بعد صدور تقرير اللجنة الخاصة حول النموذج التنموي الجديد، الذي شكل إطارا مرجعيا سيعطي نفسا جديدا للإقلاع التنموي بالمغرب، ومساهمة في النقاش العمومي الدائر حاليا حول تحليل مضامينه ومناقشة سيناريوهات التنمية التي جاء بها، أود أن أتقدم بملاحظات وبتساؤلات أولية حول موقع التربية في هذا النموذج، والأدوار الموكلة إليها خدمة للإقلاع التنموي المنشود. ويبقى هاجسنا الأساسي هو التعاطي مع التقرير من زاوية الحيز الذي خصصه للتربية، مستعينين بمقاربة تُثمن المنجز، وتطمح للتطوير عبر ممارسة القراءة النقدية البناءة. وفي ما يلي مجمل الملاحظات:
- نسجل ونُثمِّن وعي التقرير بأهمية ومحورية التربية والتكوين والبحث بالنسبة لأية نقلة تنموية نوعية في المغرب، واعترافه بمركزية التربية في المشروع التنموي المنشود ؛ وارتباطا بذلك يشترط التقرير أن تشهد المنظومة التربوية بدورها تغييرا جذريا لكي يتأتى لها القيام بالأدوار المنتظرة منها بنجاعة وفعالية. وفي هذا الصدد يقول التقرير في ص. 93 " فبدون تحول عميق للنظام التربوي لا يمكن بلوغ أي هدف من الأهداف التنموية للمغرب، على مستوى ازدهار المواطنين والتماسك الاجتماعي والنمو الاقتصادي والإدماج الترابي". لكن خطة التغيير التي اقترحها التقرير قد لا تساير ، في نظرنا، النوايا المعبر عنها، فهي لا تتناول معالجة الأعطاب المرتبطة بالاختيارات الكبرى في التعليم( العوائق الصلبة والبنيوية)، بقدر ما تكتفي بمعالجة قضايا تعتبر في حد ذاتها مظاهر للأزمة، وليست من أسبابها الحقيقية، كمسألة الثقة في المدرسة وجودة التعلمات وتكوين المدرسين...الخ
- في الوقت الذي نجد فيه أن جل المفاهيم التي وظفها التقرير في تحليل واقع وآفاق التربية والتعليم تظل تقليدية ومتداولة في الخطابات والتقارير الوطنية والوثائق التربوية، يستوقفنا إيراد التقرير لمفهوم جديد هو: " إحداث نهضة حقيقية للمنظومة التربوية"، وجعله كشعار لدينامية الإقلاع التربوي. فلقد تجنب التقرير استعمال مفاهيم الإصلاح أو التجديد أو التطوير، وهي المفاهيم الأكثر شيوعا في التقارير الوطنية، وفضل كعنوان للسيناريو التربوي المقترح مفهوم " النهضة". غير أن هذا المفهوم، رغم وجاهته كمفهوم، فهو يفيد، على الأقل، من الناحية الدلالية ارتباط النهضة عادة بإعادة إحياء نموذج أو تراث أو ممارسات سادت في الماضي، وتعرضت لنكوص ما. ويبدو أننا في حالة منظومتنا التربوية لسنا بصدد إعادة إحياء نموذج أو براديغم ما، لأن النموذج القائم حاليا، وباعتراف التقرير نفسه، فاشل بسبب أن 30% من التلاميذ عند نهاية الابتدائي فقط يتحكمون في الكفايات الأساسية المطلوبة. ولا نتوفر في ماضي المنظومة التربوية، وخصوصا في بنيتها العصرية، على نماذج ناجحة يمكن إعادة إحيائها. إذن، الرهان المطروح اليوم هو التأسيس لنموذج تربوي جديد، وهو ما يستدعي الابتكار والتجديد، وليس إحياء أي سياق تاريخي معين. فبعيدا عن الحمولة "السلفية" لمفهوم النهضة، يظل الرهان الأساسي هو مراجعة الاختيارات التربوية الكبرى، كمدخل لإحداث تحول عميق في المدرسة المغربية.
- اهتم التقرير، في إطار" تسريع دينامية التغيير"، ببعض القضايا والموضوعات التي انتقاها، بعد تشخيص أزمة المدرسة المغربية، كتكوين المدرسين، وجودة التعلمات، ومنظومة التقييم، والمناهج، واستقلالية المؤسسات، واستعادة الثقة في المدرسة... الخ ؛ غير أن الملاحظ هو أن هذه القضايا تدخل ضمن ما نسميه عادة ب "النموذج البيداغوجي"، وهي قضايا أفقية وتصنف ضمن القضايا القطاعية والتقنية؛ بينما أغفل التقرير "النموذج التربوي الشامل" المرتبط بفلسفة التربية وغاياتها في المغرب، وبموقع التربية في المشروع المجتمعي المغربي؛ وماهية الجانبية التربوية ( المواصفات) المنشودة في نموذج الإنسان/المواطن الذي نريد إدماجه في التنمية. وأعتقد أن أي تقرير استراتيجي يريد أن يؤسس لنموذج تنموي جديد، لا يمكنه أن يصمت عن الاختيارات الإستراتيجية في قطاع التربية، ويكتفي بتناول قضايا تقنية وذات طبيعة بيداغوجية صرفة، تُعتبر عادة من اختصاص الخبراء والفاعلين في الحقل التربوي، وليس من اختصاص خبراء استراتيجيات التنمية في أبعادها المركبة. لقد كان طموح التقرير في مجال التربية متواضعا جدا، لأنه أعلن صراحة أن هدفه هو "تسريع دينامية التغيير" الحالية (ص.93) ؛ في حين أنه كان من الأجدر به أن يجتهد في إعادة النظر في الدينامية التربوية الحالية برمتها، ومراجعة الاختيارات الكبرى والغايات المرتبطة بها.
- لم يهتم التقرير كثيرا بتشخيص البنيات العميقة لمكامن الضعف في المنظومة التربوية، واكتفى، بشكل سطحي، باختزال الأمر في ما سماه " وجود أزمة ثلاثية الأبعاد"، يقصد بها : أزمة ضعف جودة التعلمات؛ وفقدان الثقة في المدرسة وفي هيئة التدريس؛ وتعطل وظيفة المدرسة كمصعد اجتماعي. وهنا نتساءل هل "الأزمة الثلاثية الأبعاد" هي سبب لتردي المنظومة، أم نتيجة لها ؟ والى أي حد يمكن وضع تصور لإقلاع تربوي بواسطة التأثير في بعض مظاهر الأزمة، دون لمس البنية العميقة والخفية للأزمة التربوية، وهي المرتبطة أساسا بالرؤية الفلسفية والإستراتيجية لمنظومة التربية و بالاختيارات الليبرالية التي تدعم خوصصة المرفق التربوي العمومي بدعوى ترشيد النفقات لكي لا تتجاوز عتبات معينة.
- لقد ساير التقرير المنهجية العامة التي تعودت اللجان المعينة لإعداد التقارير الوطنية على إتباعها منذ لجنة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مرورا بتقرير الخمسينية وبالرؤية الإستراتيجية؛ وهي المنهجية التشاركية التي تعتمد على لقاءات مع مختلف الفاعلين وعلى مقابلات عشوائية مع شرائح مجتمعية متنوعة. ورغم أهمية هذه المنهجية، فلها عيوبها المتمثلة أولا في أن كل إشراك هو في نفس الوقت إقصاء، كما أنها تحقق فعلا التواصل الإعلامي والاجتماعي، غير أنها تبقى، من الناحية العلمية، انطباعية وسطحية، ولا تنفذ لسبر أغوار الحقائق الخفية والمسكوت عنها. كما يُلاحظ محدودية، إن لم نقل الغياب التام، لاعتماد التقرير على أبحاث ودراسات مستقلة، ومنجزة تحت الطلب لاستكشاف ورصد ظواهر محددة، على سبيل المثال في المجال التعليمي: لماذا هناك فجوة بين الخطاب والممارسة والنتائج التعليمية؟، ثم، أيضا في نفس السياق، ما هي الأسباب الحقيقية لضعف التعلمات ونقص المكتسبات، وهو ما يتجلى بقوة في نتائج التقييم الدولي للتعلمات لدى التلاميذ المغاربة( تميس وبيرلس وبيزا؟).
- لقد جاء تقرير النموذج التنموي الجديد ليجد أن قطاع التعليم يتوفر على رؤية إستراتيجية في أفق 2030 وعلى قانون إطار مصادق عليه. ورغم أن التقرير تعمد عدم إكثار الإحالة المرجعية على الرؤية الإستراتيجية، حيث ذكرها مرة واحدة فقط في التعليم المدرسي (ص. 93 )، ولم يذكرها بتاتا في التعليم الجامعي، فإنه باستثناء مسألة المدى الزمني الذي اتسع إلى 2035 ، لم يقم التقرير لا بتحيين الرؤية الإستراتيجية ولا بتعديلها أو إعادة ملائمتها بقدر ما قام بتكرار نفس الآليات المعروفة و الواردة في الرؤية والقانون الإطار، وتسميتها ب "منظومة متكاملة للنجاح التربوي" وتشمل: تطوير تعليم أولي ذي جودة؛ وتقييم وضبط كفايات المتعلمين قبل انتقالهم للمراحل الموالية؛ ومحاربة الهدر المدرسي؛ وتعزيز نظام التوجيه بواسطة المشروع الشخصي؛ وأخيرا تثمين مسار التعليم المهني… أما القيمة المضافة التي أتى بها التقرير في مجال المناهج فتتعلق "بتحسين إتقان اللغات بالاعتماد على العلوم الإدراكية" وعلى كيفية وطبيعة اشتغال دماغ الطفل، وضَمَّنها دعوة لمراجعة الخطة الحالية لإدماج اللغات في المراحل الأولى من تمدرس الأطفال؛ معتبرا أن الأطفال في الوضعية الحالية يعانون من إشباع لغوي بسبب تعرضهم لثلاثة بنيات لغوية مختلفة في سن مبكرة من حياة الطفل. وإذا كان من السابق لأوانه معرفة، عند تنزيل التقرير، ما هي البنية اللغوية التي سيؤجل إدماجها إلى حين، لتخفيف كثافة التدريس اللغوي عند الأطفال؟ هل سيتم استهداف الأمازيغية أم اللغة الأجنبية؟، فإن تفعيل هذا المقترح سيقتضي، بالضرورة، إعادة ملاءمة القانون الإطار الحالي. إذن، في الوقت الذي سكت فيه التقرير عن لغة التدريس، جاء بمستجد مهم في مجال اللغات المدرسة، ربما سيعيد النقاش العمومي حول المسالة اللغوية في المدرسة المغربية.
- تتلخص الرافعات التي قدمها التقرير لتنزيل "النهضة" التربوية المنشودة في: ضمان الملاءمة بين الطموح والإمكانيات المعبأة؛ وإرساء حكامة قوية؛ وتعبئة الفاعلين الميدانيين؛ وهي رافعات مهمة بدون شك، غير أنها تهم الإجراءات العملياتية والتدبيرية، وتهمل مراجعة السياسات العمومية، التي أدت إلى تفكيك المدرسة العمومية وخوصصتها وفقدانها لبريقها ولوظائفها.
- رفع التقرير شعار "تحرير الطاقات واستعادة الثقة في أفق سنة 2035" ، وهو شعار يجمع بين بعدين أحدهما اقتصادي والآخر نفسي، ويرتبط اكتمالهما باستحقاق زمني محدد في 2035. ويعتبر هذا المدى الزمني، في نظرنا؛ ضيقا، وقد لا يكفي لإنجاز أهداف إستراتيجية كتمكن 90 % من التلاميذ من الكفايات والمهارات الأساسية المطلوبة بعد نهاية المرحلة الابتدائية، وكذا انجاز تحسن دال في نتائج التلاميذ في التقييم الدولي للتعلمات، التي ينبغي أن تتجاوز المتوسط الدولي، علما أننا لا نحقق حاليا إلا نتائج طفيفة جدا كل أربعة سنوات في الاختبارات الدولية، وخصوصا منها تيمس ( كما حدث مثلا سنة 2019). يبدو إذن أن التحقيب الزمني (2035) قد لا يلائم حجم الطموح المعلن، بسبب بطء دينامية التحسين والإصلاح؛ وهناك مخاوف من أننا سنخلف الموعد إذا تمسكنا بهذا الأفق الزمني. وارتباطا بذلك لم يتوقع التقرير احتمال تباطؤ دينامية التغيير، كما حدث مثلا مع تأخر تطبيق الرؤية الإستراتيجية والقانون الإطار لمدة ستة سنوات تقريبا، وتداعيات ذلك على مستوى صلاحية الإستراتيجية المعلنة وحاجتها للتحيين المستمر. ورغم تناول التقرير موضوع التقييم والجودة، فإنه لم يخض في موضوع إصلاح الامتحانات الإشهادية، وخصوصا منها الباكالوريا التي أصبحت موضوع مساءلة من طرف الملاحظين، بسبب استمرار انخفاض معايير النجاح التي تعتمدها، وهو ما جعلنا أمام مفارقة صارخة هي أن التراجع المستمر لجودة التعلمات لم يحل دون الارتفاع المتواصل في نسب النجاح كل سنة في الباكالوريا!
- أما الاختيار الاستراتيجي الثاني بعد التعليم المدرسي فهو نظام التعليم الجامعي والتكوين المهني والبحث العلمي. وقد ربط التقرير بين جودة أداء هذا القطاع وبين تسريع مسار التنمية بالمغرب. غير أن خطاب التقرير جاء إنشائيا، فهو عبارة عن إعلان نوايا ومبادئ، يخلو من طرح برامج وخطط بأهداف مرقمة، وإرساء تصور لتخطيط استراتيجي للنهوض بالتعليم الجامعي والتكوين المهني والبحث العلمي. أما الاقتراحات الأربعة التي قدمها التقرير حول استقلالية المؤسسات؛ وجعل الطالب في صلب الإصلاحات؛ وتعزيز قيمة التكوين المهني ؛ وتشجيع البحث العلمي من خلال آلية مستقلة للتمويل والتقييم؛ فهي، في الحقيقة، نفس الاقتراحات التي نجدها في كل التقارير الوطنية، لكن تفعيل هذه الاقتراحات تعترضه صعوبات كان ينبغي للتقرير أن يقوم بتقديم خطة إستراتيجية للخروج من المأزق الحالي الذي يتصف ب:
+ الإعلان عن التخلي عن النظام البيداغوجي الحالي (ل.م.د.) دون إجراء أي تقييم موضوعي وشامل له، علما أن هذا النظام ساهم في تحويل المؤسسات الجامعية إلى آلات لإنتاج الشهادات، لكن بدون قيمة مضافة في ما يخص البحث العلمي؛ والتحضير لاستنبات نظام آخر ( البكالوريوس) دون توفر البيئة الحاضنة و الموارد البشرية الملائمة؛
+ غياب خطة للارتقاء بأداء الجامعات وتحسين مرتبتها في التصنيفات الدولية، وار ساء مسارات التميز في التعليم العالي؛
+ غياب تخطيط استراتيجي لضمان الاستقلال العلمي للمغرب كدولة قادرة على توجيه البحث العلمي نحو حماية حياة المواطنين، وهو المطلب الذي أصبح ملحا بعد تداعيات جائحة كوفيد 19، والحاجة الملحة لتوفير الأمن العلمي، الذي يساهم في الحد من الكوارث والمخاطر والأوبئة؛
+ غياب خطة إستراتيجية لانخراط الجامعات في التحولات التكنولوجية الكبرى التي يشهدها العالم حاليا، والمرتبطة أساسا باقتصاد المعرفة، وبالثورة الصناعية الرابعة وبالتحولات القادمة في مجال الذكاء الاصطناعي.