينة للتكنولوجيا بمجموعة من الأشياء والوسائل والأدوات والتجهيزات التي يستعملها كل علم لملاحظة ومناولة مواضيع اشتغاله. وبناء على هذه الاختلافات فإننا نرى أن العلوم غير قادرة على تدريس التكنولوجيا بسبب اختلاف مواضيع الدراسة وآليات الاشتغال بينهما. وقد أدركت مجموعة من الدول (و.م.أ، هولندا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا ...) فشل الرهان على العلوم في تدريس التكنولوجيا، مما جعلها تخصص موارد بشرية ومالية مهمة لإرساء مواد دراسية مستقلة كفيلة بتمكين المتعلم من اكتساب معارف تكنولوجية.
إن العلوم تحتل مرتبة متميزة في أغلب المنظومات التعليمية، في حين أن التكنولوجيا تبدو كما لو أنها من المواد التي يُسمح بالكاد بوجودها. ويفسر كثير من الباحثين في فلسفة التكنولوجيا هذا التباين بهيمنة نزعة تقدير العمل الذهني والنظري مقارنة بالعمل اليدوي. هذه النزعة تمتد جذورها عميقا في الثقافة اليونانية التي أعلت من شأن الجهد النظري الذي يستهدف إرضاء حب الاستطلاع لدى العقل الإنساني ولا يتجه الى تحقيق أية اغراض عملية، على حساب النشاط التقني الذي لم تكن هذه الثقافة تعتبره نشاطا عقليا، إذ ظل بالنسبة لها مندرجا ضمن نطاق السحر ونتيجة لسرقة النار من الآلهة (أسطورة بروميثوس).
رغم تهميش التكنولوجيا في عدد من المنظومات التعليمية، فإنها لازالت تثير مواقف متباينة مجتمعيا؛ إذ يخشاها ويتوجس منها البعض، في حين أنها محط إعجاب وانبهار لدى البعض الآخر. كلا الموقفين (التكنوفوبيا والتكنوفيليا) ناجمان عن عدم معرفة بالتكنولوجيا أو عن استلاب للإنسان، مما يفرض على المدرسة، كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية، الاضطلاع بدورها في تمكين المتعلم من بناء أسس ثقافة تقنية تمكنه من بناء موقف عقلاني من التكنولوجيا، و تفتح أمامه الآفاق للعيش والعمل في مجتمع الغد الذي يبدو أن التطبيقات التكنولوجية ستغزو كل مجالاته.
لفترة طويلة من الزمن، تأرجح الموقف من الثقافة التقنية بين من يرفضونها إلى حد نفي وجودها وبين من يرون ويأملون أن تشكل جزءا من الثقافة العامة إلى جانب الثقافة الفنية والأدبية والعلمية. فبعض الذين يرفضون فكرة وجود ثقافة تقنية يرون أن الثقافة تهتم بكل ما هو جميل وفني، أي أنها قد تكون فنية أو أدبية، ولا يمكن أن تكون تقنية لأن التكنولوجيا لا تهتم بما هو جميل بقدر ما تهتم بما هو نافع. وفي ظل استمرار هذا الجدل، ظهر الاهتمام بأهمية اكتساب الثقافة التقنية مع نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين تفاعلا مع التغيرات والتحولات السريعة التي عرفتها المجتمعات الغربية نتيجة ظهور طرق جديدة للعمل واستعمال أدوات جديدة في الإنتاج، مع ما رافق ذلك من غزو عدد كبير من التكنولوجيات للحياة اليومية للمواطن العادي، الشيء الذي جعل من الثقافة التقنية عنصرا من عناصر تشكيل هوية الشخص، ليستطيع التصرف كمواطن مطَّلع ومسؤول ومنخرطٍ في سيرورات اتخاذ القرارات في مجتمع ديمقراطي، وقادر على بلورة موقف نقدي من التكنولوجيا و على تحليل آليات تفاعلها مع المجتمع و الإنسان.
إن المجتمع المغربي ليس مستثنى من التحولات والتغييرات التي فرضتها التكنولوجيا على باقي المجتمعات، لذا بات لزاما على المدرسة المغربية أن تنشغل بإشكاليتي نقل واكتساب الثقافة التقنية على امتداد سنوات التمدرس الإلزامي التي تعتبر القاسم المشترك بين مختلف المسارات الدراسية والمهنية لكل المتعلمين المغاربة. فإذا كان النشاط العلمي هو المادة القادرة على الاضطلاع بهذه المهمة في التعليم الابتدائي، فإن التكنولوجيا الصناعية هي المادة المؤهلة أكثر من غيرها لتمكين المتعلم المغربي من بناء أسس الثقافة التقنية في التعليم الإعدادي.
وقد وضعت التكنولوجيا الصناعية منذ اعتمادها كمادة دراسية نصب أعينها هدف بناء أسس الثقافة التقنية لدى المتعلمين في التعليم الإعدادي من خلال تبني وتنفيذ مجموعة من الاختيارات، نذكر منها:
- اقتراح وضعيات يقوم من خلالها المتعلم بتصور وتطوير أشياء تقنية تمكن من حل مشاكل واقعية، مما يمكنه من تقمص أدوار مختلفة داخل سلسلة تصور وإنتاج أشياء تقنية، وبالتالي التعرف على مجموعة من الأنشطة التقنية المزاولة داخل المقاولة الإنتاجية.
- إيلاء أهمية كبرى لتدريس المفاهيم التكنولوجية الأساسية التي تتميز بالثبات في الزمن عكس التطبيقات التكنولوجية التي تتطور بشكل وإيقاع كبيرين. فمادام من الصعب التنبؤ بما ستكون عليه التكنولوجيا مستقبلا، فإن تملك المفاهيم الأساسية سيمكن المتعلم من فهم واستعمال التكنولوجيات المستقبلية، وبالتالي التحكم في المحيط التكنولوجي الذي سيعيش فيه.
- التركيز على مبادئ اشتغال واستعمال عدد من الأشياء التقنية المستمدة من سياقات منزلية أو مهنية، مما يمكن المتعلم من تطوير قدرته على إصدار الأحكام حول جودة المنتوجات.
- استحضار البعد التاريخي للتكنولوجيا من خلال تقديم المعارف التكنولوجية كبناء إنساني تدريجي لا كمجموعة من الحقائق المتعالية عن التاريخ والمجتمعات. فمن خلال تقديم تطور الأشياء التقنية يستطيع المتعلم أن يدرك العلاقات التي تقيمها هذه الأشياء مع التاريخ والمجتمع والعلوم والثقافة والأفكار.
من خلال هذه الاختيارات، عملت مادة التكنولوجيا الصناعية على مساعدة المتعلم في بناء نظرته للعالم التكنولوجي وتوجيه فعله فيه، مما يساهم في تكوين المواطن المستقبلي القادر على المشاركة في النقاشات العمومية حول التكنولوجيات، الشيء الذي سيقلص الفوارق بين المواطن العادي والباحث المتخصص، الذي ينظر إليه باعتباره الوحيد الممتلك للمعرفة التكنولوجية. وهكذا تساهم المادة في تكوين مواطن لا يشعر بعجزه وبفقدانه للقدرة على التعامل مع المواضيع التكنولوجية المعقدة أو المستجدة وعلى إصدار الاحكام بخصوصها.
إن مادة التكنولوجيا الصناعية، من خلال اعتمادها الممارسات الاجتماعية كمصدر من مصادر النقل الديداكتيكي، تساعد كذلك على التوجيه المهني من خلال إعطاء المتعلمين صورة واضحة عن المضامين والممارسات التقنية للعمل المعاصر، مما يمكنهم من بناء تصورات وتمثلات غنية وموضوعية عن السياقات التقنية لعمل ومهن اليوم. كما أنها تساهم في التوجيه المدرسي؛ فمن خلال المضامين والأنشطة المنجزة في المادة يكتشف المتعلم المغربي التعليم التقني مما يساعده على بلورة اختيارات دراسية ذات صلة بهذا التعليم في السلك التأهيلي وفي التعليم العالي.
إن المتتبع للتحولات التي عرفها النظام التعليمي المغربي سيكتشف، لامحالة، تناقضا غريبا في الاهتمام بالمادة وبامتداداتها المفترضة في سنوات التمدرس اللاحقة. فعندما اعتمدت المادة سنة 1970، كان التعليم التكنولوجي شبه غائب بعد التعليم الإعدادي، فكانت بذلك المادة الوحيدة التي تتيح للمتعلم المغربي إمكانية التعرف على بعض المعارف والممارسات التقنية؛ أي أنها كانت مادة بدون امتدادات في سنوات التعليم اللاحقة. غير أن السنوات الأخيرة التي عرفت إرساء عدد كبير من الشعب والتخصصات المهنية والتكنولوجية في التعليمين التأهيلي والجامعي، شهدت في ذات الوقت تراجعا كبيرا على مستوى تدريس المادة بالسلك الإعدادي؛ أي في الوقت التي كان يفترض أن تمنح هذه التحولات زخما للمادة من خلال تعميمها ضمانا للمساواة بين فرص جميع المتعلمين المغاربة في الولوج إلى التعليم التكنولوجي في مساراتهم الدراسية اللاحقة، نجد أن الاهتمام بها قد تراجع إلى مستوى غير مسبوق.
ختاما، مادام اكتساب الثقافة التكنولوجية ضرورة ملحة لمواطن الغد القادر على اتخاذ القرار والمشاركة الفعالة وبناء الموقف النقدي تجاه ما يعرفه المحيط التكنولوجي من تحولات كبيرة تمس جميع مجالات الحياة؛ ومادامت التكنولوجيا تنفرد، في السلك الإعدادي، بكونها المادة التي تسعى إلى تمكين المتعلم من اكتساب المكونات الأساسية لهذه الثقافة، فإن تدريس هذه المادة ضروري لكل المتعلمين المغاربة بهذا السلك؛ إذ أن حرمان نسبة كبيرة منهم من دراستها سيؤدي، لامحالة، إلى خلق مواطنين يفتقرون لتمثل منسجم للمحيط التكنولوجي الذي سيعيشون فيه. كما أن حرمان أكثر من نصف المتعلمين المغاربة بالسلك الإعدادي من دراسة التكنولوجيا يضرب في الصميم مبدأ التعميم الذي تم إقراره منذ فجر الاستقلال.