مثّل مقال "حنا آرنت " بعنوان" أزمة التربية" (1958) منطلقا حقيقيّا لنقاش واسع حول التربية واقعا وآفاقا مستقبلية، أمكن من خلاله تشخيص " أزمة التربية" بما هي " عجزها عن الحفاظ على العلاقة بين مقتضيين أساسيين: الحفاظ على مبادئ العدالة والحرية بوصفهما غاية التربية في الديمقراطيات الحديثة، وضرورة التراتبية المكوّنة للعلاقة البيداغوجية بين المعلّم والتلميذ، وبين الكهل والطفل، بين الشيخ والشّاب". وأمام هيمنة مطلب "الحرية" في المجتمعات الحديثة وردّه إلى " الحريّة الفردية"، أفرغت السلطة والإرغام والتراتبية من مضمونها وأضحى من غير الممكن ضمان احترام الإكراهات الجماعية الضرورية لكلّ علاقة بيداغوجية؛ وبالاستناد إلى العدالة بما هي عدالة الأفراد في معنى مجرّد لا يأبه بالفروقات أي كانت، أنتهت المجتمعات الحديثة إلى فشل هو احترام العلاقة اللامساواتية التي تميّز العارف عمن لم يعرف بعدُ. وإذا كانت "آرنت" تردّ "أزمة التربية" إلى "طبيعة "الأنظمة التربوية" القائمة وما تستند إليه من " نظريات تربوية" مصدرها" مركزية أوروبية" ، وحاملة وفق تعبيرها " لخليط غريب من الأشياء الرشيدة والعبثية"، وإلى طبيعة النظام السياسي الليبرالي المهيمن، فإنّ أصالة مقاربتها للمسألة أثّرت بعمق في النقاش الدائر، على نحو يكون عند بعضهم، بتغيير موقع النقاش حول المسألة أو إعادة صياغة مفرداته. انخرط إدغار موران في هذا النقاش المتواصل ولكنّه تفرّد بمقاربة لا تقلّ أصالة وطرافة وعمقا عن مقاربة " آرنت" للمسألة، مقاربة استفادت من أفكار "آرنت" ولكنّها وسعّت دائرة التفكير في المسألة بل أعادت طرحها على نحو مغاير من منظورية خاصّة جعلتها مقاربة محوريّة ومنطلقا لنشأة تيّار فكري مثله مفكرون وباحثون في التربية، ولتجارب ميدانية لتطبيق هذه المقاربة- وإن على نحونموذجي- في فرنسا خاصّة وفي كندا.
ولعلّ ما يميّز هذه المقاربة هو بعدها "التركيبي" الذي كان إدغار موران رائدا في وضع أسسه، أفقا لفهم الظواهر والواقع بل لرؤية للعالم. ذلك أنّ إدغار موران، هذا التّسعيني "المحبّ للحياة" كما يقول عنه صديقه "ريجس دوبري"، رجل "الفكر المركّب" pensée complexe بامتياز؛إذ يعود اهتمامه بـ"التركيب" complexité إلى وقت مبكّر، جاعلا منه، و"دون قصد" كما يقول، مفهوما مركزيّا وانشغالا أساسيا حتّى أضحى فكرة ناظمة لسائر أعماله بل وأصبح خاصية مميّزة لفكره جعلته إحدى قامات الفكر المعاصر وربّما أبرزها عند البعض. إذ يقول عن معاشرته لهذا المفهوم :" لم أستطع أبدا طيلة حياتي الخضوع لمعرفة مجزأة، ولم أقدر أبدا على عزل موضوع بحث عن سياقه، عمّا سبقه، عن صيرورته. كنت أطمح دوما إلى فكر متعدّد الأبعاد. ولم أستطع أبدا حذف التناقض الداخلي . كنت أشعر دائما أن حقائق عميقة، مضادّة لبعضها البعض هي متكاملة لديّ مع كونها متضادّة. ولم أشأ أبدا تعسّفا اختزال اللايقين والالتباس. ومنذ أولى كتبي، جابهت التركيب، الذي أضحى القاسم المشترك بين أعمال كثيرة مختلفة بدت لكثير مشتّتة.غير أنّ كلمة تركيب لم تجل بخاطري، وقد كان لابدّ أن يحدث هذا حوالي نهاية سنوات 1960". يمثّل إذن مفهوم " المركّب" حجر الزّاوية في فكر " إدغار موران". لكن علينا أن نميّز منذ البداية بين " التركيب" complexité بوصفه كما يقول " إشكالية"( تعود بنا إلى ما يميّز "الواقع" من منظور الفكر المركّب) ،وهو " تحدّي العالم"، وبين" الفكر المركّب" أداة لمجابهته. يقول إدغار موران:" إذا لم يكن التركيب مفتاح العالم، بل التحدّي الذي يجب مجابهته، فليس الفكر المركّب ما يجنبّنا التحدّي أو يزيله، بل ما يساعد على رفعه، بل أحيانا تجاوزه" ولعلّه من الضروري أيضا تحديد دلالة " التركيب" عند موران لفهم ما نعنيه "بالتربية المركّبة". يقول موران:" ما هو التركيب؟ في بادئ الأمر، التركيب هو نسيج (complexus : مجموع منسوج) من المكوّنات اللامتجانسة المترابطة بشكل يتعذّر معه الفصل بينها: إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدّد. وثانيا، التركيب هو بالفعل نسيج الأحداث والأفعال والتفاعلات والارتدادات والتحديدات والصدف التي تكوّن عالمنا الظاهراني.غير أنّه يتبدّى عندئذ على نحو مقلق حاملا سمات الخليط، والمبهم، والفوضى،والالتباس، واللايقين..." (3). يعني "التركيب" إذن ( وهو مقابل للبساطة ولكنّه لا يتعارض مع التبسيط بوصفه أسلوبا في تناول المركّب ) خاصية النسق المركّب والمتشابك والذي عناصر تكوينه متداخلة وغير قابلة للفصل؛ وهذا ما يتّصف به " الواقع العيني" أو عالم الظواهر. أمّا " الفكر المركّب"pensée complexe فهو الفكر الذي يقارب الواقع وفق "نموذج إرشادي" هو" التركيب"، مستخدما أدوات مفهومية هي في مجملها "ذات طبيعة عقلية" أشار إليها ادغار موران في كتاب المنهج(4) إذ يقول :"لقد سبق أن أشرت ، في جزئي كتاب المنهج إلى بعض الأدوات المفهومية التي يمكننا استخدامها. فيمكن الاستعاضة هكذا عن براديغم الفصل/ الاختزال/ أحادية البعد، ببراديغم التمييز/ الوصل الذي يسمح بالتفريق دون الفصل والجمع دون التعيين والاختزال. إنّ هذا البراديغم يحتمل مبدأ حواريا dialogique وعبر- منطقي، يدمج المنطق الكلاسيكي مع اعتبار حدوده بحكم الواقع ( مشكلات التناقض) و(حدود الصورية) بحكم القانون. ويحمل في ذاته مبدأ الواحد والمتعددunitas multiplex، الذي يفلت عن الوحدة المجردة للأعلى (الشمولholisme) وللأسفل (الاختزالية). " أمّا عن الباراديغم أو " النموذج الإرشادي"، فإنّ المقصود به وفق تعريف طوماس كوهن هو "منظومة المبادئ المشتركة المكوّنة لنظريّة ناتجة عن ثورة علميّة" (5). وهو مفهوم يتضمن معنى مفهوم "الأزمة" crise لأندري بيجان وإدغار موران واللذان يعرّفانه بوصفه:" لحظة الحقيقة لنسق يتراوج بين التحكّم القلق فيما يحدّده بوصفه ما يكوّن سطحه، وفضاءه الراهن(...)وبين الانبجاس التطوّري والمثقل آمالا ومحاذير، والذي يسمح بتحرّر الطاقات وبَذْرَات الفضاء الممكن" (6).ونشير هنا قصدا إلى التقارب بين مفهوم النموذج الإرشادي " وبين " مفهوم الأزمة" كما حدّده موران ، لعلّه يساعدنا على بيان العلاقة بين باراديغم " التربية المركّبة" ومفهوم " أزمة التربية " ( لحنا آرنت). غير أنّ لإدغار موران، مع ذلك تحديده الخاصّ لمفهوم الباراديغم ورد في كتاب " مدخل إلى الفكر المركّب "، ففيه يقول:" وفي تصوّرنا، يتكوّن باراديغم ما من نوع من العلاقة المنطقية المتينة جدّا بين مفاهيم رئيسة، مفاهيم مفاتيح ومبادئ رئيسة. هذه العلاقة وهذه المبادئ هي التي ستحكم كلّ الأقوال التي تخضع لاشعوريا لمملكتها".
ولكن ما يعنيه مفهوم " التربية المركّبة " عند موران وما هي أسس هذا التصور للتربية ورهاناتها؟ وعلى أيّ وجه تمثّل "التربية المركّبة" "باراديغما " جديدا لتربية مستقبلية؟
تستند "التربية المركّبة" في منظور إ.موران، إلى "الفكر المركّب" بوصفه " نمطا من الفكر" له طريقته الخاصة في " المعرفة" و" التفكير"، أي الفكر الذي يقارب "الظواهر" من منظور مبدأ " حواري" dialogique( وهو مبدأ استعاض بهم موران عن مبدأ " الديالكتيك" بوصفه تجاوزا للمتناقضات، ويعني "بالحواري" مبدأ وحدة المتناقضات في مركّب: وحدة الكثرة وكثرة الوحدة) و"نموذج إرشادي هو"التركيب"، والذي لا ينظر إلى الواقع كما هو شأن "باراديغم البساطة" ( وفق نموذجه الديكارتي، صاحب معيار الوضوح والتميّز) وفق مبادىء التجزئة والفصل والاختزال للواقع، بل مقاربته بوصفه واقعا" متّصلا/ متميّزا").وهذ يعني أنّ "التربية المركّبة" تطرح تصوّرا للتربية بوصفها ظاهرة عناصرها تكوّنها متداخلة متشابكة متّصلة ومتمايزة ، واحدة ومتكثّرة في آن واحد، حوارية توحّد بين المتناقضات. كما تفترض رؤية للعالم وفق منظور "حواري" لا جدلي " يوحّد على وجه التكامل بين المعاني المتضادّة". وهو ما يجعل التربية " نسقيّة" systémique أي ظاهرة متعددة الأبعاد أو بالأحرى منظومة أو"نسقا" بنيته بالضرورة مركّبة ( على أن يفهم النسق بما هو" تشكّل مفهومي مكتمل، كلّ عناصره متكاملة، وتكشف بنيته ذاتها عن تناسق داخليّ وعمّا فيه من خاصيّة الإشباع والتكامل"). ومن الضروري في هذا المستوى أن ننبّه إلى أنّ التربية لا تردّ إلى التعليم ( كما يسود الإعتقاد) غير أنّها لا تستبعده بحكم اتساع دلالتها. ذلك أن التربية و"التربية المركّبة" تفهم بدلالة "انتروبولوجية " تنزّل " الإنساني" في قلب رؤيتنا للعالم، بل في قلب أرض- وطن terre - patrie، في قلب مجتمع المستقبل. ويقدّم "موران" هذه التربية المركّبة بوصفها حجر الزاوية في عملية إصلاح أو تجاوز لما سمّي بـ"أزمة التربية" بعبارة حنّا آرنت؛ إصلاحا تكمن أهمّيته في " خلق فكر قادر على الوصل ومجابهة اللايقين بدمج عنصر مفتاح هو "الحواري" le dialogique. وهو ما يسمح إذن بـتصوّر"معاني متكاملة ومتقابلة في ذات الوقت"، و"بربط معارف فيما بينها، ولكن أيضا بالسماح بدمج معرفة توصف بكونها "متفهمة"، مؤسسة في ذات الوقت على قراءة (على فهم) العالم في "تركيبه"، كما على التواصل والتعاطف. ويعني "موران بالفهم هنا " الانضمام إلى، ومسك المجموع" ويقابله بالتفسير ( وفق النموذج الفيزيائي) بما هو بسط وتحليل كل العناصر. يقول إدغار موران في إحدى مداخلاته:" يوجد فهم ذاتي وبين- ذاتي ، أي حيث يكون الأنا بما هو " أنا"، فأشعر بالآخرين من خلال ضرب من المحاكاة النفسية، وأقوم بإسقاط لذاتي، وأماثلها بالآخرين وأفهمهم من داخل، فمثلا: إذا ما شاهدت امرأة تبكي ، أشعر حينئذ بحزنها يلج فيّ ويمكنني عندها فهم سبب حزنها: إنها تبحث عن طفلها، لكن طفلها قد قتل في قصف مدفعي الخ." ويضيف:" ولكي يكون هناك فهم حقيقي، لابد أن يكون هناك مدّ ضخم من التعاطف، بدونه لن يكون هناك فهم." ذلك أن الفهم " الموضوعي" كما يصفه في كلّ مستوياته ، فهم الذات لذاتها وفهم الآخر ليس أمرا بدهيا بالمرة، بل يمثّل مشكلة إذ نحتاج إلى أن نتعلّم الفهم ولن نجد من يعلمنا إيّاه رغم حاجتنا إليه . يقول موران:" والملفت للانتباه بالفعل أن يكون هذا المشكل( ويعني تعليم الفهم) الذي يبدو لي حيويا، مجهولا تماما من كل أنظمتنا التعليمية، في الثانوي والجامعي. إنه مجزئ إلى قطع صغيرة منفصلة، ويبدو لي أنه من المهمّ جمع هذه القطع." وهذا ما تضطلع به " التربية المركّبة" بالذات، أي تعليمنا " الفهم " وخاصّة "الفهم بين البشر". ذلك انّه من مظاهر " أزمة التربية" في نظر "موران" بل أزمة " الحضارة" المعاصرة هو شيوع" اللافهم" مصدرا للحرب والعنف والتصادم الخ .إنّ مشروع "إصلاح التربية " إذن يقوم على نظرة سيستيمية- أنتروبولوجية ( لاهيجيلية ولاديكارتية بالخصوص) تأخذ بعين الاعتبار "الإنساني" في أبعاده فلا تفصل التعليم عن الحياة، ولا المعرفة عن الفهم ولا الفهم عن الرغبة ...يقول موران:" إنّ إصلاح المعرفة والفكر رهين إصلاح التربية، الذي هو رهين إصلاح المعرفة والفكر.إنّ إعادة إنشاء التربية رهين إعادة إنشاء الفهم الذي هو بدوره رهين إعادة إنشاء الإيروس، الذي هو رهين إعادة إنشاء العلاقات الإنسانية والتي هي رهينة إصلاح التربية". (7) طرح إ. موران نظرته للتربية بوصفها " تربية مركّبة" في مشروع إصلاح ضمّنه ما أسماه" المعارف السبع الضروريّة لتربية مستقبلية" والتي تظلّ مجهولة تماما ومنسية في الأنظمة التعليمية الراهنة رغم كونها ضرورية للتعليم في المستقبل. وقد حدّد هذه المعارف التي علينا تعلّمها بكونها:
-1- عمى المعرفة: الخطأ والوهم؛ 2- مبادئ معرفة دقيقة؛ 3- تعليم الوضع الإنساني؛ 4- تعليم الهويّة الترابية؛ 5-مجابهة ضروب اللايقين؛ 6- تعليم الفهم؛ 7- إيتيقا الجنس البشري.
يلحّ إ. موران على الصلة بين المعارف إلحاحه على الصلة بين الأفراد. إذ أنّ ما يعنيه بالأساس هو " معرفة الطريق إلى المعارف وكيفية التمفصل بينها وتنظيمها وأخيرا كيفية " ملاحظة وإدراك السياق أو الظرف والكلّ ( العلاقة كلّ/جزء)، والمتعدّد الأبعاد والمركّب" وهو في هذا يستعيد مبدأ باسكال " باستحالة معرفة الأجزاء دون معرفة الكلّ ،واستحالة معرفة الكلّ دون معرفة الأجزاء بالخصوص"؛(8) بل ويستوحي هذا التصوّر التركيبي من " النموذج البيولوجي" ( منزاحا بذلك عن النموذج الفيزيائي المهيمن)؛ ضمن ابستيمولوجيا سمّاها" إبستيمولوجيا التركيب"épistémologie de la complexité ، ابستيمولوجيا "متناسبة مع علم الإنسان"، " ابستيمولوجيا مفتوحة"، يكون فيها "اللوغوس مفتوح" ومعقوليتها نقدية. وقد عرض موران مبادئها في كتابه " مدخل إلى الفكر المركّب". تمثّل "ابستيمولوجيا التركيب" إذن، الخلفية النظرية لما يسمّى " بـ التربية المركّبة" ، موضوع اهتمامنا هنا. ذلك أنّ " التربية المركّبة" عند موران لا تستند إلى مجرّد تصوّر إصلاحي للتربية ، بإصلاح البرامج التعليمية، بل إلى " تحوّل " معرفي، "باريدغماتي"، يتمظهر في "منعطف بارديغماتي" يتّجه إلى ثورة يبشّر بها إ.موران. في قوله:" إنّه من البديهي أنّ ما يقع قلبه وتغييره هو البنية الكليةّ لنسق الفكر، وأنّ ما ينهار كليّا هي بنية فوقية ضخمة من الأفكار. هذا ما يجب أن نستعدّ له". ويؤكّد موران على أن هذا المنعطف الباراديغماتي يستتبعه ضرورة تحوّل في رؤيتنا إلى العالم، في ثقافتنا عموما، فيقول:" إنّ ما يؤثّر في باراديغم ما، أي حجر الزاوية في كلّ نسق فكري، يؤثّر في الآن نفسه في الأنطولوجيا، والميتودولوجيا والابستيمولوجيا والمنطق، وبالتالي في الممارسة والمجتمع والسياسة. كانت أنطولوجيا الغرب مؤسسّة على كيانات مغلقة كالجوهر، والهويّة، والسببية (خطيّة)، والذات والموضوع. هذه الكيانات لا تتواصل فيما بينها، وتؤدّي التقابلات بينها إلى إقصاء أو نفي مفهوم لآخر ( مثل ذات/ موضوع)؛ فيكون "الواقع" إذن، قابلا للحصر بأفكار واضحة ومتميّزة." ويضيف موران محدّدا أصول هذا الباراديغم الأساسي الذي قامت عليه الثقافة بل الحضارة الغربية حديثا، " بأنّ هذا الباراديغم الضخم للعالم الغربي "هو وليد بقيّة مثمرة لتقسيم ثنائي فصامي لديكارت وطهرية رجال دين، تتحكّم أيضا في الطّابع المزدوج للممارسة الغربية، التي هي من جهة مركزية- إنسانية ومركزية- إثنية وتمركز على الذّات، كلّما تعلّق الأمر بالذّات (لكونها مؤسّسة على عشق الذات لذاتهاauto-adoration du sujet : إنسان أو أمّة أو إثنية أو فرد) وهي من جهة أخرى، وعلى نحو ترابطي، استعمال، وبرودة " موضوعية" كلّما تعلّق الأمر بالموضوع. وليس هو عديم الصّلة بمماثلة العقلنة بالنّجاعة، والنّجاعة بالنتائج القابلة للحساب؛ إّنه غير منفصل عن كلّ ميل تصنيفاتي classificationnelle ، أداتي، الخ....، ميلاَ يصوّب أحيانا بقوّة، وأحيانا بالكاد يصوّب، بميولات مضادّة، في ظاهرها "لاعقلانية"، " عاطفية"، رومنسية وشعريّة."(9) هكذا يكشف إ. موران عن الأسس النظرية والخلفية المعرفية أو السياق "الابستيمي" "للتربية المركّبة" وشروط إمكانها نظريا، في ذات الوقت الذي يعيّن فيه أسباب ما يسمّى "بأزمة التربية " وهو الخضوع لفكر تجزيئي فصلي وإختزالي وشمولي ... وضع ركائزه حديثا وكرّسه نظريا ديكارت صانع باراديغم " البساطة" ومعيار " الوضوح والميّز"، إضافة إلى "طهرية رجال الدين". من هنا فإنّ إصلاح التربية رهين " إصلاح باراديغماتي " يحدث بنقلة في "زاوية النظر" أو في المنظورية، من باراديغم "البساطة" إلى باراديغم " التركيب"، من تربية تستند إلى مبدأ " البساطة" بوصفه "مبدأ يضفي النظام على العالم، ويزيل عنه الفوضى. يختزل النظام في قانون، في مبدأ. فلا يدرك إلاّ الواحد، أو المتعدّد لكنّ لا يمكن له أن يدرك أنّ الواحد يمكن أن يكون في نفس الوقت متعدّدا. فليس لمبدأ البساطة إلاّ أن يفصل ما هو متّصل (الفصل)، أو يوحّد ما هو متعدّد ( الاختزال). وعلى هذا الأساس تقيم "التربية البسيطة"( إن صحّت العبارة ) في هذا السياق منهجيا وبيداغوجيا الفصل بين التعلمات والموادّ والشعب التعليمية والتخصّص الخ.. أي على أساس تصور معرفي أو ابستيمولوجي يفصل بين الإنسان والحياة أو بين الانتروبولوجي والبيولوجي ..؛ في حين أن " التربية المركّبة " تطرح عملية التربية ضمن تصور تركيبي يصل المعارف والتعلمات بل المعارف بالرغبات والانفعالات وبالسياق أو الظروف الخ . من هنا كان رهانها يتجاوز حدود " المعرفة " أي اكتساب العلم، إلى وضع أسس ديمقراطيّة تسمح بعلاقة ثرية ومركّبة بين الفرد والمجتمع" أين " يتمكّن الأفراد من أن يتعاونوا ويشبعوا ذواتهم ويتناظموا ويراقب بعضهم بعضا". لا يقتصر الأمر في التربية المركّبة إذن على " التعلمات" التي تقرّها البرامج أو المناهج ، بل تتعدّاها إلى " التربية على المواطنة وعلى حقوق الإنسان"، إنسانا بينثقافيا وذي فكر نقدي، بل إلى التربية الصحيّة وعلى الحفاظ على البيئة الخ..بمعنى إلى "اقتراح موضوعات غائبة للتعليم، في الثانوي كما في الجامعي، والتي هي ضرورية لمجابهة مشكلات الحياة والشخص والمواطن". غير أن هذا في نظر موران يستلزم دون شكّ ما أسماه بـ"معرفة المعرفة" connaissance de la connaissance بوصفها "انعكاس المعرفة على ذاتها بحركة ارتجاعية"، معرفة لا تتعلّق فحسب "بما يمكن أن تقدّمه المعارف بشأن اشتغال الدماغ ( كما يعرفنا بذلك العرفانيون)، بل أيضا تقارب مختلف المعارف المكتسبة في حقول متعدّدة". ذلك أننا " نملك ضروبا متعدّدة من الأخطاء والأوهام يمكن لنا طردها بفضل معرفة المعرفة، في ذات الوقت الذي نلحّ فيه على معرفة دقيقة قادرة على الربط، بتقديمها العناصر والمبادئ، وقادرة على تجاوز أفكار العناصر الوحيدة". إنّ هذا يعني أن يضطلع الفكر بمهمّة تغيير منهج تفكيره" بتغيير نظرته إلى الأشياء والقدرة على مبادرة المعرفة والتفكير". يتحقّق هذا لدى موران فيما يسمّيه "ثورة بيداغوجية" مضمونها "إدماج معرفة المعرفة وإدماج الإنساني" في التربية . وتقوم الحاجة إلى هذا الإدماج على غياب تعليم ما يجعلنا بشرا بحقّ وهذا أمر مفارقي." فالإنسان إنشاء تربويا" بعبارة كانط، غير أن " تربيتنا" لا تجعله كذلك.إنّ "الإنساني "في منظور موران مسألة مركزية على أساسها نعرف ماذا يجب أن نعرف. وعلى طريقة كانط حينما ردّ جميع أسئلة الفلسفة إلى السؤال عن الإنسان إلى الأنتروبولوجيا، يردّ موران أفق التربية إلى أفق انتروبولوجي( نموذجه بيولوجي) أو بالأحرى إلى ما يطلق عليه عبارة "الانسانوية" humanologisme .
في إحدى حواراته حول مسألة التربية عبّر إدغار موران عن مقاصده مشروعه التربوي بالقول:" لا تكمن فكرتي في المواساة بأشياء معينة، بل تقديم أشياء تساعد على المجابهة، مجابهة القلق والموت وآلام الحياة. إنّ هذا ما يبدو لي مهمّا، حيث تكون الثورة الذهنية والبيداغوجية اليوم عنصرا مفتاحا". إنّ تربية تطرح على نفسها إدماج الإنساني لمجابهة واقع "طمسه" وتدجينه بتربية " بسيطة" أحادية الجانب تجزيئية باترة..هي تربية حاملة لآمال البشرية في التحرر وهي بهذا جديرة بان تعتبر مستقبلية.
المراجع:
- مدخل إلى الفكر المركب" – إ موران
- المنهج ج1 و2 إ. موران
- " رأس حسن الصنع" موران
- " بنية الثورات العلمية " كوهن 1983
- حوار بين موران وبيجين 1976
- مجلة "تريما"(لعلوم التربية والديداكتيك) عدد 54 سنة 2020
- رهانات لعقلانية – جان لادريار.
- مداخلة لإدغار موران بتاريخ 20أكتوبر 2006 حول ضرورة تعليم الفهم